للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي


تاريخ فنون الحديث
(٢)
إفراد الحديث بالتأليف من مبتدأ القرن الثالث
في أول هذا القرن أخذ رواة الحديث في جمعه طريقة غير التي سلفت؛ فبعد
أن كانوا يجمعونه ممزوجًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، أخذوا يفردونه بالجمع
والتأليف، ثم من أئمة الحديث من جمع في مصنفه كل ما روي عن الرسول -
صلى الله عليه وسلم - من غير تمييز بين صحيح وسقيم، ومنهم من أفرد الصحيح
بالجمع؛ ليخلص طالب الحديث من عناء السؤال والبحث، وكان أول الراسمين
لتلك الطريقة المثلى شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري، فجمع في كتابه
المشهور ما تبين له صحته، وكانت الكتب قبله ممزوجًا فيها الصحيح بالعليل بحيث
لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته
والوقوف على سلامته من العلل، فإن لم يكن من أهل البحث، ولم يظفر بمن يتعرف
منه درجته بقي ذلك الحديث مجهول الحال عنده، واقتفى أثر البخاري في ذلك
الإمام مسلم بن الحجاج القشيري وكان من الآخذين عنه، ثم ارتسم خطتهما كثيرون.
وإن ذلك القرن الثالث لأجلّ عصور الحديث وأسعدها بخدمة السنة، ففيه
ظهر كبار المحدثين وجهابذة المؤلفين وحذاق الناقدين، وفيه أشرقت شموس الكتب
الستة التي كادت لا تفلت من صحيح الحديث إلا النزر اليسير، والتي عليها يعتمد
المشرعون، وبها يعتضد المناظرون، وعن محياها تنجاب الشبه وبضوئها يهتدي
الضال، وببرد يقينها تثلج الصدور.
وبانسلاخ هذا القرن يكاد يتم جمع الحديث وتدوينه، ويبتدئ عصر ترتيبه
وتهذيبه، وتسهيله على رواده وتقريبه.
وقبل أن نأتي على المشهور من كتب السنة في هذا القرن نعقد فصلاً نكشف
فيه عن طرق التصنيف في الحديث حتى نكون على بينة من تأليفه:
طرق التصنيف في الحديث
للعلماء في تصنيف الحديث وجمعه طريقتان (إحداهما) التصنيف على
الأبواب، وهو تخريجه على أحكام الفقه وغيره، وتنويعه أنواعًا، وجمع ما ورد في
كل حكم وكل نوع في باب بحيث يتميز ما يتعلق بالصلاة مثلاً عما يتعلق بالصيام،
وأهل هذه الطريقة منهم من اقتصر على إيراد ما صح فقط كالشيخين، ومنهم من لم
يقتصر على ذلك كأبي داود والترمذي والنسائي، (ثانيتهما) التصنيف على
المسانيد، وهو أنه يجمع في ترجمة كل صحابي [١] ما عنده من حديثه سواء كان
صحيحًا أو غير صحيح، ويجعله على حدة وإن اختلفت أنواعه، وأهل هذه
الطريقة منهم من رتب أسماء الصحابة على حروف المعجم كالطبراني في المعجم
الكبير، والضياء المقدسي في المختارة التي لم تكمل، وهذا أسهل تناولاً، ومنهم
من رتبها على القبائل فقدم بني هاشم، ثم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في النسب، ومنهم من رتبها على السبق في الإسلام، فقدم
العشرة ثم أهل بدر، ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم
من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنًّا، وختم بالنساء، وقد سلك ابن حبان في
صحيحه طريقة ثالثة مرتبة على خمسة أقسام وهي: الأوامر، والنواهي، والأخبار،
والإباحات، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ونوع كل واحد من هذه الخمسة
إلى أنواع، والكشف في كتابه عسر جدًّا، وقد رتبه بعض المتأخرين على الأبواب،
وعمل له الحافظ أبو الفضل العراقي أطرافًا [٢] ، وجرد الحافظ أبو الحسن
الهيتمي زوائده على الصحيحين في مجلد.
ولهم في جمع الحديث طرق أخرى (منها) جمعه على حروف المعجم،
فيجعل مثلاً حديث: (إنما الأعمال بالنيات) في حرف الألف، وقد جرى على
ذلك أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، وابن طاهر في أحاديث كتاب الكامل
لابن عدي، (ومنها) جمعه على الأطراف، وذلك بأن يذكر طرف الحديث، ثم
يجمع أسانيده إما مع عدم التقيد بكتب مخصوصة أو مع التقيد بها، وذلك مثل ما
فعل أبو العباس أحمد بن ثابت العراقي في أطراف الكتب الخمسة.
ومن أعلى المراتب في تصنيف الحديث تصنيفه معللاً؛ بأن يجمع في كل
حديث طرقه واختلاف الرواة فيه، فإن معرفة العلل أجلّ أنواع علم الحديث، وبها
يظهر إرسال بعض ما عد متصلاً، أو وقف ما ظن مرفوعًا، وغير ذلك من الأمور
المهمة، والذين صنفوا في العلل منهم من رتب كتابه على الأبواب كابن أبي حاتم
وهو أحسن لسهولة تداوله، ومنهم من رتب كتابه على المساند كالحافظ الكبير
يعقوب بن شيبة البصري [٣] ، فإنه ألف مسندًا معللاً غير أنه لم يتم، ولو تم لكان
في نحو مائتي مجلد، والذي تم منه مسند العشرة والعباس وابن مسعود وعتبة
بن غزوان وبعض الموالي وعمار، ويقال: إن مسند علي منه في خمس مجلدات.
ويقال: إنه كان في منزله أربعون لحافًا أعدها لمن كان عنده من الوراقين الذين
يُبيضون المسند، ولزمه على ما خرج من المسند عشرة آلاف دينار (خمسة آلاف
جنيه مصري تقريبًا) قال بعض المشايخ: إنه لم يتم مسند معلل قط.
هذا، وقد جرت عادة أهل الحديث أن يفردوا بالجمع والتأليف بعض الأبواب
والشيوخ والتراجم والطرق.
أما الأبواب، فقد أفرد بعض الأئمة بعضها بالتصنيف كباب رفع اليدين في
الصلاة، أفرده البخاري بالتصنيف، وباب القضاء باليمين مع الشاهد أفرده
الدارقطني بالتصنيف، وأما الشيوخ فقد جمع بعض العلماء حديث شيوخ
مخصوصين كل واحد منهم على انفراده، فجمع الإسماعيلي حديث الأعمش، وجمع
النسائي حديث الفضيل بن عياض، وأما التراجم فقد جمعوا ما جاء بترجمة واحدة
من الحديث كمالك عن نافع عن ابن عمر، وكسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي
هريرة.
وأما الطرق فقد جمعوا بعض طرق الأحاديث، كحديث قبض العلم؛ جمع
طرقه الطوسي، وحديث (من كذب علي متعمدًا) جمع طرقه الطبراني وغير ذلك.
***
كتب السنة في القرن الثالث
أشهر الكتب في القرن الثالث: صحيح البخاري [٤] ، وصحيح مسلم [٥] ، وسنن
أبي داود [٦] ، وسنن النسائي [٧] ، وجامع الترمذي [٨] ، وسنن ابن ماجه [٩] ، ومسند
الإمام أحمد بن حنبل [١٠] ، والمنتقى في الأحكام لابن الجارود [١١] ، ثم مصنف ابن
أبي شيبة [١٢] ، وكتاب محمد بن نصر المروزي [١٣] ، ومصنف سعيد بن منصور [١٤]
، وكتاب تهذيب الآثار لمحمد بن جرير الطبري [١٥] ، وهو من عجائب كتبه، ابتدأ
فيه بما رواه أبو بكر الصديق وتكلم على كل حديث وعلته وطرقه وما فيه من
الفقه واختلاف العلماء وحججه واللغة، فتم مسند العشرة وأهل البيت والموالي،
وقطعة من مسند ابن عباس، والمسند الكبير لبقي بن مخلد القرطبي [١٦] رتبه على
أسماء الصحابة، روى فيه عن ألف وثلاثمائة صحابي ونيف، ثم رتب حديث كل
صاحب على أبواب الفقه، فجاء كتابًا حافلاً مع ثقة مؤلفه وضبطه وإتقانه، ومسند
عبيد الله بن موسى [١٧] ، ومسند إسحاق بن راهويه [١٨] ، ومسند ابن حميد [١٩] ،
ومسند الدارمي [٢٠] ، ومسند أبي يعلى الموصلي [٢١] ، ومسند ابن أبي
أسامة الحارث بن محمد التميمي [٢٢] ، ومسند ابن أبي عاصم أحمد بن عمرو
الشيباني [٢٣] ، وفيه نحو خمسين ألف حديث، ومسند ابن أبي عمر، ومحمد بن يحيى
العدني [٢٤] ، ومسند أبي هريرة لإبراهيم بن حرب العسكري [٢٥] ، ومسند الإمام علي
لأحمد بن شعيب النسائي [٢٦] ، ومسند العنبري إبراهيم بن إسماعيل الطوسي [٢٧] ،
والمسند الكبير للبخاري، ومسند مسدد بن مسرهد، [٢٨] ومسند محمد بن مهدي [٢٩] ،
ومسند الحميدي [٣٠] ، ومسند إبراهيم بن معقل النسفي [٣١] ، ومسند إبراهيم بن يوسف
الهنجاني [٣٢] ، ومسند مالك لأحمد بن شعيب النسائي [٣٣] ، والمسند الكبير للحسن بن
سفيان [٣٤] ، والمسند المعلل لأبي بكر البزار [٣٥] ، ومسند ابن سنجر [٣٦] ، والمسند
الكبير ليعقوب بن شيبة [٣٧] ، ولم يؤلف أحسن منه لكنه لم يتم ومسند علي بن المديني
[٣٨] ، ومسند ابن أبي عزرة أحمد بن حازم [٣٩] ، ومسند عثمان بن أبي شيبة [٤٠] ،
وكتب المسانيد كثيرة جدًّا، وفيما ذكرنا كفاية إن أردت زيادة، فانظر
كشف الظنون تجد فيه بعض الحاجة.
تنبيه: كتب المسانيد دون كتب السنن في الرتبة، جرت عادة مصنفيها أن
يجمعوا في مسند كل صحابي ما يقع لهم من حديثه صحيحًا كان أو سقيمًا، ولذلك لا
يسوغ الاحتجاج بما يورد فيها مطلقًا، واستثنى بعض المحدثين منها مسند الإمام
أحمد بن حنبل.
***
كتب السنة في القرن الرابع
الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين من رواة الحديث وحملته هو رأس
سنة ثلاثمائة، وقد رأينا فيما سلف أن القرن الثالث أسعد القرون بخدمة السنة
وتمحيصها ونقد رواتها، وكل من أتى بعد ذلك فَعالَةٌ على المتقدمين إلا قليلاً
يجمع ما جمعوا، ويعتمد في نقده على ما نقدوا، لذلك كانت كتب السنة في القرن
الثاني والثالث تمتاز في الأكثر بأولية الجمع فيها دون الأخذ عن غيرها، وهذا ما
دعاني إلى أن أفرد كتب السنة في القرن الرابع بالذكر دون أن أدمجها مع كتب
السنة في القرن الثالث.
أشهر الكتب في القرن الرابع المعاجم الثلاثة: الكبير، والصغير، والأوسط
للإمام سليمان بن أحمد الطبراني [٤١] رتب في الكبير الصحابة على الحروف،
وهو مشتمل على نحو خمسمائة وعشرين ألف حديث، ورتب في الأوسط والأصغر
على شيوخه على الحروف أيضًا، ولقد رتب الكبير الإمام علاء الدين علي بن بلسبان
الفارسي [٤٢] ترتيبًا حسنًا، وسنن الدارقطني [٤٣] ، وصحيح أبي حاتم محمد بن حبان
البستي [٤٤] ، وصحيح أبي عوانة يعقوب بن إسحاق [٤٥] ، وصحيح ابن خزيمة محمد
بن إسحاق [٤٦] ، وصحيح المنتقى لابن السكن سعيد بن عثمان البغدادي [٤٧] ، والمنتقى
لقاسم بن أصبغ محدث الأندلس [٤٨] ، ومصنف الطحاوي [٤٩] ، ومسند ابن جميع
محمد بن أحمد [٥٠] ، ومسند محمد بن إسحاق [٥١] ، ومسند الخوارزمي [٥٢] ، ومسند
أبي إسحاق إبراهيم بن نصر الرازي [٥٣] .
وسنعقد لكل كتاب من كتب السنة الشهيرة في القرنين الثالث والرابع فصلاً
يعرف به، ويبين درجة أحاديثه، وما لقيه من عناية، مبتدئين في ذلك بمسند الإمام
أحمد رضي الله عنه.
***
مسند الإمام أحمد بن حنبل
مسند الإمام أحمد كتاب جليل من جملة أصول السنة، يشتمل على أربعين ألف
حديث، تكرر منها عشرة آلاف، ومن أحاديثه ما ينوف على ثلاثمائة حديث ثلاثية
الإسناد (أي: بين راويها والرسول ثلاثة رواة) .
درجة حديثه: روى أبو موسى المديني عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث
فقال: انظروه، فإن كان في المسند، وإلا فليس بحجة، كأن الإمام يرى صحة كل
ما ساقه في مسنده، لكن عبارته ليست صريحة في أن كل ما فيه حجة، إنما هي
صريحة في أن ما ليس فيه ليس بحجة، لكن ثم أحاديث مخرجة في الصحيحين
وليست فيه، والحق أن الكتاب فيه كثير من الأحاديث الضعيفة، بل ذكر ابن
الجوزي في موضوعاته خمسة عشر حديثًا من المسند لاحت له فيها سمة الوضع،
وذكر الحافظ العراقي تسعة، لكن أجاب عن هذه الأحاديث الحافظ ابن حجر في
كتابه (القول المسدد في الذب عن المسند) ، وقال في كتابه تعجيل المنفعة برجال
الأربعة: ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث، أو أربعة، منها حديث
عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفًا قال: ويعتذر عنه، لأنه مما أمر
بالضرب عليه، فترك سهوًا، أو ضرب عليه وكتب من تحت الضرب، ويعجبني ما
قاله العلامة ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) ، شرط أحمد في المسند أن لا يروي
عن المعروفين بالكذب عندهم، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، قال: ثم زاد ابن
أحمد زيادات على المسند ضمت إليه، وكذلك زاد أبو بكر القطيعي، وفي تلك
الزيادات كثير من الأحاديث الموضوعة، فظن من لا علم عنده أن ذلك من رواية
أحمد في مسنده.
شرحه واختصاره: شرح المسند أبو الحسن بن عبد الهادي السندي [٥٤]
نزيل المدينة المنورة، واختصره زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي، وسمى
مختصره در المنتقد من مسند الإمام أحمد، وكذلك اختصره سراج الدين عمر بن
علي المعروف بابن الملقن الشافعي [٥٥] .
***
الجامع الصحيح المسند للإمام البخاري
وصف إجمالي له: هو أول كتاب ألف في الصحيح المجرد، وقد اتفق
جمهور العلماء على أنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم، ويقاربه في ذلك صحيح
مسلم، وذلك أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما اتفق على ثقة ناقليه إلى الصحابي
المشهور، مع كون الإسناد إليه متصلاً غير مقطوع (وذلك ما يسمى بشرط
الشيخين) .
ولقد جمع البخاري صحيحه في ست عشرة سنة، وما كان يضع فيه حديثًا إلا
بعد أن يغتسل ويصلي ركعتين ويستخير الله في وضعه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر
أن عدة ما فيه من الأحاديث بالمكرر ٧٣٩٧ سوى المعلقات والمتابعات
والموقوفات [*] ، وبغير المكرر من المتون الموصولة ٢٦٠٢، ومن المتون المعلقة
المرفوعة التي لم يصلها في موضع آخر منه ١٥٩ حديثًا، فمجموع غير المكرر
٢٧٦١، وفيه من المعلقات ١٣٤١ حديثًا، وفيه من المتابعات والتنبيه على
اختلاف الروايات ٣٤٤ حديثًا، ولم يذكر عدد الموقوفات على الصحابة،
والمقطوعات الواردة عن التابعين فمن بعدهم، فجملة ما فيه بالمكرر سوى الموقوف
والمقطوع ٩٠٨٢ حديثًا، وإنما جمع في صحيحه الأحاديث المعلقة والموقوفة
والمقطوعة، وليست من موضوع كتابه؛ لأنه قصد بها الاستئناس والاستشهاد
فحسب، ولذلك غاير في سياقها لتمتاز.
وقد انتقد عليه الحفاظ عشرة أحاديث ومائة، منها ما وافقه مسلم على تخريجه
وهو ٣٢ حديثًا، ومنها ما انفرد بتخريجه وهو٧٨ حديثًا، قال الحافظ ابن حجر في
مقدمة شرحه فتح الباري على صحيح البخاري: وليست عللها كلها قادحة، بل
أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل
واليسير منه في الجواب عنه تعسف، وقد أوضح ذلك الحافظ مفصلاً في المقدمة،
وقد ضعف الحافظ من رجال الجامع للبخاري نحو الثمانين، ولكن أكثرهم من
شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم وميز صحيحها
من ضعيفها، فهو بهم أعرف ولهم أخبر، وقد روى عن البخاري جامعه الصحيح
نحو من مائة ألف، منهم كثير من أئمة الحديث كمسلم وأبي زرعة والترمذي وابن
خزيمة.
شروحه: لم يعتن علماء المسلمين بشيء بعد الكتاب العزيز عنايتهم بالجامع
الصحيح للإمام البخاري، فما أكثر شارحيه والكاتبين في رجاله والمؤلفين في
أغراضه والمختصرين لكتابه، وقد عد الفاضل ملا كاتب جلبي في كتابه (كشف
الظنون) ما ينيف على اثنين وثمانين شرحًا للبخاري، دبجها يراع الجهابذة من
السلف، والأذكياء من الخلف ما بين كامل وناقص، بيد أن منهم من مال إلى
الإجمال كالإمام الخطابي [٥٦] ، فإنه عمل شرحًا سماه (أعلام السنن) في مجلد
واحد، ومنهم من آثر التطويل فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بسنده أو متنه
إلا كتب كالإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزبادي الشيرازي [٥٧] ، فإنه شرحه
شراحًا وافيًا سمَّاه (فتح الباري بالسيل الفسيح المجاري) كمل ربع العبادات منه في
عشرين مجلدًا أتى فيه بما لم يُسبق إليه، ومنهم من سلك سبيل التوسط، مقتصرًا
على ما لا بد منه في فهم الأحاديث مع تقييد أوابده وتذليل شوارده.
وهؤلاء على اختلاف مشاربهم وتباين مسالكهم قد فاقوا حد الكثرة إلى أن
المحسنين من الشراح إحسانًا أربعة نفر:
الإمام بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي [٥٨] في (شرحه التنقيح) .
والعلامة بدر الدين محمود بن أحمد العيني الحنفي [٥٩] في شرحه (عمدة
القارئ) والحافظ جلال الدين السيوطي [٦٠] في شرحه (التوشيح) .
وشيخ الإسلام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني [٦١] في شرحه (فتح الباري)
ولعمري، إنه لأمير أولئك المحسنين، فإن شرحه لا يدانيه شرح ولا يحيط
بجماله وصف، ولو لم يكن له إلا مقدمته لكانت وافية في الإشادة بذكره والإبانة عن
جلالة قدره، ولما طلب من مجتهد اليمن العلامة الشوكاني أن يشرح الجامع
الصحيح للبخاري قال: لا هجرة بعد الفتح. وقد بدأ تأليف شرحه الفتح مفتتح سنة
٨١٧ بعد أن أكمل مقدمته في سنة ٨١٣، وانتهى منه في غرة رجب سنة ٨٤٢، وقد
أوْلَم عند ختمه وليمة عظيمة لم يتخلف عنها من وجوه المسلمين إلا اليسير، أنفق
عليها نحو خمسمائة دينار (مائتين وخمسين جنيهًا مصريًّا) ، وقد لقي ما يستحق
من الحظوة في عصر مؤلفه حتى طلبه ملوك الأطراف بالاستكتاب، واشتري بنحو
ثلاثمائة دينار (مائة وخمسين جنيهًا مصريًّا) ، وانتشر في الآفاق حتى غطت
شهرته سائر الشروح، وهو يقع في ثلاثة عشر مجلدًا، ومقدمته في مجلد ضخم
(وقد طبع بكل من مصر والهند مرتين) .
مختصرات الجامع: له مختصرات كثيرة من أشهرها مختصر الإمام جمال
الدين أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي [٦٢] ، ومختصر بدر الدين حسن بن عمر
الحلبي [٦٣] المسمى (إرشاد الساري والقاري) ، ومختصر الحسين بن المبارك
الزبيدي [٦٤] جرد فيه حديثه من أسانيده وسماه (التجريد الصريح لأحاديث الجامع
الصحيح) وقد شرحه شرحًا وافيًا حسن صديق خان ملك بهوبال بالهند، وكذلك
شرحه الشيخ عبد الله الشرقاوي.
كتب رجاله: منها (أسماء رجال البخاري) للشيخ الإمام أحمد بن محمد
الكلاباذي [٦٥] وكتاب (التعديل والتجريح) لرجاله لأبي الوليد سليمان بن خلف
الباجي [٦٦] ، و (الإفهام بما وقع في البخاري من الإبهام) [**] لجلال الدين بن عمر
البلقيني [٦٧] .
***
الجامع الصحيح للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج
هو ثاني الكتب الستة وأحد الصحيحين المشهود لهما بعلو الرتبة، وقد ذكر
النووي في أول شرحه له أن الحسين بن علي النيسابوري قال: ما تحت أديم
السماء أصح من كتاب مسلم. ووافقه على ذلك بعض شيوخ المغرب، ولكن الذي
لا ينبغي الإضرار فيه رجحان صحيح البخاري عليه؛ لأن الصفات التي تدور
عليها الصحة في كتاب البخاري أتم منها في كتاب مسلم، أما من حيث الاتصال
فلاشتراط البخاري أن يكون الراوي ثبت له لقاء المروي عنه ولو مرة، واكتفى
مسلم بمطلق المعاصرة، وما ألزم به مسلم البخاري من أنه يحتاج إلى أن لا يقبل
العنعنة [٦٨] أصلاً ليس بلازم؛ لأن الراوي إذا ثبت له لقاء من روى عنه مرة لا
يجري في رواياته احتمال أن لا يكون سمع منه؛ لأنه يلزم من جريانه أن يكون
مدلسًا، والمسألة مفروضة في غير المدلس، وأما من حيث العدالة والضبط؛ فلأن
من تكلم فيهم من رجال مسلم ستون ومائة، ومن تكلم فيهم من رجال البخاري
ثمانون، مع أن الثاني لم يكثر من إخراج حديثهم، وأغلبهم من شيوخه الذين أخذ
عنهم ومارس حديثهم، وأما من جهة عدم الشذوذ والإعلال [٦٩] ؛ فلأن ما انتقد على
البخاري من الأحاديث مما لم يشاركه فيها مسلم ثمانية وسبعون حديثًا، وما انتقد
على مسلم كذلك ثلاثون ومائة، أضف إلى هذا ما في البخاري من الاستنباطات
الفقهية والدقائق الحكمية مما عري منه كتاب مسلم، هذا إلى اتفاق العلماء على أن
البخاري كان أجَلّ من مسلم في العلوم، وأعرف بصناعة الحديث منه، وأن مسلمًا
تلميذه وخريجه، ولم يزل يستفيد منه ويتتبع آثاره حتى قال الدارقطني: لولا
البخاري لما راح مسلم ولا جاء. لكن الإنصاف يدفعنا إلى الاعتراف لمسلم بتلك
الميزة الجليلة والطريقة الحكيمة، ونعني بها سهولة التناول من كتابه؛ إذ جعل لكل
حديث موضعًا واحدًا يليق به، جمع فيه طرقه التي ارتضاها، وأورد فيه أسانيده
المتعددة وألفاظه المختلفة مما يسهل على الطالب النظر في وجوهه واقتطاف ثماره،
وتوليه الثقة بجميع الطرق التي للحديث، ولم يحم حول ذلك البخاري، بل فرق
طرق الحديث في الأبواب المختلفة.
وقد روي عن مسلم أن كتابه أربعة آلاف حديث دون المكرر، وبالمكرر
٧٢٧٥ حديثًا.
شروحه: شرح صحيح مسلم كثير من العلماء ذكر منها صاحب كشف
الظنون نحو خمسة عشر شرحًا، من أشهرها المنهاج للحافظ الإمام أبي زكريا
يحيى بن شرف النووي الشافعي [٧٠] ، وشرح أبي الفرج عيسى بن مسعود
الزواوي [٧١] ، وهو شرح كبير في خمس مجلدات جمع عدة شروح سبقته، وإكمال
المعلم للإمام أبي عبد الله محمد بن خليفة الأبي المالكي [٧٢] في أربع مجلدات، ضمنه
شرح المازري وعياض والقرطبي والنووي مع بعض الزيادات، والابتهاج للشيخ
أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني الشافعي [٧٣] بلغ إلى نحو نصفه في ثمانية
أجزاء كبار، وشرح الشيخ علي القاري الهروي نزيل مكة المكرمة [٧٤] في أربع
مجلدات.
مختصراته: من أشهر مختصراته تلخيص كتاب مسلم وشرحه لأحمد بن عمر
القرطبي [٧٥] ، ومختصر الإمام زكي الدين عبد العظيم المنذري [٧٦] ، ومختصر
زوائد مسلم على البخاري لسراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي [٧٧] وهو
كبير في أربع مجلدات، ولأبي بكر أحمد بن علي الأصبهاني [٧٨] كتاب في أسماه
رجال مسلم.
((يتبع بمقال تالٍ))