للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: الوليد بن عبد الله بن طعمة


لا قوة إلا بالاتحاد [١]

كونوا جميعًا يا بني إذا اعترى ... خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرا ... وإذا افترقن تكسرت أفرادا
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أكثم بن صيفي

أنشد الحكيم العربي هذين البيتين عندما شعر بدنو الأجل، فلخوفه على أولاده
من التفرق دعاهم لسماع وصيته الأخيرة، وكان قد استحضر لضامةً من السهام،
فطلب إليهم أن يكسروها، فلم يقدر واحد منهم على كسرها، ثم بددها، فاستسهلوا
كسرها، فقال لهم: كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم كما عجزتم عن
كسرها، فإذا تفرقتم سهل كسركم، وضاع قدركم، وهان أمركم.
فيا حبذا لو ائتم العرب بشعر حكيمهم، وانتصحوا بأنفع النصائح، إذًا لما فقدوا
الملك والخلافة، واشتغلوا عن االحوادث والحدثان بأحاديث خرافة، فبين التنازع
والتقاطع خربوا مملكتهم بأيديهم، وقد كانت أعظم مملكة طلعت عليها الشمس، وبينما
كانوا أسياد الشعوب إذا هم عبيد الترك والروم، لكنهم صبروا على الأعادي، وسبروا
غور العوادي، فوقاهم تعلقهم بأهداب عروبتهم، وتمسكهم بأستار كعبتهم، فحفظوا
بكتبهم وأقلامهم ما كان دونه تكسير سيوفهم وتنكيس أعلامهم، فالحمد لله على بقاء
القوة كامنةً في صدورهم ليبنوا قصورهم على قبورهم، وإن في حفاظهم على العصبية
أساس الوحدة العربية.
لا قوة بلا اتحاد، ولا اتحاد بلا اتفاق، وإنما الاتفاق بحسن التفاهم وصدق
التساهل، وذلك ميسور للذين رجحت أحلامهم وكرمت أخلاقهم، فعلى العرب أن
يتفقوا ويتحدوا بالتي هي أحسن؛ لتلافي التي هي أقبح، وإلا اعتلَّت عربيتهم
وانحلَّت عصبيتهم، فأصبحوا لا يعرفون أوطانًا ولا يرفعون أعلامًا، السيل
الأوربي يكاد يطغى عليهم ويفرقهم كما تفرقت أيدي سبأ، وإنه لأكثر خطرًا
وأشد هولاً من سيل العرم الذي أجحف التبابعة ومزق ملكهم، فليبنوا له من
لسانهم وقرآنهم سدًّا أمتن من سد مأرب، وما استناموا إلى الأوربيين رأوا منهم
أصلالاً وثعابين، وكفى بنكبة إخوانهم عرب الغرب عبرةً وإنذارًا، ومن فظائع
الصليبيين في الماضي يعرفون مقدار فجائعهم في الآتي، فما أقرب الغد من الأمس،
والخطر أدنى من قاب قوسين، الفرنج يضربون أخماسًا لأسداس، ويستضعفون
العرب لتخاذلهم، فلا قوة لهم إلا باتحادهم وتوحيد حُكامهم وبلادهم.
قيل إن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسير ثلاثة أيام، فجهز حسان
ابن تبع جيشًا وسار إلى غزو قومها جديس، فصعدت ونظرت إلى الجيش،
فرأت كل رجل قد حمل شجرةً ليلبسوا عليها، فقالت: أتتكم يا قوم الأشجار، أو
أتتكم حمير!! فلم يصدقوها ولم يستعدوا حتى صبحهم حسان فاجتاحهم، وإني
لقومي نذير لئلا يحل بهم ما حل بقوم الزرقاء، لقد علموا أن بين زرق العيون
وسودها عداوة جراثيمها في العروق، فكيف يركن العربي إلى الفرنجي، وهو
العدو الأزرق، وبينهما من المباينة ما لا يزول بالملاينة؟ فليحذر العرب خشونة
القلانس بعد ليونة الملامس، إن الفرنج يصانعونهم لينالوا منهم أربًا، ثم يقولون: لا
نعرف عربًا، المثل يقول: من جرب مُجرَّبًا كان عقله مُخرَّبًا، فأي شعب لم
يجربهم ويتأكد أن أعمالهم تخالف أقوالهم، فإذا دخلوا أرضًا مزقوها، وإذا حكموا
أمةً فرقوها، وبعد ما تركز أعلامهم وتغرز أقدامهم، يستبدلون العنف من الرفق،
والقوة من الخدعة، فويل للعرب من الفرنسيس والإنكليز إذا لم يوحدوا كلمتهم
توحيدهم لله.
لو حفظ العرب عصبيتهم في الإسلام، كما حفظوها في الجاهلية لظلوا حتى
اليوم أهل السيادة والقيادة، لكنهم أضاعوا الدولة والخلافة بتحكيم الغرباء، وتسليم
الأمور إلى الدخلاء، فأصبحوا محرومين من ملك بني على أجسادهم وأكبادهم،
وصار إلى الفرس والترك والأكراد ما فتحته سيوف أجدادهم، والبلية من
سياسة الخلفاء الخرقاء بتقديم العجم على العرب، واعتمادهم على المماليك في
السياسة والحرب، فلو جعلوا الأحكام للعرب دون غيرهم لصانوا شرفهم وشرف
العروبة والخلافة، وقد ظنوا دولتهم إسلاميةً تقوم بالمسلمين من جميع الشعوب،
فما كان الإسلام شافعًا لهم عند نزوة الشعوبية ونعرة العصبية، وهكذا أسقطوا
العرب وأبعدوهم فسقطوا؛ إذ لا حماة للدولة إلا الذين بنوها، والدولة التي يتربع
في دستها الأجانب صائرة إلى انحلالها واضمحلالها.
لما قتل باغر التركي المتوكل على الله، رثاه المهلبي بقصيدة قال في آخرها،
يخاطب بني العباس:
فلو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم السادة المركوزة الحشد
قوم هم الجذم والأنساب تجمعكم ... والمجد والدين والأرحام والبلد

لقد صدق المهلبي ‍‍!! فليس للمرء إلا أهله وقومه في الشدة.
إن معن بن زائدة الشيباني قاتل المنصور مع ابن هبيرة نصرةً لبني أمية، فاشتد
طلب المنصور له وهدر دمه، فاختفى زمنًا طويلاً، وبعد ما قتل المنصور أبا مسلم
ثار عليه الراوندية وقصدوا قصره؛ ليقتلوه، فبرز البطل العربي معن بن زائدة متلثمًا
وقاتل العصابة الفارسية وحده حتى ظفر بها ومزق شملها. فتمردُ الفرس على الخليفة
العربي أنساه العداوة، فصان وقار الخليفة والعرب، وبما عنده من النخوة العربية
والغيرة العصبية، ركب مركبًا خشنًا وأبلى بلاءً حسنًا، فلو كان حول الخلفاء حاشية
وجند من أحرار العرب لما تطاولت إليهم أيدي الغلمان والمماليك، وقد كان سقوط
الدولة العربية لبعد العرب عنها وتفرقهم وانقسامهم، فالدولة لا تقوم إلا باتحاد الأُصلاء
وإبعاد الدخلاء.
عسى أن يكون للعرب عبرة من الماضي، فيجددوا ويؤسسوا دولةً عربيةً
خالصةً، فحينما تخلو من الشوائب تجلو كل النوائب، ويصير العربي سيدًا، وإليه
العقد والحل، والنهي والأمر، فتصدر الأحكام، وتتصدر الحكام من العرب للعرب
في كل أرض شرفت بالعروبة، وتشرفت بالاستعراب، وبحكم الشرع يكون فيها
عربيًّا كل مولود ومكتوب ومصكوك، وتظللها الراية التي طلعت من بطحاء
مكة سوداء خضراء بيضاء، لقد كان سوادها وقارًا، واخضرارها رجاءً،
وبياضها هدًى وسلامًا، فتحتها يجب أن يتم اتحاد العرب في الشرق والغرب،
وهي المشْرَع وإليها المهْرَع، ولا عزة للمسلمين من غير العرب إلا بها؛ لأنها
راية الخلافة العظمى، فما أحراهم بأن يتراجعوا إليها، ويقسموا إليها اليمين عليها
مستعربين لغةً كما استعربوا دينًا، إن باندماجهم في أمة الرسول شرفًا لهم فوق كل
شرف، هكذا تنبسط الدولة العربية الكبرى، ولها جناح في المشرق وجناح في
المغرب، فيرسو أصلها وتمتد فروعها بجيش مرصوص وأسطول مرصوف،
فتظل عربيةً عرباءَ لا دخلاء فيها ولا غرباء.
على العرب أن يحققوا هذه الأماني، ولو كانت دونها المنايا، تاريخهم
مكتوب بدم أجدادهم، فليكتبوا بدمهم وصيةً لأولادهم، فإذا عجزوا عن إتمام خطتهم
أتمها الآتون بعدهم، فللشعوب آجال تقصر عندها أجيال، وما كان العرب ليخشوا
محذورًا إذا طلبوا محظورًا، إنهم جبارون أصحاب بأس وبطش ونجدة وشدة، فلو
كانوا متحدين متعاونين لسدوا كل ثغرة، وصدوا عدوًّا له شر فمرة، فطالما حاربت
قبائلهم دولاً ذوات جحافل وأساطيل، فأطلقوا الأعنة وشرعوا الأسنة تجاه قذافة النار،
فكانت سواعدهم أشد من فوهات المدافع وأفتك، تشهد لهم أعداؤهم بالبسالة والنصر،
والفضل ما تشهد به الأعداء.
أجل إن الأعاجم يرهبونهم على افتقارهم وتفرقهم، فكيف إذا وحدوا أوطانًا
واتحدوا أعوانًا، حينئذ تكون لهم أيام كأيام حليمة وذي قار واليرموك والقادسية
وشريس وعروبة، فما أكبر ذلهم في خضوعهم للترك والروم بعد شرف راسخ ومجد
بازخ، وقد كانوا في جاهليتهم أسيادًا وأبطالاً، فلم يجسر الغزاة على وطء أرضهم،
وهي كعرينة الأسود، فوقف غزاة الفرس واليونان والروم متأهبين متهيبين على
حدود البادية الرهيبة، وظلت الأمة العربية بكرًا حرةً في رمالها وجبالها.
كانت قوة العرب بشدة اتحادهم وصحة اعتقادهم لا بكثرة العدة والعدد، فقد
كسرت شراذمهم جيوشًا جرارةً، وفتحوا في ثمانين سنةً ما لم يفتحه الرومان في
ثماني مئة، وكانوا يتغلبون بصبرهم وإقدامهم واتحادهم على القواد المجربين،
والأجناد المدربين، فحكموا مائة مليون من البشر، وعددهم لا يربي على مئة ألف،
وكانت أوامر الخلفاء تصدر في دمشق وبغداد وتنفذ في الهند والصين , والأندلس،
وقد حدد أبو تمام دولة الخلافة في أيام المعتصم ببيت من قصيدة مدحه بها، قال:
فاعقد لهارون الخلافة إنه ... سكن لوحشتها ودار قرار
فالصين منظوم بأندلس إلى ... حيطان رومية فملك ذمار

هذه حدود الدولة العربية التي شيدها جبابرة العرب، فهدمها مماليكهم وما
رممها صعاليكهم، وقد كان أوائلهم متنسكين، فأصبح أواخرهم باللذات متمسكين،
ولما صاروا أحزابًا غدت مملكتهم أقسامًا، فطمع بها الطامعون، وليس للفتنة
قامعون، وكانوا متحاسدين في الرئاسة، متخالفين في السياسة، فضعفوا بتقاتلهم
وتخاذلهم، وعاونوا أعداءهم على نفوسهم، وما فقدوا ملكهم إلا لأنهم أرادوا أن
يكونوا جميعهم ملوكًا وأمراء، وتلك عزة عربية لا تزال حتى اليوم حائلةً دون
اتفاق أمرائهم.
لا تقوم للعرب قائمة حتى يوم الدين إذا لم يعتصبوا على الأجانب، وربما
ذهبت لغتهم وأخلاقهم وأوطانهم بعد ذهاب دولتهم، فللروم كرة بعد كرة في حرب
صار فيها العربي حريبًا.
إن في قصيف المدافع مواعظ لهم، فليتهم يتعظون وإن يكونوا ضعفاء في الحكم
لتكن لهم قوة من بغض أعدائهم وحب بعضهم لبعض، إن من البغض لقوة أكبر من
قوة الحب عند اصطدام المنازع، فإياهم والاغترار بمواعيد الأوربيين، فالأفاعي
مالسة جلودها، حادة نيوبها، إنهم يظهرون لينًا حتى إذا فازوا وحازوا، قبضوا بأيدٍ
من حديد، فلا تنعتق الأمة الضعيفة من الرق ولا تنطلق من الأسر، وقد حجروا عليها
وحجزوا سلاحها، يصنعون السلاح، وكالسلع يبيعونه، أحقر الجمهوريات الأميركية
وأصغر الممالك الأوربية، فبيعه حلال عندهم لأهل الجبل الأسود وأوربة وأهل
البرغواي في أميركة، ولكنه محرم على الشعوب الأفريقية والآسيوية التي ملكوا
نواصيها، وبعد شك سلاحهم ينزعون ما عندها من السلاح، ويمنعونها من أن تصنع
أو تشترى، فتصبح عزلاء تحت رحمتهم، وقد أحاطت بها القلاع والمدافع، فويل
للعرب إذا علق العرق الفرنجي بأرضهم، فامتد واشتد.
لقد ناموا مستسلمين إلى الأقدار، والأوربيون ينصبون أشراكًا ويطرحون
شباكًا، ولما استيقظوا أبصروا الأساطيل تدمر ثغورهم، والمدافع تحصد صفوفهم،
فأيقنوا أن لا طاقة لهم عليها بسيوف رقيقة ورماح دقيقة، وقد جنى الأتراك على
نفوسهم وعلى العرب؛ لأنهم ضعفوا وأضعفوهم معًا، فوثب الفرنسيس
والإنكليز عليها وعاثوا في بلادهم وعبثوا بحرمتهم، فهلا علم العرب أن لا حق
إلا للقوة وبالقوة، وأن لا قوة بلا اتحاد؟ لا ريب بأنهم ضعفاء اليوم، ولكن لهم
قوة باتحادهم فوق قوة السلاح، فليجمعوا آمالهم وعواطفهم كلما جمع الأوربيون
قواصف تنثر قذائف، فبعد الحفيظة والحفاظ يرون فجر الحرية منبلجًا، وجيش
العبودية منفلجًا، وإذا توسلوا بالقوة الأدبية توصلوا إلى القوة المادية، فعلى هذا
المنهج سار الذين كانوا من المغضوب عليهم والضالين، فلتتوغل العروبة نفوسهم
كلما توغل الفرنج بلادهم، فإما أن يعيشوا عربًا وإما أن يموتوا عربًا.
أليس من الغبن والحيف أن تلم أحدث الأمم شعثها، ولا ترى أقدمها
وأشرفها بعد الموت بعثها، أما كفى الأمة العربية شقاؤها بحكم الترك حتى تصير
أشقى بحكم الروم، الله أكبر على الذين يمزقون بلادها ويفرقون أولادها، فلا
سبيل إلى العزاء، والصبر لا يفرج الهم، والخطب قد ادلهم، وأنى ذلك، والعرب
البيض الوجوه الشم الأنوف عبيد؟ وقد صار الزنج في أميركة أحرارًا، ألا تكون
لأعظم السلالات دولة حرة جامعة، ولأحقرها دول شتى في القارتين الأوربية
والأميركية؟ ألا يشفع للعرب فضلهم على الإفرنج بما أخذوه من مدنيتهم وعلومهم
وآدابهم، ألا يعرفون لهم جميلاً بدماء أهرقوها، وأكباد أحرقوها في الذود عن
حياضهم؟ لا ورب الكعبة، فالحق يعرفه المرء ضعيفًا وينكره قويًّا، فقل للعرب:
اتحدوا لتصيروا أقوياء، وانتصفوا من أهل القوة بالقوة، فقد قال الله تعالى في
كتابه الكريم: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} (الحديد: ٢٥) لا خلافة لكم في
هذا الخلاف ولا دولة والخصام بينكم، والأعاجم خصومكم, فشيدوا دولةً ذات
عز وسلطان ولا ترضوا بالسلطة إلا من السماء، بئست الحكومة إذا كان الأجنبي
فيها حكمًا، وبئس الخليفة إذا كان صنمًا، لا جلال ولا مهابة للخلافة إلا بأمثال:
عمر بن الخطاب , ومعاوية بن أبي سفيان , وعبد الملك بن مروان , وهارون
الرشيد , وعبد الرحمن الناصر، ولا منعة للدولة إلا بأسطول يحمي الثغور
ويخوض البحار، وأميره مثل: حميد بن معيوب الذي عقد الرشيد له اللواء، ولا
سطوة للملك إلا بخميس يقوده أمثال: خالد بن الوليد , وأبي عبيدة بن الجراح ,
وعمرو بن العاص , وأسد بن عبد الله , ومحمد القسري , وموسى بن نصير ,
والحجاج بن يوسف , وقتيبة بن مسلم , ويزيد بن مزيد , وأبي سعيد محمد بن
يوسف.
باتحاد العرب واتفاقهم تتألف الدولة العربية الكبرى، فتعم الحجاز واليمن ونجدًا
والشام والعراق والموصل وديار بكر , وتنضم إليها كل أرض تغلبت فيها العروبة،
وكل أرض أراد أهلها أن يستعربوا، هذه خريطة الدولة العربية في آسية حتى توضع
لها خريطة في أفريقية، فتسيطر في الشرق والغرب وتنتظم البلاد العربية انتظام
البلاد الألمانية بدهاء بسمرك , والإيطالية بسياسية كافور، وليس الأمر بعسير على
سلالة كبيرة قديرة، كالسلالة العربية، فقد كاد يتم على يد عبد القادر ومحمد علي لولا
معاكسة الفرنسيس والإنكليز وأهل أوربة أجمعين، فقد كانوا ولا يزالون ساعين إلى
إحباط مساعي العرب خشيةً من سطوتهم وبطشهم، ولولا مساعدة الأوربين ما ظل
الأتراك متحكمين بهم وبسائر الشعوب، لقد كانوا جميعهم على الأتراك في أوربة
ومعهم في آسية، وطالما ادعوا حماية النصارى في الشرق، ولم يكترثوا لمذابح
الأرمن وما لبوا لهم دعاءً لكنهم - لأهواء فاسدة - أنجدوا أهل اليونان والبلقان
وعاونوهم على نيل استقلالهم، وما كان أولئك أقوى من العرب والأرمن وأصلح
للحكم، ولا هم أهل مدنية وثروة وسلطان، إنما المطامع والمآرب جعلتهم يدوسون
حقوق الشرقيين، ويدسون لهم.
وهذا يوسف كرم البطل اللبناني، قد خانته فرنسة ذات الوجهين واللسانين،
فهي التي عاكسته وشاكسته وقضت عليه بذل الأسر ووحشة المنفى، فقد لاينته
وخادعته حتى استسلم، ثم أعرضت عنه إعراضًا، وإذا كانت طامعةً بامتلاك لبنان
خافت أن يفضي الأمر إليه، فأغرت به طائفته وبطريركها، فكانوا شر أعدائه، وما
عرفوا له قدرًا، هذه حقيقة ساطعة وحجة قاطعة، فلا اعتراض ولا افتراض.
هكذا الفرنسيس والإنكليز يفرقون الشرقيين شذر مذر، فقل للعرب: الحذر
الحذر، فاتحدوا اتحادًا متينًا لتسلم أوطانكم وأعراضكم، وقاوموا بوارجهم ومدافعهم
ومناطيدهم بتاريخكم ولغتكم ودينكم وأخلاقكم، فإذا حفظتموها حفظتكم، وهي عليكم
محافظة ما دمتم عليها محافظين.
قال بسمرك: غلبنا الفرنسيس بالمدارس، والمثل العربي يقول: (الدارس
غلب الفارس) فادرسوا واثبتوا، ولكم حق ويقين حتى يكون يومًا فتح من الله ونصر
مبين، حينئذ يجتمع أمراؤكم ويجمعون أوطانًا ويبايعون سلطانًا، فتبقى لكل أمير
إمارته، وتعطى كل ولاية حقها، فتستقل بإدارتها الداخلية وتبعث نوابها وأعيانها إلى
مجلس الشورى ودار الندوة، ويكون مرجع الولايات كلها إلى حكومة مختلطة
عاصمتها إحدى المدن العربية الكبرى، وينظم جيش بري وجيش بحري من جميع
طوائف العرب، والمناصب للذين هم أهل لها دون تمييز في الدين والبقعة، فلا فضل
لعربي على آخر إلا بما أوتيه من المواهب، وبما يأتيه من الأعمال، هذه خطة
أرسمها رسمًا، ويعدها البعض هوسًا ووهمًا، ولكنها ستصير حقيقةً، فالليالي حبالى
يلدن كل عجيبة، ولا بد من أن ينهض العرب كاليابان، فما السلالة الصفراء بأفضل
من السمراء.
هذا اتحاد مقدس يريده كل العرب، ولكن الفرنسيس والإنكليز لا يريدون،
فكأن العباد عبيدهم والبلاد تليدهم، فيعطوا ويحرموا ما يشاءون ومن يشاءون أبدًا
ينبشون للشعوب قبورًا، ويقولون: نمدن همجًا ونعمر بورًا، فتراهم يعتصبون
ويغتصبون متغزلين بالحرية والمدنية، فمتى يستريح الناس من هذه الأغنية التي
غلب الفرنجي بها الشيطان؟ كنا ظنناهم قد تابوا إلى الله والمظلومين بعد ما لطمتهم
ألمانية وحطمتهم، فإذا هم طامعون بالذراع بعد الكراع، وقد أفلتوا من البراثن
واللهوات، بالأمس كانوا يشكون ظلمها معولين، على الأميركان معولين، واليوم
يظلمونها بأشد من ظلمها، وينقضون عهد نصرائهم إذ تحفزوا لملك رقابهم وحكم
بلادهم، وهكذا يجزون الإحسان بالإساءة، ويقابلون الشر بشر أعظم، لقد نهبوا
ألمانية وسلبوها، ولو استطاعوا لسحقوها وخنقوها، فأي فضل لهم إذا لم يعفوا عن
مقدرة والعفو من شيم الكرام.
أما العرب فكانوا أسوأ الناس حظًّا، وما كان الرومي مع العربي إلا فظًّا، لقد
حالفوهم فكانت كل المخالفة من تلك المحالفة، فبعد ما نصروهم قاموا ينحتون في
أثلتهم، ويقسمون بلادهم إربًا إربًا، فيقول الإنكليز: ليس للعرب إلا الحجاز، فلنا
العراق وفلسطين , ويقول الفرنسيس: لم تكن سورية يومًا عربيةً، فهي لنا منذ
الأزل وإلى الأبد، وبعض الخونة يمالئونهم على الأحرار الذين يناوئونهم، فيا
خيبة المسعى والأمل، وهذه قصة الذئب والحمل، الوفاء قد غاض والحق التوى
فهل يرحمنا الذي على العرش استوى؟ ولم يكتفوا بأن يمالوا من فقرنا، بل
يريدون أن ينزلوا اليهود في عقر دارنا، فيجعلون مقاومة اليهود شغلاً شاغلاً لنا؛
لننصرف عنهم ويتيسر لهم إضعافنا وإذلالنا، فلا ريب في تعمدهم تفريق العرب لئلا
تكون دولةً عربيةً، نعم إنهم لا يريدون أن تكون لهذه الأمة دولة تجمعها وراية ترفعها
، فلا تبقى للشهم الأبي بقعةً عربيةً يلجأ إليها من جورهم ومكرهم فيرى الموت تحت
أية راية في الغربة أفضل من العيش في وطنه تحت راياتهم، إن له صبرًا جميلاً في
البلاد الأجنبية، ولكن لا صبر له وهو غريب في الديار العربية، فيلعنهم ثلاثًا،
وربما لعن في يأسه أرضًا لم تكن يومًا لأبنائها، وإذ ينظر إلى نزاع أمته وانقراضها
يود أن تستقل أو تموت تحت أنقاضها.
أبدًا يمكرون بنا متظاهرين بالعطف علينا، وحجتهم في استبعادنا أننا
قاصرون ضعفاء ينبغي لنا وصاية وحماية. الأرض إرث لنا من آبائنا وأجدادنا،
ويريدون أن ينتزعوها منا ومن أولادنا، وإذا سألناهم: لماذا؟ أجابونا: نود
تمدينكم وتأهيلكم للاستقلال، فلو كان صدقًا ما يقولون لجاءونا بالكتب والأقلام
لا بالكتائب والأعلام، الساعي إلى الصلاح لا يحتاج إلى السلاح، فما هذه الحامية
والنار الحامية، وما بالهم يعدوننا أصدقاءهم، ويدخلون علينا مسلحين؟ ألا يجوز
أن يكون التمدين سلمًا، فيرشدوننا لأجر أو بأجرة، ويتركون لنا السيادة والحكم
والحرية في أرضنا، ويشاركوننا بتعميرها واستثمارها؟! لكنهم يريدون أن يملكوا
الأرض ويقرضوا النسل ليصير العالم فرنسويًّا وإنكليزيًّا، فإذا قلنا لهم: نريد
أن نجتمع ونتحد لنؤلف أمةً، يقولون لنا: لستم صالحين لذلك وأنتم جماعات
متفرقة، لا زعماء لها يقودونها، ولا حكماء يرشدونها، والله يشهد أن تفرقتا
وانقسامنا بإغرائهم وإغوائهم، فلو تركونا وشأننا لأصلحنا ذات البين، أو تناضلنا
حتى يفوز خيارنا ويقر قرارنا، والأمم جميعها ِأخذت نظامها من الفوضى،
وطمأنينتها من الثورة، وما كانت بالأمس أفضل منا اليوم، ولكنها تطورت
وترقت تدريجيًّا، أما الرجال فالحوادث تظهرهم، والأمور مرهونة لأوقاتها.
ويقولون زورًا وبهتانًا: لستم أهلاً لأن تستقلوا وتتمدنوا، فنقول لهم: ليس
الاستقلال من الفلسفة والمنطق لنأخذه عنكم، فالإنسان مستقل ما لم يُستعبَد،
والعصفور مستقل ما لم يقفص، لكل حريته في المعيشة ناعمةً كانت أو خشنةً، ولكل
المخلوقات حكمة في تدبير شؤونها وتحسين أحوالها، فما البشر في أرضهم دون النمل
في قريتها والنحل في خليتها، ولنا مدنية قديمة بها اهتديتم، فنحن في غنى عن
مدنيتكم، سنجدد معالمها ونرفع منائرها ونضيف إليها حسنات المدنية الحديثة، وإن ما
تُكرهوننا عليه من مدنيتكم يفسد أخلاقنا ويثقل أعناقنا.
هذا شرح القصة، فهلا اعتبر العرب بما تراه أبصارهم وبصائرهم؟ وما كانت
بلاياهم إلا من تقاطعهم وتنازعهم، فلن يكون لهم مقام بين الشعوب ما داموا متعاندين
متباعدين، فعلى قلتهم في بدء عهدهم كان لهم قوة باتحادهم، واليوم على كثرتهم لا
تُخشى لهم صولةً ولا تُبنى دولة، ولعزتهم وإبائهم لا يخضع أمير منهم لأمير،
والعرب جميعهم أمراء، وهذا سبب التخاذل والتقاتل بينهم وتقوية الأجانب عليهم، فلو
فطنوا لتعاهدوا وتعاونوا وكانت لهم قدوة بمبايعة عمر لأبي بكر، وإلا كان الروم بعد
الترك شر خلف لشر سلف.
لقي أبو جعفر المنصور أعرابيًّا، فقال له: يا أعرابي! احمد لله الذي رفع
الطاعون عنكم بولايتنا، فقال له الأعرابي: إن الله أعدل من أن يجمع علينا حشفًا
وسوء كيلة، فلا يجمع بين ولايتكم والطاعون، هذا ما يقوله كل عربي للفرنسيين
والإنكليز بعد رحيل النكبة وحلولهم، فليعلم العرب أن حياة الأمة بقوتها الأدبية، وأن
لا قوة إلا بالاتحاد.
... ... ... ... ... ... ... الوليد بن عبد الله بن طعمة