للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: القلقشندي


أعراب الشام
في القرنين السابع والثامن
للهجرة الشريفة

جاء في الكلام على المملكة الشامية من الجزءِ الرابع من (صبح الأعشى) بيان
عن العربان التابعين لها، وبطون العرب أولو الإمرة فيهم، نلخص منه ما يأتي،
قال:
البطن الأول
آل ربيعة من طيئ من كهلان من القحطانية
وهم بنو ربيعة بن حازم بن علي بن مفرج بن دَغْفَل بن جراح، وقد تقدم
نسبه مستوفًى مع ذكر الاختلاف فيه في الكلام على ما يحتاج إليه الكاتب في المقالة
الأولى. قال في (العِبر) : وكانت الرياسة عليهم في زمن الفاطميين - خلفاء
مصر - لبني الجراح، وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح، وكان من إقطاعه
الرملة، ومن ولده حسان وعلي ومحمود وحرار، وولي حسان بعده فعظم أمره، وعلا
صيته، وهو الذي مدحه الرياشي الشاعر في شعره، قال الحمداني: وكان مبدأ ربيعة
أنه نشأ في أيام الأتابك زنكي صاحب الموصل، وكان أمير عرب الشام أيام طغتكين
السلجوقي صاحب دمشق، ووفد على السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب
الشام فأكرمه وشاد بذكره. قال: وكان له أربعة أولاد، هم فضل ومراد وثابت
ودغفل، ووقع في كلام المسبحي أنه كان له ولد اسمه بدر، قال الحمداني: وفي آل
ربيعة جماعة كثيرة أعيان لهم مكانة وأبهة، أول من رأيت منهم مانع بن حديثة ,
وغنام بن الطاهر، على أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب. قال:
ثم حضر بعد ذلك منهم إلى الأبواب السلطانية في دولة المعز أيبك والي أيام المنصور
قلاوون زامل بن علي بن حديثة، وأخوه أبو بكر بن علي، وأحمد بن حجي وأولاده
وإخوته، وعيسى بن مُهنا وأولاده وأخوه، وكلهم رؤساء أكابر وسادات العرب
ووجوهها، ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة وصيت عظيم، إلى رونق بيوتهم
ومنازلهم.
من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري

ثم قال: إلا إنهم مع بعد صيتهم قليل عددهم، قال في (مسالك الأبصار) :
لكنهم كما قيل:
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل

ولم يزل لهم عند الملوك المكانة العلية والدرجة الرفيعة، يحلونهم فوق
كيوان وينوعون لهم جناس الإحسان، قال الحمداني: وفد فرج بن حية على
المعز أيبك، فأنزله بدار الضيافة، وأقام أيامًا، فكان مقدار ما وصل إليه من عين
وقماش وإقامة - له ولمن معه - ستةً وثلاثين ألف دينار. قال: واجتمع أيام
(الظاهر بيبرس) جماعة من آل ربيعة وغيرهم، فحصل لهم من الضيافة خاصة في
المدة اليسيرة أكثر من هذا المقدار، وما يَعلم ما صُرف على يدي من بيوت الأموال
والخزائن والغلال للعرب خاصة إلا الله تعالى.
واعلم أن آل ربيعة قد انقسموا إلى ثلاثة أفخاذ هم المشهورون منهم، ومن
عداهم أتباع لهم وداخلون في عددهم، ولكل من الثلاثة أمير مختص به.
(الفخذ الأول: آل فضل) : وهو فضل بن ربيعة المقدم ذكره، وهم رأس
الكل وأعلاهم درجةً وأرفعهم مكانةً، قال في (مسالك الأبصار) : وديارهم من
حمص إلى قلعة جعبر إلى الرحبة، آخذين إلى شقي الفرات وأطراف العراق
حتى ينتهي حدهم قبلة بشرق إلى الوشم، آخذين يسارًا إلى البصرة، ولهم مياه
كثيرة، ومناهل مورودة:
ولها منهل على كل ماء ... وعلى كل دمنة آثار

ثم نقل المؤلف بعد هذا نبذةً من (مسالك الأبصار) في تشعب بني فضل إلى
شعب كثيرة، وأن أفضل بيت من بيوتهم في عهد مؤلفه (آل عيسى) وفروعه،
وقوله فيهم: وهؤلاء آل عيسى في وقتنا هم ملوك البر فيما بعد واقترب، وسادات
الناس ولا تصلح إلا عليهم العرب.
قال المؤلف: وأما الإمرة عليهم فقد جرت العادة أن يكون لهم أمير كبير
منهم يولى من الأبواب السلطانية، ويكتب له تقليد شريف بذلك، ويلبس تشريفًا
أطلس أسوة النواب إن كان حاضرًا، أو مجهز إليه إن كان غائبًا، ويكون لكل
طائفة منهم كبير قائم مقام أميره عليهم، وتصدر إليه المكاتبات من الأبواب الشريفة
إلا أنه لا يكتب إليه تقليد ولا مرسوم. قال في (مسالك الأبصار) : ولم يصرح
لأحد منهم بإمرة على العرب بتقليد من السلطان إلا من أيام العادل أبي بكر أخي
السلطان (صلاح الدين يوسف بن أيوب) .
ثم ذكر بعض أمرائهم، وموالاة بعضهم للتتار، وشؤونهم مع سلاطين مصر.
وبعد انتهاء الكلام على الفخذ الأول من آل ربيعة، قال:
(الفخذ الثاني من آل ربيعة: آل مرا) ، نسبةً إلى مرا بن ربيعة.
وقال في (مسالك الأبصار) : ديارهم من الجيدور والجولان إلى الزرقاء
والخليل إلى بصرى، ومشرقًا إلى الحرة المعروفة بحرة كشت، قريبًا من مكة
المعظمة إلى شعباء إلى نيران مزريد إلى الهضب المعروف بهضب الراقي، طاب
لهم البر وامتد لهم المرعى أوان خصب الشتاء، فتوسعوا في الأرض، وأطالوا عدد
الأيام واليالي حتى تعود مكة المعظمة وراء ظهورهم، ويكاد سهيل يصير شامهم،
ويصيرون بوجوههم مستقبلين الشام، وقد تشعب آل مرا أيضًا شعبًا كثيرةً، وهم
آل أحمد بن حجي , وفيهم الإمرة، وآل مسخر وآل نمي وآل بقرة وآل شماء.
وممن ينضاف إليهم ويدخل في إمرة أمرائهم: حارثة والخاص ولام وسعيدة
ومدلج وقرير وبنو صخر وزبيد حوران - وهم زبيد صَرخَد - وبنو غني، وبنو
عرقال، ويأتيهم من عرب البرية آل ظفير، والمفارجة، وآل سلطان، وآل غري،
وآل برجس، والحرسان، وآل المنيرة، وآل أبي فضيل، والزراق، وبنو حسين
الشرفاء، ومطين، وخثعم، وعدوان، وغزة. قال: وآل مرا أبطال مناجيد ورجال
صناديد وأفيال) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ((الإسراء: ٥٠) لا يعد منهم عنترة
العبسي , ولا عرابة الأوسي، إلا أن الحظ يحظ بني عمهم (بأكثر) مما يحظهم، ولم
تزل بينهم نوب الحرب ولهم في أكثرها الغلب.
قال الشيخ شهاب الدين أبو التتار محمود الحلبي - رحمه الله -: كنت في نوبة
حمص في واقعة التتار جالسًا على سطح باب الإصطبل السلطاني بدمشق، إذ أقبل آل
مرا زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسومة والجياد المطهمة
وعليهم الكرغندات الحمر الأطلس المعدني والديباج الرومي، وعلى رءوسهم البيض،
مقلدين بالسياف، وبأيديهم الرماح كأنهم صقور على صقور، أمامهم العبيد تميل على
الركائب ويرقصون بتراقص المهارى، وبأيديهم الجائب التي إليها عيون الملوك
قمورًا، ووراءهم الظعائن والحمول، ومعهم مغنية لهم تعرف بالحضرمية طائرة
السمعة، سافرةً من الهودج وهي تغني:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمةً ... ليالي لاقينا جذامًا وحِمْيرا
ولما لقينا عُصبة الغلبة ... يقودون جردًا للمنية ضمرا
فلما فزعنا النبع بالنبع [١] بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
سقيناهم كأسًا سقونا بمثله [٢] ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

وكان الأمر كذلك، فإن الكرة أولاً كانت على المسلمين، ثم كانت لهم الكرة
على التتار، فسبحان منطق الألسنة ومصرف الأقدار.
(الفخذ الثالث من آل ربيعة: آل علي) وهم فرقة من آل فضل
المقدم ذكرهم ينتسبون إلى علي بن حديثة بن عقبة بن فل بن ربيعة، قال في
(مسالك الأبصار) : وديارهم مرج دمشق وغوطتها، بين إخوتهم آل فضل وبني
عمهم آل مرا، ومنتهاهم إلى الحوف والجبابنة إلى السكة إلى البرادع. قال في
(التعريف) : وإنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى عيسى بن مهنا
وبقي جار الفرات في تلابيب التتار، قال في (مسالك الأبصار) : وهم آل بيت
عظيم الشأن، مشهور السادات، إلى أموال جمة ونعم ضخمة ومكانة في الدول
علية، وأما الإمرة عليهم فقد ذكر في (مسالك الأبصار) أنه كان أميرهم في
زمانه رملة بن جماز بن محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثه بن عقبة بن فضل بن
ربيعة، ثم قال: وقد كان جده أميرًا ثم أبوه، قلد الملك الأشرف (خليل بن
قلاوون) جده محمد بن أبي بكر إمرة آل فضل، حين أمسك مُهنا بن عيسى، ثم
تقلدها من الملك الناصر أخيه أيضًا حين طرد مهنا وسائر إخوته وأهله. قال:
ولما أمر رملة كان حدث السن، فحسده أعمامه بنو محمد بن أبي بكر، وقدموا على
السلطان بتقادمهم، وتراموا على الأمراء وخواص السلطان وذوي الوظائف، فلم
يحضرهم السلطان إلى عنده ولا أدنى أحدًا منهم، فرجعوا بعد معاينة الحين
بخفي حنين، ثم لم يزالوا يتربصون به الدوائر وينصبون له الحبائل، والله تعالى
يقيه سيئات ما مكروا، حتى صار سيد قومه وفرقد دهره، والمسود في عشيرته،
المبيض لوجوه الأيام بسيرته، وله إخوة ميامين كبرًا، هم أمراء آل فضل وآل
مرّا، وقد ذكر القاضي تقي الدين ابن ناظر الجيش في (التثقيف) : أن الأمير
عليهم في زمانه في الدولة الظاهرية برقوق كان عيسى بن جماز اهـ المراد منه.
هذا تعريف وجيز بآل فضل وآل مرّا من عرب الشام، ثم ذكر القلقشندي في
الجزء الثاني عشر من صبح الأعشى في الكلام على من يولى عن الأبواب
السلطانية بمصر ممن هم خارج دمشق أمراء العربان، وأنهم طبقتان، الطبقة
الأولى من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف (بالمجلس العالي) وهو أمير
آل فضل خاصةً سواء كان مستقلاًّ بالإمارة أو شريكًا لغيره فيها، وبعد أن ذكر
صورة تقليدين لهؤلاء -أعني أمراء آل فضل- ذكر أن الطبقة الثانية التي تلي
طبقتهم من عرب الشام هي التي يكتب لها بالإمرة مرسوم شريف لا تقليد، وأنهم
مرتبتان، المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف، وهم ثلاثة:
(الأول) : أمير آل علي.
(والثاني) : التقدمة على عربي آل فضل وآل علي.
(والثالث) : أمير آل مراء، وذكرا نموذجًا مما يكتب لكل منهم.
وسننشر من ذلك ما فيه العبرة لمن يقابل أمثال هذا وذاك بما صارت إليه
عرب الشام وغيرهم من بعد استيلاء الترك على مصر والشام إلى هذه الأيام،
فقد كانت قبائل الأعراب قوةً عظيمةً للدول المصرية والشامية فأضعفتها الدولة
التركية، وما كان سبب ذلك إلا محافظة الترك على عجمتهم وتعصبهم لتركيتهم،
على ما كانت عليه من الفقر والعداوة، فإنه لم تدون لها المعاجم ويُبدأ بجعلها لغة
علم إلا في النصف الثاني من القرن الماضي (الثالث عشر للهجرة) بعد ضعف
الدولة ودبيب الانحلال فيها، ولو حافظت على العرب والعربية لما حل بها
وبالإسلام ما يبكيان منه في هذه الأيام، وسنبين ذلك بالجلاء التام.
((يتبع بمقال تالٍ))