للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


التحول في ميادين الحرب وقرب أجل الصلح

هجم الألمان في أول فصل الربيع من هذا العام على الجيوش الإنكليزية في
شمال الميدان الغربي هجومًا لم يسبق له نظير، كانوا يضربون به جميع خطوط
القتال بمدافعهم في وقت واحد، ويمطرون البلاد الواقعة وراء هذه الخطوط وابلاً
من مدافعهم إلى مسافة ٢٨ ميلاً، وكان غرضهم الفصل بين الجيوش الإنكليزية
وبين الفرنسية والأمريكية؛ للتمكن من سحق الأولى، والتفرغ بعدها للأخرى، أو
تخضع لطلب الصلح بلا شرط ولا قيد. وما كاد يتم لهم مبدأ ما يحاولونه، حتى
حدث في خطة دول الأحلاف أعظم حادث، انعقد الإجماع على وجوبه من قبل،
لولا ما عارضه من تقدم المانع على المقتضي، وهو توحيد القيادة لجميع جيوش
دولهم، وبذلك يتمكن الفرنسيس من وصل ما انقطع من التواصل، ومزج الجيوش
بعضها ببعض. ثم هجم الألمان هجومين آخرين عظيمين، بلغ من تقدُّمهم بهما أن
قطعوا نهر المارن، وساروا على مقربة من باريس التي كانوا يضربونها كل يوم
بمدافع بعيدة المرمى. وكان الناس يتوقعون زحفهم عليها في الأسبوع الثاني من
شهر شوال، وهو الثالث من شهر يوليو (تموز) ؛ لأن وزراء الأحلاف كانوا
يصرحون بأن تفوق الألمان عليهم في العَدد والعُدد عظيم، وأن الخطر لا يزول إلا
إذا انقضى فصل الصيف، وحالت أمطار الخريف دون استمرار شدة القتال، وهم
ثابتون مصابرون لعدوهم، فإذا تم ذلك لهم زال الخطر، ودالت الدولة لهم بكثرة
الجيوش الأمريكية، التي ستكون في صيف السنة القابلة مساوية لجميع الجيش
الألماني.
بينما ينتظر الناس ذلك إذ فاجأهم خبر شروع الألمان في التقهقر المنظم من
جنوب المارن إلى شماله، ثم من جنوب ألاين إلى شماله، وكان يظن أن ذلك
لخطة حربية، يعقبها هجوم أشد مما قبله، ولما استمر التقهقر ظن قوم أنه يقصدون
خط هندنبرج ليشتوا فيه، كما فعلوا في العام الماضي، وأنهم في أثناء ذلك يجمعون
جيشًا من الحكومات الروسية التي آذنت الأحلاف بالحرب، وظن آخرون أن سبب
التقهقر اتفاق سري على الصلح، وقوى هذا الظن ما نقلته البرقيات عن طلعت باشا
من أنه قال - عقب اجتماع سياسي مع رجال الدولتين الجرمانيتين -: إنه لم يبقَ
لاستمرار الحرب فائدة، وإن الصلح سيعقد قبل حلول فصل الشتاء من هذا العام.
ثم مازال الألمان يتقهقرون، والأحلاف يتأثَّرونهم، ويحتلون البلاد التي يغادرونها
حتى آخر الشهر، وقد ظهر في برلين وغيرها مبادئ انقلاب سياسي، ربما كان
هو السبب الباطن للازورار والانكماش.
وأما الترك فكانوا يدافعون دفاع المستميت عن كل بقعة أخذها الروس من
بلادهم التركية، أو الإنكليز من بلاد العرب في العراق وفلسطين، حتى إذا جاء
هذا الشهر فاجأتنا الأنباء بأن الجيش الإنكليزي في فلسطين شرع يزحف في
الأغوار والأنجاد، من تلك الأرض الحصينة الخالية من الماء، فاستولى في ١٢
ذي الحجة (١٨ سبتمبر) على خطوط الترك الأمامية في جلجلة والطيرة وطولكرم
وفي ١٣ منه تقدم حتى بلغ العفولة وفي ١٤ منه بلغ بيسان وجنين ونابلس والسامرة
وما جاء ١٧ منه إلا واحتلوا حيفا وتبعتها عكا وفي ١٩ منه احتلوا طبرية وسمخ
وعمان، وبلغ عدد مَن أسروا من الجيش التركي أربعين ألفًا، ولم نسمع في أثناء
ذلك بمقاومة تُؤثَر، ولا بعدد من القتلى يُذكَر، وما زالوا يوغلون في ولايتي سورية
وبيروت شمالاً من الجانب الغربي، ويحاذيهم جيش الأمير فيصل العربي من
الجانب الشرقي، حتى دخلوا دمشق في ٢٥ منه، وكان الترك قد أجلوا عنها،
وتألفت فيها حكومة مؤقتة.
ولا شك في أن الترك قد قرروا ترك سورية كلها لأهلها، والانكماش إلى
بلادهم التركية تمهيدًا لطلب الصلح. فإذا يئس الاتحاديون من ولاياتهم العربية فإنهم
يفضلون بيعها لأعدائهم، أو تركها لهم غنيمة باردة على إبقائها لأهلها العرب كما هو
معروف عنهم، ولكن الأمر لم يبق في أيديهم، فهم قد قتلوا أنفسهم، وقطعوا
أوصال سلطنتهم (إمبراطوريتهم) بسيف العصبية الجنسية الذي سلّوه على غير
الترك من الأجناس.
أما أخبار الصلح ومقدماته فأولها أن النمسة نشرت في ثاني ذي الحجة مذكرة
رسمية في عاصمتها، بينت فيها أنها أرسلت إلى الدول المتحاربة اقتراحًا تدعوهم
فيه إلى إرسال مندوبين من كل منهم إلى بلد من البلاد التي على الحياد للمفاوضة
السرية في أمر الصلح، وتمهيد السبيل إلى الاتفاق الممكن في ذلك. وفي ٢١ منه
علمنا أن الحكومة البلغارية طلبت الصلح، وعقد الهدنة، وأن رئيس وزارة هذه
الحكومة عرض الأمر على معتمد الولايات المتحدة، فأشار عليه بوجوب قبول
شروط الحلفاء للهدنة بدون بحث؛ لأنهم يريدون بالشدة فيها الأمن من كل خطر في
المستقبل، ولكنهم يراعون في شروط الصلح العدل والإنصاف على قواعد الجنسية،
فقبل نصحه. وروت البرقيات أيضًا أن المعتمد نفسه سافر إلى مركز قيادة الحلفاء
وحضر توقيع الهدنة وأن الترك سيحذون حذو البلغار.
ولم ينقضِ اليوم الأخير من ذي الحجة إلا والبرقيات العامة تتلاقى في جواء
أرجاء العالم بأن الدولة الألمانية نفسها خاطبت الرئيس (ولسن) برغبتها ورغبة
حليفتيها النمسة وتركية في الصلح على الأصول والشروط التي وضعها هو.
فسبحان محول الأحوال، ونسأله أن يحول حالنا إلى أحسن حال.