للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خاتمة المجلد الحادي والعشرين
باسم الله وحمده نختتم المجلد الحادي والعشرين لمجلتنا (المنار) ، وقد صدر
الجزء الأول منه بتاريخ ٢٩ ربيع الأول سنة ١٣٣٧، وهذا الجزء الأخير منه وإن
كان قد بُدِئ بتحريره في أواخر شهر ذي الحجة سنة ١٣٣٨ وجعل تاريخه آخر أيام
هذا الشهر الذي ينتهي به هذا العام - لا يصدر إلا في أواخر شهر صفر من سنة
١٣٣٩، فعلى هذا يكون هذا المجلد المؤلف من عشرة أجزاء قد صدر في مدة ٢٣
شهرًا، ونكون قد أضعنا من عمر المنار سنة كاملة في زمن الحرب، وسنة أخرى
في عهدي الهدنة والصلح اللذين كانت فتنهما وبلاياهما أعظم من فتن ما قبلهما.
أما السنة الأولى فقد تعمدنا إدماجها في سني الحرب وَبَيَّنَّا أن سبب ذلك مالي
اقتصادي، وأما السنة الأخرى وهي الأخيرة فقد كان سبب إضاعتها رحلتنا إلى
سورية ومكثنا فيها سنة كاملة مضطرين غير مختارين، واهتمامنا بعد العودة في
إصلاح ما اختل من أمر المطبعة في بضع سنين فقد سافرت إلى سورية في السابع
عشر من شهر ذي الحجة الحرام سنة ١٣٣٧ ناويًا أن أقيم فيها شهرًا واحدًا،
وعدت إليها في ١٩ ذي الحجة سنة ١٣٣٨ فكان من المقضي عليَّ أن أقيم فيها سنة
كاملة كنت في أكثر أيامها عاجزًا عن العودة إلى مصر، وكان هذا العجز في
أوائل هذه السنة وفي آخرها بأسباب لا أملك دفعها مع السعي إليه (وسأبين ذلك في
الرحلة السورية إن شاء الله تعالى) .
ولما خرجت من القاهرة كان الجزء الخامس من المنار المؤرخ في غاية ذي
القعدة من تلك السنة قد طبع معظمه ومادة الجزء السادس موجودة مُعَدَّة للطبع ولكنهما
صدرا بعد عدة أشهر من بدء سفري مطبوعين طبعًا رديئًا جدًّا، كثيري الغلط،
وبعد أشهر أخرى صدر الجزء السابع فكان أحسن طبعًا وهو مفتتح بمقالة كتبتها في
بيروت في شهر المحرم ١٣٣٨ وأرسلتها إلى مصر في منتصف ربيع الأول مع
أحد المسافرين إليها فهذه الثلاثة الأجزاء هي كل ما صدر من المنار، وأرسل إلى
سورية وأنا فيها في مدة سنة كاملة، ولما عدت وجدت الجزء الثامن قد طبع أيضًا
وبدئ بطبع الجزء التاسع الذي كنت كتبت له التفسير وغيره في الشام منذ عدة
أشهر وأرسلته إلى مصر في البريد.
وبعد استراحة بضعة أيام عزمت على إصدار الجزئين التاسع والعاشر معًا في
شهر المحرم من سنة ١٣٣٩ وإصدار الجزء الأول من المجلد الثاني والعشرين فيه
أيضًا، وشرعت في تحريره، وفي تجديد ما خلق أو بلي من أدوات المطبعة
وشراء حروف جديدة لها، وتكثير العمال فيها، فعرض موانع حالت دون إنجاز
العمل (منها) الاضطرار إلى إتمام كتابيين كان قد طبع أكثرهما، وإلى الشروع
في طبع كتاب ديني عهد إلى المطبعة بطبعه في أثناء سفري ولم يتيسر لها الشروع
فيه لما يحتاج إليه طبعه من النظام والتصحيح والمقابلة على النسخ القديمة (ومنها)
وهو أهمها أن بعض العمال قد خرجوا من المطبعة بإغراء سماسرة السوء.
وقد سبب اختلال أمر المطبعة في أثناء الحرب وامتداده إلى هذه الأشهر من
الأواخر من هذه السنة أنها كانت كالمعلقة لا عمل فيها يبعث ربحه على العناية ولا
يمكن إقفالها وتعطيلها؛ لأن المنار يطبع فيها، وكانت النفقة عليها أضعاف ما يأتي من
المشتركين فيه لما بيناه في السنين السابقة، وهو علة عدم إرجاعه إلى حجمه الأول
ولا سيما مع بقاء غلاء الورق.
ذلك عهد قد انقضى بأرزائه وخسائره، ونحمد الله على السلامة من غوائله،
ثم على الدخول في عهد جديد نرجو أن يكون خيرًا مما سبقه من سني الرخاء
والسعة، وإن كان العالم كله لا يزال يشكو غلاء كل شيء، من مواد المعيشة
والصناعة، والزراعة، وما يتبع ذلك من غلاء الأجور واعتصاب العمال، فإننا نقرأ
في وجه هذه العسرة العامة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح: ٥-٨) .
فما من نوع من أنواع هذا العسر إلا وينهزم أمام يسرين يتبعانه، فقد كان ثمن
ورق الطبع زاد في زمن الحرب على ما كان عليه قبلها ١٥ ضعفًا أو أكثر وهو
على غلائه اليوم حتى في معامله في أوربة قلما يزيد على خمسة أضعاف، ولدينا
في المطبعة الآن كتب كثيرة قد عهد إلينا بطبعها منها الصغير والوسط والكبير الذي
يزيد على عشر مجلدات، فالدواعي متوفرة على توسيع عمل المطبعة وإتقانها
وإتقان طبع المنار وإصداره في أوقاته.
وسنعيد المنار في كل جزء من أجزاء المجلد الثاني والعشرين إلى حجمه
الأول، فيكون عشرة كراريس، وقد ابتعنا له ورقًا من أجود الورق، وسيكون
معظمه من الحرف الجديد الذي تكون به مادته أوسع، وسنُعنى بهذه المادة إن شاء
الله تعالى.
الدعوة إلى الانتقاد على المنار:
إننا ندعو جميع من يطلع على المنار من علماء الدين وغيرهم من أهل العلم
والرأي أن يكتبوا إلينا بما يرون فيه من الخطأ في المسائل الدينية وغيرها، أو ما
ينافي مصلحة أمتنا وأوطننا التي نعيش فيها، ونعد المنتقدين بنشر كل ما يرسل
إلينا من نقد مع بيان رأينا فيه بشرط أن يكون النقد مختصرًا مؤيدًا بالدليل نزيه
العبارة كما فصلنا ذلك في المجلد السابع عشر وما قبله من المجلدات؛ فيراجع في
فواتحها أو في خواتيمها.
ونُذكِّر عامة قراء المنار بأن يطالبوا كل من يسمعون منه انتقادًا في المنار
بكتابته وإرساله إلى صاحبه لينشره فيه، فيطلع قراؤه عليه وعلى ما يقرن به من
قبول أو رد، ويأخذوا بما يرونه الحق، وإلا خيف أن يبقى من لا يعرفون ذلك
الخطأ على ضلالهم، وهذا لا يرضي من هو واثق من صحة انتقاده مخلص فيه.
وليعلموا أن كل منتقد يأبى أن يكتب انتقاده ويرسله إلينا فهو فاسق مغتاب، أو
جاهل مرتاب، دعاه الحسد أو حب الشهرة الكاذبة إلى الطعن فاستجاب، ومن كان
هكذا فهو مأزور وإن فرض أنه أصاب، وأما من اجتهد وهو حسن النية فأخطأ فله
أجر، ومن اجتهد كذلك وأصاب فله أجران، كما ورد في الحديث، فنسأل الله
تعالى أن يجعلنا من المجتهدين المخلصين، وأن يوفقنا للصواب ويثيبنا أفضل ما
أثاب المتقين وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.