للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مبادئ الانقلاب الاجتماعي الأكبر
وحرية الأمم
(١)

شروط الصلح العالمي أو صلح الأمم العام
التي وضعها، وأعلنها الدكتور ولسُن رئيس جمهورية الولايات المتحدة في أول
سنة ١٩١٨ , وقبلتها حكومات الحلفاء، ثم رضيت الحكومات المحاربة لهن بجعلها
قواعد للصلح العام (وذلك قبل التعديلات التي اقتضت الحال إدخالها عليها)
منقولةً عن الجرائد المصرية، ومصححةً على نسخة التيمس الصادرة في ١١
يناير سنة ١٩١٨.
١- إبرام اتفاقات الصلح علانيةً، وإعدادها علانيةً، وبعد عقدها لا تبرم
اتفاقات خاصة من أي نوع كان مما يتناول الشؤون الدولية، ولكن الهيئات السياسية
تعمل دائمًا جهارًا، وعلى مرأًى من العالم.
٢- حرية الإبحار في البحر خارج حرم السواحل مطلقةً من كل قيد (حرم
السواحل ٦ أميال) سواء كان في زمن السلم، أو في زمن الحرب إلا في حالة
إقفال البحار كلها أو بعضها بأمر دولي عام تنفيذًا لاتفاقات دولية.
٣- إزالة الحوائل الاقتصادية جهد ما تصل إليه الطاقة، وتقرير المساواة في
الصِّلات التجارية بين جميع الأمم التي ارتضت الصلح وتشاركت في تأييده.
٤- إعطاء الضمانات الكافية وأخذها، بأن يُنقص سلاح كل بلد على أقله مما
يتفق مع أمن البلاد في داخلها.
٥- التسوية الحرة المقرونة بالتساهل والنزاهة التامة للدعاوي الاستعمارية،
يكون مبناها الاحترام التام للمبدأ الذي يجعل مصلحة الشعوب ذات الشأن مساويةً
للدعاوي النزيهة التي تدعيها الحكومة المنوي تقرير صفتها, أو عنوانها.
٦- الجلاء عن الأراضي الروسية كلها، وتسوية كل مسألة تتعلق بروسيا
على وجه يضمن لها أحسن المعاونة وأوسعها من جميع أمم الأرض بحيث تقدم
لروسيا الفرصة الموافقة لتقرر دون حائل ولا مانع عرقلة تقدمها السياسي، والقومي،
ويكفل لها بكل إخلاص قبولها في حجر الأمم الحرة بالأنظمة التي تختارها هي
لنفسها، بل يقدر لها فوق قبولها المساعدة التي قد تحتاج إليها أو تتمناها من كل وجه.
والمعاملة التي تعامل بها روسيا من الأمم شقيقاتها في الأشهر المقبلة تكون
الدليل الناصع على حسن مقصدهن، وعلى معرفتهن حاجات روسيا بصرف النظر
عن مرافقهن الخاصة، بل الدليل على عطفهن المعقول وكرمهن.
٧- العالم كله موافق على قصد الجلاء عن البلجيك وترميمها دون أقل سعي
للنقص من سيادتها التي تتمتع بها كسائر الأمم الحرة، ولا يقوم عمل من الأعمال
كهذا العمل في إعادة ثقة الأمم في القوانين التي وضعتها هي ذاتها وجعلتها دستورًا
لصِلاتها المتبادلة، وبدون هذا العمل يتهدم بناء القانون الدولي، وتضيع قيمته إلى
الأبد.
٨- تحرير جميع الأراضي الفرنساوية، وترميم جميع المناطق المجتاحة،
والغرم الذي أصاب فرنسا من بروسيا في عام ١٨٧١ فيما يتعلق بالألزاس واللورين،
وهو الغرم الذي كدر صفو العالم في مدة خمسين سنةً تقريبًا - يجب أن يعوض عليها
حتى تعود ضمانة السلم لمصلحة الجميع.
٩ - تعديل الحدود الطليانية يجب أن يتم طبقًا لمبادئ قومية واضحة كل
الوضوح.
١٠- تعطى لشعوب النمسا وهنغاريا التي تريد أن ترى مقامها بين الأمم ثابتًا
ومضمونًا، كل التسهيلات لزيادة استقلالها الإداري.
١١- رومانيا وصربيا والجبل الأسود يجلى عنها، والأراضي المحتلة ترمم،
ويضمن لصربيا طريق إلى البحر، وصِلات الدول البلقانية تكون متبادلةً، ومعينةً
بنصائح ودية، وتجري هذه الصلات على قاعدة التقاليد العنصرية المقررة تاريخيًّا،
ويجب البحث الجد في الضمانات الدولية للاستقلال السياسي والاقتصادي وصيانة
الأملاك لدول البلقان.
١٢- الأقاليم التركية من أملاك السلطنة العثمانية الحاضرة يجب أن يضمن
لها سلطان وطني وطيد، ولكن الأمم الأخرى التي هي الآن تحت الحكم التركي
يجب أن تضمن لها حياة أمن لا ريب فيه، وفرصة للتدرج في الاستقلال الإداري
لا شائبة فيها أبدًا، وأما الدردنيل فيجب أن يظل مفتوحًا دائمًا كطريق حرة لبواخر
جميع الأمم ومتاجرها، تحت حماية جميع الدول.
١٣- يجب إنشاء دولة بولونية مستقلة، وهذه الدولة تتألف من جميع الأراضي
التي لا يجادَل بأن سكانها من البولونيين، وتضمن لهذه الدولة طريق إلى البحر،
ويضمن باتفاق دولي استقلالها السياسي والاقتصادي كما تضمن سلامة أملاكها
وأراضيها.
١٤- يجب أن تؤلف من جميع الأمم عصبة عامة باتفاقات معينة يكون
الغرض منها تبادل الضمان للاستقلال السياسي، وصيانة الأملاك على حد المساواة
للأمم الصغيرة والكبيرة.
(٢)
خطبة الرئيس ولسن
في عيد استقلال الأميركيين
مترجمة عن عدد التيمس الذي صدر في ١٢ يوليو سنة ١٩١٨

في اليوم الرابع من يوليو (تموز) الماضي احتفلت الولايات المتحدة
الأميركية بعيد استقلالها، فوقف الرئيس ولسن عند قبر وشنطون على جبل فرنون
وخاطب المجتمعين حوله قائلاً:
يسرني أن آتي معكم إلى هذا المحل الاستشاري القديم البعيد عن الضوضاء؛
لأخاطبكم قليلاً بمغزى هذا اليوم الذي هو عيد حرية أمتنا، المكان منفرد، والهدوء
تام فيه، وهو لا يزال بعيدًا عن ضوضاء العالم كما كان في تلك الأيام الخطيرة
الشأن حينما كان الجنرال واشنطون يأتيه مع الرجال الذين اشتركوا معه في إنشاء
الأمة الأمريكية، كانوا يتطلعون إلى العالم من هذا المكان، فرأوه بعين الخيال التي
تنظر إلى المستقبل، رأوه بعين أبناء هذا العصر التي لا يرضيها ماضٍ تنفر منه
النفوس الأبية، ولذلك لا نشعر بأن هذا المكان موقف رجل ميت ولو كان قبره
أمامنا , فإنه المكان الذي عُمل فيه عمل عظيم، عمل حي، هنا وعد الناس وعدًا
عظيمًا، قولاً وفعلاً، فالذكرى التي تحيط بنا في هذا المكان وتبث النشاط في
نفوسنا هي ذكرى ذلك الرجل العظيم الذي لم يكن موته سوى خاتمة مجيدة لحياة
مجيدة.
ومن هذه الأكمة الخضراء نتطلع بأعين باصرة إلى العالم المحيط بنا،
ونتصور الوسائل التي يجب أن تحرر نوع الإنسان، ومما لا ريب فيه أن وشنطون
وشركاءه أثبتوا بأخلاقهم وأعمالهم أنهم لم يكونوا يقولون ويفعلون لأجل فريق
من الناس خاصةً، بل لأجل الشعب كله، فعلينا نحن أن نثبت أنهم لم يقولوا ولم
يفعلوا لأجل شعب واحد، بل لأجل العالم أجمع، لم يكن اهتمامهم بأنفسهم ولا
بمصالح الملاك والتجار وأصحاب المصالح الأخرى الذين كانوا يعاملونهم في
فرجينيا وما إليها شمالاً وجنوبًا، بل بالشعب كله الذي كان يرغب في نزع
الامتيازات التي تميز ذوي المقامات العليا ونفي الخاصة وإبطال سلطة حكامهم الذين
لم يختاروهم للحكم عليهم.
لم يكن لوشنطون ومشيريه منافع شخصية، ولا طلبوا امتيازات خاصةً،
وإنما أرادوا أن يكون كل إنسان حرًّا، وأن تكون أميركا ملجأً يلجأ إليه كل من يريد
من أمم الأرض أن يشاركهم في حقوق الأحرار ومزاياهم.
فبهدي أولئك الفضلاء نهتدي معتقدين أن اشتراكنا في هذه الحرب هو ثمرة
الغرس الذي غرسوه، والفرق بيننا وبينهم أنه قسم لنا من حسن حظنا أن نشترك
مع أناس من كل أمة في ما تؤمن به حريتنا وحرية كل الأمم، ويسرنا جدًّا أنه
أتيح لنا أن نفعل ما كان أسلافنا يفعلونه لو كانوا في مكاننا، ويجب أن ينال العالم
كله ما نالته أميركا في العصر الذي أتينا لنتذكره ونستمد الإلهام منه.
لا شبهة في أن هذا المكان من أصلح الأماكن لأن نلتفت منه إلى عملنا،
ونوطن أنفسنا على القيام به، وهو من أصلح الأماكن لأن نبين للأصدقاء الذين
ينظرون إلينا، وللحلفاء الذين كان من حسن الحظ أن شاركناهم في العمل ما هو
الدافع الذي يدفعنا إليه، وما هي الأغراض التي نرمي إليها.
فهذا ما نراه في هذه الحرب التي خضنا غمارها. إن أغراض الخصمين منها
واضحة بينة في كل فصل من فصولها، ففي الجهة الواحدة نرى أمم العالم التي
اشتركت في الحرب فعلاً، والأمم التي تئن من السيادة، ولكنها لا تستطيع المقاومة.
أممًا كثيرة في كل أقطار المسكونة، ومنها أمم روسيا التي تقوض بنيانها الآن.
وفي الجهة الأخرى نرى قواد جيوش ورؤساء حكومات لا يرمون إلى نفع
عام، بل إلى نفع خاص، إلى مطامع شخصية لا ينتفع بها أحد غيرهم، وأسيادًا
شعوبهم كالوقود في أيديهم، وحكومات تخشى من شعوبها، ولكنها متسلطة عليهم
تتصرف في دمائهم وأموالهم كما تشاء، وفي دماء كل الشعوب التي تتسلط عليهم
وأموالهم، حكومات ترتدي حلل سيادة قديمة غريبة عن عصرنا ومعادية له.
فهذه الحرب الزَّبون الناشبة بين الماضي والحاضر وشعوب الأرض تستشهد في
معتركها لا بد من أن تكون فاصلةً حاسمةً لا مهادنة فيها، ولا مراضاة ولا توسط، ولا
هوادة.
الحلفاء يحاربون لأجل أغراض أربعة، ولا يلقون السلاح من أيديهم قبل أن
تتحقق كلها:
(الأول) : ملاشاة كل قوة استبدادية تستطيع أن تزعزع أركان السلم إذا
أرادت ولو سرًّا، وإذا كانت ملاشاة القوى الاستبدادية غير مستطاعة وجب على
الأقل إضعافها، حتى تعجز عن الضرر.
(الثاني) : تسوية كل خلاف سواء كان في أرض أو سلطة أو مصلحة
اقتصادية أو علاقة سياسية، على مبدأ (رضا الشعب) الذي تتعلق به تلك التسوية
مباشرةً، لا على مبدأ المصالح المادية والمنافع الشخصية التي تنال شعبًا آخر،
أو تنال قومًا يرغبون في تسوية أخرى لتعزيز سيادتهم أو نفوذهم الخارجي.
(الثالث) : تسليم الشعوب كلها بأن معاملة بعضهم مع بعض خاضعة لمبادئ
الشرف والاحترام لناموس العمران الذي يخضع له سكان كل الممالك العصرية،
وأن علاقاتهم بعضهم مع بعض خاضعة للقانون القاضي بأن كل العهود والوعود
يجب أن تحفظ حفظًا تامًّا بلا دسيسة ولا مخادعة ولا ضرر ولا ضرار، ولتوثيق
عرى الثقة التامة على أساس الاحترام المتبادل والحقوق المتبادلة.
(الرابع) : إنشاء نظام للسلم يجمع قوة الأمم الحرة لمقاومة كل معتد على
الحق، ويحفظ السلم والعدل بإقامة محكمة من الرأي العام يخضع لها الجميع،
ويكون لها حق الفصل في كل خلاف يقع بين الأمم، ويتعذر عليهم فضه.
هذه الأغراض العظيمة يمكن التعبير عنها بجملة واحدة، وهي أننا نطلب
سلطان القانون المؤسس على رضا الرعايا، والمؤيد برأي البشر المنظم، وهذه
الأغراض العظيمة لا تنال بالبحث والتوفيق بين مطالب رجال السياسة، وما
يشيرون به لتوازن القوة لحفظ مصالح الأمة، وإنما تنال بما يصمم عليه العقلاء
الذين يتوخون العدل والحرية.
ويلوح لي أن هواء هذا المكان سيحمل صدى هذه المبادئ إلى كل الأنحاء،
هنا قامت قوات حسبتها الأمة العظيمة التي وجهت لمقاومتها عصيانًا على سلطتها
الشرعية، ولكنها رأتها بعد ذلك خطوةً في تحرير شعبها كما هي خطوة في تحرير
شعب الولايات المتحدة، وقد وقفت الآن لأتكلم والفخر ملء نفسي، والأمل والثقة
ملء جوانحي، عن نشر هذا العصيان - بل هذا التحرير - في أقطار المسكونة.
إن حكام بروسيا الذين عميت بصائرهم أثاروا قوًى لا يعرفون قدرها، قوى
إذا ثارت لا يمكن إخمادها؛ لأنها مدفوعة بعزم وحزم لا فتور لهما؛ لأن النصر
معقود بناصيتهما.
***
(٣)
وجوه الحرب أو مقاصدها وجمعية الأمم
خطبة الدكتور ولسن في نيويورك
منقولة عن عدد التيمس الذي صدر في ٤ أكتوبر سنة ١٩١٨
خطب الرئيس ولسن في نيويورك قبل فتح باب الاكتتاب في قرض الحرية
الرابع بستة آلاف مليون ريال فقال: إنه لم يعمل منبر الخطابة ليروج القرض،
فإن لترويجه رجالاً ونساءً لا تني همتهم ولا يفتر ولاؤهم، وقفوا أنفسهم بحماسة على
عرضه على مواطنيهم في جميع أنحاء البلاد، وسيكون النجاح التام قرين عملهم لما
هو معروف عن حميتهم وحمية البلاد، وهذه الثقة مؤيدة بما يبذله مديرو المصارف
(البنوك) من المعونة الصادقة القائمة على الخبرة والروية، فإنهم يساعدون مساعدةً
لا تثمن، ويرشدون بآرائهم ومشورتهم، ثم قال:
ما جئت لأروج للقرض، وإنما جئت منتهزًا هذه الفرصة لأطلعكم على
أفكار تظهر لكم الأمور التي يدور عليها هذا النزاع العظيم، وتجلوها لعيونكم أكثر
من قبل، فتزداد حماستكم لحمل واجب تأييد الحكومة برجالكم وما عندكم من
الوسائل المادية والبذل والإيثار (وإنكار الذات) إلى أقصى الحدود، فليس في الدنيا
رجل أو امرأة استوعب معنى هذه الحرب، وهو يتردد في بذل كل ما عنده، فمهمتي
الليلة هي أن أشرح لكم مرةً أخرى معنى هذه الحرب ومغزاها لنا، وحسبي هذا؛
إذكاءً لشعوركم، وتذكيرًا لكم بالواجب عليكم، فإنه كلما انقضى دور من أدوار هذه
الحرب، تجلى لنا ما نروم أن نبلغ بها، ومتى هاج فينا عامل الرجاء والانتظار أشد
هياج، ازداد تأملنا في النتائج التي تبنى عليها، والأغراض التي تنال بها، وزاد ذلك
كله وضوحًا لأعيننا، فإن للحرب أغراضًا معينة لم نوجدها نحن، ولا نستطيع
تغييرها، ليست هذه الأغراض من مخترعات رجال السياسة ومجالس الحكومات،
وليس في طاقة الساسة والمجالس تغييرها وتبديلها؛ لأنها نشأت من طبيعة الحرب
وأحوالها، فجهد ما يستطيعه الساسة ومجالس الحكومات تنفيذ هذه الأغراض أو نبذها
خيانةً منهم، ويحتمل أن هذه الأغراض لم تكن جليةً في أول الأمر ولكنها صارت
جليةً اليوم، فقد دامت الحرب أكثر من أربعة أعوام، وخاضها العالم كله، وحلت
مشيئة بني البشر فيها محل مقاصد الدول، ويحتمل أن تكون الحرب أضرمت بيد
فريق من رجال السياسة والدول، ولكن إيقافها فوق طاقتهم وفوق طاقة خصومهم؛
لأنها صارت حرب شعوب، وشملت شعوبًا من جميع الأجناس على اختلاف
لمراتب في القوة والثروة وقد خضناها لما ثبتت صبغتها، وظهر أنه لا يوجد أمة
تستطيع الوقوف أمامها مغلولة اليدين غير مكترثة لنتائجها، وقد تحدتنا الحرب
فتحدت في قلوبنا كل ما نعز في الدنيا، وكل ما نحيا لأجله، وسمعنا صوتها فكان له
رنة في قلوبنا، وسمعنا أيضًا أصوات إخواننا من جميع أقطار العالم، وأصغينا إلى
نداء إخواننا الذين نادونا بعد ما سقطوا قتلى إلى قاع البحار فلبينا دعوتهم بهمة
عظيمة وشجاعة وكان الجو حولنا صافيًا نقيًّا، فرأينا الأمور على حقيقتها، وظللنا
نراها بأعين شاخصة وعقول لم تتغير من ذلك الحين، وقبلنا الوجوه التي
تدور الحرب عليها بحكم الحقائق، لا كما عرفها جماعات من الناس هنا أو في البلدان
الأخرى، فلا يمكننا أن نقبل نتيجةً لا تطابق تلك الوجوه أو لا تحلها.
وهذه الوجوه أو الأمور الجوهرية هي:
هل يسمح للسطلة العسكرية في أمة أو مجموعة من الأمم أن تثبت الحكم في
مصير شعوب ليس لها من الحق في حكمها سوى الحق المكتسب بالقوة؟
هل يجوز للأمم القوية أن تتعدى على الأمم الضعيفة، وتخضعها لمقاصدها
ومصالحها؟
هل يكون حكم الشعوب في أمورها الداخلية بقوة مطلقة غير مسئولة، أم
بمشيئتها واختيارها؟
هل يكون في العالم مقياس عام للحق والامتياز في جميع الشعوب، أم يفعل
القوي ما يشاء ويعذب الضعيف ولا ناصر له؟
هل يوطد الحق اتفاقًا بمخالفات تعقد اعتباطًا، أو تكون هنالك جمعية من الأمم
توجب احترام الحق العام المشترك؟
هذه وجوه للحرب لم يخترها رجل واحد، ولا جماعة من الناس، فهي
ملازمة للحرب، ويجب أن تبت إما بالاتفاق أو التساهل أو بالتوفيق بين المصالح،
ولكن يجب أن كون بتها نهائيًّا مع التسليم التام الصريح بالمبدأ القائل: إن مصلحة
أضعف الخلق مقدسة كمصلحة أقواهم، وهذا ما نعنيه بالسلم الوطيد الدائم إذا تكلمنا
بإخلاص وفهم وعلم حقيقي بالمسألة التي نحن فيها، فنحن متفقون على أن لا سلم
يحرز بالمساومة والتساهل مع الدولتين الجرمانيتين؛ لأننا عاملناهما قبل اليوم،
ورأيناهما في تعاملهما مع حكومات أخرى كانت تحارب في هذه الحرب، وشاهدنا ما
فعلتا بها في (برست توفسك) و (بخارست) فأقنعتانا بأنهما خاليتان من الشرف ,
وأنهما لا تبتغيان العدل، ولا ترعيان عهدًا، ولا تعرفان مبدأً سوى القوة
ومصلحتهما، فالاتفاق معهما غير مستطاع، وقد جعلتاه مستحيلاً، والشعب الألماني
يعلم الآن أننا لا نقبل عهود الذين جرونا إلى هذه الحرب، فإننا وإياهم على طرفي
نقيض في معنى الاتفاق والتفاهم.
ومن أهم الأمور أن نُجمع إجماعًا تامًّا صريحًا على اجتناب كل صلح يحرز
بالتساهل أو التنازل عن شيء من المبادئ التي جاهرنا بأننا نحارب لأجلها،
ولهذا سأتكلم بمنتهى الصراحة عن الأمور التي يشملها ما تقدم، فإذا كانت
الحكومات التي تحارب ألمانيا وشعوب تلك الحكومات، متفقةً على إحراز صلح
وطيد ثابت كما أعتقد - وجب على جميع الذين يجلسون حول مائدة الصلح أن يأتوا
إليها وهم مستعدون أن يدفعوا الثمن الوحيد الذي يحرز هذا الصلح به، وأن
يوجدوا الأداة الوحيدة التي تكفل تنفيذ معاهدات الصلح واحترامها , وهذا الثمن هو
العدل المجرد عن الهوى في تنفيذ كل مادة من مواد الصلح بقطع النظر عن
المصالح التي يعترض ذلك لها، وعن أصحاب هذه المصالح، لا أقول العدل
المطلق فقط، بل ارتياح الشعوب التي يحكم في أمورها ومصيرها أيضًا، فالأداة
التي توصل إلى ذلك والتي لا بد منها، هي جمعية الأمم التي تؤلف بعهود فعالة،
ومن دون هذه الأداة التي تكفل دوام السلام يظل السلم العام قائمًا بعضه على وعود
قوم ساقطين من الحقوق؛ لأن ألمانيا يجب أن تبيض سواد صفحتها، لا في مجلس
الصلح، بل فيما يعقبه , وعندي أن تأليف جمعية الأمم هذه وتعيين الغرض منها
تعيينًا صريحًا جليًّا يجب أن يكون جزءًا من الصلح نفسه، بل أهم جزء فيه.
ولا يمكن تأليف هذه الجمعية الآن، فإنها إذا ألفت الآن كانت عبارة عن
محالفة جديدة مقتصرة على الأمم المتحدة على عدو مشترك، ولا يحتمل أن تؤلف
بعد عقد الصلح إذ من الواجب ضمان السلم، والسلم لا يُضمن بخاطر يخطر بالبال
بعد الصلح، أما السبب الذي يقضي بضمان السلم فهو - بالقلم العريض - وجود
فريق من الذين يبرمونه أثبت للعالم أن عهوده لا يعول عليها، فيجب تدبير وسيلة
عند عقد الصلح لإزالة هذا العامل، ومن الحماقة أن يترك الضمان لمشيئة
الحكومتين اللتين رأيناهما تدمران روسيا وتخدعان رومانيا.
ولكن هذه الأقوال العمومية لا تكشف اللثام عن المسألة، ولا بد من تفاصيل
تجعلها أقرب إلى الأمور العملية منها إلى الأمور النظرية، فإليكم بعض التفاصيل
أتلوها عليكم بثقة أعظم؛ لأنها رسمية تعبر عن تأويل الحكومة الأميركية للواجب
عليها في مسألة السلم.
الأول: أن معنى العدل المجرد عن الهوى هو أن لا نميز بين الذين نريد أن
نعدل فيهم والذين لا نريد أن نعاملهم بالعدل، فالعدل يجب أن لا يفرق ولا يميز ولا
يحابي ولا يعرف من المقاييس سوى التساوي في الحقوق بين الشعوب المختلفة
صاحبة الشأن.
الثاني: لا يجوز أن تجعل المصلحة الخاصة لأمة أو أمم أساسًا لجزء من
الصلح إذا كانت مناقضة لمصلحة الكل.
الثالث: لا يجوز إنشاء محالفات أو عهود خاصة واتفاقات داخل جمعية الأمم
العامة.
الرابع: لا يجوز أن تعقد في قلب جمعية الأمم اتفاقات ومعاهدات اقتصادية
خصوصية مصدرها حب الذات، ولا يجوز استخدام المقاطعة الاقتصادية في أي
شكل كان إلا كعقاب اقتصادي بإخراج المعاقب من أسواق العالم، وهذه سلطة تخول
لجمعية الأمم التأديب والسيطرة.
الخامس: يجب نشر جميع الاتفاقات التي تبرم بين الدول على رؤوس
الأشهاد بحذافيرها وقد كانت المحالفات القومية والمعاهدات على اختلاف أنواعها
والمنافسة الاقتصادية مصدرًا كبيرًا للخطط والشهوات التي تؤدي إلى الحرب، فكل
صلح لا يقضي على هذه المحالفات والاتفاقات يكون صلحًا خاليًا من الإخلاص غير
مأمون البقاء.
إن الثقة التي أتكلم بها عن شعبنا في هذه الأمور لم تنشأ عن تقاليدنا فقط ولا
عن مبدإ العمل الدولي الذي جاهرنا باتباعه دائمًا فقط، فإذا قلت: إن الولايات
المتحدة لا تعقد معاهدات واتفاقات خصوصية مع أمم معينة، فإني أقول أيضًا: إن
الولايات المتحدة مستعدة لحمل نصيبها الكامل من تبعة المحافظة على العهود العامة
والاتفاقات المشتركة التي يشاد السلم عليها من الآن، فإنا لا نزال نتلو وصية
وشنطن الخالدة باجتناب (المحالفات المؤدية إلى المشاكل) ونفهم مضمونها ونلبي
الدعوة التي فيها، على أن المشاكل تأتي من محالفات خصوصية محدودة، فنحن نقبل
الواجب الذي يفرض علينا في العصر الجديد الذي نرجو فيه محالفةً عامةً تجتنب
فيها المشاكل وتطهير جو العالم للتعارف بين شعوبه والمحافظة على حقوقه
المشتركة.
وَصَفتُ الحالة الدولية كما خلَّفتها الحرب، لا لأني أظن أن زعماء الشعوب
العظيمة التي نحن متحدون معها مخالفون لي في الرأي والقصد، بل لأن الجو يظلم
من حين إلى حين بما ينتشر فيه من الضباب وما يطير فيه من الريب والظنون التي
لا أساس لها، وبتشويه الآراء تشويهًا يراد به الشر، فيجب من حين إلى حين
دحض الأقوال التي يقولها غير المسئولين عن دسائس للصلح، أو عن ضعف في
العزيمة ووهن في القصد من جانب ولاة الأمور، ويجب من حين إلى حين المجاهرة
بأتم الصراحة بما تكرر ذكره من قبل.
قلت: إني لم أوجد وجوه الخلاف في هذه الحرب والمحاورة التي تدور عليها
ولم يوجدها غيري من رجال الحكومة بل قابلتها بما أوتيت من بعد النظر والتصميم
الذي اشتد بزيادة وضوح هذه الأمور، ومن الواضح الآن أن هذه النتائج مما لا
يستطيع أحد أن يقلبها إلا إذا تعمد ذلك، فأنا مضطر أن أقاتل لأجلها، كما أظهر
الزمان والأحوال لي ولكل العالم، وحماستنا لهذه الأمور تزداد كلما ازدادت جلاءً،
والقوات التي نقاتل لأجلها تتآزر وتتألب وتقوى بما بينها كلما ازدادت هذه الأمور
وضوحًا أمام أعين الشعوب المتحاربة , ومن مميزات هذه الحرب العظمى أنه بينما
رجال الدول يبحثون عن تعاريف لتعريف مقاصدهم وأغراضهم ويظهرون بمظهر
المقلب الذي يغير اتجاه نظره - كانت عقول الشعوب التي يفرض على أولئك الرجال
تعليمها وإنارة أذهانها تصقل وتتبين الأغراض التي تحارب لأجلها، فصُرف النظر
عن الأغراض القومية، وحل محلها الغرض العام المشترك للإنسانية المستنيرة،
وصارت آراء الناس أبسط مما كانت وأصدق وأشد اتحادًا من آراء رجال الأعمال
الذين لا يزالون يعتقدون أنهم يقامرون لأجل القوة والسلطة، يقامرون بمبالغ عظيمة.
لهذا قلت: إن الحرب حرب شعوب وليست حرب ساسة، فعلى رجال السياسة
أن يتبعوا سير الفكر العام وإلا سقطوا، وعندي: إن هذا هو المدلول عليه في
الاجتماعات التي يعقدها عامة الناس الآن ويطلبون في كل واحد منها تقريبًا من
رجال حكوماتهم أن يخبروهم بالصراحة التامة ما يبغون من هذه الحرب وما هي
الشروط التي يظنون أنها ستكون شروط تسويتها النهائية، ولم يرتح من ذكرت إلى
ما قيل لهم حتى الآن جوابًا عن سؤالهم؛ لأنهم يخشون أن يكون جواب السؤال
مفرغًا في عبارات تقسيم الأملاك والبحث في السلطة، لا في قالب العدل والرحمة
والسلام، وإرواء غليل المظلومين من الرجال والنساء والشعوب المستعبدة، وهي
الأمور التي يرون أنها جديرة بحرب كهذه غمرت العالم، ويحتمل أن يكون الساسة
لم يدركوا هذا التغيير في عالم السياسة والعمل، ويحتمل أنهم لم يجيبوا مباشرة
عن السؤال المطروح عليهم لأنهم لم ينتبهوا إلى دقة السؤال والجواب المطلوب،
أما أنا فيسرني أن أحاول ترديد الجواب راجيًا أن يفهم العالم أن الشغل الشاغل لي
هو إرضاء الذين يحاربون في الصفوف، وهم أولى الناس بالجواب الذي لا يعذر أحد
على عدم فهمه ما دام يفهم اللغة التي يصاغ هذا الجواب بها أو يستطيع الحصول
على من يترجمه له إلى لغته بالضبط، وعندي أن زعماء الحكومات التي نحن
مشتركون معها سيتكلمون بالصراحة التي أحاول أن أتكلم بها كلما حانت لهم فرصة
وعسى أن يشعروا أنهم أحرار في تخطئتي إذا اعتقدوا أنني مخطئ في تعيين
الأمور التي تنشأ عن الحرب، أو في ما أقول عن الوسائل التي يمكن بها الحصول
على الحل الموافق لهذه الأمور.
إن توحيد القصد بين الدول في هذه الحرب ضروري كتوحيد القيادة في
الميدان، وهذا التوحيد في المشورة والرأي يكفل النصر التام، فالنصر لا يحرز
بغير ذلك (والهجوم الصلحي) لا يقع إلا متى أظهرنا أن كل انتصار تحرزه
الشعوب المتحدة على ألمانيا يدني الأمم من الأمان والطمأنينة ويجعل تكرار حرب
كهذه مستحيلاً، إن ألمانيا لا تفتأ تلمح إلى الشروط التي تقبلها (لعقد الصلح) فتجد
أن العالم لا يقبل شرط الصلح، بل يطلب انتصار العدل انتصارًا نهائيًّا، ويبغي
الإنصاف في المعاملة. انتهى.
***
تعليق المقطم ثم المقتطف على هذه الخطبة
نشر المقطم هذه الخطبة في ٢ أكتوبر، وعلق عليها التعليق التالي قال:
(جعل الدكتور ولسن موضوع خطبته (جمعية الأمم) التي يصبو إلى تأليفها
مِن جميع الدول ليكون منها حائل يحول دون وقوع حرب عظيمة أخرى تنكب
بها الإنسانية نكبات تعرقها عرق المدى. والذي ينعم النظر في هذه الخطبة
النفيسة البليغة يجد أنه لم يقل فيها قولاً لم يسبق له أن جاهر به في خطبته
السابقة، وخطاباته التاريخية إلى مجالس الأمة الأمريكية، فقيمتها إذًا في تأييد
المبادئ والقواعد التي وضعها، وبسط الآراء التي كان أول من نادى بها في
معترك الأمم قبل ذلك، على أن نبي الحق ونصير العدل والرأفة في هذا العصر
مصمم على أن يطبق هذه المبادئ النظرية على سياسة العالم العملية بكل ما أوتي
من علم وذكاء ونشاط، وما رزق شعبه من قوة وثروة وعلم وحمية.
إن الاشتراكية الصحيحة الخالصة من كل شائبة والتي ترفع قدر الإنسانية هي
الاشتراكية التي نادى بها الدكتور ولسن بقوله في خطبته هذه: (إن مصلحة
أضعف الخلق مقدسة كمصلحة أقواهم) .
ورب قائل يقول: إن الدكتور ولسن ليس بمبتكر لهذا المبدأ، فقد جاهر به
غيره من قبله، وقد يكون الأمر كذلك، ولكن ولسن ينوي أن يكون أكبر عامل في
تطبيقه فعلاً، وإخراجه من حيز القوة إلى حيز الفعل، واتخاذ الوسائل التي تضمن
المحافظة عليه، وعقاب كل من يجرؤ على نقضه. فإذا كانت الأديان المنزلة قد
علمت هذه المبدأ من قديم الزمان، فإن الذين اشتغلوا بالسياسة في ما مضى من
العصور جعلوا ديدنهم التجمل بهذا المبدأ في الظاهر، ومحاربته في الباطن، فكانوا
يسخرونه لقضاء الأوطار ثم يعبثون بروحه.
فالشعوب الصغيرة في جميع أقطار العالم ترفع أيديها مبتهلةً إلى الله أن يطيل
عمر ولسن ويمنحه القوة اللازمة لتحقيق أمانيه، واسم ولسن سيظل منقوشًا على
صفحات قلوب المظلومين من الرجال والنساء والأمم المستعبدة التي يسعى
لإرواء غليلها بجعل نتيجة هذه الحرب لخدمتها ونفعها، لا لتقسيم البلدان والبحث
في توزيع السلطة والسؤدد.
إن الصوت الصاعد من أميركا هذه الأيام صوت نبوءة يقرع أسماع العالم
بالحق، ويدل الدول على سبيل الصلاح والبقاء، وإذا كان في التاريخ عبر،
وفي علم الاجتماع أوليات، فإنما هي ما نادى به خلف وشنطن، فهو ليس شاعرًا،
ولا هو من السابحين في بحار الخيال، ولكنه رجل أشبع مروءةً ووفاءً، واستوعب
العلم الصحيح المبني على استقراء سليمي العقل والدين من البشر، ورأى الواجب
يقضي عليه بإرشاد الناس إلى سبيل الحق، ورجل كهذا قاد أمةً عظيمةً إلى مواطن
الحرب والبذل والجود، ولبَّت أمته دعوته عن طيب خاطر لتؤيد مبدأ مس قلوبها لا
يذهب كلامه صرخةً في واد.
وقد فصل خطته تفصيلاً حسنًا في هذه الخطبة، وعرف العدل تعريفًا ما رأى
الناس أسمى منه في ما صدر عن عقول البشر، فقال: (إن معنى العدل المجرد
عن الهوى هو أن لا نميز بين الذين نريد أن نعدل فيهم، والذين لا نريد أن نعدل
فيهم، فالعدل يجب أن لا يفرق ولا يميز ولا يحابي ولا يعرف من المقاييس سوى
التساوي في الحقوق بين الشعوب المختلفة) .
نقول: وقد يظل العالم بعيدًا عن بلوغ هذه المرتبة الرفيعة التي وضعها رئيس
الأميركيين نصب العيون؛ لأن الارتقاء إليها صعب شاق، ولكن إنشاء هذا المقياس
الرفيع سيفيد العالم؛ لأنه ينشطه على التطاول لبلوغه، وستفهم أوربا اليوم أن
سياسة (مترنيخ وتيلران وبسمرك) لا تثبت على طوارق الحدثان كما ظهر في ما
جرى بعد مؤتمر (فينا) ومعاهدة (فرنكفورت) لأن البناء المتين لا يقوم على
الرمل، وإنما يثبت إذا قام على الصخر.
فليرحب العالم بصوت المدافع عن الضعفاء من الأفراد والأقوام، وليكرم
صاحبه ويعظم قدره، فقد أنار سبيل الإنسانية ومسح دموعها، فخفق فؤادها أملاً
وامتلأ صدرها رجاءً.
إن الرجل الذي لبى دعوة الإنسانية في أشد عصورها خطرًا عليها تنصت
الإنسانية إلى صوته إنصات كل مخلوق إلى صوت من يعرف حبه وعطفه،
ويدرك تفانيه وإيثاره، ويحترم كفاءته ومقدرته) اهـ.

(المنار)
صدق المقطم في قوله: إن الرئيس ولسن ليس هو الواضع لهذه القواعد للحق
والعدل، ولا هو أول من نادى بها، فإن الواضع لها هو الله تعالى بمثل قوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) فذكر الناس كلهم، ويؤيده قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ
قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: ٨) والشنآن: البغض
مع الاحتقار، وأول من نادى بها في هذا العهد وزمن هذه الحرب أحرار الروس،
وخاطبوا بذلك دول الحلفاء، فأكبروا خطتهم، وأجابوا عنها بما بيناه في المجلد
(العشرين) الماضي من المنار (ص ٤٨- ٥٧) .
وصدق المقطم في حصر مزية الرئيس ولسن في استعمال قوة أمته لتنفيذ هذه
القواعد بعد تفصيله لها، وفي قوله: إن ديدن السياسيين فيما مضى هو التجمل بها
في الظاهر ومحاربتها في الباطن، وتسخيرها لقضاء المآرب. وقد أصبح جميع
الناس يعرفون هذا، ويسرنا أن نرى جميع أمم الحلفاء تعظم ولسن وتؤيده اليوم.
***
خطاب الرئيس ولسن في مجلس الأمة الأمريكي
ألقى الرئيس على مجلس الأمة المؤلف من الشيوخ والنواب تقريره السنوي
وذكر فيه مسألة تأثير أمته الفاصل في الحرب ومسألة الصلح. وجاءنا روتر في
أول ديسمبر (ك١) بخلاصة منه ننقل ترجمتها عن الجرائد مع تصحيح ما يقابلها
على جريدة التيمس، وهي:
(كان العام الماضي الذي انقضى منذ وقوفي أمامكم للقيام بالواجب الذي
فرضه علي الدستور هو إبلاغ مجلس الأمة المعلومات الخاصة بأحوال البلاد
(أمريكة) مفعمًا بحوادث عظيمة وأعمال كبيرة ونتائج جمة بحيث لا أرجو أن
أعطيكم صورة كافية تمثلها أو تمثل التغييرات البعيدة الغور التي طرأت على حياة
أمتنا وحياة العالم , وقد شاهدتم بأنفسكم هذه الأمور كما شاهدتها أنا، وعليه قد حان
الوقت لتعيين نصيب كل منا فيها، ولا ريب في أننا نحن الذين نقف في وسط هذه
الأمور بمنزلة جزء منها، وأقل كفاءة من رجال أي جيل آخر فيما يقولونه عن معنى
هذه الحوادث أو عن ماهيتها، على أن هناك حقائق ظاهرة لا يمكن الخطأ فيها، وهذه
الحقائق تكون في الذهن جزءًا من الأعمال العامة التي يقضي علينا واجبنا بالبحث
فيها، وما ذِكْر هذه الحقائق إلا إعداد المكان الصالح لنماء العمل التشريعي والتنفيذي
الذي يجب علينا أن نكيف ونقرره) .
وتناول الرئيس بعد ذلك الكلام على نقل أكثر من مليوني جندي إلى ما وراء
البحار بخسارة ٧٥٨ شخصًا؛ بسب أعمال العدو، ثم قال: (ولسنا نثير رواكد
الحسد إذا قلنا: إن وراء هذه الحركة العظيمة دعامة تدعمها، وهي قائمة على تنظيم
في صناعات البلاد، وفي جميع أعمالها المثمرة يفوق بكماله وبتمام طريقته
وتباشير نتيجته وبالنشوة المخيمة عليه وباتحاد غايته وسعيه - كل تنظيم وضعته أية
دولة من الدول العظمى الداخلة في الحرب) .
ثم أطرى روح الحمية والبساطة التي أظهرتها الجنود الأميركية في ساحة
القتال قائلا: (إن الجيش الأميركي قام بدوره في أعظم وقت مناسب، وفي أعظم
ساعة حرجة كان مصير العالم فيها هدفًا للأخطار فألقى بقوته بين صفوف الحرية،
فبدأ يأفل نجم العدو، وما زال يزداد أفولاً حتى أدرك قواد دولتي الوسط أنهم قد
ضُربوا , وها نحن أولاء نرى الآن بلادهم تُصفى) .
وبعد أن أثنى الرئيس على أعمال بنَّائي السفن، وعمال السكك الحديدية،
والذين اشتغلوا في الحرب بأيديهم وعقولهم، أطرى النساء الأميركيات، وصرح
بأن (أقل ثناء يمكن توجيهه إليهن هو أن نجعلهن مساويات للرجل في الحقوق
السياسية بما برهن على أنهن كفؤ لهم في كل عمل اشتغلن به لأنفسهن أو لبلادهن) .
واستطرد الرئيس فقال: (الآن، وقد ضمنا نيل الفوز العظيم الذي بذلت في
سبيله كل تضحية، وقد جاء هذا الفوز تامًّا كاملاً، فعلينا أن نعود حالاً إلى واجباتنا
الخاصة بالسلام: السلام الذي سيقينا اعتداء الملوك المطلقين من كل قيد، ومطامع
العصابات العسكرية. ولنستعد لنظام جديد، ولوضع أساسات جديدة للدولة وللحق) .
وبعد أن تناول الرئيس الكلام على علاقة أميركا بالدول الأجنبية ذكر مسألة
الإصلاح والترميم وإلغاء القيود التجارية وغيرها في أميركا، ثم حث على مساعدة
بلجيكا وفرنسا والجهات الأخرى التي اجتاحها العدو، وناشد المجلس على تأييد
برنامج الأسطول، ثم تناول مسألة سفره أوربا لحضور مؤتمر الصلح فقال:
(إنني أرحب بهذه الفرصة لأعلن للمجلس عزمي على الالتحاق بمندوبي
الحكومات التي نشترك معها في الحرب ضد دولتي الوسط؛ لأدرس معهم النقاط
الجوهرية في معاهدة الصلح، وإني لا أجهل عدم ملاءمة سفري، ولا سيما في هذه
الآونة، على أنني أرجو أن تبدو العوامل التي أوجبت علي السفر أمامكم وجيهة كما
تبدو لي، فقد قبلت حكومات الحلفاء قواعد الصلح التي بينتها لكم يوم ٨ يناير
الماضي كما قبلتها حكومتا دولتي الوسط، وترغب هذه الحكومات رغبة كلها عقل
في استشارتي الشخصية فيما يتعلق بتفسير هذه القواعد وتطبيقها، فمن الواجب أن
أقدم هذه المشورة كي تبدو تمامًا رغبة حكومتنا الصادقة في العمل - بدون أن تكون
هناك مصلحة ذاتية ما - لتسوية المسائل التي ستكون ذات فائدة عامة لجميع الأمم
ذات الشأن.
ولا ريب في أن تسوية المسائل الخاضعة بالصلح الذي سيتفق عليه على
جانب عظيم من الأهمية والشأن فيما يتعلق بنا وببقية العالم، وإني لا أعرف مهمةً
أو مصلحةً تبدو ذات أهمية أعظم من تسوية هذه المسائل، فقد قاتلت قواتنا في البر
والبحر؛ لحماية مبادئ تَعرِف أنها مبادئ بلادها، ولقد حاولت أن أعبر عن هذه
المبادئ، فقبلها رجال السياسة كخلاصة أفكارهم وأغراضهم، وبما أن الحكومات
المشتركة قد قبلت هذه المبادئ، فإن علي أن أعمل بحيث لا يمكن إدخال خطأ عليها،
وبحيث يبذل كل مجهود لتنفيذها) .
قال: (فالواجب يقضي علي والحالة هذه بأن ألعب دوري لأحصل لهم على
ما بذلوا لأجله دماءهم وأرواحهم، وليس عندي هنالك واجب يمكن تفضيله على
هذا) .
ثم وعد الرئيس ولسن بأن سيوقف المجلس على جميع المفاوضات التي
ستدور في مؤتمر الصلح كما هي بكل سرعة ممكنة مشيرًا إلى إلغاء الرقابة في
إنكلترا , وقال:
(أفلا أرجو أن أكون متمتعًا بتأييدكم أيها النواب في جميع الواجبات الدقيقة
التي ستلقى على عاتقي في أوروبا , وفي مجهوداتي التي سأبذلها بصدق وأمانة
لتفسير المبادئ والأغراض التي تجلها بلادنا التي نحبها؟)
قال: (ولا أجهل عظم الواجب الذي أخذته على عاتقي، ولا المشاق التي
ستعترضني في سبيلي، ولا التبعة العظيمة الملقاة علي) . (إنني خادم الأمة وليس
لدي فكرة خاصة أو غرض خاص في القيام بمثل هذه المهمة، وسأذهب لأبذل
قصارى جهدي في التسوية العامة التي يجب أن أعمل للوصول إليها في مؤتمر الصلح
مع زعماء الحكومات المشتركة، وسأعتمد على تأييدكم ومساعدتكم لي، وسأكون
على صلة معكم، فأقف بواسطة البرقيات البحرية واللاسلكية على كل شيء تريدون
أخذ رأيي فيه، وسأكون مرتاح الفكر لأنني سأكون دائمًا على إلمام تام بمعرفة الأمور
الجليلة الشأن الخاصة بشؤوننا الداخلية.
وسأجعل مدة غيابي قصيرة ما أمكن، وأملي أن أعود إليكم، وأنا على يقين
تام بأن المبادئ العظيمة التي ناضلت أميركا لأجلها قد دخلت في دور العمل
والتنفيذ) اهـ.
((يتبع بمقال تالٍ))