للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استقلال مصر
وحقوق إنكلترة فيها

على أثر انتهاء الحرب الكبرى، وإعلان الهدنة سعى سعد باشا زغلول
الزعيم الكبير الشهير مع بعض أصدقائه إلى نائب ملك الإنكليز بمصر السير ريجلند
ونجت طالبين منه إلغاء الحكومة العرفية، ورفع المراقبة على الصحف، فناقشهم
مناقشةً صرحوا له في خلالها بعزمهم على السعي لاعتراف حكومته وغيرها
باستقلال البلاد المصرية، وحرية المصريين، ثم إن سعد باشا ألف وفدًا لأجل
القيام بهذا السعي بمصر وأوربة وكل مكان يمكن السعي النافع فيه، وأخذ الوفد
وثائق بتوكيل الأمة له بذلك من أعضاء الجمعية التشريعية، وغيرها من الجماعات،
وأفراد الزعماء، ثم نشر الوفد منشورات بَيَّنَ فيها مراده، وبلغ معتمدي الدول
العظمى ورئيس جمهورية الولايات المتحدة ذلك، وتبرع أغنياء الشعب بعشرات،
بل مئات الألوف من الجنيهات له للاستعانة بها على السعي الذي انتدب به، وكان
من أمر الوفد وما ترتب على تأليفه وأعماله ومعاملاته ما بيناه في مقالة،
عنوانها (التطور السياسي والديني والاجتماعي بمصر نشرت في الجزء
الخامس من هذا المجلد (ص ٢٧٤) فليراجعها غير الواقف على ذلك من غير
أهل هذه البلاد، ونقفي عليه بأنه لما صدر أمر الحكومة الإنكليزية العليا بالإذن
للزعماء الأربعة، (وهم الباشوات، سعد، وحمد الباسل، ومحمد محمود،
وإسماعيل صدقي , ولمن شاء من أعضاء الوفد وغيرهم بالسفر إلى حيث شاءوا
من أوربة، فسافر الأربعة إلى فرنسة , وتبعهم آخرون من مصر إلى باريس ,
وأرادوا رفع قضية مصر إلى مؤتمر الصلح فلم يسمع لهم قولاً، ولم تكن الجرائد
الفرنسية تنشر لهم ما يريدون نشره، ولكنهم ثبتوا على جهادهم حتى أسمعوا الصم
قضيتهم.
ثم إن الحكومة البريطانية ارتأت أن ترسل إلى مصر وفدًا يرأسه اللورد ملنر
لأجل مذاكرة كبراء المصريين، والوقوف على آرائهم في إدارة بلادهم، والاتفاق
معهم على وضع نظام لاستقلال إداري واسع مع بقاء الحماية البريطانية، فلم يكد
هذا النبأ يصل إلى مصر حتى بث أنصار الوفد المصري الدعوة في طول البلاد
وعرضها إلى رفض قبول هذا الوفد، ووجوب مقاطعة الأمة له، وعدم مذاكرته
والبحث معه، وإعلامه بأن الأمة مجمعة على تفويض أمرها إلى الوفد المصري
الذي يرأسه سعد باشا زغلول، ولم يصرف ذلك الحكومة البريطانية عن إرسال
لجنة ملنر إلى مصر، ولكن المصريين نجحوا في مقاطعتها، وكان يوجد في البلاد
أفراد يرون أن البحث معها مفيد، وأن مقاطعتها ضارة، ولكنهم لم يستطيعوا مخالفة
الأكثرية الساحقة فأقامت اللجنة مدةً طويلةً لم يراجعها أحد من الجماعات والأفراد
في شيء، ولكن اللورد ملنر استحسن أن يفتح باب المذاكرة مع أفراد من الكبراء
بزيارته إياهم في بيوتهم، والحديث معهم بصفة غير رسمية، ولا مبنية على
الاعتراف بالحماية، فزار شيخ الجامع الأزهر، ومفتي الديار المصرية، وبعض
الكبراء فلم يسمع من أحد إلا كلمةً واحدةً، وهي تفويض الوفد المصري بطلب
الاستقلال التام فلا بد من مراجعته في ذلك.
ثم عاد وفد ملنر إلى إنكلترة , وراسل سعد باشا في أمر الاتفاق على المسألة
المصرية، فاشترط سعد باشا أن تكون المذاكرة مبنيةً على قاعدة استقلال مصر
استقلالاً تامًا، ورفع الحماية عنها مع ضمان مصالح إنكلترة فيها فاتفقا على ذلك،
وجاء الوفد (لندن) عاصمة إنكلترة، فقوبل بالترحاب من لجنة ملنر ومن
الحكومة، وبعد عقد جلسات كثيرة سرية بين اللجنتين وضعت قواعد للتفاق لم يقبلها
الوفد المصري؛ لأنها لا تضمن الاستقلال التام المطلق الذي وكلته البلاد بطلبه،
ولم يرفضها؛ لأن فيها استقلالاً تامًّا لكنه مقيد بمعاهدة تضمن لإنكلترة حقوقًا عظيمةً
تقيد مصر بقيود ثقيلة، وتسكت عن إلحاق السودان بمصر، فارتأى الوفد أن يرسل
أربعة مندوبين لاستشارة الأمة، والاستنارة برأيها في مشروع هذه المعاهدة، فإن
قبل الرأي العام أن تكون هذه القواعد أساسًا لوضع المعاهدة بين الحكومتين استأنف
الوفد المذاكرة مع لجنة ملنر لوضعها؛ على أنه يشترط لقبولها نهائيًّا موافقة مجلس
الأمة البريطانية (البرلمان) عليها من قبل إنكلترة، وموافقة مجلس منتخب من
الأمة المصرية عليها من قبل مصر.
استقبلت الأمة المصرية مندوبي وفدها في الإسكندرية , والقاهرة بحفاوة
عظيمة، وقد نشروا عليها ما جاؤوا به من قواعد الاتفاق، ووقفوا على الرأي العام
فيها بالمذاكرات الشفوية مع الجماعات التي تمثل طبقات الأمة، ومع الأفراد
الكثيرين من الأفراد المشهورين، وبما نشروا في الجرائد، وإننا نبدأ بنشر بلاغ
المندوبين، وما أوضحوه، ثم نقفي عليه ببيان رأي الأمة فيه.
***
بلاغ من مندوبي الوفد المصري
في قواعد الاتفاق بين إنكلترة ومصر
في الطور الحاضر للمسألة المصرية قد يكون من مقتضيات التقاليد، ومن
الأكثر مناسبة لمهمة أعضاء الوفد المنتدبين إلى مصر أن لا تنشر بنصوصها
القواعد التي اعتبرت أساسات للاتفاق المرغوب فيه بين بريطانيا العظمى
وبين مصر قبل أن تأخذ هذه القواعد نهائيًّا شكل معاهدة رسمية ممضاة من معتمدي
الحكومتين على الطريقة العادية - ولكن الحالة النفسية للرأي العام المصري من
حيث تعطشه للوقوف على نصوص تلك القواعد، والرغبة في جعلها مهمة
الأعضاء المندوبين من قبل الوفد أقل صعوبةً، وأكثر إنتاجًا - كل ذلك يجعل نشر
تلك النصوص برمتها وعلى حالها أمرًا ضروريًّا، كما يجعل تكرير البيان للمهمة
المذكورة آنفًا أمرًا غير عديم الفائدة حتى يقر في النفوس أن الغرض المقصود ليس
هو أخذ رأي الأمة نهائيًّا في هذا الاتفاق؛ إذ محل ذلك هو أن يكون بعد إمضاء
المعاهدة لا قبله، وأمام الجمعية الوطنية التي تنتخب خصيصًا لهذا الغرض، بل
المقصود هو أن يستنير الوفد برأي موكليه حتى يعلم إذا كان الرأي العام موافقًا على
أن هذه القواعد في مجموعها تصلح أساسًا للمعاهدة.
١- مذكرة بقواعد الاتفاق
١ - لأجل أن يبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديد العلاقات
ما بين بريطانيا العظمى ومصر تحديدًا دقيقًا، ويجب تعديل ما تتمتع به الدول
ذوات الامتياز في مصر من المزايا وأحوال الإعفاء، وجعلها أقل ضررًا بمصالح
البلاد.
٢ - ولا يمكن تحقيق هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض
الأول من ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية، وآخرين معتمدين من الحكومة
المصرية، ومفاوضات تحصل للغرض الثاني بين الحكومة البريطانية، وحكومات
الدول ذوات الامتيازات، وجميع هذه المفاوضات يرمي إلى الوصول إلى اتفاقات
معينة على القواعد الآتية:
٣ - أولاً: تعقد معاهدة بين مصر وبريطانيا العظمى تعترف بريطانيا
العظمى بموجبها باستقلال مصر كدولة ملكية دستورية ذات هيئات نيابية، وتمنح
مصر بريطانيا العظمى الحقوق التي تلزم لصيانة مصالحها الخاصة، ولتمكينها من
تقديم الضمانات التي يجب أن تعطى للدول الأجنبية لتحقيق تخلي تلك الدول عن
الحقوق المخولة لها بمقتضى الامتيازات.
ثانيًا: تبرم بموجب هذه المعاهدة محالفة بين بريطانيا العظمى ومصر تتعهد
بمقتضاها بريطانيا العظمى أن تعضد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها، وتتعهد
مصر أنها في حالة الحرب حتى ولو لم يكن هناك مساس بسلامة أرضها أن تقدم
داخل حدود بلادها كل المساعدة التي في وسعها إلى بريطانيا العظمى، ومن ضمنها
استعمال ما لها من المواني وميادين الطيران، ووسائل المواصلات للأغراض
الحربية.
٤ - وتشمل هذه المعاهدة أحكامًا للأغراض الآتية:
أولاً: تتمتع مصر بحق التمثيل في البلاد الأجنبية، وعند عدم وجود ممثل
مصري معتمد من حكومته تعهد الحكومة المصرية بمصالحها إلى الممثل البريطاني
وتتعهد مصر بأن لا تتخذ في البلاد الأجنبية خطةً لا تتفق مع المحالفة، أو تُوجِد
صعوبات لبريطانيا العظمى، وتتعهد كذلك بأن لا تعقد مع دولة أجنبية أي اتفاق
ضار بالمصالح البريطانية.
ثانيًا: تمنح مصر بريطانيا العظمى حق إبقاء قوة عسكرية في الأرض
المصرية لحماية مواصلاتها الإمبراطورية، وتعين المعاهدة المكان الذي تعسكر فيه
هذه القوة، وتسوي ما تستتبعه من المسائل التي تحتاج إلى التسوية، ولا يعتبر
وجود هذه القوة بأي وجه من الوجوه احتلالاً عسكريًّا للبلاد كما أنه لا يمس حقوق
حكومة مصر.
ثالثًا: تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارًا ماليًّا يعهد إليه في
الوقت اللازم بالاختصاصات المالية التي لأعضاء صندوق الدين، ويكون تحت
تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في جميع المسائل الأخرى التي قد ترغب في
استشارته فيها.
رابعًا: تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية موظفًا في وزارة الحقانية
يتمتع بحق الاتصال بالوزير، ويجب إحاطته بجميع المسائل المتعلقة بإدارة القضاء
فيما له مساس بالأجانب، ويكون أيضًا تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته
في أي أمر مرتبط بتأييد القانون والنظام.
خامسًا: نظرًا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات
الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية تعترف مصر
بحق بريطانيا العظمى في التداخل بواسطة ممثلها في مصر لتمنع أن يطبق على
الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا
العظمى من جانبها أن لا تستعمل هذا الحق إلا حيث يكون مفعول القانون مجحفًا
بالأجانب.
***
صيغة أخرى لهذه المادة
نظرًا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها الآن الحكومات الأجنبية
المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية تعترف مصر بحق
بريطانيا العظمى في التدخل بواسطة ممثلها في مصر لتمنع أن ينفذ على الأجانب
أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى
من جانبها بأن لا تستعمل هذا الحق إلا في حالة القوانين التي تتضمن تمييزًا مجحفًا
بالأجانب في مادة فرض الضرائب، أو لا تتفق مع مبادئ التشريع المشتركة بين
جميع الدول ذوات الامتياز.
سادسًا: نظرًا للعلاقات الخاصة التي تنشأ عن المحالفة بين بريطانيا العظمى
ومصر يمنح الممثل البريطاني مركزًا استثنائيًّا في مصر، ويخول حق التقدم على
جميع الممثلين الآخرين.
سابعًا: الضباط والموظفون الإداريون من بريطانيين وغيرهم من
الأجانب الذين دخلوا خدمة الحكومة المصرية قبل العمل بالمعاهدة يجوز انتهاء
خدمتهم بناءً على رغبتهم، أو رغبة الحكومة المصرية في أي وقت خلال سنتين
بعد العمل بالمعاهدة، وتحدد المعاهدةُ المعاشَ أو التعويض الذي يمنح للموظفين
الذين يتركون الخدمة بموجب هذا النص زيادةً على ما هو مخول لهم بمقتضى
القانون الحالي.
وفي حالة عدم استعمال الحق المخول بهذا الاتفاق تبقى أحكام التوظف الحالية
بغير مساس.
٥ - تعرض هذه المعاهدة على الجمعية الوطنية للتصديق عليها، ولكن لا يعمل
بها إلا بعد إنفاذ الاتفاقات مع الدول الأجنبية على إبطال محاكمها القنصلية، وإنفاذ
الأوامر العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة.
٦- يعهد أيضًا إلى الجمعية الوطنية بمهمة وضع قانون نظام جديد تسير
حكومة مصر في المستقبل بمقتضى أحكامه، ويتضمن هذا النظام أحكامًا تقضي
بجعل الوزراء مسؤولين أمام الهيئة التشريعية، وتقضي أيضًا بحرية الأديان لجميع
الأشخاص، والحماية الواجبة لحقوق الأجانب.
٧ - تحصل التعديلات اللازم إدخالها على نظام الامتيازات باتفاقات تعقد بين
بريطانيا العظمى والدول المختلفة ذوات الامتيازات، وتقضي هذه الاتفاقات
بإبطال المحاكم القنصلية الأجنبية حتى يتيسر تعديل نظام المحاكم المختلطة،
وتوسيع اختصاصها في سريان التشريع الذي تسنه الهيئة التشريعية المصرية،
(ومنه التشريع الذي يفرض الضرائب) على جميع الأجانب في مصر.
٨ - تنص هذه الاتفاقات على أن تنتقل إلى الحكومة البريطانية الحقوق التي
كانت تستعملها الحكومات الأجنبية المختلفة بمقتضى نظام الامتيازات، وتشمل
أيضًا أحكامًا تقتضي بما يأتي:
أولاً: لا يسوغ العمل على التمييز المجحف برعايا أية دولة وافقت على
إبطال محاكمها القنصلية، ويتمتع هؤلاء الرعايا في مصر بنفس المعاملة التي يتمتع
بها الرعايا البريطانيون.
ثانيًا: يؤسس قانون الجنسية المصرية على قاعدة النسب؛ فيتمتع الأولاد الذين
يولدون في مصر لأجنبي بجنسية أبيهم، ولا يحق اعتبارهم رعايا مصريين.
ثالثًا: تخول مصر موظفي قنصليات الدول الأجنبية نفس النظام الذي يتمتع
به القناصل الأجانب في إنجلترا.
رابعًا: المعاهدات والاتفاقات الحالية التي اشتركت مصر في التعاقد عليها
في مسائل التجارة والملاحة، ومنها اتفاقات البريد والتلغراف تبقى نافذة
المفعول، أما في المسائل التي ينالها مساس من جراء إبطال المحاكم القنصلية فتعمل
مصر بالمعاهدات النافذة المفعول بين بريطانيا العظمى والدول الأجنبية صاحبة
الشأن مثل معاهدات تسليم المجرمين، وتسليم البحارة الفارين، وكذلك المعاهدات
التي لها صبغة سياسية سواء أكانت معقودةً بين أطراف عدة، أم بين طرفين، مثال
ذلك: اتفاقات التحكيم، والاتفاقات المختلفة المتعلقة بسير الحروب، وذلك ريثما
تعقد اتفاقات خاصة تكون مصر طرفًا فيها.
خامسًا: تضمن حرية بقاء المدارس وتعلم لغة الدولة الأجنبية صاحبة الشأن؛
بشرط أن تخضع هذه المدارس من جميع الوجوه للقوانين السارية بوجه عام على
المدارس الأوروبية في مصر.
سادسًا: تضمن أيضًا حرية إبقاء، أو إنشاء معاهد دينية وخيرية
كالمستشفيات إلخ.
وتنص المعاهدات أيضًا على التغييرات اللازمة في صندوق الدين، وعلى
إبعاد العنصر الدولي من مجلس الصحة في الإسكندرية.
٩ - التشريع الذي تستلزمه الاتفاقات السالفة الذكر بين بريطانيا العظمى،
والدول الأجنبية يعمل به بمقتضى أوامر عالية تصدرها الحكومة المصرية، وفي
الوقت نفسه يصدر أمر عال يقضي باعتبار جميع الإجراءات التشريعية والإدارية
والقضائية التي اتُّخِذَتْ بمقتضى الأحكام العرفية صحيحةً.
١٠ - تقضي الأوامر العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة على تخويل هذه
المحاكم كل الاختصاص الذي كان إلى الآن مخولاً للمحاكم القنصلية الأجنبية،
ويترك اختصاص المحاكم الأهلية بغير مساس به.
١١ - بعد العمل بالمعاهدة المشار إليها في البند الثالث تبلغ بريطانيا العظمى
نصها إلى الدول الأجنبية، وتعضد الطلب الذي تقدمه مصر للدخول كعضو في
جمعية الأمم.
***
٢- مسألة السودان
أما مسألة السودان فلم تطرح تحت البحث، ولكن الوفد قد حصل على
تأكيدات تضمن الطمأنينة على مياه النيل لري الأراضي المصرية المزروعة الآن،
والقابلة للزراعة في المستقبل.
***
٣ - مهمة أعضاء الوفد المنتدبين
وأما مهمة أعضاء الوفد المنتدبين، فبيانها أنه لما وصلت المفاوضات بين
الوفد وبين لجنة اللورد ملنر إلى أن قدمت اللجنة هذه القواعد على أنها نهائية في
الأساسات التي بنيت عليها، رأى الوفد أخذًا بالأحوط واستمساكًا برأي الوكالة على
إطلاقه أن لا يبت في الموضوع برفضه أو بقبوله، بل رأى أن الحكمة تدعو إلى
عرض الأمر على البلاد؛ فإذا قبلت البلاد أن هذه القواعد صالحة أساسًا للمعاهدة
دخلت المسألة في دورها النهائي، ووضعت معاهدة على القواعد المذكورة،
وعرضت على الجمعية الوطنية التي هي صاحبة الرأي الأعلى في الأمر، ولها
دون غيرها الكلمة الأخيرة في الموضوع، فبعد أن تدرس تفاصيل المعاهدة
وصيغتها تقرر بقبولها أو برفضها.
***
٤- الخطة
أما الخطة التي سيتبعها الأعضاء، والمندوبون في الاستشارة برأي الأمة فهي
الاجتماع بأعضاء الهيئات ذات الصفة النيابية، وبالرجال أولي الرأي، وشرح
أساسات المشروع لهم، وسماع رأيهم فيها، كما أنهم مستعدون لإعطاء جميع
المعلومات، ولقبول جميع الآراء بالكتابة أو بالمشافهة، نرجو أن يسدد الله آراء
أولي الرأي لمصلحة البلاد.
تحريرًا في ٢٥ ذي الحجة سنة ١٣٣٨، و٩ سبتمبر سنة ١٩٢٠.
محمد محمود، أحمد لطفي السيد، عبد اللطيف المكباتي، علي ماهر، ويصا
واصف، حافظ عفيفي، مصطفى النحاس.
***
شرح مشروع الاتفاق الذي نشره مندوبو الوفد الأربعة
على الأمة في الجرائد
عقدت اللجنة المركزية اجتماعًا كبيرًا في الساعة السادسة بعد ظهر يوم الجمعة
٢٧ ذي الحجة بمنزل حضرة صاحب السعادة سعد زغلول باشا لسماع الإيضاحات
التي يقولها مندوبو الوفد، وقد حضر هذا الاجتماع أكثر من مائة عضو، وتصدر
الاجتماع أعضاء الوفد، ثم بدأ الأستاذ لطفي بك السيد الكلام، فأبلغ اللجنة تحية
رئيس وأعضاء الوفد الباقين في أوربا، وقال: إن هيئة الوفد بأسرها تشكر للأمة
الكريمة ما أبدته من شريف العواطف نحو خدامها، ثم أخذ يتلو المشروع
ويشرحه بعد أن أعلن أن الغرض من هذا الشرح توضيح ما يكون غامضًا من
النصوص، ولكل من حضرات الأعضاء أن يوجه ما شاء من الأسئلة لأجل
الاستيضاح، أما الاقتراحات فتؤجل لفرصة أخرى.
***
المفاوضات الجديدة
فلما وصل إلى البند الثاني الخاص بضرورة إجراء مفاوضات جديدة بين
ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية، وآخرين معتمدين من الحكومة المصرية
سئل فيما عساه أن تكون فائدة المناقشات الحاضرة ما دام الوفد سيكون أجنبيًّا عن
المفاوضات الآتية؟ فأجاب بأن ممثلي الحكومتين سيضعون المعاهدات على أساسات
لا تخرج عن هذا الاتفاق، وأن القواعد الدولية تقضي بأن مندوبي الحكومات هم
الذين يوقعون المعاهدات، ومع كُلٍّ فإن الوفد سيبقى قريبًا من المفاوضات الجديدة،
ولا يجرى شيء إلا بعلمه.
***
مساعدة مصر لإنجلترا في الحرب
ولما وصل إلى الفقرة الثانية من البند الثالث الخاص بما تقوم به مصر في
حالة الحرب مع إنجلترا سئل عن مهمة الجيش المصري في هذه الحالة؟ فقال: إنه
لا يكلف الاشتراك في الحرب مع بريطانيا خارج الحدود المصرية بمعنى أن
مساعدته لا تتعدى الحدود المصرية.
***
نوع المحالفة بين مصر وإنجلترا
ثم أخذ يشرح المحالفة التي تبرم بين مصر وإنجلترا قائلاً: إنها تعد محالفةً
دفاعيةً من قِبَلِ إنجلترا نحو مصر؛ لأنها ستقتصر على الاشتراك في الدفاع عن
أراضي مصر إذا هُوجِمَتْ، وهذا الدفاع عن مصر حيوي بالنسبة لإنجلترا؛ لأنها
لا ترضى أن تتسلط عليها دولة أجنبية.
وفي مقابل ذلك يجب على مصر حتى تخرج من شبهة كل تبعية أن تقدم
المقابل، وإلا كان لانفراد انجلترا بالدفاع معنى آخر، وهذا المقابل هو تقديم
المساعدة لإنجلترا في حالة الحرب إلا أن جيشنا لا يخرج من بلادنا للمحاربة من
أجلها، وهذه المساعدة طبيعية؛ لأن كل حليف مطالب بمد يد المعونة لحليفه كما
كان الحال بين فرنسا , وروسيا، وقد فسر حالة الحرب التي تشترك فيها مصر
لتقديم المساعدات بالحروب النظامية التي تعلن طبقًا للأصول الدولية المعروفة؛ فلا
ينطبق هذا على حصول ثورات في أية جهة.
***
التمثيل السياسي في الخارج
ثم انتقل إلى حق تمثيل مصر في البلاد الأجنبية، فشرحه بأن له مظهرين:
حق السفارة، وهو يتعلق بالمسائل السياسية، وحق إرسال قناصل ووظيفتهم غير
سياسية، أي: يكون لمصر معتمدون سياسيون، وقناصل أيضًا.
ولمصر أن توجد لها ممثلين في كل جهة فإذا لم تجد حاجةً لتعيين ممثلين لها
من المصريين في جهة ما، فعليها أن تكل ذلك إلى معتمدي إنجلترا، لا إلى
معتمدي أية دولة أخرى.
***
عقد الاتفاقات
ثم شرح المادة الخاصة بأن مصر لا تتخذ خطةً تخالف المحالفة، وأنها لا
تُوجِد صعوبات لبريطانيا العظمى، فقال: إن المراد عدم عقد محالفة مع أعداء
إنجلترا، وعدم دس الدسائس لها.
***
القوة العسكرية
ثم انتقل البحث إلى حق إبقاء قوة عسكرية لضمان المواصلات للإمبراطورية
فقال: إن لإنجلترا مصالح عديدة في الشرق الأقصى، والشرق الأدنى فمن الواجب
على مصر بصفتها حليفة أن تساعد إنجلترا بالسماح لها بإبقاء جنود في نقطة؛ لحماية
طرق المواصلات، والمفهوم من روح المفاوضات أنها ستكون في منطقة القنال،
وأنها على العموم لن تكون في مدينة، ولا بالقرب من مدينة.
***
المستشار المالي
وهنا وقف حضرة علي بك ماهر ليتم الشرح فتلا المادة الخاصة باختصاصات
المستشار المالي، وقال: إنها ستكون هي نفس اختصاصات صندوق الدين الحالي
بعد سنة ١٩٠٤، ولما سئل عن دائرة استشارة الحكومة له؟ أجاب بأن الحكومة غير
ملزمة باستشارته، وليس له أن يعرض هذه الاستشارة من تلقاء نفسه، وإنما يكون
تحت تصرف الحكومة، وسيكون للبرلمان السلطة العليا في ذلك.
ثم أخذ يوضح سبب وضع هذا النص في المشروع فقال: كان الوفد أعلن قبل
سفره أنه يقبل بقاء صندوق الدين، وأنه لا يعارض في حلول إنجلترا محله إذا قبلت
الدول ذلك، وكان في نيتنا أن يقال: إن مصر تقبل تعيين موظف رسمي مراقبًا،
أو مندوبًا للدين العمومي، وإن وظيفته تنتهي بانتهاء مأمورية صندوق الدين، وإنه
لا يتدخل في شؤوننا الداخلية.
وقد حصل تشدد في سلطة المستشار، وصممنا على أن لا يتعدى اختصاصه
وظيفة صندوق الدين الحالي، وكنا لا نتردد في قطع المفاوضات إذا تجاوز الأمر
ذلك إلى التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، فقالوا: ما دامت الأمور المالية تقتضي
كفاءةً فنيةً فهل لا يجوز أن تستشيروه؟ فقلنا: لا داعي للنص على ذلك، ولكنهم
طلبوا أن يُنَصَّ على جواز الاستشارة فلم يوضع النص على إطلاقه، بل خفف
وجعل (في الأحوال التي قد ترغب الحكومة المصرية استشارته فيها) ، ثم أخذ
الكثيرون في السؤال عن نهاية وظيفة المستشار، فأجاب بأن متى سددت مصر
ديونها، أو حولتها بواسطة عقد قرض أهلي لا يكون هناك محل لبقاء المستشار.
***
الموظف الإنجليزي في الحقانية
ثم قال: إن الإنجليز طلبوا ضمانات بخصوص تطبيق القوانين على الأجانب
فعرض عليهم أن يكون النائب العمومي لدى المحاكم المختلطة إنجليزيًّا، فقالوا: إن
وظيفة النائب لا تجعله في اتصال يومي مع الوزير، واقترحوا أن يكون في وزارة
الحقانية موظف إنجليزي له حق الاتصال بالوزير، أي: يكون له الحق في مقابلته
بدون وساطة موظف آخر، وبهذه المناسبة جاء ذكر المشروع الذي وضعه المستر
هيرست , فقال مندوبو الوفد: إن المشروع على افتراض استمرار الحماية، وإنه
سيعدل تعديلاً يوافق روح الاتفاقية، وإن الوفد ألف لجنةً لدرس هذا المشروع،
وإبداء رأيها في طريقة تعديله.
وسئل علي بك عن معنى إدارة القضاء، وهل يتدخل الموظف الإنجليزي في
تعيين القضاة، فأجاب سلبًا.
***
سريان القوانين على الأجانب
ثم تلا الصيغتين الخاصتين بالحق المخول لممثل إنجلترا لمنع تطبيق القوانين
على الأجانب، وقال: إن الصيغة الثانية أحكم من الأولى، وقال: إنهم كانوا
يريدون أن يتولوا أمر البوليس، فعارض الوفد في ذلك، فعادوا واقترحوا إنشاء
(قره قولات) أجنبية، كما كان الحال قبل الاحتلال فعارضنا أيضًا، وانتهى الأمر
بوضع النص السابق لضمان حقوق الأجانب.
***
ممثل إنجلترا
ثم تلا المادة الخاصة بممثل إنجلترا، فحدثت مناقشة في المركز الاستثنائي
الذين سيكون للممثل، فقال مندوبو الوفد: إن هذا النص ليس له مرمى سياسي،
وإن في الاستطاعة الاتفاق على حذفه، أما اسم الممثل لإنجلترا فلم يتفق عليه، وعلى
كل حال فلن يسمى نائب ملك، ولا مندوبًا ساميًّا، وإنما يسمى التسمية العادية
المعروفة في القانون الدولي لمن يعينون ممثلين لدى الدول المستقلة.
***
الموظفون الذين يستغنى عنهم
وهنا قام حضرة عبد اللطيف بك المكباتي لإتمام الشرح، فتناول مسألة
الموظفين الذين سيستغنى عنهم، وقال: إن لجنةً ستتألف للنظر في ذلك.
***
الجمعية الوطنية وتعليق تنفيذ المعاهدة
ثم تلا المادة الخامسة الخاصة بعرض المعاهدة على الجمعية الوطنية للتصديق
عليها، فقال: إن وظيفة الجمعية المذكورة ستكون النظر في المعاهدة، وتقرير
قبولها أو رفضها، ثم وضع القانون النظامي للبلاد.
أما تعليق تنفيذ المعاهدة على قبول الدول فقد قيل لنا: إن الحكومة الإنجليزية
شرعت تفاوض الدول في ذلك من زمن، وإن بعضها قبل، وهم ينتظرون أن
ينتهي الأمر لغاية شهر نوفمبر، وقيل أيضًا: إذا تأخرت دولة، أو دولتان فيمكننا
أن نصرف النظر عنهما، ولذلك سابقة فإن فرنسا عند إنشاء المحاكم المختلطة
بقيت مدةً دون أن توافق عليها، وظلت قضاياها تنظر أمام المحاكم القنصلية، ولما
رأت نفسها في عزلة رأت أخيرًا أن توافق على ذلك النظام، والأمل أن تتم هذه
المفاوضات قبل انتهاء الإجراءات اللازمة لدخول المعاهدة في دور التنفيذ.
***
مجلس الصلح
ولما سئل عن معنى إبعاد العنصر الدولي من مجلس الصحة في الإسكندرية
قال: إن معناه أن يكون المجلس مصريًّا فقط.
***
الإجراءات
التي اتخذت بمقتضى الأحكام العرفية
ثم انتقلت المناقشة إلى النص الذي يقول بصدور أمر عال يقضي باعتبار
جميع الإجراءات التشريعية والقضائية التي اتخذت بمقتضى الأحكام العرفية
صحيحةً.
فقام الأستاذ لطفي بك السيد، وقال:
العادة أنه متى وجدت الأحكام العرفية وأزيلت فيجب أن يعفى عما مضى في
خلالها، وقد حدث أن جميع الدول قررت أن المسائل التي صدرت تحت الأحكام
العرفية يسدل عليها ستار تاريخي فلا تَقبل المحاكم النظر في الدعاوي التي ترفع
بسببها.
فهذا النص يفيد أنه لا يترتب للأفراد حقوق على الموظفين الذين طبقوا هذه
الأحكام.
وضرب المكباتي بك مثلاً على هذه الإجراءات بأن السلطة إذا صادرت أملاك
واحد لأجل اتفاقه مع الأعداء، ثم اشترى شخص هذه الأملاك فإن الشراء يكون
صحيحًا، ويظل صحيحًا.
وقال حضرة مصطفى بك النحاس:
المراد بالإجراءات ما أصدره القائد العام بمقتضى الأحكام العرفية لا غير
ذلك.
وسأل سائل: إذا صدر الآن مشروع قانون، ولكنه لم ينفذ إلى أن تعقد
المعاهدة، وتجتمع الجمعية الوطنية فهل يكون في مقدرة البرلمان الجديد أن يلغيه؟
فأجيب بالإيجاب.
***
تبليغ المعاهدة للدول
ثم استمر لطفي بك يشرح بقية النصوص حتى وصل إلى النص الخاص بأن
إنجلترا تبلغ الدول نص المعاهدة، فقيل له: لماذا يكون التبليغ بواسطة إنجلترا لا
بواسطة مصر؟ فأجاب: إن بين إنجلترا وبين الدول عقدًا يقضي بأن مصر في
حالة حماية، وهذا الاتفاق يلغي الحماية فيجب أن يكون التبليغ من قبلها، ومع ذلك
فليس هناك ما يمنع مصر أن تبلغ الدول من جهتها هذه المعاهدة.
***
مسألة السودان
ثم انتقل إلى الكلام في مسألة السودان فقال: كان المفهوم بيننا جميعًا والذي
أخذه الوفد على عاتقه أمام الأمة أن السودان جزء غير منفصل عن مصر، ولا
يمكن أن ينفصل عنها، وأن استقلال مصر يتمشى على السودان، وكان لدينا أدلة
كثيرة أهمها أن معاهدة السودان باطلة؛ لأنها تشبه العقد الذي يعقد بين الوصي
ومحجوره، ويجر منفعة لهذا الوصي، وقد كان صاحب الحق في عقد المعاهدة هو
سلطان تركيا ولم تكن الدول اعترفت بالاتفاقية التي عقدت في ١٩ يناير سنة
١٨٩٩، وإن كانت الامتيازات الأجنبية لم تنفذ في السودان، وبالجملة كان مركزنا
حسنًا أمام القانون، ولكننا علمنا أن نظرية الإنجليز تتلخص فيما يأتي:
أن تركيا صَدَّقت أخيرًا على معاهدة سان ريمو، وفيها أن تركيا تعترف
بالحماية الإنجليزية، وتنزل عن حقوق سلطانها على قناة السويس، وتعترف
بالمعاهدة التي عقدت بين مصر وإنجلترا سنة ١٨٩٩ فيكون صاحب الحق الأصلي
قد أجاز المعاهدة، كما أن الدول سجلت هذا ولم تعترض عليه، وأصبحت المسألة
دولية فرغ منها الكلام. ويكون من الصعب جدًّا الكلام في السودان باعتباره جزءًا
من مصر.
هذا الذي فهمناه عن نظرية الإنجليز، وقد قال لنا اللورد ملنر صراحة يجب
أن يكون مفهومًا بيننا أن استقلال مصر لا ينسحب على السودان فهو مستقل في
ذاته عن مصر على حسب أحكام الجنسية، وسيقول لنا غدًا: اخرجوا أنتم والإنجليز
لأننا لا نريد حماية، أما فيما يتعلق بالماء فنرى حقًّا وعدلاً أن يكون لمصر كل
الضمانات التي تطمئنها على ري أرضها المزروعة والتي ستزرع في المستقبل أيًّا
كانت مساحتها، ولمصر حق الأولية إذا لم يكف الماء القطرين جميعًا.
هذا ما قيل لنا فلم نشأ أن ندخل في التفاصيل لاعتبارين:
أولهما: لأن الدخول فيها إقرار للمعاهدة ونوع من التنازل عن نصف
السودان مع أن الأمة لم تتنازل، كما أن فيه شبهة مجاوزة لحدود توكيلنا.
ثانيهما: أن الدخول في مسألة الضمانات مسألة فنية تتناول كثيرًا من
الإحصاءات والمقابلات والأبحاث، لذلك تركنا المسألة من غير بحث، وأما
التأكيدات بخصوص المياه فهي بين أيدينا من حيث إنها تأكيدات وضمانات على
أولوية مصر في الماء على كل ما عداها، ولإنجلترا مصلحة في بقاء الأولوية
لمصر؛ لأنها الزبون الأكبر لنا.
ثم حدثت مناقشة واستفهامات أجاب عنها بأن سكوت مصر عن السودان في
المعاهدة يعد رضا بالحالة الحاضرة، وأن المناقشة في مسألة الضمانات لا تأتي إلا
بعد أن نسلم بمعاهدة سنة ١٨٩٩، والذي حصل أنهم اقترحوا عليها أن نتناقش معهم
في ذلك فرفضنا للاعتبارات التي وضحتها لكم.
***
النص على إلغاء الحماية
وكان الدكتور محجوب بك ثابت قد سأل عن السبب في عدم النص على إلغاء
الحماية، ثم وقف فتح الله بركات باشا وتكلم في هذه النقطة بتوسع، فأجاب لطفي
بك على هذه الاستيضاحات بقوله: يجب أن يكون مفهومًا أننا لا ندافع عن
المشروع، وإنما نعرضه عرضًا، وما سأقوله الآن داخل في تفسير المشروع.
تسألون لماذا لم ينص على إلغاء الحماية، وجوابي على ذلك أنه لا يتفق
وجود الاستقلال والحماية على بلد، فالبلد إما أن يكون مستقلاً أو محميًّا، ومع ذلك
فإني لا أرى النص على إلغاء الحماية أمرًا زائدًا عن الضرورة، وأعتقد أنه ليس
مستحيلاً إدخال هذا النص عند تحرير المعاهدة، فهذه هي المبادئ المتفق عليها فهم
يقصدون باستقلالنا أن تكون لنا السيادة في الداخل والسيادة في الخارج، وهذا
موجود في المعاهدة.
***
الاستئناس برأي الأمة
وامتناع الوفد من إبداء رأيه
ثم دارت المناقشة حول موضوع إبداء الآراء فأجاب لطفي بك: إننا شرحنا
لكم الموضوع ونحن مستعدون أن نعطيكم ما تريدون من استعلامات فوق هذا، كما
أننا سنتقبل كل الآراء والتي تبدى لنا كتابة أو تكليمًا، ونحن على استعداد لمقابلة
من يشاء ولا نريد أن نقنع أحدًا برأي ما، وأما أخذ رأي الأمة بمعناه العام فليس
هذا وقته، فلأخذ الرأي طريقتان معروفتان: أحدهما الاستفتاء العام بأن نسأل كل
شخص على حدة. والثاني: أن تكون للبلاد جمعية نيابية لها الحق في أن تتكلم
باسم الأمة، وكلا الطريقتين ليس الآن محل العمل بهما.
فليست المسألة أخذ رأي الأمة، وإنما الوفد يريد أن يستأنس برأيكم، برأي
موكليه؛ ليخلي ذمته وضميره وليتجنب أن يكون مجاوزًا حدود توكيله.
وأما أخذ رأي الأمة فيكون في الجمعية الوطنية عند عرض المشروع عليها إذا
تم ذلك.
وعلى هذا فإن ما سنعمله الآن أن نستأنس برأي الجماعات والأفراد كالجمعية
التشريعية؛ بأن نستشيرها على دفعة أو دفعتين أو ثلاث، ثم نستأنس برأي الهيئات
النيابية الأخرى، ورأي نقابة المحامين والأطباء والمعلمين والمهندسين وغيرهم.
وهنا وقف الأستاذ حسين بك هلال وطلب أن يبدي أعضاء الوفد رأيهم قائلاً:
إن الوكيل إذا عرض عليه صلح لا يأبى أن يخبر موكله برأيه في هذا الصلح.
فأجاب لطفي بك أن هذا في القضايا المدنية والتجارية، وأما القضايا السياسية
فلا، ورأي الوفد لا يفيدك شيئًا.
ثم اقترح فتح الله بركات باشا أن يحدد الوفد ميعادًا كل يوم أو يومين لتلقي
اقتراحات الأفراد والهيئات، فوافق الوفد على هذا الاقتراح، وسيعلن عن هذا الميعاد
قريبًا.
***
الثناء على الوفد وما يجب على الأمة
ثم وقف الأستاذ توفيق بك دوس فقال: إني باسم اللجنة المركزية أرد على
تحية رجال الوفد بالشكر والثناء، كما أشكر لكم جميعًا ما قمتم به من جهاد
وتضحيات بالنيابة عن الأمة، وإني أهنئكم برجوعكم إلى أوطانكم سالمين بأنكم
رجعتم وأنتم تحملون نتيجة ذلك الجهاد العظيم. ولا شك أن الأمة تقدر مركزكم كل
التقدير، فقد كنتم تتفاوضون ولا سلاح لكم إلا سلاح الحق، فإنه وإن لم يكن قويًّا
أمس، فبحمد الله وحمد ثباتكم وحمد ثبات الأمة وتأييدها لكم أصبح هذا السلاح
أقوى من كل سلاح آخر.
وأشكر لكم المجهود الذي بذلتموه في شرح المشروع، ولا شك أن إخواني
سيبحثون هذا الشرح كل بما يقدر عليه، مع تقدير الظروف المحيطة بنا، فلا يجعل
للأوهام سبيلا إلى درجة تضيع معها مصلحتنا، ويجب أن نفهم أن الأماني والآمال
شيء، وما يمكن أن نصل إليه شيء آخر.
هذا رأيي الخاص أنا وحدي أتحمل مسئوليته.
يجب أن ننظر إلى الحقائق بعينٍ، أقل ما أقول فيها بعين الخبرة واليقظة،
بعين لا تبهرها الآمال فيضيع معها نور الحق، يجب أن يدلي كل منا بحجته حتى
يتكون لديكم منا رأي تحملونه وتستعينون به على الوصول إلى أقصى ما يمكن
الوصول إليه على أساس هذا المشروع أو بإضافة ما يمكن إضافته إليه.
ولا أشك لحظة في أن كل مصري يقدر لكم مجهودكم العظيم مهما وصلنا إلى
أية درجة وصلنا إليها، وستحفظ لكم مصر صفحة بيضاء في تاريخها، وعسى الله
أن يوفق الأمة لأن تسير وراءكم في الطريق الذي يُمكِّنها من أن تنال كل حقها يومًا
ما.
وكانت الساعة في ذلك الوقت قد تجاوزت التاسعة فأعلن سعادة إبراهيم سعيد
باشا وكيل اللجنة المركزية انتهاء الجلسة) اهـ ما نشرته اللجنة.
(رأي المنار الإجمالي)
أظهر المصريون الكفاءة والاستعداد للاستقلال التام بتأليف وفدهم، وبجمع
كلمتهم على تأييده، وبإمداده بالمال الكثير للقيام بالوسائل والسعي له، وبما اتخذه
الوفد من طرق بث دعوته وإظهار حق البلاد في أوربة - وبما كان من البحث
والمذاكرة مع لجنة لورد ملنر المندوبة من الحكومة البريطانية للاتفاق معه،
وبالتكافل التام بين الوفد والأمة بثقة الأمة به وتفويضها إليه الأمر الذي وكلته به
وبالتزامه هو الوقوف عند حدود الوكالة وعدم تعديها في شيء، وبإرساله المندوبين
للاستنارة برأي الأمة في المشروع الأخير الذي قدمته لجنة الورد ملنر؛ إذا كان
الاستقلال التام فيه مقيدًا وخاصًّا بمصر، والأمة طالبته ووكلت الوفد بطلبه مطلقًا
من كل قيد، وشاملاً مصر والسودان؛ وبما فيه من حسن استقبال الأمة لمندوبي
الوفد وتأييد ثقتها به لهم؛ وبما شرح أرباب الأقلام بنشره في الصحف من نقد
مشروع الاتفاق وبيان غثه وسمينه، وإظهار عُجَرِهِ وَبُجَرِهِ، ومحاسنه ومساويه،
وفوائده وغوائله، بما يدل على النظر الثاقب والعلم والواسع بأصول القوانين وأمور
السياسة وأطوارها.
لو قبل المصريون مشروع الاتفاق الذي جاء به مندوبو وفدهم على علاته
لاعتقد العالم المدني في كل قطر أنهم لا يفهمون السياسة، ولا يستطيعون القيام
بأعباء الاستقلال السياسي، ولو ردوه إلينا بغير بحث ولا حجة إلا أنه غير ما
طلبوا لأثبتوا للعالم السياسي أنهم لما يعرفوا حال العصر الذي يعيشون فيه، وأن
مثلهم كمثل الطفل الذي إذا طلب من والديه القمر لا يعذرهما بالعجز عن تناوله
من أفق السماء ووضعه في يده، وإنما اللائق بمقام أمة بلغت رشدها واستحقت
التصرف بأمرها هو أن يوجد فيها الطرفان والوسط لكل أمر عام ولكل مسألة من
شأنها أن تختلف فيها الآراء والنظر، وهذا هو الذي ظهرت بوادره من الأمة
المصرية الرشيدة - فمن أفرادها وجماعاتها من يرفض مشروع الاتفاق ألبتة ولا
يقبل إلا الاستقلال التام المطلق من كل قيد لمصر والسودان معًا؛ وهذا ضروري
لأنه منه، ومنهم من تهلل واستبشر بالمشروع على علاته، وعدوه نجاحًا وتوفيقًا
فوق ما كان ينتظر من الدولة البريطانية التي أصبحت وأمست بعد هذه الحرب ذات
القوة الأعلى في عالم السياسة، والقوة في الحرب، والسيادة في البحار، والسعة
في المال، قد تعرت حمايتها لمصر في معاهدة الصلح الكبرى مع ألمانية ثم في
معاهدة الصلح مع الدولة العثمانية صاحبة السيادة السابقة على مصر والسودان وهذا
لا بد منه أيضًا.
وأما رأي السواد الأعظم من أفراد المصريين وجماعاتهم فهو أن القواعد
التي عرضتها لجنة لورد ملنر على الوفد المصري لتكون أساسًا لمعاهدة الاتفاق لا
تقبل على علاتها ولا تطوى على غرها، وتلف وترمى في وجه لجنة لورد ملنر أو
وجه حكومته، بل يصح أن تكون أساسًا للاتفاق بشروط توضح بعض المبهم وتبين
المجمل الذي قد يكون الاختلاف في تأويله منافيًا للمراد من الاتفاق، وزيادة ما
يضمن لأحد الفريقين سلامة استقلاله، بحيث يكون مطلب كل من الحكومتين
المتفقتين محدودًا جليًّا موافقًا لمصلحة كل منهما، وهو أن تكون مصر دولة مستقلة
بنفسها كسائر الدول، وأن تحفظ مصالح إنكلترة فيها بحيث تستفيد من هذا
الاستقلال، ولا يكون سببًا لضررها في سلم ولا حرب، وأهم ذلك حفظ مواصلاتها
البحرية والجوية بين أوربة والهند، والمبادلة العادلة في المحالفة.
وهذا الرأي هو الوسط المعتدل المعقول الذي يرجى له القبول، والرأي
الأول خير منه للبلاد لو كان ممكنًا وهو المقصد الأسمى للأمة الذي ترجو أن
يزيدها الاتفاق مع الدولة البريطانية قربًا منه، ويخشى أن يزيدها رفضه بعدًا عنه،
مع وقوع في مشكلات وكوارث لا يعلم أحد عاقبة الاصطلاء بنارها.
لا يمكن أن يتفق جميع أفراد أمة كبيرة على مشروع عام كبير مثل هذا،
فالاختلاف في مثله من السنن المطردة في الأمم، وإنما يظهر الرشد والارتقاء
وضدهما في الاختلاف، وبه تتمحص الآراء والأفكار، فما أبعد الفرق بين قوم
يختلفون في مصالح وطنهم نحو الذي ذكرنا من اختلاف المصريين، وقوم يختلفون
كاختلاف قوم آخرين كانوا يدعون أنهم أذكى من المصريين أذهانًا، وأوسع عرفانًا،
وأرقى أخلاقًا واجتماعًا، وأصدق وطنية، وأقوى عزيمة، فكان من أمر اختلافهم
في أمر وطنهم وأمتهم أن ألف أعرضهم دعوى ثلاثة أحزاب في بلد واحد لجعل
وطنهم تحت سيطرة الأجانب، وكانت المباراة بينها في تفضيل بعض الأجانب على
بعض، ولو استشاروا دهماء الأمة لوجدوا سوادها الأعظم يؤثر الحرية والاستقلال.
وإذا كان الإجماع في أمثال هذا المشروع متعذرًا فالرأي العام الذي يصح أن
يسمى رأي الأمة هو رأي أكثر العقلاء الباحثين الذين يمثلون طبقاتها المختلفة من
علماء الشرع والقوانين، وأرباب الفنون وكُتَّاب الصحف والأدباء والماليين
وزعماء الزراع والصناع وغيرهم. وهذا الذين يسمى الرأي العام هو معيار ارتقاء
الأمة فإذا كان صوابًا موافقًا للمصلحة فهو برهان على رشد الأمة، ولا يشترط في
رشدها وارتقائها الاجتماعي أن يكون أكثر أفرادها كذلك؛ فإن أكثر أفراد جميع الأمم
الراقية الشهيرة يجهلون المصالح العامة ويفوضون أمرها إلى الزعماء الذين
يقنعونهم بكفاءتهم، وحسب الدهماء من سواد الطبقات أن يحسنوا اختيار الرجال
للأمور العامة، ولما يتفق للأمة المصرية أن أحسنت الاختيار في هذا الشأن، كما
أحسنته في اختيار الوفد المصري ولا سيما رئيسه الحر المخلص المستقل الرأي
المنصف الرجاع إلى ما يظهر له أنه الحق بكل ارتياح كما جربناه بنفسنا في
مناظراتنا له وسماعنا مناظراته لغيرنا من أهل العلم والرأي.
وإذا كان العلم بالمصلحة محصورًا في أفراد قلائل في الأمة فهي غير رشيدة
ولكن يرجى لها الرشد بسعي هؤلاء الأفراد؛ إذ كانوا من أولي العبرة والإخلاص
في خدمتها والتفاني في سبيل تربيتهم وتعليمها ما تكون به رشيدة، فمن يطعن فيما
سميته رأي الأمة العام، فهو طاعن في رشدها، نكتفي بهذا التعليق الآن؛ إذ لا يتسع
هذا الجزء للشرح والإطناب في هذا الموضوع وموعدنا الجزء الآتي إن شاء الله
تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))