للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد نبهان الحمصي


ترجمة
السيد عبد الحميد ابن السيد محمد شاكر
ابن السيد إبراهيم الزهراوي [١]

وُلد هذا الفقيد - رحمه الله تعالى - سنة ألف ومائتين وثمانٍ وثمانين للهجرة
الشريفة بمدينة حمص من أسرة كريمة، ينتهي نسبها إلى الإمام الحسين ابن السيدة
الطاهرة البتول فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - ولما أتم السادسة من عمره
وضعه والده في المكتب فتعلم القراءة والكتابة والحساب واللغة التركية على يد شيخه
الشيخ مصطفى الترك، ثم نقله والده إلى المكتب الرشدي بحمص، فأتقن وبرع في
دروسه حتى أتمها، ففاق أقرانه وتقدم رفاقه وأترابه، وكان في خلال تحصيله موضع
الإعجاب بتؤدته وترويه وحسن خلقه وتحصيله، وبعد إكمال دروسه خرج من
المكتب المُومَى إليه حاملاً شهادة التحصيل، وعكف دائبًا على تحصيل العلوم
بأنواعها، فقرأ فنون العربية بأقسامها على بعض شيوخ بلده، والفقه الحنفي على
أستاذه الشيخ حسن الخوجة، والحديث والتفسير والعقائد على محدث زمانه الشيخ
عبد الساتر أفندي الأتاسبي , ومنه أخذ الإجازة بقراءة الحديث وروايته، وقرأ
الأصول والكلام والمعقول على الشيخ عبد الباقي الأفغاني نزيل حمص المتوفى فيها،
وكان رحمه الله تعالى يجهد نفسه على التحصيل ومطالعة الكتب المطولة في كل فن
حتى بلغ شأوًا قصر عنه أقرانه.
بعد أن أتم دروسه على أساتذته كما تقدم سافر إلى الآستانة سنة ١٣٠٨ بقصد
السياحة، فأقام فيها برهةً وجيزةً، ثم سافر منها إلى مصر محط رحال العلماء،
فحل نزيلاً في دار نقيب الأشراف وقتئذ السيد توفيق البكري، وهناك اجتمع بكثير
من الفضلاء والأدباء، وجرت بينه وبينهم مطارحات شعرية على البداهة فكان
محل إعجاب الجميع، ثم رجع إلى وطنه حمص عن طريق بيروت فالشام.
بعد مكثه في بلده بضعة شهور أصدر جريدةً سماها (المنير) كان ينشر في
كل عدد منها مقالات في الإمامة وشروطها، وينتقد أعمال الحكومة الجائرة منبهًا
لها على سوء العاقبة إن دام هذا الجور والعسف [٢] ، وكان يطبعها على مادة
غروية على حسابه ويرسلها مجانًا إلى البلدان بواسطة البريد، لذلك اتصلت
أبحاثها بمسامع الحكومة، فكانت تصدر التلغرافات الرمزية إلى المراكز بمنع هذه
الجريدة كغيرها مما ينبه الأذهان وينشط الكسلان حسب العادة المألوفة في ذاك
الزمان.
وفي سنة ١٣١٣ سافر ثانية إلى الآستانة بقصد التجارة، فاتخذ مخزنًا هناك
في محل يسمى (سلطان أوطه لر) ولما كان مخلوقًا للعلم والحكمة والإصلاح لا
للتجارة، ثقلت عليه أعمال التجارة فتركها وعكف على مطالعة الفنون والعلوم في دور
الكتب العمومية، وقلما خلت منها واحدة من مراجعته لأكثر كتبها.
في غضون تلك الأيام طلبه صاحب جريدة (المعلومات) طاهر بك؛ ليكون
محررًا لجريدته (المعلومات العربية) فباشر العمل بكل همة ونشاط، فكان يكتب فيها
المقالات الأدبية والإصلاحية التي لم يكن يتجرأ أحد في البلاد العثمانية على نشر مثلها
مع شدة المراقبة على الجرائد في ذلك الحين [٣] ، ثم أخذ تحت المراقبة من قِبل
السلطان عبد الحميد؛ لأنه زار سفارة إنكلترة هو وإسماعيل كمال بك الألباني الشهير
مع آخرين مظهرين ارتياحهم لانتصاره على البوير، فساء السلطان أن ألف وفد
سياسي في الآستانة لعمل نفذه ولم يعلم هو به إلا بعد وقوعه، ثم عين إسماعيل كمال
واليًا لطرابلس الغرب بقصد إبعاده عن الآستانة إلى حيث لا يستطيع عملاً سياسيًّا،
بل حيث يسهل الانتقام منه، فلم يقبل، فاسترضته الحكومة حينئذ فلم ينخدع، فلما
أعيتهم الحيل فيه صرفوا النظر عنه، وعُين المترجَم في ذلك الوقت قاضيًا لأحد
الألوية فلم يقبل أيضًا، وكان القصد من هذا التعيين كالأول خشية أن تسري كهربائية
أفكاره المتنورة إلى غيره.
وبعد أن أوقف تحت المراقبة أربعة أشهر، أرسل إلى دمشق الشام (مأمور
إقامة) تحت المراقبة براتب خمسمائة قرش كل شهر.
وفي خلال إقامته بدمشق كتب رسالةً في الإمامة، بين شروطها التي ذكرها
الفقهاء والمتكلمون، ورسالةً في الفقه والتصوف نقد فيها بعض المسائل فيهما،
وبَحَثَ في الاجتهاد شأن من سبقه في مثل هذا النقد والبحث، فلما اطلع على هذه
الرسالة بعض المعاصرين الجامدين، أغروا العامة به زاعمين أنه مخالف للدين،
فضج الناس وقتئذ عن غير روية؛ لأنهم أتباع كل ناعق، وكان الوقت عصر جمعة
من أيام رمضان [٤] ، وحشدت العامة من كل فج، فكادوا أن يوقعوا بالمترجَم شرًّا
لولا أن تداركته العناية الإلهية، وذلك مما يدل على شجاعته وإخلاص يقينه بربه
حيث كان غريبًا وحيدًا عن عشيرته في بلد غير بلده، وقد أثار بعض المتصفين
بصفة العلم هذه الفتنة باسم الانتصار للدين، والله يعلم المفسد من المصلح.
شاع الخبر فبلغ الوالي يومئذ، وهو ناظم باشا، فخشي أن ينالوا منه نيلاً،
فحسمًا للفتنة وتخليصًا لصاحب الترجمة من شرهم، وتسكينًا لحميتهم استجلبه
محافظةً على حياته وأوقفه (أي: حبسه حبسًا سياسيًّا لا يخل بكرامته) ليقف على
حقيقة الأمر، ثم إنه أحضر أولئك المحرضين، وجمعه بهم في مجلس خاص للمباحثة
في موضوع الرسالة، وطلب منهم إثبات ما زعموه من أنها مخالفة للدين، فما قامت
لهم حجة مقنعة على دعواهم، بل كانت حجته هي الدامغة.
عندما يئسوا من الوصول إليه بالأذى من هذا الطريق، أوحوا إلى الوالي ما
لفقوه من الإيحاءات السياسية بحقه حتى ألجأوا الوالي لمراجعة الآستانة في أمره،
فجاء الأمر بطلبه إليها، فأرسل محفوظًا عن طريق بيروت (وكانت مدة إقامته
بدمشق سنةً وستة أشهر) فبقي في الآستانة تحت الحفظ ستة أشهر، ثم أرسل
محفوظًا إلى وطنه حمص (مأمور إقامة) بالراتب المذكور، وكانت إعادته عن
طريق ميناء الإسكندرونة فحلب فحماه فحمص.
قضى مدةً عند أهله، فضاق صدره، ففر هاربًا إلى مصر - معهد الحرية -
عن طريق طرابلس الشام سنة ١٣٢٠، وبعد وصوله ببرهة وجيزة رغب إليه
صاحب جريدة المؤيد أن يكون محررًا فيها، فاستلم الوظيفة وكتب ما كتب فيها من
المقالات المفيدة، ثم ألف بعض كبراء القطر المصري حزبًا سموه حزب الأمة،
وأنشأوا جريدةً له سموها (الجريدة) فدعوه إلى التحرير والتنقيح فيها، فلبى طلبهم
وداوم على عمله حتى حصل الانقلاب العثماني وأُعلن الدستور، فطلبه إخوانه
بحمص ليكون نائبًا عنهم في مجلس النواب (المبعوثين) فأجابهم حبًّا بخدمة الأمة
والوطن، فانتخب هو وخالد أفندي البرازي مبعوثين من لواء حماة، فذهب إلى
الآستانة فكان صوته في المجلس من أعلى الأصوات وأقواها في إقامة الحجة
وإيضاح المحجة.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))