للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الشيخ محمد كامل الرافعي
(١)

في أواخر العام الماضي فجعت طرابلس الشام، وهي غارقة مع سائر البلاد
السورية في طوفان مصائبها بوفاة أفضل علمائها وأعلم فضلائها، مَثَل الفضيلة
والإخلاص الأعلى في هذا العصر، وذكرى السلف الصالح في ذلك المصر،
أصدق أصدقائنا وأخلص أوليائنا الشيخ محمد كامل ابن الشيخ عبد الغني الرافعي
الطرابلسي الشهير.
ولد الفقيد في طرابلس الشام سنة ١٢٧٢ أو ١٢٧٠ , ولما بلغ سن التمييز
أقرئ القرآن الكريم وتعلم مبادئ الخط والحساب في أحد مكاتب الصبيان، ثم دخل
المكتب الرشدي العثماني، أي: المدرسة الابتدائية الرسمية للحكومة، فتعلم فيها
مبادئ اللغة التركية وما يدرس بها من مبادئ الفنون الرياضية وغيرها، ومنه النحو
والصرف للغتين العربية والتركية، وعلم الحال وهو عبارة عن العقائد والعبادات
الدينية والآداب، ثم تلقى العلوم العربية والدينية على أعلم علماء العصر الذين بذت
طرابلس بهم كل مصر: والده والشيخ محمود نشابه والشيخ حسن الجسر، فقد كان
وجود هؤلاء في طرابلس مصدقًا لقول المتنبي:
أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصر عن طرابلس

ولما كانت الرحلة في طلب العلم مزيد كمال في التعليم - كما قال الحكيم ابن
خلدون - لما فيها من حفز الهمة والانقطاع إليه بمفارقة الأهل والأحبة، وكان
حب عشيرة الرافعية للأزهر وتعلقهم به يفوق ما يعرف من ذلك عند غيرهم من
أهل طرابلس وغيرها من البلاد الإسلامية؛ لأن الرافعي الذي يرحل من طرابلس
إلى مصر لا يشعر كغيره بمفارقة وطن ولا بغربة عن الأهل والسكن، لأن أكثر
عشيرته يقيمون في مصر، فهو في الهجرة المؤقتة إليها يجمع بين فوائد الغربة وأنس
القرابة والقربة - رحل الفقيد إلى مصر في سنة ١٢٩٧ وجاور في الأزهر سنين لم
أقف على عددها، وكان أشهر شيوخه فيه، كبير الرافعية وأفقه فقهاء الحنفية: الشيخ
عبد القادر الرافعي، والشيخ محمد الشربيني الشافعي الشهير الذي أدركنا الناس أخيرًا
يضعونه في الذروة من علماء الأزهر في كل علم وفن يدرس فيه، وفي المحافظة
على أخلاق علماء الدين، والشيخ عبد الهادي الإبياري الشافعي الشهير بالجمع بين
العلوم الدينية والتفنن في أدبيات اللغة العربية، والشيخ أحمد الرفاعي المالكي الشهير
الذي كان خير مزية له أنه كان آخر من قرأ جميع كتب السنة الستة في الأزهر.
وهؤلاء الشيوخ الكبار لم يكونوا يفوقون شيوخه الثلاثة في طرابلس في علم
من العلوم ولا فن من الفنون، ولا في أخلاق الدين وفضائله إلا أن يكون ما
اشتهر عن الشيخ عبد القادر الرافعي من سعة الاطلاع والتحقيق في فقه الحنفية.
وإننا نقدم على ترجمة الفقيد تعريفًا وجيزًا بشيوخه الثلاثة في طرابلس؛ لأننا
رأينا لكل منهم أثرًا واضحًا في سيرته العلمية والعملية والأدبية.
***
الشيخ محمود نشابه
أما الشيخ محمود نشابه فقد أقام في الأزهر زهاء ثلاثين سنةً، طالبًا
ومدرسًا وأتقن جميع ما يدرس فيه حتى علم الجبر والمقابلة الذي هُجر بعد عهده، ثم
قضى بقية عمره المبارك في طرابلس في تدريس تلك العلوم، فتخرج به كثيرون،
وكان شيخ الشافعية والحنفية جميعًا، وقلما أتقن أحد فقه المذهبين مثله، وقد أدركته
في أوائل الطلب وقرأت عليه الأربعين النووية، وأجازني بها قبل الشروع في طلب
العلوم، ثم كنت أحضر درسه لشرح البخاري في الجامع الكبير وأقرأ عليه صحيح
مسلم وشرح المنهج بداره، وحضرت عليه طائفة من شرح التحرير، وهو في فقه
الشافعية كالمنهج، وما عرفت قيمته وتفوقه على جميع من لقيت من علماء الإسلام في
علومه إلا بقراءة صحيح مسلم عليه، فإنني كنت أقرأ عليه المتن فيضبط لي الرواية
أصح الضبط من غير مراجعة ولا نظر في شرح، وأسأله عن كل ما يشكل علي من
مسائل الرواية والدراية، فيجيبني عنها أصح جواب، وكنت أراجع بعض تلك
المسائل بعد الدرس في شرح مسلم وغيره، ولا أذكر أنني عثرت له على خطأ في
شيء منها، وكان إذا راجعه بعض تلاميذه أو غيرهم في غلط وقع فيه، يقبله بدون
أدنى امتعاض لِما تحلَّى به من الإنصاف والتواضع وغيرهما من الأخلاق المحمدية.
أعطاني شرحه للبيقونية في مصطلح الحديث بخطه، فرأيته استعمل في فاتحته لفظ
الفالح بمعنى المفلح، فراجعته فيه فأمرني أن أصلحه وأصلح كل خطأ من قبيله،
ورأيته ارتاح لذلك وسُر به.
وكانت معيشته معيشة الزهاد لا يبالي بزينة الدنيا ولا زخرفها، ولا يحفل
بحكامها وكبرائها، كان في طرابلس متصرف من أهل العلم، اسمه عارف باشا،
وكان يزوره علماؤها إلا الشيخ، فذهب المتصرف لزيارته في داره فرده عن
الباب ولم يأذن له بالدخول.
خرجت مرةً معه للرياضة في ضواحي البلد فما كدنا نحاذي دار الحكومة بجوار
تل الرمل حتى تعب الشيخ، فالتفت إلي وقال: يا سيد رشيد أعندك كِبر؟ قلت:
أرجو أن لا يكون عندي كِبر، قال: إذًا اقعد معي على الأرض هنا لنستريح، فقعدنا
بجانب الطريق.
وقد رثيته بقصيدة، أذكر منها هذه الأبيات للدلالة على ما كان له من المكانة
في نفسي وقتئذ مع القول بأن هذه المكانة لم تتغير إلى اليوم:
شيخ الشيوخ إمام العصر أوحده ... ووارث المصطفى فينا ونائبه
فلك الطريقة أو در الحقيقة في ... يم الشريعة راسيه وراسبه
ومرجع الكل في حمل النصوص وفي ... حل العويص إذا أعيت مصاعبه
رب الحقائق مكشاف الدقائق محـ ـمود الخلائق مَن جلَّت مواهبه
من حلقت هامة الأفلاك همته ... وزاحمت منكب الجوزا مناكبه
من لا تُحدّ بتعريفٍ معارفه ... وليس تحصى بتنقيب مناقبه
من كان عن خشية الله منكسرًا ... ولان عن رفعة للناس جانبه
من أحيت السنة الغرا مآثره ... وأفنت البدعة السودا قواضبه
وما قواضبه إلا يراعته ... والكتب كم ألفت منها كتائبه
ومنها:
خطب أصاب فؤاد الشرق فانفطرت ... مرارة الكون وارتاعت مغاربه
قد مزق الإفك العلمي أطلسه ... ومن مكوكبه انقضت كواكبه
ومنهج العلم أمسى اليوم مسلكه ... وعرًا تجوب مجاهيلاً جوائبه
وصدر (شرح البخاري) ضاق فيه وكم ... قامت على (مسلم) تبكي نوادبه
لئن بكى تابعو النعمان مذهبه ... فالدين من بعده ضاقت مذاهبه
هذا (ابن إدريس) بعد الشيخ قد درست ... دروس مذهبه وارتاع طالبه
ومنها:
لله مثوًى ببطن الأرض مد به ... بحر تفيض بلا جزر ثوائبه [١]
مثوى حوى منه ذا فضل لقد حسدت ... ترابه من أخي العليا ترائبه
مثوى لقد حفظ الثأر الأثير على ... ثراه إذا ظفرت فيه رغائبه
لئن دفنَّا به شخص الكمال ضحى ... فالروح طارت إلى عدن نجائبه
***
الشيخ عبد الغني الرافعي
وأما والد الفقيد الشيخ عبد الغني الرافعي فقد حصل العلوم والفنون الدينية
واللغوية في طرابلس ودمشق الشام , وأشهر شيوخه في طرابلس الشيخ نجيب
الزعبي الجيلاني، ولا أعرف شيوخه في دمشق، ومن المعروف المشهور أنه كان
فيها يومئذ نفر من أكبر علماء الإسلام في العالم، وكان الشيخ لوذعي الذكاء،
يُحصِّل في سنة ما لا يُحصِّله الأكثرون في سنين، وقد امتاز بين فقهاء عصره
بالجمع بين النبوغ في علوم الشرع والتصوف والأدب، فكان فقيهًا مدققًا، وصوفيًّا
مصفًّى، وأديبًا شاعرًا ناثرًا، وله في كل ذلك ذوق خاص. سلك طريق الصوفية
على الشيخ رشيد الميقاتي الشهير سلوكًا صحيحًا بالرياضة الشديدة ومداومة الذكر
حتى رأى من الأسرار والعجائب الروحية ما لا محل لذكر شيء منه في هذا التعريف
الاستطرادي، وكان عالي الهمة قوي العناية شديد المواظبة فيما يأخذ فيه من علم أو
عمل، على غير المعهود من أكثر مفرطي الذكاء أمثاله، سمعت منه أنه قرأ كتاب
(أدب الدنيا والدين) ثلاثين مرةً، وقرأ إحياء العلوم للغزالي مرارًا كثيرةً، لا أذكر
عنه عددها.
أدركناه في شيخوخته قوي الجسم والعقل والذاكرة، وكان جميل الصورة
كأن وجهه ورد يحيط به الياسمين من شيبته الناصعة، وكان يلبس أحسن الملابس
ويأكل أطيب المآكل، ويسكن دارًا مزينةً بالنقش والأثاث الجميل، وتزوج في
شيخوخته بكرًا رزق منها أولادًا، وكان يُرى في سن السبعين أنه لم يفقد من
مزايا الشباب شيئًا، ولم يشغله رخاء العيش عن اشتغال القلب واللسان بذكر الله
ومذاكرة العلم. وَليَ إفتاء طرابلس وهو أعلى منصب لرجال العلم في عرف الدولة
العثمانية، وولي القضاء لولاية اليمن، ولم يكن في مكانه من الرياسة والجاه يمتنع من
وضع يده بيد رجل فقير يلبس الأسمال البالية، ويمشي معه في السوق إذا كان له
مزيةً من علم أو صلاح؛ إذ كانت أخلاقه أخلاق كبار الصوفية، ومظهره مظهر كبار
رجال الدنيا، ولكنه ما كان ليجلس بجانب الطريق العام على التراب أمام دار الحكومة
كما فعل الشيخ محمود نشابه.
أذكر مما سمعت من أخبار تصوفه أنه سافر من بلده - وهو في مقام التوكل -
ولم يكن معه شيء من الدراهم، فيسر الله الأمر ورزقه من حيث لا يحتسب.
ومن أخبار أدبه أنه لما سافر إلى الآستانة، لقي في الباخرة بعض رجال العلم
والأدب، فلما عرف الرجل فضله قال له:
فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت تكفيك منه جرعة الوشل

فأجابه على الفور ببيت من هذه القصيدة (المعروفة بلامية العجم) :
أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلى قِبلي

ولما لم يعرف له رجال الآستانة قيمته أراد التحول عنها إلى مصر، فأرسل
إلى الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري رسالة برقية يتوسل بها إلى توفيق باشا عزيز
مصر في ذلك العهد، وهي هذان البيتان:
قالت لي النفس الأبية مذ رأت ... في الروم ضاع اسمي وضل رشادي
سر بي لدار الفضل مصر لعله ... يهديك للتوفيق عبد الهادي

وأذكر مما رأيت من إنصافه وتواضعه أنه كان عندما يزورنا في القلمون
يعهد إلي أن أقرأ عليه شيئًا من إحياء العلوم؛ لأنني كنت مولعًا بمطالعته من قبل
الشروع في طلب العلم، فانتهيت في القراءة مرةً إلى فصل في الحاكايات التي
يذكرها أبو حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - في بعض الأبواب، كحكايات
المتوكلين والأسخياء، فاستوقفني الشيخ وقال: إنني مستغرب لحشو المصنف -
قدس سره - هذه الحكايات في هذا الكتاب، وكله علم وتحقيق لولا هذه الحكايات!
قلت: إنني أرى هذه الحكايات من أهم مقاصد الكتاب، فإنه كتاب تربية، وإنما تتم
التربية بالتأسي والقدوة، فالترغيب في السخاء بالآثار المروية والحِكم المعقولة لا
يبلغ تأثيره وحده ما يبلغه ما نرى في هذا الكتاب وغيره، من ذكر حكايات الأجواد
من السلف، وإنما كمال التربية في الجمع بين الترغيب بالقول والقدوة بالفعل، فقال
لي: أعيذك بالواحد * من شر كل حاسد * إنني أقرأ هذا الكتاب من قبل أن تُخلَق،
وقد قرأته مرارًا وأنا أفكر في هذه المسألة وأنتقدها على المؤلف، ولم يخطر في بالي
هذا الغرض الواضح الذي لا شك أنه كان يرمي إليه، رضي الله عنه. ولم يكتف
الشيخ - قدس الله روحه - بهذا الثناء بل كان يذكر هذا الجواب في كل مجلس من
مجالسه العلمية والأدبية عقبه، ويقول لمجالسيه وأكثرهم من تلاميذه ومريديه: إنني
كنت مستشكلاً هذه المسألة منذ عشرات من السنين، وقد حلها لي هذا الغلام النابغ
النابه على البداهة، أو ما هذا معناه بالاختصار.
وقد استفاد من إقامته في اليمن فوائد عظيمةً، منها أن مذاكراته ومناظراته
لعلماء الزيدية - مع ما علمت من إنصافه - قوى في نفسه ملكة الاستقلال في فهم
الدين وفقه الحديث، عرف سيرة الإمام الشوكاني فاقتنى كتابه (نيل الأوطال وشرح
منتقى الأخبار) ولما عاد إلى طرابلس كان يقرأه درسًا للنابغين المنتبهين من طلاب
العلم، كنجله الشيخ محمد كامل المترجَم، وقد حضرت بعض هذه الدروس، ولكنني
كنت مبتدئًا لا أفهم شيئًا من الاصطلاحات الأصولية والحديثية فيه، وإنما كان يسمح
لي بحضورها ما كان لي من الكرامة الشخصية عند الشيخ وأهل بيته بموادتهم مع
والدي وأهل بيتنا، ومن أعجب ما سمعناه منه عن أهل اليمن أنه لم يتفق له في مدة
توليه القضاء فيهم أن سمع من أحد منهم شهادة زور أو كذبًا على الحاكم أو الخصوم،
بل كانوا يقولون له: أتحكم بالشرع يا عبد الغني؟ فيقول: نعم، فيصْدُقونه في شرح
منازعاتهم.
توفي حاجًّا بمكة , فرثيته بقصيدة.
مطلعها:
طوبى لمن بجوار الله قد نزلا ... وقد أعد له جناته نزلا
ويا هنيئًا لمن أسقاه سيده ... في معهد القرب من كأس الشهود طلا
ومنها:
نعم لقد مات علم لدين الله وانكسفت ... شمس الرشاد، وبدر الهُدى قد أفلا
نعم لقد قبضت روح التصوف ولا ... نصاف منا وجيد الفقه قد عطلا
نعم قد اخترم التبيين واحتكم التلو ... ين واصطلم التمكن مرتحلا
ومنها:
لئن بكاه بنا علم اليقين فقد ... قرت به عينه مذ كأسها نهلا
وإن غدا فيه كل الفضل مجتمعًا ... فقد تفرق في أبنائه النبلا
فللمعارف والإرشاد كالمهم ... من حالف العلم فيه الهدى والعملا
وفي البلاغة كم (عبد الحميد) سما ... وللتحدي بها آي البيان تلا
***
المقارنة بين الشيخين
أختم هذا التعريف المختصر بالشيخين اللذين انتهت إليهما الرياسة العلمية في
وطننا بمقابلة وجيزة بينهما، فأقول: إن الشيخ نشابه كان أوسع من الشيخ الرافعي
اطلاعًا ومعرفةً لما عدا التصوف والأدب من العلوم المعقولة والمنقولة، وكان
واقفًا عليها تمام الوقوف بفهم تام لكل ما قرأه من الكتب في الأزهر وغيره كتفسير
البيضاوي وغيره، وشروح كتب السنة وكتب الأصول والفقه وفنون العربية إلخ،
ولكنه كان مقلدًا في المسائل وأدلتها غالبًا، قلما يفكر في استعمال فهمه في انتقاد
المعتمد في تلك الكتب، فكان لهذه العلوم والفنون كحُفاظ الحديث غير المستنبطين،
ويا لها من مزية قلما تجد الآن أحدًا من رجالها، وكانت عبادته كعبادة السلف، وهي
النوافل المأثورة وكثرة تلاوة القرآن، وأما الشيخ الرافعي فكان - على ما امتاز به من
علوم الأخلاق والتصوف والأدب - فقيه النفس مستقل الفكر، إذا ظهر له رجحان
مذهب الزيدية مثلاً على مذهب الحنفية الذي نشأ عليه تحصيلاً وعملاً وإفتاءً
وقضاءً - لا يمتنع من القول بترجيحه.
وقد كان بين الشيخين شيء من تغاير المعاصرة في سن الشباب لانتهاء
الرياسة العلمية إليهما، ولكن علو أخلاقهما وقف بهما دون التنافس الذي يجر عادةً
إلى التحاسد والطعن، ومما وقع بينهما من المناظرة أن الشيخ عبد الغني - رحمه
الله - استخرج من قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة:
٣٢) مئة سؤال، وجاء مجلس الشيخ محمود نشابه إذ كان يقرأ تفسير هذه الآية في
البيضاوي درسًا، وشرع يلقي عليه سؤالاً بعد سؤال، وهو يجيبه غير مكترث
ولا شاعر بأنه مناظر مختبر، فلما كثرت الأسئلة تنبه، فأطبق الكتاب ووضع
يديه على صدره، والتفت إلى السائل وقال: أتريد أن تسأل يا عبد الغني؟ اسأل
هيه، اسأل هيه، فما زال السائل حتى فرغ مما عنده، ولم يعجز المسئول، ولا
توقف في سؤال من تلك الأسئلة.
***
الشيخ حسين الجسر
وأما الشيخ حسين الجسر فقد حصل العلوم في طرابلس، وأكبر شيوخه فيها
الشيخ محمود نشابه، وجاور في الأزهر بضع سنين، ومن أشهر شيوخه فيه الشيخ
المرصفي الشهير، وقد امتاز بين علماء الدين بالنظر في العلوم والفنون التي
يسمونها العصرية، وبقراءة الجرائد السياسية والمجلات العلمية، فكان لذلك
يرغب في جعل طلاب العلوم الدينية جامعين بينها وبين الإلمام بتلك العلوم والفنون،
فسعى لحمل بعض الأغنياء على إنشاء مدرسة دينية نظامية تعلم فيها بعض
الرياضيات والطبيعيات على الطريقة الأوربية، واللغتان التركية والفرنسية،
فأنشئت (المدرسة الوطنية) وكان هو مديرها، وقد دخل كاتب هذه السطور في القسم
الداخلي منها سنة ١٣٢٩ أو ١٣٣٠ , فكان ذلك أول العهد بطلبه للعلم بعد أن تعلم
القراءة والخط في مكتب الصبيان بالقلمون، وطالع بعض كتب الأدب والتاريخ
والتصوف منفردًا، ولكن لم يطل عمر المدرسة، فإن الحكومة التركية لم تقبل جعلها
من المدارس الدينية التي يعفى طلابها من الخدمة العسكرية، وأصر مديرها - الشيخ
رحمه الله تعالى - على إقفالها إن لم تعترف بها، فأقفلت وطلب للتدريس في المدرسة
السلطانية ببيروت , فأقام فيها مدةً قصيرةً ثم عاد إلى طرابلس وواظب على التدريس
لطلاب العلوم الدينية في المدرسة الرجبية وفي داره، وواظبنا على حضور تلك
الدروس حتى تخرجنا بها وأخذنا الإجازة بالتدريس والتعليم منه سنة ١٣١٥ رحمه
الله تعالى، وجزاه عنا خيرًا.
وكانت طريقته في التدريس أن يوجه كل همه إلى حل المسائل بسهولة
وعبارة سهلة يفهمها الطالب، ولم ندرك زمن تلقي المترجم عنه، ولكننا سمعنا منه
أنه قرأ كتاب امتحان الأذكياء، وأن الشيخ محمد كامل الرافعي كان يقول: إننا
عندما نسمع العبارة من الأستاذ نفهمها ونرى أنها ظاهرة، فإذا أردنا بيانها بعد الدرس
تعذر ذلك علينا ورأيناها مغلقةً.
ولشيخنا الجسر مؤلفات مطبوعة مشهورة أشهرها (الرسالة الحميدية في حقيقة
الديانة الإسلامية، وحقيقة الشريعة المحمدية) التي بين فيها عقائد الإسلام وأركان
عباداته وأهم معاملاته الاجتماعية، مقرونةً بحكمها، وأدلتها، وذكر ما يرد عليها من
الشبهات العصرية وأجوبتها، وقد كافأه السلطان عبد الحميد بنسبة الرسالة إليه برتبة
علمية ووسام، فانتقد الناس ذلك عليه؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه قصيدةً بائيةً فيها طعن
شديد على الحكومة، ولا سيما رتبها وأوسمتها، وطلبه السلطان إلى الآستانة ليكون
من شيوخ (يلدز) فأقام بضعة أشهر، ثم طلب الإذن له بالعودة إلى طرابلس معتذرًا
بأن هواء الآستانة لا يوافق صحته - وكان مصدورًا - فأذن له، وأخبرنا بأن العلة
الصحيحة للهرب من الآستانة هي المحافظة على الدين.
وكان - رحمه الله - على سعة اطلاعه وأخذه حظًّا من العلوم العصرية ووقوفه
على طريقتها الاستقلالية، شديد المحافظة على التقليد في جميع العلوم الدينية، وكنت
فتحت في درسه باب المناقشة في أدلة العقائد والمذاهب، فكان ينهاني عن ذلك، وكان
شديد المحافظة على شرفه وصيته، ولما طبعت الرسالة الحميدية أهداني نسخةً منها،
ثم سألني بعد أيام: هل قرأت الرسالة؟ قلت: قرأت بعضها، قال: إنه يعجبني
رأيك، فكيف رأيتها؟ قلت بعد الثناء عليها بالإجمال: إنني انتقدت منها شيئين
(أحدهما) : التعبير عن المسائل العلمية القطعية التي تعتقدون صحتها، ككروية
الأرض بما يدل على الشك أو الإنكار، فاعتذر عن هذا بمراعاة عقول العوام
والمتعصبين الذين يطعنون في دين من يقول بهذه المسائل، فقلت: إذا لم يتجرأ
أمثالك من الموثوق بعلمهم ودينهم على الجزم بهذه المسائل، فمن يجزم بها، ومتى
يكون ذلك؟ (والثاني) : عدم تقسيم الرسالة إلى أبواب وفصول يوضع لكل منها
عنوان يدل عليه على نحو ما هو مفصل في الفهرس؛ للتنشيط على المطالعة وسهولة
المراجعة، فقال: إن اتصال الكلام ببعض كالماء الجاري من حسن الإنشاء وأساليب
البلاغة، قلت: فلماذا جعل القرآن سورًا، وهو أبلغ الكلام وأفصحه؟
هذا وإنني لما أنشأت المنار انتقد علي - عفا الله عنه - الإنحاء على خرافات
أهل الطريق، والشدة والاستقلال في مسائل أخرى في كتاب كتبه لي بعد أشهر
من صدور المنار، قال فيه: (ظهر المنار بأنوار غريبة إلا أن أشعته مؤلفة من
خيوط قوية كادت تذهب بالأبصار) ثم ذكر تلك المسائل في ورقة واحدة من ورق
المخاطبات العادية، فكتبت إليه جوابًا مفصلاً يدخل في بضع ورقات، بينت فيه ما
عندي من الحجة على صحة ما كتبته، وكونه نافعًا وضروريًّا، وقلت فيه ما
معناه: إنني أعرض هذا على مسامع أستاذي معترفًا بأنني لا أزال تلميذًا له، لكن
على ما عهد مني من عدم قبول شيء إلا بعد الاقتناع به، وإنني أنتظر ما يجيب به؛
لأقرره مذعنًا له إذا ظهر لي أنه الصواب، وإلا راجعته فيه كتابةً إلى أن ينجلي
لي الحق، فلم يرجع إلي قولاً في ذلك، وهو لم يكن ينتقد يومئذ إلا الأسلوب، وما
فيه من نشر عيوب المسلمين.
توفي - رحمه الله تعالى - وأنا بمصر، فطلبت من نجله الكبير الشيخ محمد
يمن أن يرسل إلي ما عنده من المواد؛ لأجل كتابة ترجمة حافلة له، وظللت أنتظر
زمنًا طويلاً فلم أظفر منه بشيء، ولم أكتب شيئًا لأنني لم أحب أن أكتب ترجمةً
بتراءَ، وما رثيته؛ لأنني تركت الشعر من قبل الهجرة إلى مصر، ولذلك لم أرثِ
شيخنا الأستاذ الإمام أيضًا، إلا أنني زدت في مقصورتي أبياتًا فيه، وفي السيد جمال
الدين، رحم الله الجميع وجزاهم عنا خيرًا، وسنذكر في النبذة التالية من الترجمة
تأثير كل من هؤلاء الشيوخ في المترجم، رحمه الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))