للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


باحثة البادية
تتمة ترجمتها
(٢)

حقيقتها النفسية ومذهبها الإصلاحي
إن ما بيناه من خبر نشأتها وتربيتها، وما أشرنا إليه من آثارها القلمية هما
كالعلة والمعلول والمقدمات والنتيجة، في ظهور صورتها النفسية العقلية وسيرتها
العملية، فثبت عندنا أن باحثة البادية ذات رأي ثابت ومذهب كوّنه العلم والبحث في
تربية النساء المسلمات وتعليمهن وما يجب أن يقمن به من الإصلاح الاجتماعي في
العالم الإسلامي في هذا العصر، وإنها كانت داعية إصلاح منبعثةً بِغَيْرَةٍ نفسية إلى
نشر مذهبها، والحمل على اتباعه، ومناضلة المخالفين له.
قبل أن نبين حقيقة هذا المذهب نقول: إن هذه مَنقبة للمُترجَمة لم تسبقها
إليها امرأة في مصرها في عصرها، ولعلي لا أبالغ إذا قلت: في أمتها العربية كلها،
بل هذا مما يقل في الرجال بله النساء، وقد غفل عن معرفة هذا لها من رثوها
وأبَّنوها في الصحف، وفي حفلة التأبين التي نذكرها بعد؛ لأن مثل هذه الدقائق لا
يلتفت إليها الشعراء والخطباء، ولا أكثر كتاب الصحف.
كتب كثير من الرجال والنساء في المسائل التي كتبت فيها باحثة البادية في
هذا العصر، ولا نجزم بأن أحدًا منهم صاحب مذهب ثابت له حافز من نفسه للدعوة
إليه والدفاع عنه إلا قاسم بك أمين وباحثة البادية، لا أنكر أن من أولئك الكاتبين
من هم أوسع اطلاعًا وأفصح عبارةً من باحثة البادية، وأن منهم من له رأي ثابت
فيما كتب خطأً كان أو صوابًا، ولكنه مقلد فيه لغيره حتى في الاستدلال، ومزيتها
على أمثال هؤلاء أنها قد ارتقت إلى طبقة أهل الإصلاح وأصحاب المذاهب
الاجتماعية.
لما شبت حرب المناظرة والجدال في المسألة التي سموها تحرير المرأة،
وجعل أساس عقيدتها ما سموه السفور أو رفع الحجاب - كنا نرى مقالات كثيرةً
لمقلدة المحافظين على الحجاب، وأخرى لمقلدة التفرنج طلاب السفور، هؤلاء
متهوكون في فتنة التشبه بالإفرنج، ظانين أنهم في التشبه بهم في أهون الأمور
وألذها يكونون مثلهم حتى في غير ما تشبهوا بهم فيه، وأولئك متمسكون بكل ما
تعودوه ودرجوا عليه، ولا سيما إذا كان له شيء من صبغة الدين، خائفون أن
يكون في التحول عنه انحلال أمتهم بذهاب مقوماتها أو مشخصاتها، وإن لم
يكونوا على علم بأن للأمم مقومات ومشخصات تقوى بالاعتصام بها، وتنحل
بانحلالها، وأن ما يحافظون عليه وينافحون دونه منها؛ لأن ذلك الخوف وجداني
مبهم لا علمي مبين، فنرى جمهورهم يظن أن ما جرى عليه أكثر نساء المدن،
وبعض نساء القرى من وضع البراقع على أفواههن هو الحجاب الشرعي.
لم تكن باحثة البادية من هؤلاء ولا من أولئك، بل كان لها مذهب وسط
مبني على أصلين، أحدهما: وجوب التزام النساء جميع ما قرره الإسلام من عقيدة
وأمر ونهي، وثانيهما: اقتباس جميع ما تحتاج إليه المرأة المسلمة من الفنون والنظام
والأعمال؛ للقيام بما يناط بها عند ما تكون زوجًا لرجل وأُمًّا لولد ورئيسةً لمنزل، أو
منقطعةً لإتقان علم أو عمل على ما تقتضيه حالة العصر من مجاراة الأمم العزيزة
القوية في مضمار الارتقاء.
إن تسمية هذا المذهب وسطًا بين نزغات المتفرنجين ورغبات المحافظين
على القديم على علاته، يشعر بتفضيله، وناهيك بقاعدة: (خير الأمور أوساطها)
المسلَّمة عند الجمهور، وقد رويت حديثًا مرفوعًا، أخرجه السمعاني في ذيل تاريخ
بغداد عن علي - كرم الله وجهه - بسند مجهول، ولكن معناه يؤيد بقوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: ١٤٣) مع قوله في آية أخرى {كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: ١١٠) وبما تقرر في علم الأخلاق من كون
الفضائل أوساطًا بين أطراف، هي الرذائل، كالجود بين طرفي البخل والإسراف.
ويمكن بيان ذلك في هذا المذهب بطريقة علمية مستمدة من سنة الله تعالى
في أجساد الناس وأنفسهم وعقولهم، ذلك بأن لله تعالى في تسلسل أفراد الناس
(وغيرهم من الأحياء) بعضهم من بعض، سنتين متقابلتين: سنة التباين،
وسنة التوافق والتوارث، فبمقتضى سنة التوافق يشبه الابن أباه، والفرع أصله،
في بعض صفاته الجسدية والنفسية، وبمقتضى سنة التباين يخالفه في بعض تلك
الصفات، فلا يوجد أحد يماثل أباه أو غيره من أصوله في كل شيء، أو يخالفه
ويباينه في كل شيء، ولولا هاتان السنتان لكان كل فرد من الأفراد التي يتولد
بعضها من بعض مباينًا لغيره، كأنه نوع من جنس لم يوجد منه غيره , أو لكان
جميع البشر كأبيهم الأول في كل شيء، بحيث يتعذر التفرقة بين اثنين منهم في
سن واحدة، فسبحان الخلاق العليم الحكيم.
ثم إن لله تعالى سنتين كهاتين السنتين في سيرة الناس العملية وحياتهم
الاجتماعية، وهما سنة المحافظة والتقليد، وسنة الاستقلال والتجديد، وحكمة الله
تعالى في جعل مقدار ارتقاء البشر في العلوم والأعمال على اجتماع هاتين السنتين،
كحكمته في جعل مدار وجود الأجناس والأنواع على تينك السنتين، ولو قلد كل
أحد مَن قَبله في كل ما وجدهم عليه، لكانت حياتهم العملية متماثلةً كحياة النحل
والنمل من الحشرات التي تعيش بالاجتماع والتعاون، ولو خالف كل أحد مَن قبله
في كل شيء واستقل بجعله جديدًا، لخرج الإنسان بذلك عن كونه عالمًا اجتماعيًّا
يرتقي بالتعاون وبناء الجديد على القديم مع التحسين فيه، ولما تكونت الأمم
والشعوب، ولا ارتقى علم ولا عمل ولا صناعة، فالأمم تتكون بما يشترك
أفرادها فيه من العلوم والأعمال التي تطبع في أنفسها ملكات وأخلاقًا وأذواقًا
خاصةً تكون من أقوى مقوماتها التي تفصلها من غيرها، ولا يتكون للأمة خلق
جديد في أقل من جيل، وقلما يكمل لها خلق أو ذوق خاص في الفنون والصناعات في
أقل من ثلاثة أجيال، كما يقول بعض علماء الاجتماع.
بعد هذا البيان التمهيدي لبيان قيمة مذهب باحثة البادية في مسألة تربية النساء
المسلمات في هذا العصر، أقول: إن أكثر الذين خاضوا في هذه المسألة يجهلون
هذه الأصول، فكان منهم من غلبت عليه سنة التقليد والمحافظة على القديم برمته،
وهو لا يدري أن الاقتصار عليه ضار على أنه محال، ومنهم من غلبت عليه سنة
حب التجديد لكل شيء وإبطال كل قديم، وهو لا يدري أنه مفسدة على أنه مطلب
لا ينال، وجهل الأكثرون من الفريقين أن التطورات الجديدة الطارئة على الأمة
التي تدعوها إلى تغيير شيء من ماضيها، وتحدث التعارض والتدافع بين
الفريقين المذكورين يجب أن يتروى في أمر تيارها، فلا يساعدها على جرفه
للماضي الذي صار من مقومات الأمة، ولا يقاوم بمحاولة منعه من أي تغيير في
شؤونها، وإن كان إزالة ضار واستبدال نافع به، لهذا نرى من المتفرنجين -
طلاب التجديد بغير علم صحيح ولا فطرة معتدلة - مَن يستعجلون في هدم عقائد
الدين وشعائره، وفي التصرف في اللغة تصرفًا يخرجها عن أصولها وقواعدها
وفي تغيير الأخلاق والآداب الاجتماعية بسفور النساء ومخالطتهن للرجال في
المجامع والملاهي والحانات والمراقص، وما الدافع لهم إلى هذا إلا ما يرون فيه من
اللذة والتمتع والتشبه بالإفرنج فيما يشكو منه حكماؤهم وفضلاؤهم.
كان قاسم بك أمين مستقلاًّ معتدلاً في فريق مقلدة التفرنج، وخصمه محمد
طلعت بك حرب مستقلاًّ معتدلاً في فريق مقلدة التدين والتعود، ثم ظهرت باحثة
البادية مستقلةً معتدلةً، تجاذبها الفريقان، كل منهما يعدها من حزبه فيما توافقه
فيه، غير مشدد عليها بالإنكار فيما تخالفه فيه، فبهذا التفصيل الوجيز تعرف قيمة
هذه المرأة المسلمة العربية المصرية الفاضلة، وأنها فوق قيمة من توصف بأنها كاتبة
ناثرة شاعرة، أو خطيبة ماهرة، فمزيتها في نساء قومها أنها مصلحة مستقلة معتدلة.
الاحتفال بتأبينها
تحدث بعض من حضر مأتم الباحثة من المفكرين في استحسان إقامة حفلة
تأبين لها، تكون مظهرًا لتكريم الرجال للنساء، وترغيبًا لهن في العلم النافع،
والسيرة الزوجية الصالحة، ثم تألفت لذلك لجنة برياسة شيخ الأدباء إسماعيل
صبري باشا، كان أول عملها أن عرضت على السير عدلي باشا يكن وزير
المعارف جعل حفلة التأبين تحت رئاسته، فقبل مرتاحًا، ولما كان الراغبون في
التأبين والرثاء كثيرين، اضطرت اللجنة إلى اختيار ثلاثة من الخطباء، وبضعة
من الشعراء الذين يحضرون الحفلة، واختارت من رسائل التأبين والرثاء كلمةً
وجيزةً بليغةً لصديقة الفقيدة نبوية موسى ناظرة مدرسة البنات الأميرية في
الإسكندرية، وقصيدة لأحمد أفندي الكاشف الشهير.
ثم اختارت أن يكون الاحتفال في قاعة الخطابة الكبرى من دار المدرسة
السعيدية التي كانت دار الجامعة المصرية، وضربت موعدًا لذلك الساعة الرابعة
من مساء يوم الجمعة ثاني ربيع الأول، ولم يكد يجيء الموعد حتى غصت تلك
القاعة الفسيحة بأهل العلم والأدب والوجاهة وطلاب الأزهر والمدارس التجهيزية
والعالية، وكان المنظِّم للمكان والمراقب لنظام الاحتفال علي بك حسني ناظر المدرسة
السعيدية وهو عريق في ذلك وأصيل، وقد اعتذر عن حضور الحفلة عدلي باشا
بانحراف ألمَّ بصحته، وحضرها وكيل نظارة المعارف الذي تولى المساعدة نيابةً عن
الوزير في جعلها في أحد معاهد الوزارة.
وكان أول الخطباء إبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير، وموضوع تأبينه
ترجمة الفقيدة، فذكر كل ما ينبغي ذكره في ذلك بفصاحته وطلاقته التي تشبه بالسيل
المدرار وتدفق الأنهار، وألم بما دار من الجدل والمناقشات في تعليم المرأة وحجابها،
وعد باحثة البادية حجةً على المنكرين، وقد اضطرب الحاضرون عند ذكر مسألة
الحجاب، وكاد بعضهم يقاطع الخطيب ويصرحون بأن الفقيدة حجة على طلاب
السفور؛ لأنها فاقت جميع المتعلمات في مصر , وهي محافظة على حجابها الشرعي،
وناصرة للقائلين به.
وتلاه الشيخ مصطفى عبد الرازق كاتب سر مجلس الأزهر والمعاهد الدينية
الأعلى، فتلا خطبةً فصيحة العبارة، موضوعها الغرض من إقامة هذا الحفل،
وهو تكريم النابغين المستحقين للتكريم من الرجال والنساء، لما في ذلك من حسن
الأسوة والترغيب في العلم والعمل النافع للأمة، وألمَّ بذكر النهضة الحديثة في
التعليم وتربية البنات، وما للشيخين الأستاذ الإمام محمد عبده والشيخ عبد الكريم
سلمان من الجهاد واليد البيضاء في ذلك، واستغرب من تقصير أصدقاء الشيخ
عبد الكريم الذين هم من كبراء الأمة فيما كان ينبغي من الاحتفال بتأبينه، وما
كان ينبغي لغيرهم أن يتقدم عليهم في الدعوة إلى ذلك، ونوه بما كان من نجاح
باحثة البادية في العلم والدعوة إلى إصلاح حال المرأة، وما كان من صلاحها في
نفسها واشتهارها بعلو الآداب والتقوى الذي استحقت به مثل هذا الاحتفال.
وتلاه كاتب هذه السطور وكان موضوع خطابته: نبوغ باحثة البادية،
وانتظامها في سلك المصلحين، وآيات ذلك من مقالاتها وخطبها، وقد بدأت بذكر
أولياتها الذي تقدمت الإشارة إليه، وذكرت أن منها أن أول مكان خطبت فيه هو
هذه القاعة التي كان تأبينها فيها أول احتفال في مصر بتأبين امرأة، ثم ذكرت نحوًا
مما تقدم في الترجمة من أخبار نشأتها وتعليمها وتربيتها، واستنبطت منه أن
مدارس البنات الأميرية - وغير الأميرية بالأولى - لا يرجى أن تخرج مثلها؛ لأن
نبوغها كان بمجموع تلك الأسباب التي ذكرتها، لا بالمدرسة السَّنية التي تعلمت فيها،
وإلا لرأينا في كل سنة عددًا من المتخرجات مثلها، ذلك بأن التعليم عندنا تقليدي
آلي - نسبة إلى الآلة - يقُصد به إيجاد آلات للحكومة، وما يشبه مصالح الحكومة من
الأعمال الإدارية والزراعية والتعليمية وغيرها، وإنما يكثر النابغون في معاهد
التعليم الاستقلالي، وهي لم توجد عندنا بعد، لذلك كان كل من ظهر من نابغينا في
هذه العصور الأخيرة - كالسيد الأفغاني والأستاذ الإمام ورياض باشا - من
أصحاب الاستعداد الفطري، وما أتيح له من التوفيق والأسباب العارضة.
ثم بينت أن باحثة البادية لم تصل إلى درجة الطبقة العليا من كتاب العصر،
لا شعرائه ولا خطبائه ولا مصنفيه، بل كانت وسطًا في ذلك، وإنما مزيتها التي
استحقت بها التأبين هي استقلالها بالمذهب الإصلاحي النسائي الذي وجهت قلبها
وعقلها بالدعوة إليه، وأوجزت في بيان مذهبها الذي ذكرته في الترجمة آنفًا، وضاق
الوقت عما كنت عازمًا عليه من شرحه شرحًا علميًّا بالطريقة التي رأيت في الترجمة.
ثم أنشدت قصائد الرثاء، مبتدأةً بقصيدة شاعر العرب الشيخ عبد المحسن
الكاظمي مختتمةً بقصيدة شاعر النيل محمد حافظ بك إبراهيم، وبينهما قصائد
الأساتذة الشيخ أحمد الإسكندري والشيخ مهدي خليل والشيخ أحمد الزين ,
والشاعرين الشهيرين محمد أفندي الهلباوي وأحمد أفندي الكاشف، وبعد انتهاء
الساعة السادسة انفض الاجتماع، ويطبع كل ما قيل في الحفلة وما كتب في الصحف
عقب الوفاة وعقب التأبين مع ما أرسل إلى لجنة الاحتفال مما لم يتسع الوقت لقراءته،
ويجمع في كتاب خاص، فمن عنده شيء منه، فليرسله إلى إدارة مجلة المنار
بمصر.