للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


القرآن كلام الله
لا كلام جبريل ولا محمد عليهما السلام

(س١) من الشيخ محمد عريقات , وإمام مسجد عز الدين في (برنبال)
غربية.
حضرة صاحب الفضيلة مولانا رشيد الأمة، ومرشدها الأوحد:
أعرض على فضيلتكم مسألةً علميةً أرجو التكرم بإفادتي بالقول الفصل فيها،
ولكم جزيل الثواب.
وهي مسألة المنزل من القرآن هو اللفظ والمعنى، أو المعنى فقط، وعبر
باللفظ محمد عليه السلام، أو جبريل , كما ذكره الباجوري على الجوهرة عند قول
الناظم (ونزه القرآن، أي: كلامه إلخ) مع ترجيحه للقول الأول الذي هو اللفظ
والمعنى معبرًا عنه بالراجح، مع أنهم ذكروا في الأصول من شروط الترجيح
التساوي في القوة، فلا ترجيح بين القطعي والظني، بل يقدم القطعي اتفاقًا،
والمتبادر لي أن من المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله حقيقةً، وأنه
المعجز الأكبر المتحدى به حقيقةً، كما لا يخفى هذا، ونصوص القرآن والسنة
الناطقة بنزول القرآن بلفظه ومعناه كثيرة جدًّا لا تخفى على فضيلتكم، كقوله -
تعالى -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا} (فصلت: ٤٤) إلخ، وقوله:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (يوسف: ٢) ومثلها كثير في القرآن، وقوله: {لاَ
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} (القيامة: ١٦) إلخ، وقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (المزمل: ٥) إلخ , وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: ٢٣) وقوله:
{إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (المدثر: ٢٥-٢٦) إلخ، وقوله:
{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} (مريم: ٩٧) إلخ، وقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: ١٠٦) وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً
مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (النحل:
١٠١) وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ
لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: ١٩٢-١٩٥) ثم قال
بعدها: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: ١٩٨-١٩٩) إلخ، وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} (الطارق: ١٣-١٤) , وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ
الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: ٣-٤) وتتبع الآيات يطول ذكره، ولا
يخفى على فضيلتكم. ومن السنة حديث متواتر ألا وهو قوله عليه السلام: (أنزل
القرآن على سبعة أحرف) فهل يعد ذلك القول بالقول الثاني والثالث كفرًا، كما هو
ظني، أم لا؟ وهل القول بهما الآن يعد كفرًا قطعًا، كما هو اعتقادي، أم لا؟
أرجو التكرم بالقول الشافي، والجواب الكافي بالمنار الأغر في أقرب فرصة لا
برحتم ملجأ للسائلين ونورًا مبينًا للمستضيئين، آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
(المنار)
ورد هذا السؤال منذ سنة ونصف، وطال الأمد على نشره والجواب عنه
فأعاده صاحبه بالعبارة الآتية في أوائل هذا العام إذ كنا في سورية، وهذا نصه:
فضيلة إمام العصر الوحيد، مولانا الأستاذ السيد محمد رشيد، نفع الله به
الأمة، وكشف به كل غمة، آمين.
هل القرآن كلام الله، أو كلام محمد، أو كلام جبريل؟ وإذا كان المقطوع به
المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله - تعالى - فما الداعي للخلاف الذي
ذكره السيوطي في الإتقان بأن المنزل من القرآن هو اللفظ والمعنى، أو المعنى فقط
وعبر عنه محمد عليه السلام باللفظ العربي، أو المعنى فقط أيضًا، وعبر عنه
جبريل باللفظ العربي، وكذا ذكره الباجوري على الجوهرة مرجحًا الأول، والأمير
على الجوهرة أيضًا، والخضري في مقدمة التفسير، والآلوسي في تفسير {نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: ١٩٣-١٩٤) الآية، فهل هذا
الخلاف له أصل مقبول معقول منقول، أو أنه مدسوس على أهل الملة؟ وكيف يكون
له أصل مع أن اعتقاد ظاهره كفر؟ هذه مسألة من أهم أصول الدين، ولا تقليد في
الأصول فما بقي إلا أن تقوموا بتحقيق الحق وإزالة حجب الحيرة عنه،
وتتكرموا بإفادتنا بالمنار أو بالبريد، ولكم الشكر، لا برحتم عضد الحق، ونوال
السائلين، آمين.
(ج)
إن الذي ندين الله - تعالى - به عن علم يقيني راسخ هو أن هذا القرآن
العربي المكتوب في المصاحف، المقروء بالألسنة باللغة العربية هو كلام الله -
تعالى - المعجز للبشر ولغير البشر من الخلق، وأنه ليس لجبريل روح القدس
منه إلا تبليغه عن الله - عز وجل - لخاتم الرسل عليه الصلاة والسلام كما أن
الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له منه إلا تبليغه عن الله - تعالى - لمن أرسل
إليهم، فجبريل عليه السلام تلقاه من الله - عز وجل - بالصفة التي تليق به
- تعالى - ولا يعلمها من خلقه إلا جبريل، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقاه من
جبريل بالوحي الذي لا يعرف كنهه إلا الرسل الذين تلقوا مثله عن جبريل، والصحابة
سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما سمعه منهم التابعون، ومن تبعهم إلى
عصرنا هذا، وكما يسمعه بعضنا من بعض بأصواتنا البشرية لا فرق بين قراءتنا له
وقراءة من قبلنا إلا بما نعلمه من التفاوت في التجويد وحسن الأداء.
وإنه ليعسر تعريف الكلام بحد جامع مانع تعرف به حقيقته منه كما يعسر
تحديد مثله من الحقائق المعلومة بالضرورة، ومما يحسن أن يقال في تعريفه في
الجملة أنه صفة من صفات العالِم، وشأن من شؤونه يتمثل به علمه في نفسه، وفي
الخارج، وما يتمثل به العلم في الخارج من الكلام يصل به إلى غير صاحبه فيعلم
به من يصل إليه من علم ذي الكلام ما تمثل له بصوت وحرف، أو بكتابة ورسم،
أو بغير ذلك، فالإنسان منا يتكلم في نفسه فيهيئ فيها ما يريد أن يقوله لزيد أو
عمرو، وينظم الشعر، ثم ينطق به, أو يكتبه، ثم يقرأه، وربما كتب شيئًا، ولم
يقرأه، وإذا نطق بالكلام المتمثل في نفسه رسم نطقه في الهواء بصورة أو صفة
غير التي يرسم بها في الصحف، فمن سمعه أدرك بسمعه مما رسم في الهواء عين ما
هو مرسوم في لوح نفسه بصورة أخرى، وكذلك من رآه في الصحيفة يدرك مما
رسم فيها غيره ما قام بنفس المتكلم، وتمثل فيها من ذلك.
وقد اخترع البشر في العصر الأخير وسائل لأداء الكلام وتبليغه لم يكن
يعرفها ولا يعقلها أهل العصور السابقة، كالتلغراف السلكي، والتلغراف الهوائي،
أو اللاسلكي، وكل منهما مظهر من مظاهر الكلام النفسي ووسائل أدائه، ويسمى
كلامًا حقيقيًّا لا مجازيًّا، وينسب كل كلام إلى من صدر عنه، وكان مجلى كلامه
النفسي، فالجملة من كلام زيد من الناس يتناقلها الناس بألسنتهم وأقلامهم، وبآلات
التلغراف والتلفون، وكل منهم يقول: إنها كلام زيد، فالكلام ما يتمثل به علم
العالِم لنفسه أو لغيره، واختلاف صفة التمثيل للنفس ولغير النفس لا تمنع
إطلاق اسم الكلام على كل منهما حقيقةً، فمن يرى في القرطاس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ...
يقول: إن هذا كلام امرئ القيس، ومن يسمع ذلك من لسان أي إنسان يقول
ذلك , ولم يقل أحد من العرب في هذا القول الذي كتب وعلق على الكعبة , ثم
كتب في الصحف وقرأه الناس: إن لفظه المرسوم في الصحيفة هو كلام الراسم،
وإن الذي أنشد على الناس منه هو كلام المنشد، وإن معناه لامرئ القيس فقط، أو
إن ما تمثل من هذا النظم في نفس امرئ القيس هو شعره، وما نقرأه في الكتب
أو من حفظنا لمعلقته هو كلامنا، ولا إن هذا كلامه مجازًا، وذلك كلامه حقيقةً، بل
أجمعوا على أن هذه القصيدة كلامه، وأنه ليس لرواتها بالقول والكتابة حظ منها إلا
النقل لكلام غيرهم.
وإذا قدر البشر على تمثيل كلامهم النفسي بعدة مظاهر لا يختلف مدلولها عن
مدلول ما في أنفسهم، فالله - تعالى - أقدر منهم على إبلاغ كلامه النفسي لرسله من
الملائكة والناس بما يليق باستعداد كل منهم، فلا غرو من أن يكون لوحيه
للملائكة صفة غير صفة وحيه للرسل من البشر فيما يكلمهم به بغير واسطة المَلَك،
وأن يكون لما يسمعه النبي من الملك صفة غير صفة ما يسمعه الملك من الرب
- سبحانه وتعالى - ولكن الكلام واحد في جميع مظاهره لا يختلف باختلاف طرق
أدائه وتبليغه، كما نعرفه في الكلام المسموع بالآذان، والمقروء في الصحف،
والمأخوذ من آلة التلغراف السلكي أو الهوائي، ومثله المرسوم في الهواء، أو ما
تكيف به الهواء، وبهذا المثال يظهر للمتأمل أن تجلي كلام الله - تعالى - في
الألسنة والصحف والهواء وآلات التلغراف، وفي اللوح المحفوظ، وفي
أنفس الملائكة والبشر - لا يخرجه عن كونه كلامه - تعالى - ولا يقتضي أن تكون
صفة الكلام النفسية له - تبارك وتعالى - مشابهةً لصفة الكلام في أنفس البشر، أو
غيرهم من خلقه - تعالى - ولا أن يكون تكليمه للملائكة ولموسى ومحمد
عليهم الصلاة والسلام، كتكليم بعضنا لبعض، ولكن مؤداه واحد، فالذي نقرأه أو
نكتبه في المصاحف هو عين ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله
عليه وسلم فتلقاه عنه بهذه اللغة العربية وهذا الأسلوب المعجز الذي يعجز عليه
الصلاة والسلام كغيره من البشر عن مثله بمقتضى ملكته العربية، ولذلك نرى
أسلوبه غير أسلوب الحديث، ونظمه غير نظمه، بل يكثر في الحديث من الألفاظ
المترادفة، والصيغ المفردة غير ما في القرآن كلفظ (عرفة) وهو لم يذكر في
القرآن إلا بلفظ (عرفات) ولفظ الصوم، وإنما ذكر في القرآن لفظ (الصيام) .
ولو كان ما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من كلام الله - تعالى - هو معاني
القرآن دون عبارته، لكان القرآن كلامه صلى الله - تعالى - عليه وآله وسلم، لا
كلام الله تعالى؛ لأن الكلام هو العبارة التي تتجلى فيها المعاني من علم المتكلم،
ومن أخذ عن غيره علمًا من العلوم ففهم منه القواعد والمسائل، ثم كتب في ذلك
كتابًا، فإن ما في الكتاب من الكلام ينسب إلى كاتبه، لا إلى أستاذه الذي تلقى عنه
تلك المعاني التي دونها في كتابه، والقرآن كلام الله - تعالى - نسب إليه في آيات
كثيرة، كقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} (التوبة: ٦) وفي أحاديث متعددة، وأجمع على ذلك المسلمون، وإنما اختلف
المتكلمون منهم في نظريات فلسفية في تعريف الكلام النفسي واللفظي، وفي كونه
من الصفات التي تقوم بذات الله - تعالى - أو التي لا تقوم بها. تولَّدَ منها شبهات
يصادم بعضها بعضًا، وكل ما خالف منها ما فهمه جمهور السلف الصالح من
نصوص الكتاب والسنة فهو مردود على أهله بالنقل القطعي الذي لا مصادم له من
البرهان العقلي.
وأول من أحدث هذه النظريات في الإسلام الجعد بن درهم وجهم بن صفوان،
ونصرت المعتزلة نظريات جهم، وانخدع ببعضها كثير من أهل السنة، وكان
الإمام أبو الحسن الأشعري من نظار المعتزلة، ثم رجع إلى مذهب أهل السنة،
ولكنه لم يترك نظرياتهم المخالفة للسلف كلها دفعةً واحدةً، ومذهبه في مسألة الكلام
الإلهي لم يكن عين مذهب السلف ولا غيره من مذهب المعتزلة والجهمية , وقد
تبعه فيها كثير من كبار النظار، كالقاضي أبي بكر الباقلاني , وأشهر المصنفين في
الكلام من أتباعه، وله عبارة في ذلك اتخذوها أصلاً وفرعوا عليها؛ لذلك صار
ينقلها علماء العقائد والمفسرون وشراح الأحاديث في كتبهم، ولا شك في كون
بعض تلك البدع تعد خروجًا من الملة، وكون بعضها يستلزم ذلك، ولكن التحقيق
عند علماء الأصول والكلام أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأن أكثر أصحاب
تلك النظريات المخالفة لظواهر نصوص الكتاب والسنة وما كان عليه السلف
الصالح - لم يقولوا بها إلا عن شبهات عرضت لهم أو لغيرهم من المنكرين للإسلام
فأرادوا أن يقيموا حجة الإسلام بما قالوه بحسب اجتهادهم، مع إذعانهم لأحكامه
وعملهم به، فكيف يقدم أحد على تكفيرهم مع ذلك.
وقد رجع أشهر محققي المتكلمين من الأشاعرة في مسألة الكلام والقرآن
والصفات إلى مذهب السلف في أواخر أعمارهم، ومنهم من أرجع كلام مخالفي
السلف من أئمتهم إلى وفاق، وإليك ما قاله في مسألة الكلام علاّمتهم (العضد)
صاحب كتاب الموافقات الشهير، ونقله عنه في شرحه له السيد الجرجاني قال:
(واعلم أن للمصنف مقالةً مفردةً في تحقيق كلام الله - تعالى - على وفق ما
أشار إليه في خطبة الكتاب، ومحصولها أن لفظ المعنى يطلق تارةً على مدلول
اللفظ، وأخرى على الأمر القائم بالغير، فالشيخ الأشعري لما قال: الكلام هو
المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده: مدلول اللفظ وحده، وهو القديم عنده،
وأما العبارات فإنما تسمى كلامًا مجازًا؛ لدلالتها على ما هو كلام حقيقي، حتى
صرحوا بأن الألفاظ حادثة على مذهبه أيضًا , لكنها ليست كلامه حقيقةً، وهذا الذي
فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة، كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين
دفتي المصحف، مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله- تعالى - حقيقةً،
وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه
حقيقةً، إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية، فوجب حمل
كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرًا شاملاً للفظ
والمعنى جميعًا قائمًا بذات الله - تعالى - وهو مكتوب في المصاحف، مقروء
بالألسن، محفوظ في الصدور، وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة، وما
يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة، فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في
التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة، فالتلفظ حادث، والأدلة الدالة على الحدوث يجب
حملها على حدوث اللفظ دون حدوث الملفوظ جمعًا بين الأدلة، وهذا الذي ذكرناه ,
وإن كان مخالفًا لما عليه متأخرو أصحابنا، إلا أنه بعد التأمل تعرف حقيقته. تم
كلامه) .
(قال السيد) : (وهذا المحمل لكلام الشيخ (أي الأشعري) مما اختاره
الشيخ محمد الشهرستاني في كتابه المسمى بنهاية الإقدام، ولا شبهة في أنه أقرب
إلى الأحكام الظاهرية المنسوبة إلى قواعد الملة اهـ، فالسيد الجرجاني قد ارتضاه
أيضًا) .
وقول السيد في مقدمة العبارة (على وفق ما أشار إليه في خطبة الكتاب)
يعني به قول صاحب المواقف في الكلام على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من
الخطبة ما نصه: (وأنزل معه كتابًا عربيًّا مبينًا، فأكمل لعباده دينهم، وأتم عليهم
نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا، كتابًا كريمًا، وقرآنًا قديمًا، ذا غايات ومواقف،
محفوظًَا في القلوب، مقروءًا بالألسن، مكتوبًا في المصاحف، لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه ولا يتطرق إليه نسخ، ولا تحريف في أصله،
أو وصفه) .
قال السيد الشارح في شرح ما قبل الجملتين الأخيرتين من هذه الأوصاف
والنعوت: وصف القرآن بالقدم، ثم صرح بما يدل على أنه هذه العبارة المنظومة،
كما هو مذهب السلف حيث قال: إن الحفظ والقراءة والكتابة حادثة لكن متعلقها -
أعني المحفوظ والمقروء والمكتوب - قديم، وما يتوهم من أن ترتب الكلمات
والحروف وعروض الانتهاء والوقوف مما يدل على الحدوث، فباطل؛ لأن ذلك
لقصور في آلات القراءة، وأما ما اشتهر عن الشيخ أبي الحسن الأشعري من أن
القديم معنى قائم بذاته قد عبر عنه بهذه العبارات الحادثة، فقد قيل: إنه غلط من
الناقل منشأه اشتراك لفظ (المعنى) بين ما يقابل اللفظ وبين ما يقوم بغيره، وسيزداد
ذلك وضوحًا فيما بعد إن شاء الله تعالى) اهـ.
ونقول: إذا كان ما ذكره (العلامة العضد) ووافقه عليه (السيد السند) هو
مراد الشيخ الأشعري من عبارته المشهورة - التي لا يبعد ظاهرها الذي تمسك به
جمهور أتباعه عن نظريات أصحابه القدماء من المعتزلة وغيرهم - فبها ونعمت،
وإلا فهي مردودة عليه، وعلى كل من خالف السلف الصالح من أتباعه وغيرهم
عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (من أحدث في أمرنا هذا
ما ليس منه فهو رد) ولا يغترن أحد بتلك النظريات التي بنى عليها الجهمية
والمعتزلة، وبعض الأشاعرة والكلابية وغيرهم أقوالهم في الكلام النفسي
واللفظي، وجعل بعضه حقيقيًّا وبعضه مجازيًّا، ووصف بعضه بالقديم، وبعضه
بالحادث، أو تسميته مخلوقًا، فكل ذلك مبني على الهرب من وصف الخالق
بصفات المخلوقين لئلا يكونوا مشبهين له بخلقه، ومذهب السلف مبني على
وصفه - تعالى - بكل ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه
وسلم، وإسناد ما أسنده إليه كلامه وكلام رسوله مع الجزم بالتنزيه، وكونه ليس كمثله
شيء، كما نزه نفسه وقامت البراهين العقلية على تنزيهه، ولا تنافي بين الأمرين ولا
تناقض، على أن الأشاعرة قد أجمعوا بعد تفلسف بعضهم في الكلام النفسي واللفظي
بما تفلسفوا به عن ما هو معلوم من الدين بالضرورة من أن ما بين دفتي المصحف
كلام الله - تعالى - حقيقةً، ليس للنبي صلى الله عليه وسلم فيه كسب، وإنما هو
مبلغ له عن ربه - عز وجل - كما أمره بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ
مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: ٦٧) .
وجملة القول أن ما نزل به الروح الأمين من كلام الله - تعالى - على قلب
محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن العربي ذو الأسلوب الذي علا جميع
أساليب العرب، فبلغه صلى الله عليه وسلم كما تلقاه ووعاه بدون أدنى تصرف
فيه، ولو تصرف فيه أدنى تصرف لذكر مضمون الأمر دون التلفظ بفعل الأمر
الذي خوطب به في مثل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ
إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الكهف: ١١٠) وقوله عز وجل: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ
البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} (النمل: ٩١) فلم يذكر لفظ (قل) في مثل هذه الآيات وهو
كثير، ولو تصرف فيه أدنى تصرف لما ذكر في أثناء بعض السور ما ألقي إليه على
طريقة الاستطراد الذي اقتضته الحال في وقت تبليغ السورة فكان كالأجنبي منها،
كقوله - تعالى - في سورة القيامة في سياق الكلام عن حال الإنسان وشأنه في
القيامة: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: ١٦-١٩) فهذه الآيات أجنبية عما
قبلها وعما بعدها خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء وحي السورة
إليه؛ لأنه أنشأ يقرأ بلسانه ما كان يلقى إليه قبل أن يتم وحيه خوفًا أن ينسى شيئًا
منه، فخوطب بهذه الآيات على طريقة الالتفات والاستطراد ليطمئن ويعلم أن
الله - تعالى - عصمه من نسيان شيء من القرآن، وهو في معنى قوله - تعالى -
في سورة طه: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (طه: ١١٤)
ولو كان الذي ألقي إليه المعنى دون العبارة لكان تدبره وإطالة الفكر فيه مع
السكوت هو الذي يثبته في ذهنه بحسب العادة، لا تحريك اللسان بالعبارة المكتسبة
التي يؤديه هو بها، فتحريك لسانه قبل نهي الله - تعالى - إياه عنه دليل على أنه
كان يُلقى إليه المعنى في العبارة المخصوصة، فحرك لسانه بقراءة العبارة لئلا
ينسى شيئًا منها، فنهاه - تعالى - عن ذلك، وأخبره أنه ضمن له العصمة من
ضياع شيء منه.
وقد صح في التفسير المأثور أن المراد بقوله - تعالى -: (قرآنه) : مصدر
قرأ، أي: قراءته أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي , وغيرهم عن ابن
عباس في تفسير الآية، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل
شدةً، وكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه، يريد أن يحفظه فأنزل الله:
{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (القيامة: ١٦-١٧)
قال: يقول: إن علينا أن نجمعه في صدرك، ثم تقرؤه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} (القيامة:
١٨) يقول: إذا أنزلناه عليك {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: ١٨) : فاسمع له،
وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: ١٩) : أن نبينه بلسانك، وفي لفظ:
علينا أن تقرأه، فكان رسول الله بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق - وفي لفظ استمع -
فإذا ذهب قرأ، كما وعده الله عز وجل , وفي رواية: قرأ كما أقرأه، ولو لم يرد في
المسألة إلا هذه الآية وتفسيرها المأثور في الصحيح لكفى بها إثباتًا لكون النبي
صلى الله عليه وسلم ليس له من عبارة القرآن إلا حفظها، كما أوحيت إليه وتبليغها،
كما حفظها معصومًا من الخطأ والنسيان فيها، فكيف والآيات الكريمة والأحاديث
الصحيحة في ذلك كثيرة، ومنها ما ذكره السائل في سؤاله الأول.
وإننا لا نرى فائدة ما في شرح تلك النظريات والشبهات الباطلة التي ترتب
عليها ذلك القول الباطل الذي جزم السائل بكونه كفرًا، ولكننا نذكر السائل والقارئ
بأن أهل الحق يتحامون التكفير ما أمكن، ويشترطون في تكفير المخالف للنصوص
أن لا يكون مجتهدًا متأولاً، وإننا ننقل هنا نبذةً نافعةً في هذه المسألة من كتاب
(موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، قال
في أثناء شرح مسألة الكلام الإلهي وأقوال الفرق فيها، وعبارة الأشعري التي تقدم
تأويل صاحب المواقف لها، ونصر القاضي أبي بكر الباقلاني الشهير له فيما فهمه
هو والجمهور منها، ما نصه:
(وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي
سماه (الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول) وذكر اثني عشر إمامًا، الشافعي
ومالك , والثوري , وأحمد , وابن عيينة , وابن المبارك , والأوزاعي , والليث بن
سعد , وإسحاق بن راهويه , والبخاري، وأبو زرعة , وأبو حاتم قال فيه: سمعت
الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول:
سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن
القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل
مسموعًا من الله - تعالى - والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة
سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين
الدفتين، وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومنقوشًا، وكل حرف منه كالباء
والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله
والملائكة والناس أجمعين.
قال الشيخ أبو الحسن: وكان الشيخ أبو حامد (أي: الإسفرايني) شديد
الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام قال: ولم تزل الأئمة الشافعية يأنفون
ويستنكفون أن يُنسبوا إلى الأشعري، ويتبرأون مما بنى الأشعري مذهبه عليه،
وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحَوْم حواليه، على ما سمعت (من) عدة من
المشايخ والأئمة منهم الحافظ المؤتمن ابن أحمد بن علي الساجي، يقول: سمعنا
جماعةً من المشايخ الثقات قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر
الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا وأصحابًا إذا سعى إلى الجمعة من
قطيعته إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوري المحاذي للجامع،
ويقبل على من حضر ويقول: اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما
قال ابن حنبل لا كما يقوله الباقلاني، وتكرر ذلك منه جُمُعًا، فقيل له في ذلك فقال:
حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح، ويشيع الخبر في أهل البلاد أنني
بريء مما هم عليه، يعني: الأشعرية، وبريء من مذهب أبي بكر الباقلاني؛ فإن
جماعةً من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفيةً ويقرءون عليه فيفتنون
بمذهبه فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعته لا محالة فيظن ظان أنهم مني تعلموه،
وأنا ما قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته.
قال الشيخ أبو الحسن: وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني
يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد
الإسفراييني، وكان ينهى أصحابه عن الكلام، وعن الدخول على الباقلاني فبلغه أن
نفرًا من أصحابه يدخلون عليه خفيةً لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم، وذكر
قصةً قال في آخرها: إن الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني قد بلغني أنك تدخل على
هذا الرجل - يعني: الباقلاني - فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة،
وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل وتائب إليه، واشهدوا علي أني
لا أدخل إليه. قال أبو الحسن: وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي
يقول: سمعت عدةً من المشايخ والأئمة ببغداد - أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي
أحدهم - قالوا: كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعًا خوفًا من الشيخ أبي
حامد الإسفراييني , قال أبو الحسن: ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام
حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول فقه الأشعري، وعلقه عنه أبو بكر
الزاذقاني، وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق في كتابه (اللمع والتبصرة)
حتى لو وافق قول الأشعري وجهًا لأصحابنا ميزه، وقال: هو قول بعض أصحابنا
وبه قالت الأشعرية، ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن مذهبهم في
أصول الفقه فضلاً عن أصول الدين.
(قلت) : هذا المنقول عن الشيخ أبي حامد وأمثاله من أئمة أصحاب
الشافعي أصحاب الوجوه، معروف في كتبهم المصنفة في أصول الفقه وغيرها،
وقد ذكر ذلك الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب , وأبو إسحاق الشيرازي،
وغير واحد بينوا مخالفة الشافعي وغيره من الأئمة لقول ابن كلاب والأشعري
في مسألة الكلام التي امتاز بها ابن كلاب والأشعري عن غيرهما، وإلا فسائر
المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها اختصاص، بل ما قالاه قاله غيرهما إما
من أهل السنة وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام، واتبعه
عليه الأشعري فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه أحد من
رؤوس الطوائف، وأصله في ذلك هي مسألة الصفات الاختيارية ونحوها من
الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته هل تقوم بذاته أم لا، وكان السلف والأئمة يثبتون
ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقًا، والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر
ذلك مطلقًا، فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات، ووافق الجهمية
في نفي قيام الأفعال به وما يتعلق بمشيئته وقدرته، ولهذا وغيره تكلم الناس
فيمن اتبعه كالقلانسي والأشعري ونحوهما بأن في أقوالهم بقايا من الاعتزال،
وهذه البقايا أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات، فإن هذا الأصل
هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال، وقد ذكر الأشعري في رسالته
إلى أهل الثغر بباب الأبواب أنه طريق مبتدع في دين الرسل، محرم عندهم،
وكذلك غير الأشعري كالخطابي وأمثاله، يذكرون ذلك لكن مع هذا قد وافق ابن
كلاب فيما يضاهيه. وهذا الذي نقلوه من إنكار أبي حامد وغيره على القاضي أبي
بكر بن الباقلاني هو بسبب هذا الأصل، وجرى له بسبب ذلك أمور أخرى، وقام
عليه الشيخ أبو حامد، والشيخ أبو عبد الله بن حامد وغيرهما من العلماء من أهل
العراق وخراسان والشام , وأهل الحجاز ومصر مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة
والمحاسن الكثيرة، والرد على الزنادقة , والملحدين، وأهل البدع حتى إنه لم يكن في
المنتسبين إلى ابن كلاب والأشعري أجل منه ولا أحسن تصنيفًا، وبسببه انتشر هذا
القول، وكان منتسبًا إلى الإمام أحمد وأهل السنة حتى كان يكتب في بعض أجوبته
محمد بن الطيب الحنبلي، وكان بينه وبين أبي الحسن التميمي وأهل بيته من
التميميين من الموالاة والمصافاة ما هو معروف، كما تقدم ذكر ذلك، ولهذا غلب على
التميميين موافقته في أصوله، ولما صنف أبو بكر البيهقي كتابه في مناقب الإمام
أحمد، وأبو بكر البيهقي موافق لابن الباقلاني في أصوله ذكر أبو بكر اعتقاد أحمد
الذي صنفه أبو الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي، وهو مشابه لأصول
القاضي أبي بكر، وقد حكى عنه أنه كان إذا درس مسألة الكلام على أصول ابن كلاب
والأشعري يقول: هذا الذي ذكره أبو الحسن أشرحه لكم، وأنا لم تتبين لي هذه
المسألة، فكان يحكي عنه بالوقف فيها إذ له في عدة من المسائل قولان وأكثر، كما
تنطق بذلك كتبه، ومع هذا تكلم فيه أهل العلم، وفي طريقته التي أصلها هذه المسألة
بما يطول وصفه كما تكلم من قبل هؤلاء في ابن كلاب ومن وافقه حتى ذكر أبو
إسماعيل الأنصاري قال: سمعت أحمد بن أبي رافع وخَلْقًا يذكرون شدة أبي حامد -
يعني: الإسفراييني - على ابن الباقلاني قال: وأنا بلغت رسالة أبي سعد إلى ابنه
سلام ببغداد: إن كنت تريد أن ترجع إلى هراة فلا تقرب الباقلاني، قال: وسمعت
الحسين بن أبي أمامة المالكي يقول: سمعت أبي يقول: لعن الله أبا ذر، فإنه أول من
حمل الكلام إلى الحرم، وأول من بثه في المغاربة.
قال ابن تيمية: (قلت) : أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث
والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة، وغير ذلك من المحاسن
والفضائل ما هو معروف به، وكان قد قدم إلى بغداد من هراة فأخذ طريقة ابن
الباقلاني وحملها إلى الحرم فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم، كأبي نصر السجزي
وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني , وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما
ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة الثقفي والضبعي على طريقة ابن
خزيمة وأمثاله من أهل الحديث، وأهل المغرب كانوا يحجون فيجتمعون به،
ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة، ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل
إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الباجي فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني الحنفي
صاحب القاضي أبي بكر , ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي , فأخذ طريقة
أبي المعالي [١] في الإرشاد.
ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة،
وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة
والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيه بصدق وعدل وإنصاف،
لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء
احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكرها
المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم لما لهم
من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل،
وخيار الأمور أوسطها، وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف
من أهل العلم والدين، والله - تعالى - يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات،
ويتجاوز عن السيئات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي
قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: ١٠) .
ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه
وسلم وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله
لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة:
٢٨٦) ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ
ظنه صوابًا بعد اجتهاده، وهي من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك، أو
أعظم، أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه فقلّ من يسلم من ذلك في المتأخرين
لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي
به يحصل الهدى والصواب، ويزول عن القلوب الشك والارتياب، ولهذا تجد
كثيرًا من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها
فيقولون القول الموافق للسنة , وينفون ما هو من لوازمه غير ظانين أنه ينافيه ,
ويقولون بملزومات القول المنافي، الذي ينافي ما أثبتوه من السنة، وربما كفّروا
من خالفهم في القول المنافي وملزوماته، فيكون مضمون قولهم أن يقولوا قولاً ,
ويكفروا من يقوله! ! وهذا يوجد لكثير منهم في الحال الواحد لعدم تفطنه لتناقض
القولين، ويوجد في الحالين لاختلاف نظره واجتهاده، وسبب ذلك ما أوقعه أهل
الإلحاد والضلال من الألفاظ المجملة التي يظن الظان أنه لا يدخل فيها إلا الحق
والباطل، فمن لم ينقب عنها أو يستفصل المتكلم بها، كما كان السلف والأئمة
يفعلونه صار متناقضًا أو مبتدعًا ضالاًّ من حيث لا يشعر، وكثير ممن تكلم
بالألفاظ المجملة المبتدعة، كلفظ الجسم، والجوهر، والعرض، وحلول الحوادث،
ونحو ذلك كانوا يظنون أنهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة، وأنهم بذلك يثبتون
معرفة الله وتصديق رسله، فوقع من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك، وهذه حال
أهل البدع، كالخوارج وأمثالهم، فإن البدعة لا تكون حقًّا محضًا موافقًا للسنة؛ إذ لو
كانت كذلك لم تكن باطلاً، ولا تكون باطلاً محضًا لا حق فيه؛ إذ لو كانت كذلك لم
تَخْفَ على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل فيكون صاحبها قد لبس الحق
بالباطل، إما مخطئًا غالطًا، وإما متعمدًا لنفاق فيه وإلحاد، كما قال تعالى:
{وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (التوبة: ٤٧) فأخبر أن
المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً، ولكانوا يسعون بينهم
مسرعين يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم، إما لظن
مخطئ، أو النوع من الهوى، أو لمجموعهما فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان
بنوع من الظن واتباع هواه.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب
البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات) وقد
أمر المؤمنين أن يقولوا في صلاتهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: ٦-٧)
فالمغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، والضالون عبدوا الله بلا علم،
ولهذا نزه الله نبيه عن الأمرين بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا
غَوَى} (النجم: ١-٢) وقال - تعالى -: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} (ص: ٤٥) اهـ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية
وهو فصل الخطاب في هذا الباب.