للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خبر واعتبار
جاء في باب المسائل من مجلة المقتطف المفيدة (جزء ٤ مجلد ٢٢) الصادرة
في غرة أبريل الجاري سؤال وجواب فيما تحدثت به جرائد العالمين من إجلاء
اليهود عن الممالك التي تضطهدهم ومهاجرتهم إلى فلسطين، فرأينا أن نبين ذلك
للقراء ونذيله بما يعنّ لنا بشأنه من التنبيهات الموجبة لليقظة والاعتبار وها هو
بحروفه:
(س) فرنكفورت على نهر الماين: أ. س. جودا، لا بد أنكم سمعتم عن
الحركة التي حدثت فجأة منذ ستة أشهر بين اليهود في بلاد النمسا وألمانيا وإنكلترا
وأمريكا وهي المعروفة باسم الصهيونية. ويظهر من الجرائد الأوروبية أن غاية
الصهيونيين إنشاء مساكن في فلسطين لليهود المضطهدين في روسيا وبلغاريا
ورومانيا وبلاد الفرس والمغرب، وذلك بإذن الدولة العلية وكفالة الدول الأوروبية
وتحت حمايتهن. ومرادهم تعمير أراضي فلسطين بالفلاحة والصناعة، فيعيشون
آمنين في ظل الحضرة الشاهانية، ويقل عدد الفقراء في أوروبا وتتسع أسباب
التجارة بين الشرق والغرب، وقد أسهمت الجرائد الشهيرة كالتيمس والدايلي
كرونكل والديلي تلغراف وأشهر جرائد النمسا في استحسان هذا الرأي وقالت: إنه
قريب المنال؛ لأن الدولة العثمانية ترغب في عمار بلادها، والدول الأوروبية لا
تمنع فقراء اليهود من ترك بلادهن والانتقال إلى البلدان الشرقية لكي ينشروا فيها
المعارف ويوسعوا التجارة والصناعة، لا سيما وأن اليهود قد اشتهروا بولائهم للدول
التي تحميهم وتحسن إليهم، فتجد الدولة العثمانية منهم كل ولاء وأمانة. وأريد أن
أعلم من المقتطف: هل اعتنت الجرائد العربية في مصر وسورية بهذا الأمر، وما
ورائكم في إمكان إجرائه؟
(ج) لا يظهر لنا مما نطالعه من الجرائد العربية أنها اعتنت بهذا الأمر
اعتناءً خاصًا، وإنما ذكره بعضها مع سائر الأخبار التي يذكرها. واليهود الذين أتوا
فلسطين حتى الآن أهل صناعة وتجارة كما تقولون، وقد أفلحوا فيها وقبضوا على
أكثر فروع التجارة والبيع والشراء، وإذا زاد عددهم قبضوا على كل موارد التجارة
وأساليب الصناعة، أما الفلاحة فلا نظن أنهم يعكفون عليها، لأنهم ليسوا أهل فلاحة
في بلاد من البلدان التي هم منتشرون فيها. وقد صار كل شيء ممكنًا لأهل المال،
فلا يستحيل عليهم أمر إذا بادروه وعقدوا النية عليه، فإذا اتفق أغنياء اليهود في
أوروبا على ابتياع الجانب الأكبر من أراضي فلسطين ونقل إخوانهم الفقراء إليها لم
يتعذر عليهم ذلك، ولم يتعذر على هؤلاء الفقراء أن يعيشوا في فلسطين بالراحة
والرخاء؛ لأن الأرض وسيعة وخيراتها كثرة، وكانت تمون أضعاف سكانها
الحاليين، ولكن بين ما يمكن للإنسان وما يقدم عليه بونًا شاسعًا، فإن الناس إذا
عملوا أعمالهم عن اختيار لا عن اضطرار جروا في الطرق التي يلاقون فيها أقل
المقاومات، وأغنياء اليهود لا يرون أنفسهم مضطرين إلى نقل إخوتهم إلى فلسطين،
ولا هذا النقل من الهنات الهينات، نعم إنه تقوم بينهم أحيانًا أناس محسنون أهل
غيرة وحمية، كالبارون هرش، فينفقون النفقات الطائلة على نقل جماهير كبيرة من
إخوانهم إلى بلاد يبتاعونها لهم ويسكنونهم فيها، ولكن ذلك نادر، ونقل اليهود إلى
فلسطين وابتياع الأرض من الحكومة ومن أصحابها أصعب من نقلهم إلى أرجنتين،
ولذلك نستبعد نجاح الصهيونيين، ونحسب أن السعي لدى حكومات روسيا ورومانيا
والبلغار في إصلاح شأن اليهود فيها أقرب منالاً، لا سيما وأن طلب كفالة الدول
الأوروبية وحمايتهن لليهود الذين يراد نقلهم في فلسطين عقبة كبيرة في سبيل هذا
الغرض، لأن الدولة العثمانية لا ترضى بها. اهـ بحروفه.
(المنار)
قد أوردنا هذه المسألة لعدة فوائد:
(١) أن المضطهدين في جميع ممالك الأرض يرغبون الجلاء إلى بلاد
الدولة العلية ليكونوا في مأمن من الظلم والاضطهاد في ظل الحضرة السلطانية
الظليل. وما ذلك إلا لاعتقادهم أنه ليس في بلاد الدولة من الغلو في التعصب وإيذاء
المخالف ما في سائر الممالك التي يرغبون الجلاء عنها، كروسيا وبلغاريا، والتي
لا يودون الجلاء إليها كبقية ممالك أوروبا، ولا التفات لقول القائل: تحت حماية
أوروبا؛ لأننا نرى جميع اليهود في بلاد الدولة العلية سواء لا يرون فيها ثورة ولا
شغبًا، ولا يمنعون حرفة ولا كسبًا، ودانية عليهم ظلالها، ومساوية بينهم أحكامها،
نعم إن المرجح لاختيار اليهود فلسطين كونها بلادًا مقدسة وموضع آمال منتظرة.
ولكن الأمن والراحة شرط للاختيار.
(٢) توجيه الأنظار وتحويل الأفكار إلى ما فيها من مطارحات الجرائد
ومداولات الساسة في أوروبا بشأن تعمير فقراء اليهود لبلاد فلسطين، وبث المعارف،
وتوسيع التجارة والصناعة في ربوعها، لعل أهل بلادنا تجيش في نفوسهم مراجل
الغيرة، فتندفع إلى طلب ما تتوقف عليه سعادة أوطانهم من علم وعمل، ولا شك
أنهم لا يعدمون عند الطلب رشادًا.
(٣) إيقاظ قوم قد رُزئوا بالخمول، وكاد يعمهم الذهول، واستلفاتهم إلى
الروابط المحكمة بين اليهود مع تفرقهم في الممالك وتشتتهم في الأقطار، وكيف
يمدون سواعدهم لمساعدة إخوانهم، ومعاضدة قومهم من وراء البحار وشعوف
الجبال. ولم يصدهم تنائي الديار، عن المواصلة في الأفكار، والتعاون بالدرهم
والدينار، الذي يحقق به كل أمل، ويناط به كل عمل.
فيا أيها القانعون بالخمول أقنعوا رءوسكم (ارفعوها) ، وحدقوا أبصاركم
وانظروا ماذا تفعل الشعوب والأمم. أصيخوا لما تتحدث به العوالم عنكم، أترضون
أن يسجل في جرائد جميع الدول أن فقراء أضعف الشعوب الذين تلفظهم جميع
الحكومات من بلادها هم من العلم والمعرفة بأساليب العمران وطرقه بحيث يقدرون
على امتلاك بلادكم واستعمارها، وجعل أربابها أجراء وأغنيائها فقراء ... تفكروا
في هذه المسألة واجعلوها موضوع محاورتكم، لتتبينوا هل هي حقة أم باطلة،
صادقة أم كاذبة، ثم إذا تبين لكم أنكم مقصرون في حقوق أوطانكم وخدمة أمتكم
وملتكم، فانظروا وتأملوا وتفكروا وتذاكروا وتحاوروا وتناظروا في مثل هذا الأمر
فهو أخلق بالنظر من اختلاق المعايب، وانتحال المثالب، وإلصاقها بالبرآء،
وأَحْرَى بالمحاورة من التذقح والتجني على إخوانكم، فإن في الخير شغلاً عن الشر،
وفي الجد مندوحة عن الباطل {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: ١٣) .