للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاتحاد والاقتصاد

كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، ميزان سياسة الأمم ونظام
الاجتماع، كثر في هذا العصر تشدق الخطباء بذكرهما، وشرح الكُتاب لفوائدهما،
ولما يفقه الدهماء حقيقة معناهما، بل لما يُحط أكثر العلماء والزعماء منا خبرًا بهما؛
لأن فقه الحقائق وإحاطة الخبر لا يحصلان إلا بطول التجارب في الحوادث،
والاصطلاء بنيران الكوارث، بعد تلقي الحكمة بالتعليم، والتربية على سلوك
الصراط المستقيم.
كنا منذ أنشأنا المنار في أواخرسنة ١٣١٥ للهجرة قد جعلنا أهم ما ندعو إليه
القراء في مصر وسائر البلاد أن يجعلوا جل عنايتهم في إصلاح شؤونهم بالتربية
الملية التي تكوّن أمة متحدة، والاقتصاد الذي تكون به الأمة غنية تتصرف بثروتها
في القيام بمصالحها كما تشاء، بثثنا هذه الدعوة في (المؤيد) في ذلك العهد؛ إذ كنا
نكتب فيه مقالات بإمضاء (م. ز) وبغير إمضاء، ثم أعدنا بثها في (الجريدة) في
أول العهد بظهورها في مقالة عنوانها: (إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج)
نشرناها أيضًا في الجزء الثاني للمجلد العاشر من المنار الذي صدر في صفر سنة
١٣٢٥.
ونحمد الله تعالى أن رأينا في هذه السنين آيات الاتحاد في هذه البلاد العزيزة،
ورأينا من نتائجه قرب الحصول على الاستقلال الذي نعتقد أنه لا ينال إلا به، بل
نقول: إن الاتحاد بغير استقلال خير من الاستقلال بغير اتحاد؛ لأن الاتحاد يأتي
بالاستقلال المفقود، وفقده يذهب بالاستقلال الموجود، فالواجب الآن على كل
مصري أن يكون أحرص على تعزيز الاتحاد والتكافل الذي وقع منه على نيل
الاستقلال الذي يرجى به ويتوقع، فإن الاتحاد إذا ثلم وانفصمت عروته قبل بدو
صلاح ثمرته نفضت الشجرة، أو خرجت الثمرة شيصًا لا غناء فيها، وإذا انتكث
فتله بعده، زال أثره بزواله، فإذًا لا استقلال ابتداءً ولا بقاء إلا بالاتحاد.
ولما كان لكل كثرة دائرة منظمة جهة وحدة تضبطها وتعرف بها، وكان الوفد
المصري هو عنوان الاتحاد الذي ارتقت إليه البلاد وممثله، وجب على الشعب
المصري المتحد أن يظل متمسكًا بحبله معتصمًا بعروته، ولا سيما بعد الذي ظهر
من كفاءته وأمانته، وإلا كان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وناهيك به
جهلاً وأفنًا وخسرانًا.
ثم ليعلم علم تدبر أنه لا قوام لاستقلال الأمم وحريتها إلا بالثروة، ولا ثروة
إلا بالاقتصاد، وأن الاقتصاد السياسي، متوقف على الاستقلال الاقتصادي، ونحن
مقصرون في سبيل هذا الاستقلال تقصيرًا إذا لم نبادر إلى تداركه كنا من الهالكين.
إن للكسب والإنفاق علومًا وفنونًا اتسع نطاقه في هذا العصر اتساعًا عظيمًا؛
لأنها قطب الرحى لمدنية الأمم والشعوب وعزتها ورفاهتها وسيادتها، وقد برّزت
بها الأمم الشمالية الغربية، فاستعمرت أو استعبدت به الأمم الشرقية والجنوبية،
حتى ظن كثير من القاصرين أن الشعوب والأجناس أو الأقاليم الغربية، أعظم
استعدادًا بطبيعة العرق وخاصية الجنس من الشعوب الشرقية، ويبطل هذا القول ما
هو معلوم من أن اليهود أرقى أهل الأرض في جميع هذه العلوم والفنون والأعمال
والمترتبة عليها، أينما وجدوا وحيثما حلوا من أقطار الأرض، وهم شعب شرقي
محافظ على نسبه ودمه، وكذلك الشعب الياباني في الشرق الأقصى قد جارى
الغربيين فيها من عهد قريب.
ولكن الأمر الغريب أن المسلمين في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا
يزالون مقصرين في هذا المضمار، وبهذا التقصير أضاعت أكثر دولهم ملكها،
وأمسى الباقي لها بين براثن الخطر، ويضيع أكثر أفرادهم ملكهم في البلاد التي
يزاحمهم فيها غيرهم، فإن كان جل ثروة مصر وسورية والعراق لا يزل بيدهم،
فما ذلك من كسبهم بعلومهم وفنونهم، وإنما ذلك إرث رقبة الأرض تسلسل فيهم؛
لأنهم أكثر السكان المالكين لها، فهذه مصر أقدر البلاد العربية على اقتباس العلوم
والفنون المالية وغيرها، وأكثرها نفقة عليها نراها مقصرة في هذا الاقتباس، فجميع
من يعيش فيها من الشعوب الأوربية واليونانيين والسوريين يفوقون المصريين في
العلوم والفنون المالية الاقتصادية، وفي إدارة المال بالتجارة وغيرها، وفي
الاقتصاد وحفظ الثروة من التبذير والضياع، بل القبط من المصريين يفوقون
المسلمين في ذلك عملاً، وثروتهم النسبية تفوق ثروة المسلمين، وأكثر أعمال
الحكومة المالية في أيديهم وأيدي الأوربيين والسوريين، بل أكثر المسلمين يعتمدون
على كتبهم في إدارة ثروتهم على أن المسلمين أشد إسرافًا في الإنفاق وتبذير الأموال
منهم ومن سائر الشعوب التي نعرف أحوالها.
من فطن لهذا من علماء الاقتصاد يعلله بادي الرأي بأن الدين الإسلامي هو
السبب في الأمرين، وهذا التعليل يضاهي في البطلان تعليل من عساه يقول: إن
الدين المسيحي هو سبب ثراء نصارى الغرب وسعة عيشهم وشدة سطوتهم
وجبروتهم، والحق أن كلاًّ من النصارى والمسلمين مخالف لهدي دينه ونصوص
كتابه في الأمرين، فالإنجيل يهدي إلى المبالغة في الزهد والقناعة والتواضع
والخضوع لكل سلطان، وينص على أن الغني لا يدخل ملكوت السماوات،
والإسلام دين سيادة واقتصاد، وجمع بين مطالب الروح والجسد، كما بينا ذلك
وفصلناه مرارًا كثيرة، ومن نصوصه فيما نحن بصدده قوله تعالى في أوائل سورة
النساء: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: ٥) ؛
أي: جعل عليها مدار قيام مصالحكم ومرافقكم وحفظها وثباتها، وقوله في صفات
المؤمنين من أواخر سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ
بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: ٦٧) ، ونهى في وصايا سورة الإسراء عن المبالغة
في قبض اليد وبسطها في الإنفاق، وعن التبذير وسمى المبذرين إخوان الشياطين،
وهذه الوصايا هي أمهات أصول الدين وفضائله وآدابه، وهي تشمل الوصايا العشر
التي في التوراة ما عدا بطالة يوم السبت وتزيد عليها، وفي السنة وصايا وأحكام
كثيرة في ذلك.
فالمسلمون مخالفون لدينهم فيما اعتادوا من الإسراف في النفقات، وهذا إذا
كانت فيما أبيح لهم من الزينة والطيبات، فكيف إذا كانت في المحرمات؟ ولا سيما
الفواحش الثلاث المفسدات للفطرة المخربات للديار؛ السُكْر والزنا والقمار، وهم
على هدمهم بذلك لدينهم يهدمون كل ما يبنى من صرح استقلالهم، وإنني لم أر ولم
أسمع من أخبار البشر أن شعبًا منهم يعادي النقد الذي هو ميزان الأعمال والقوة في
الاجتماع البشري كالشعب المصري، فالمصري أسرع الناس بذلاً لما يصل إلى يده
من النقد، فالمتمتعون بالزينة واللذات ينفقون في سبيلهما ما تصل إليه أيديهم من
كسب وقرض، ولو بالربا الفاحش، وغير المتمتعين يشترون بما تصل إليه أيديهم
من كسب وقرض بالربا أرضًا أو عقارًا، ولا يبالي أكثر الفريقين أن يشتري
الشيء بأضعاف ثمنه، وإن استدان الثمن بالربا الفاحش؛ لأن النقد أحقر الأشياء
في نظره، ولذلك ترى أكثر المصريين على سعة ثروتهم الزراعية مرهقين بالدين،
فيجب على الزعماء والعلماء والخطباء وكتاب الصحف أن يتعاونوا على درء هذا
الخطر بوسيلتي العلم والعمل، وإلا ظل المنتجون منهم كالأجراء الأجانب؛ لأن
جل ما ينتجون يتسرب إلى صناديق المصارف المالية ومنائر المرابين وجيوب
أصحاب الحانات والمواخير وموائد القمار وتجار عروض الزينة والترف، وبعبارة
أخرى أن جل ثروة البلاد تخرج منها إلى البلاد الأجنبية.
ومن الضروري أن يبادروا إلى تأليف جمعية اقتصادية يكون من أعمالها
إرسال بعض الطلاب المستعدين إلى معاهد العلم في أوربة لأجل الأخصاء في علم
الاقتصاد السياسي وسائر الفنون المالية والصناعات الضرورية، ولا سيما الغزل
والنسيج، ثم جعلهم معلمين لهذه الفنون والصناعات وعاملين بها، والاستقلال
المنتظر يزيل إن شاء الله ما كان من الموانع دون مثل هذا، وإنني رأيت في الهند
معامل عظيمة للمنسوجات الأوربية - دع المنسوجات الوطنية الخاصة بأهل البلاد -
وجميع عمال هذه المعامل من الوطنيين، إلا أنني رأيت في معمل كبير في
بمباي رجلين من الإنكليز وظيفتهما اختيار نقوش النسيج، ويكون أهم أعمال هذه
الجمعية وشعبها تعميم النقابات الزراعية في البلاد وتأليف الشركات للمشروعات
الاقتصادية المختلفة، ويكون منها السعي لإرشاد جمهور الأمة إلى الاقتصاد،
وجعل ثروة البلاد قوة لها، وضمانًا لاستقلالها بنفسها وحريتها في التصرف
بثروتها.