للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فاتحة المجلد الثاني والعشرين

بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله
غيرك، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فنحمدك بما حمدت به
نفسك في كتابك، ونصلي ونسلم على أنبيائك ورسلك {الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ
الَّذِينَ اصْطَفَى} (النمل: ٥٩) وتحياته المباركات وصلواته الطيبات على خاتم
رسله محمد المصطفى، وآله المطهرين وأصحابه الحنفا، وعلى من اتبع هديهم
واقتفى {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ} (القصص: ٧٠) .
سبحانك اللهم وبحمدك، حكمت فعدلت، وقدرت فهديت، وانتقمت فقهرت،
فلك الحمد في السراء والضراء وحين البأس، لا قنوط من رحمتك ولا يأس،
فأسألك من رحمتك العامة للعالمين، ومن رحمتك الخاصة للمسلمين، ووفقني اللهم
للقيام في هذا المنار بالنصيحة الحق، النافعة لكل من بلغته من الخلق، ووفق اللهم
أئمة هذه الأمة وأمراءها، وقادتها وزعماءها إلى ما تخرجها به من ظلمات هذه
الفتن إلى النور الفائض من مطالع آياتك البينات، المنبسط شعاعه على الخلق
بسننك في سير البشر ونظام الكائنات، ليعلموا أن الغلو في الدين، مضيعة للدنيا
والدين، وأن الغرور بالدنيا مهلكة للمغرورين، وأن سنة الله تعالى في رد الفعل
إلى سواء الصراط، يتعاقب في سبيله التفريط والإفراط، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ
آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: ٩٣) .
سبحانك الله وبحمدك، أريتنا من آياتك في أنفسنا وفي الآفاق ما يتبين به
الحق، لمن زكت فطرته واستنارت بصيرته من الخلق، فوفقنا لمعرفة ما نراه منها
في هذا الزمان، معرفة اعتبار وحكمة وإيمان، كما وفقت لذلك آباءنا الأولين،
وسلفنا الصالحن؛ لنكون كما كانوا من الأئمة الوارثين، الجامعين بين سيادة الدنيا
وهداية الدين، إذا أوغلنا في الدين نوغل برفق فلا نغلو غلو المغرورين، وإذا
حكمنا بين الناس نحكم بالعدل فلا نعلو علو الجبارين، وإذا تصرفنا بما أحللت لنا
من الزينة والطيبات من الرزق نتصرف تصرف الشاكرين، فلا نستأثر بالنعمة
أثرة المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ
يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} (النحل: ٨٣) .
سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا آياتك فإن جحدها أقوام فقد عرفناها وما نحن
لها بجاحدين، وعرفتنا نعمتك فإن يكفر بها الأكثرون فما نحن بها بكافرين، وقد
أنزلت عقابك الحق بالباغين الجبارين، وبالمترفين المسرفين، وبمن ذل لكبريائهم
ودان لطغيانهم من الجاهلين المفرطين، فاجعل اللهم ذلك عبرة وموعظة لنا، ولا
تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، فقد آن أن يستدير
الزمان، ويتجدد إعجاز القرآن، فيتوب الفاسقون، ويوقن المرتابون ويؤمن
الجاحدون {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *
فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ
يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: ١-٧) .
سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا من جهل أعلم الناس بشؤون خلقك، ما أقمت
به الحجة البالغة على صدق قولك وإحاطة علمك، فقد غلب الروس الذين كانوا
يعدون الخطر الأكبر على الإسلام، كما غلبت الروم في عهد ظهور النبي - عليه
الصلاة والسلام -، ثم غلبت الشعوب الجرمانية، وظهر جهلها بما كانت به أعلم
الشعوب من الفنون الحربية، ثم ظهر جهل أعلم الأقوام بجمع الثروة وحفظ المال
فكانوا من الخاسرين، وظهر جهل أعلم الأمم بشؤون الإدارة والاستعمار فكانوا من
الخائبين {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا
يَسْتَهْزِءُونَ} (الروم: ١٠) .
سبحانك اللهم وبحمدك أنت الواحد القهار، مكور النهار على الليل ومكور
الليل على النهار، الكبرياء رداؤك، والعظمة إزارك، من نازعك فيهما قصمته،
وقد صرفت عن آياتك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، مغترين بما
استدرجتهم به من شدة القوة وسعة الرزق، فلم يعتبروا بما حل من قبلهم ممن كانوا
أشد منهم قوة، ولم يتعظوا بما أنزلت من آيات الوحي وشرعت من هدي النبوة،
واجعل ذلك تربية للمستضعين المتفرقين، وقهرك إياهم سلامًا ورحمة لجميع
العالمين، يعلو بها الحق على الباطل، ويقضي بها العدل على الظلم، ويغلب
القصد والاعتدال والإيثار، على السرف والأثرة والاستكبار، فقد ضاق البشر ذرعًا
بطمع الأغنياء المسرفين، وطغيان الرؤساء الجبارين، الذين طغوا في البلاد
فأكثروا فيها الفساد، واستكبروا على العباد فاستعبدوا الجماعات والشعوب للأفراد،
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم
بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ *
أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأعراف: ٩٧-١٠٠) .
لقد أَنْذَرْنا أكابر الساسة في مثل هذه الفاتحة منذ عامين، أن ترك تنفيذ قواعد
العدل العام وحرية الأمم لا بد لها من إحدى العاقبتين، بقولنا: إن لا تفعلوه تكن
فتنة في الأرض وفساد كبير، وانقلاب بلشفي شره مستطير، أو تعود الحرب
جذعة، بهذه السياسة الخُدَعة الخُبَاة الطلعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: ١٠) ، {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ
يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (فاطر: ٥) ، وقد صدقت الآيات ولم تغن النذر، واتبع
المنذرون أهواءهم وكل أمر مستقر، فهذه الأرض تضطرم بنيران الفتن والفساد،
والانقلاب البلشفي كل يوم في ازدياد، وإنما هو شر على منهومي المال، ومستعبدي
الأقوام ومذلي الأقيال، وقد يشقى ناس فيسعد بشقائهم آخرون، وتثل عروش قرى
عاتية فيرثها قوم آخرون {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي
الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ
رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: ٣٢-٣٣) .
إن الناس لن يكونوا أمة واحدة، ولن تخضع الأمم منهم لأمة واحدة، ويا أيها
المثرون المترفون والرأسماليون الطامعون، إن طلب الزيادة ينتهي بالوقوع في
النقصان، وإن السواد الأعظم من البشر لا يرضى أن يكون عبدًا خادمًا لأفراد من
الأعيان، وإن سنة رد الفعل سيكون لها القول الفصل، والحكم العدل، ولكن
المجرمين يرون العدل عقابًا والمساواة بين الناس عذابًا، فكيف إذا سبقه الجزاء
على الظلم السابق، والإفراط الماحق، وكان تنفيذه على المعاندين، بمثل القسوة
التي كانوا يسومونها الضعفاء المساكين؟ وإن تبتم قبل أن يحاط بكم فهو خير لكم
{لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: ٢٧٩) {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى
وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأحقاف: ٢٧) .
وأنت يا أيتها الأمة الأمية التي عاودها الارتكاس في عصبية الجاهلية، إلام
هذا التفرق والانقسام، بعد تلك السعادة بالوحدة والاعتصام؟ وحتام تلدغين من
الجحر الواحد مرارًا عديدةً، وقد حذرت من المرتين، وسمعت النذر بالأذنين،
ورأيت العبر بالعينين، ولمست العواقب باليدين؟ وإلى متى تغترين بالمظاهر
والألقاب، وتدعين الفرص تمر بك مر السحاب؟ تداعت عليك الأمم كما أخبرك
النذير؛ إذ كان لهم منك أي ولي وظهير، ورأيت الذين في قلوبهم مرض يسارعون
فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة. وابتغوا عندهم العزة والثروة، فكانت كرتهم
الخاسرة؛ لأنهم خسروا بولايتهم الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وإن
كانوا عنه لمن الغافلين {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ
فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: ٥٣-٥٦) .
فيا قوم إني لكم ناصح أمين، على علم بالحق المبين من هداية القرآن، وأحوال
الزمان، أن لا تعبدوا إلا الله، ولا تيأسوا من روح الله {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا
فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (هود: ٣) أخاف عليكم عذاب يوم القيامة
الأولى، قبل عذاب يوم القيامة الأخرى، يوم الخزي والنكال، بفقد بقية الاستقلال،
فقابلوا أولياء الشيطان، بما أمركم به الرحمن، من غير تحريف ولا تصحيف في
القرآن، ولا تغرنكم أيمان أئمة ليس لهم إيمان، ولا يصدنكم عن آيات الله سبب ولا
نسب، ولا رغب ولا رهب، ولا ورق ولا ذهب، فقد برح الخفاء وانكشفت الظلمة،
فلا يكن أمركم عليكم غمة {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: ١٣٥) .
وما لي لا أخص بالتذكير قومي وعشيرتي، بعد التذكير العام لجميع شعوب
أمتي، بما يشد أسر الجماعة ويضع عنها إصرها، ويحكم أواصر الجامعة ويرفع
لها ذكرها، وهم لا يزالون أشد تلك الشعوب تخاذلاً وتواكلاً، وأضعفهم تعاونًا
وتكافلاً، وأكثرهم تباغيًا وتفاشلاً، وتماحكًا وتماحلاً، وأقلهم تحالفًا وتناصرًا،
وتظافرًا وتظاهرًا، اتحد مسلمو مصر مع القبط فيما يفيد في الدنيا ولا يضر بالدين،
وتعاون مسلمو الهند كذلك مع الوثنيين، وتناصر مسلمو الترك مع الروس أعدى
أعدائهم الأولين، ولكن تعذر الاتفاق في الجزيرة بين أبناء الدين الواحد، واللغة
الواحدة والوطن الواحد، كما تعذر الاتحاد في قطر آخر بين السهل والجبل، بل
بين بلد وبلد، ولولا أن هذه الأمة مرحومة لأبسلت بذنوبها، وهلكت بتفريطها في
أمرها، ومن رحمة الله بها أن باب التوبة لا يزال مفتوحًا في وجهها، وأن مسالك
النجاة ما فتئت مرجوة لها، فما عليها إلا أن تأتي البيوت من أبوابها، وتطلب
المسببات من أسبابها، بتغيير ما أوقعها في سابق غرورها، والتواكل في أمورها،
والاتكال على أيمان مبيرها {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ * إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} (الأنفال: ٥٣-٥٦) فتدبروا سائر الآيات
وأنتم لا تظلمون {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: ٢٠) .
استدار الزمان، ووقع من التطور الاجتماعي ما لم يكن في الحسبان، وسيندك
ما بقي من صروح الاستبداد، وينطلق سائر المستعبدين من مقاطر الاستعباد،
بفضل التظافر والتظاهر والاتحاد، وإنما الذل والهوان، والخزي والخذلان،
والبغي والعدوان، على أهل النفاق والدهان، والمتفرقين في المذاهب والأديان،
والمتعادين في الزعامات والبلدان، والمغرورين بالعهود والأيمان، والقوانين
وحقوق الإنسان، والمخدوعين بكلم العدل والمدنية، والمساواة والحرية، والرحمة
الإنسانية، وإنما المعاهدات حجج الأقوياء على الضعفاء، ولا وجود للعدل
والمساواة، إلا حيث العجز عن الظلم والمحاباة، ولا حق في الحرية ولا في
الرحمة، إلا لذوي الأيد والحرمة، والعاقل لا يظلم فكيف إذا كان أمة [١] ؟ على أن
قاموس السياسة تكثر فيه أسماء الأضداد، فلا تنافي فيه بين التحرير والاستعباد،
ولا تضاد بين الحماية والاستقلال، ولا تناقض بين الإساءة والإحسان، ولا
تعارض بين الكفر والإيمان {يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
يَكْتُمُونَ} (آل عمران: ١٦٧) ، {كيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ
وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: ٨) .
تبًّا للمنافقين المتملقين، وسحقًا للتائبين المستسلمين، وبعدًا للفاسقين الخائنين،
وطوبى للراجين العاملين، فرب خوف أعقب الرجاء، ورب عداء انتهى بولاء
{وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٢١٦) .
... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا