للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الحادي والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لمن عز وقدر، وغلب فقهر، وخلق كل شيء بقدر، وصلاةً وسلامًا
على خاتم رسله محمد الذي بعثه رحمةً للبشر، ونذيرًا للأسود والأحمر، وأنزل
عليه أحسن الحديث والسير، والمواعظ والعبر، فاعتز وساد من اهتدى بآياته
وادَّكر، وشقي من أعرض وكفر، ولا تزال ميزانًا لسير البشر، في البدو والحضر
{كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً
لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: ٣٢-٣٧) .
أنذر المعتزين بقوة الأجناد والاستعداد للحرب والجلاد، المغترين بكثرة
الأموال والأولاد، وسعة الملك وعمران البلاد، سنته التي خلت في العباد، الباقية
إلى يوم التناد، في سوء عاقبة البغي والفساد، والفحش والسفاد، ذَكَّرَهُمْ بما عاقب
به مَن قبلهم، ثم أنذرهم عذابًا يبعثه عليهم من فوقهم، أو يثيره بهم من تحت
أرجلهم، أو يلبسهم شيعًا بتنازع أطماعهم في الأرض، ويذيق بعضهم بأس بعض،
فتماروا بالنذر، واتكلوا على ما أوتوا من القوى والحيل، اتكلوا على قوة العلم
والنظام ويا لها من قوة، اتكلوا على قوة الدخان السام والآلات الحربية، اتكلوا على
الغواصات، والمدرعات، والنسافات، والمدمرات البحرية، اتكلوا على قوة
الأموال من المواد والنقود الذهبية، اتكلوا على قوة المكر والخداع والتجسس
والمكايد السياسية، أعد كل ما استطاع من قوة لخذل الحق واتباع الهوى، متكلاً
على ما كانوا يسمونه توازن القوى، لاعتقاد الجميع أن الحق للقوة , أو أن القوة
تغلب الحق، ثم منى كل نفسه بالنصر وأنه صاحب الحق {وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} (المؤمنون: ٧١) {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ
لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ
* بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: ٤٣-٤٦) .
نسوا أن علم الله فوق كل علم، وقوله: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: ٨٥) نسوا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وأشد بأسًا وتنكيلاً, نسوا
سنته في قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: ١٦) وسنته في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ
أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً
مَّفْعُولاً} (الإسراء: ٤-٥) إلى آخر تلك الآيات والعبر وأمثالها من الأمثال
والنذر {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: ٤- ٥) .
إن سنن الله - تعالى - في نوع الإنسان، كسننه في سائر الأكوان: حق
وعدل، ورحمة وفضل، إلا أن الناس يبغون على أنفسهم، ويجنون على فطرتهم،
فيضر الفرد أو الجمع منهم ليضر، ويضر لينتفع ويُسَر, أو لينفع ويَسُر، فيعود
ضرره عليه، ويحفر لأخيه أخدودًا فيقع فيه، يفرِط أو يفرِّط أناس في شهواتهم
البدنية، فتنتابهم الأمراض الجسدية، فإذا عرفوا بذلك سنن الله تعالى فيها، وحكمته
في قوادم أسبابها وخوافيها، كانت فائدة الأمراض أعظم من غوائلها، ونفعها أكبر
من ضررها، ويفرِط قوم ويفرِّط آخرون في الشهوات الاجتماعية، فيعبثون
بالحقوق المشتركة والروابط المعنوية، فيهيج البغي والعدوان بين القبائل والشعوب
وتشتعل بينهم نيران الحروب، فتكون فتنةً وبلاءً للجميع، وإن ظهر ذلك أولاً في
فريق دون فريق، ثم تكون العاقبة للمتقين، والنقمة على الباغين والعادين {ذَلِكَ
وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} (الحج: ٦٠)
و (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) والظالم سيف الله ينتقم به , ثم
ينتقم منه {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِي} (هود: ١٠٢) وما كان يظن بأدق الأمم بحثًا في السنن الإلهية, وأوسعها
علمًا بالشؤون الاجتماعية، أن تكون أشد عدوانًا وبغيًا، من أشد القبائل غباوةً وجهلاً
ولكن كان مَثَل هذه الأمم كمَثَل الأطباء الذين تفتك بشبابهم الأمراض والأدواء ,
لإفراطهم في شُرب المسكر، وإسرافهم في الفحشاء والمنكر، وهم أعلم الناس
بضررها، وأبلغهم لسانًا في التحذير من خطرها، وذلك برهان قطعي على أن
علوم البشر أجمعين، لا تغني في إصلاح حال البشر عن هداية الدين، دين الإذعان
واليقين الحاكم على الإرادة، لا دين التقليد الذي لا يخرج عن حكم العادة، وإن ضل
من اغتر بعلومهم فكفر، وفسق عن أمر ربه وفجر وجهل حكمة الله وصنعه في خلق
البشر, فقال بفنائهم وببقاء الحجر والمدر {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ
المُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة: ٧-١٣) .
لقد أتى على أمم الشمال الغربية حين من الدهر لم تكن شيئًا مذكورًا، إذ كان
أهل الجنوب الشرقيون يملأون الآفاق علمًا ونورًا، لا يزال بعضه مرويًّا مأثورًا،
أو مرئيَّا منظورًا، وذهب البعض الآخر هباءً منثورًا، ثم أتى عليها أحقاب نالت
فيها بالعلم والصناعة ملكًا كبيرًا، وتبوأت من تراث ملوك الشرق جنات وقصورًا،
وزخرفًا وحريرًا، وثلت عروشًا رفعها العدل والعلم، ثم وضعها الجهل والظلم
فدمرها تدميرًا، فكانت سيف الانتقام الإلهي منتضىً مشهورًا، ولكن استكبر أهلها
في أنفسهم، وعتوا عتوًّا كبيرًا, ولم يقيموا الميزان الذي يتبجحون به مينًا وزورًا
ولو غيَّر أهل الجنوب ما بأنفسهم, لغير الله ما حل بهم، ولكن أوشك أن
يدور الزمان، ويعود الأمر كما كان {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ
اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: ٣٨) {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا
إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر: ٤٩-٥٠) .
تعارضت بين دول الشمال المطامع، وتنازعوا على ما يصيبون في الجنوب
والشرق من المنافع، فحكم القضاء في قضيتهم المدافع، وكان عذاب ربك واقعًا ما
له من دافع، فقتلوا من أبنائهم في أربع سنين , أضعاف من قتلوا في حروب
المطامع في عدة قرون، وخسروا في هذه السنوات من الأموال أضعاف ما ربحوا
من جميع الأجيال {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: ٤٥-٤٦) ولولا أن خلق الإنسان من عجل، لما استبطأ عدل الله في الأمم
والدول، فمن ذا الذي كان يظن من المستعجلين، أو المستبطئين , أن يرى العالم
في القرون الطويلة ما أرته هذه الحرب في أربع سنين: ثُل عرش قياصرة الروس
القاهرين، وأبعد القيصر وأهل بيته إلى حيث كان يَعتقِل نابغي العلماء والسياسيين،
وتمزقت كبرى سلطنات (إمبرطوريات) الأرض إلى بضع جمهوريات يسفك
بعضها دماء بعض، فثُل عرش السلطنة النمسوية , وتمزقت إلى عدة حكومات
جمهورية، وتدهور عن عرشه أعز عاهل على وجه هذه الأرض، بعد أن كاد يقضي
على أكثر أمم الشرق مع الغرب، وهو النافذ الحُكم والإرادة في أوسع أمم الأرض علمًا، وأدقهم نظامًا وأمتنهم حكمًا، فكان سقوطه كسلك انقطع فتناثرت الفرائد،
إذ سقط ملوك الجرمان وأمراؤهم واحدًا بعد واحد، وأجبر قبله على الاستقالة ملك
اليونان، وتلاه كل من ملكي البلغار والرومان، وتقلص ظل الترك عن بلاد العرب
والأرمن والأكراد، التي سفك طغاتهم الاتحاديون فيها الدماء، وأكثروا فيها الفساد
{فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: ١٣-١٤)
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ
وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} (آل عمران: ٢٦) , {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى للبشر} (المدثر: ٣١) .
ومن أكبر العبر أن الله أنقذ أوربة من ظهور الألمان عليها وما كان يُحذر من
سيطرتهم على مستعمراتها بعد إجلائهم عنها، على يد أقل الشعوب الكبرى استعدادًا
للحرب والجلاد، وأبعدها عن طلب السيادة على الشعوب والطمع في البلاد، وهو
شعب الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان له من الفلج بقوة الحق المعنوية، فوق
ما كان له من الظفر بترجيح قوى الأحلاف الجندية والمادية، فإن دعوة رئيسه
(الدكتور ولسن) إلى بناء صلح الأمم على ما وضعه من قواعد الحق والعدل العام،
واستقلال الشعوب والأقوام، والمساواة بين الأقوياء والضعفاء، والأولياء والأعداء -
هو الذي زلزل نظام الشعوب الجرمانية الراسخ البناء، وأظهر الاشتراكيين
الضعفاء منهم على أولئك الجبارين من الملوك والأمراء، فكان به الظفر للقوة
الأدبية على تلك القوة العسكرية والمالية التي أعدت لمقاومة البرية , {فَوَقَعَ
الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف:
١١٨-١١٩) فعلم بذلك أن القوة للحق، أو أن قوة الحق فوق قوة الباطل {بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: ١٨) وإنما بقاء الباطل في
نومة الحق عنه، أو خداعه للحق حتى يوهمه أنه له أو معه أو شعبة منه، أما وقد
استيقظ الحق من رقدته، صرع الباطل وهو في عنفوان قوته , فلم يبق إلا أن يجرده
من قوة المكر والخداع، التي هي عتاده الآن في الهجوم والدفاع، والكر في ميادين
الأطماع {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ
وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} (المدثر: ١٨-٢٣) .
قتل الإنسان ما أكفره، إذا مسه الضر لجأ إلى الحق والعدل، والرحمة
والفضل، فإذا نجا منه استبدل الكفر بالشكر، ولجأ إلى الخديعة والمكر {وَإِذَا أَذَقْنَا
النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ
رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ * هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ
مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ
مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا
بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا
مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا
أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: ٢١-٢٤) هذا هو القول الفاصل بين الحق والباطل
المبين لحال الأفراد والجماعات في اختلاف الحالات والأوقات، ولكن قد ظهر
لفضلاء العقلاء الأمريكيين والحلفاء، بما رزئ به العالم في هذه الحرب من البأساء
والضراء - أنه لا سلام على الأرض إلا بالمساواة في العدل وترك سياسة المكر
والرياء , ومعاهدات السر والخفاء، واستقلال جميع الشعوب بأمر حكوماتها،
وتأليف عصبة من علماء الأمم للفصل في خصوماتها، وإلغاء جميع المعاهدات
القديمة السرية، وإن عللت بدعوى إرادة الخير وحسن النية، وإنما الخير كله في
الحرية، وهذا ما دعا إليه (الرئيس) جميع المتحاربين، فواثقوه على أن يقبلوه
مذعنين , وأسر الكيد له بعض الطامعين ليأخذوا بالشمال ما عجزوا عن أخذه
باليمين {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ
بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: ١٢٣) وأما أولئك العقلاء فمتفقون على ما
اقترحه (الرئيس) من وجوب الإخلاص، وأن لا منجاة بدونه ولا مناص، إن
لا تفعلوه تكن فتنته في الأرض وفساد كبير، وانقلاب (لمشفي) شره مستطير، أو
تعود الحرب جذعةً بهذه السياسة الخدعة، الخبأة الطلعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: ١٠) {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ
الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (لقمان: ٣٣) فهذا ما يذكر به المنار
قُرَّاءه في فاتحة مجلده الحادي والعشرين، كدأبه فيما سبق من السنين، مقتبسًا من
الكتاب المبين ما هو ذكرى للمغرورين بقوتهم، وبشرى للمغلوبين على حريتهم
وحجة على اليائسين , وعبرة للمعتبرين، وإنما العبرة لمن اعتبر، والموعظة
لمن ازدجر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: ١٧) .
... منشئ المنار ومحرره: السيد محمد رشيد رضا