للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين


الخيال في الشعر العربي
(١)

يرتفع شأن الشعر ونقضي لصاحبه بالبراعة والتفوق على غيره بمقدار ما
يحرز من بناء محكم ومعنى بديع، وقد حدق فلاسفة الأدب أنظارهم إلى الوجوه
التي تملك بها المعاني شرف منزلتها وحسن طلعتها، أو تأخذ منها الألفاظ متانة
نسجها وصفاء ديباجتها.
ومن أجمل الفنون التي يرجع النظر فيها إلى جهة المعنى صناعة التخييل،
وهي الغرض الذي جردت القلم للبحث عنه في هذه الصحائف متحريًا أسلوبًا لا
يشتكي منه القارئ طولاً ولا قصرًا.
ولا أدعي أن هذا الفن مما ضل عن أولئك الفلاسفة فلم يعرجوا على مكانه،
أو صعب عليهم مراسه فلم يسوسوه بفكر ثاقب وبيان فاصل، فإن كثيرًا من علماء
البلاغة قد ولوا وجوههم شطره حتى توغلوا في طرائقه، وكشفوا النقاب عن حقائقه،
ومن أبعدهم نفوذًا في مسالكه الغامضة، وأسلمهم ذوقًا في نقد معانيه وتمييز جيدها
من رديئها الإمام عبد القاهر الجرجاني صاحب كتاب أسرار البلاغة ودلائل
الإعجاز.
وما كان لي سوى أن أعود إلى مباحثه المبثوثة في فنون شتى، فأستخلص
بقدر ما تسمح به الحال لبابها، وأولف بين ما تقطع من أسبابها، ولا تجدني - إن
شاء الله - أحكي مقالهم دون أن أعقد بناصيته، أو أبث خلاله، أو أضع في ردفه
جملاً تلبسه ثوبًا قشيبًا، أو تنفخ فيه روحًا كانت هادئةً.
***
الشعر
يعرف العربي في جاهليته كما عرف بعد أن نسل إليه العلم من كل حدب أن
الكلام ينقسم إلى شعر ونثر، والميزة المحسوسة لكل أحد أن الشاعر لا يحثو عليك
الألفاظ جزافًا مثلما يفعل الناثر، وإنما يلقيها إليك في أوزان تزيد في رونقها،
وتوفر لذتك عند سماعها، ومن هذا ذهب بعضهم في حد الشعر إلى أنه كلام مقفى
موزون، وهذا مثل من يشرح لك الإنسان بأنه حيوان بادي البشرة منتصب القامة،
فكل منهما قصر تعريفه على ما يدرك بالحاسة الظاهرة، ولم يتجاوزه إلى المعنى
الذي يتقوم الحقيقة ويكون مبدأ لكمالها، وهو التخييل في الشعر، والنطق في
الإنسان.
فالروح التي يعد بها الكلام المنظوم من قبيل الشعر إنما هي التشابيه
والاستعارات والأمثال وغيرها من التصرفات التي يدخل لها الشاعر من باب
التخييل، وليس الوزن سوى خاصة من خواص اللفظ المنظور إليها في مفهوم
الشعر بحيث لا يسميه العرب شعرًا إلا عند تحققه، وإطلاق الشعر على الكلام
الموزون إذا خلا من معنى تستطرفه النفس لا يصح إلا كما يصح لك أن تسمي جثة
الميت إنسانًا، أو تمثال الحيون المفترس أسدًا.
والمنثور من الكلام يشارك الشعر في اشتماله على الصور الخيالية، ولكن
نصيب الشعر منها أوفر، وهو بها أعرف، كما يمتاز بأحد أنواع التخييل، وهو ما
لا يتوخى به صاحبه وجه الحقيقة، وإنما يقصد به اختلاب العقول ومخادعة النفوس
إلى التشبث بغير حق يدعوك كما قال ابن الرومي إلى أن تطوي جناحيك على
جذوة من الحقد:
وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض المزايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقدًا على ذي إساءة ... فثم ترى شكرًا على واسعي القرض
وقال آخر يزين لك أن تدرج نفسك في كفن الذل وتواريها في حفرة من
الخمول:
لذ بالخمول وعذ بالذل معتصمًا ... بالله تنجو كما أهل النهى سلموا
فالريح تحطم إن هبت عواصفها ... دوح الثمار وينجو الشيح والرتم

ولاختصاص الشعر بهذا النوع من التخييل أطلق بعض المشركين من العرب
على الرسول - صلى الله عليه وسلم - اسم الشاعر؛ ليلقوا في أوهام السذج أن كلامه
من نوع ما يصدر عن الشعراء من الأقوال المموهة والتخيلات الباطلة.
فهم يعلمون أن القرآن بريء من النزعة التي عهد بها الشاعر، وهي عرض
الباطل في لباس الحق؛ لأنه إنما ينطق بالحكمة، ويجادل بالحجة، ولا يخفى
عليهم أنه مخالف للشعر في طريقة نظمه، فإن للشعر عروضًا يقف عنده، ووزنًا
ينتهي إليه، والقرآن يصوغ الموعظة وينفق الحكمة بغير ميزان، ولكن ضافت
عليهم مسالك الجدال، وانسدت في وجوههم طرق المعارضة، فلم يبالوا أن يتشبثوا
بالدعاوي التي يظهر بطلانها لأول رأي، كما قالوا عنه: إنه مجنون. وهم يشهدون
في أنفسهم أنه أبلغهم قولاً، وأقواهم حجة، وأنطقهم بالحكمة.
وأما الآيات التي وافقت بعض الأوزان فهي على سلامتها من بهرج التخيلات
لا تجد الموافق منها للموزون قد استقل بنفسه، وأفاد المعنى دون أن تصله بكلمات
من الآيات السابقة أو اللاحقة، والكلام المؤلف من الموزون وغير الموزون لا
يصح لأحد أن يسميه شعرًا ليقدح به في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا
تُؤْمِنُونَ} (الحاقة: ٤١) .
***
التخييل عند علماء البلاغة
ينقسم التصرف في المعاني - على ما يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني - إلى
تحقيق وتخييل، والفارق بينهما أن المعنى التحقيقي ما يشهد له العقل بالاستقامة،
وتتضافر العقلاء من كل أمة على تقريره والعمل بموجبه كقول المتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
فمعنى هذا البيت مما تلقاه العقلاء بالقبول، ووضعوه بمقدمة ما يتنافسون فيه
من الحكم البالغة، وكذلك اتخذه الأمراء الراشدون قاعدة يشدون بها ظهر سياستهم،
ويستندون إليها في حماية شعوبهم، ومن الذي يجهل أن حياة الأمم إنما تنتظم
بالوقوف في وجه من يتهافت به السفه على هدم شرفها والاستئثار بحقوقها؟
والتخييلي هو الذي يرده العقل، ويقضي بعدم انطباقه على الواقع، إما على
البديهة كقول بعضهم:
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ... لما رأيت عليها عقد منتطق
فكل أحد يدرك لأول ما يطرق سمعه هذا البيت أن الكواكب لا تنوي ولا
تنتطق ولا تخدم، وأن تلك النجوم المتناسقة في وسط الجوزاء مركبة فيها من قبل
أن يصير الممدوح شيئًا مذكورًا أو بعد نظر قليل كقول أبي تمام:
لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي
نهى المخاطبة في صدر البيت عن إنكارها لفاقة الكريم وفراغ يده من المال،
وأخيرًا في العجز بأن السيل لا يستقر على الأماكن المرتفعة، وهذا المعنى في نفسه
صحيح، ولكن الفاء في قوله: (فالسيل حرب) أفصحت بأن السبب في عدم توفر
حطام الدنيا لدى الكريم هو كون الماء إذا وقع على الأماكن العالية لا يلبث أن ينحدر
إلى ما انخفض عنها من وهاد وأغوار، وهذا إنما وصل إلى الذهن بتخييل أن رفعة
القدر بمنزلة المكان الحسي، وأن المال بمنزلة الماء الدافق ينساق إلى الرجل
فيقضي منه وطره، ثم يرسله إن شاء إلى بني الحاجات. فيكون القول بأن مكانة
الكريم لارتفاعها جعلت المال يمر على يده، ثم ينطلق بالبذل والإنفاق - يستند إلى أن
الماء لا يتجمع على ما صعد على وجه الأرض من أكمات وهضاب، وهذا القياس
ضرب من التخييل لا يجول في العقل إلا ريثما ينظر إلى أن السبب في عدم استقرار
الماء على الأماكن العالية كونه جرمًا سيالاً لا تتماسك أجزاؤه وتثبت في محل إلا إذا
أحاط بجوانبه جسم كثيف، وليس للدراهم والدنانير هذه الطبيعة حتى يلزم أن تمر
على يد الكريم، ثم تنصب منها إلى من كانوا أدنى منه منزلة.
ويفهم من وجه التفرقة بين القسمين أن مجرد الاستعارة عندهم لا يدخل في
قسم التخييل، وقد صرح الجرجاني بهذا في كتاب أسرار البلاغة ناظرًا إلى أن
المستعير لا يقصد إلا إثبات معنى اللفظة المستعارة حتى يكون الكلام مما ينبو عنه
العقل، وإنما يعمد إلى إثبات شبه بين أمرين في صفة، والتشابه من المعاني التي
لا ينازع العقل في صحتها.
***
التخييل عند الفلاسفة
يقول الفلاسفة: إن من بين القوى النفسية قوة تتصرف في صورالمعلومات
بالتركيب تارة والتفصيل مرة أخرى، ويسميها فلاسفة العرب إذا لم تخرج عن
دائرة التعقل مفكرة، ويقال في عملها: تفكر. فإن تصرفت بوجه لا يطابق النظر
الصحيح سموها مخيلة، ويقال في عملها: تخيل أو تخييل. فمثال ما يأخذ من العقل
مأخذ القبول قول القاضي عياض:
انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ولت أمام الرياح
كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان وفيها جراح

فالشاعر التفت إلى ما في حافظته من الصور المناسبة لهيئة زرع أخضر
يتخلله شقائق النعمان، وقد أخذت الرياح تهب عليه من جانب، فيميل إلى آخر
ميلاً يتراءى للعين أنه حركة ينتقل بها من مكانه، فوقع خياله على الجيش
والملابس الخضراء والجراحات التي تنال الجيش المقاتل، فألف بينها، ثم جعل
سيره إدبارًا وانهزامًا ليوافق حالة جيش ظهرت فيه الجرحى بمقدار ما في المزارع
الخضراء من شقائق النعمان.
ومثال ما لا يثق به النظر، ولا يدخل في حساب الأقوال القائمة على التحقيق
قول الشاعر:
ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحيانًا فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل وقت طالع فيها
أبصر معاجر من يتحدث عنها وقد أخلقت فحاول أن يلتمس وجهًا يجعل ذلك
الإخلاق من شواهد حسنها، أو يسد فم العاذل حتى لا يغض من شأنها، فتصور
طلعة القمر وانساق إليه ما يدور بين الناس من أن الثياب التي يمج عليها القمر
أشعته يسرع إليها البلى، ثم ادّعى مبالغًا في التشبيه أن وجهها قمر، وبنى على هذا
أن تعجب ممن ينكر تأثيره في معجرها بالإخلاق، ففي هذا التصرف ادّعاء أن
وجهها قمر، وهذا مما يألفه العقل؛ لأنه بمنزلة التشبيه، ولا مفر من قبوله متى
تحقق الوجه الجامع بين طرفيه، والمعنى الذي للعقل أن يلتفت عنه إنما هو دعوى
أن معجرها أخلق بعلة كونه مطلعًا لوجهها المسمى بالقمر على وجه المجاز.
***
ماذا نريد من التخييل
يفهم من صريح المقالة الفلسفية أن المفكرة والمخيلة اسمان لقوة واحدة، وهي
التي تتصرف في المعلومات بالتفصيل والتركيب، وإنما تغير اسمها بحسب اختلاف
الحال، فعندما يكون زمامها بيد العقل يسمونها مفكرة، وعندما تنفلت منه يسمونها
مخيلة.
وإذا عرفت أن التمثيل والاستعارة من عمل هذه القوة باتفاق علماء النفس،
فلو جرى طائفة من الناس على إطلاق التخيل أو الخيال عندما تتصرف هذه القوة
تصرفًا تصوغ به معنى مبتدعًا سواء أنس به العقل أو تجافى عنه لم يكونوا صنعوا
شيئًا سوى تغيير الاصطلاح وإدخال القسمين تحت اسم واحد.
وإطلاق لفظ التخيل أو الخيال في صدد الحديث على المعاني الصادقة
والتصورات المعقولة لا يحط من قيمتها أو يمس حرمتها بنقيصة، فإن علماء
البلاغة أنفسهم قد أطلقوه على ما يأتي به البليغ في الاستعارة المكنية من الأمور
الخاصة بالمشبه به ويثبته للمشبه، فقالوا: الأظفار أو إضافتها في قولك: (أنشبت
المنية أظفارها) ، تخييل أو استعارة تخييلية، وأطلقوه في الفصل والوصل حين
تكلموا على الجامع بين الجملتين، وقسموه إلى: عقلي، ووهمي، وخيالي، وأطلقوه
في فن البديع على تصوير ما سيظهر في العيان بصورة المشاهد، ولم يبالوا في جميع
ذلك أن يضربوا لها أمثلة من الكتاب العزيز وغيره من الأقوال الصادقة.
فيسوغ لنا حينئذ أن نساير أدباء العصر، ونتوسع في معنى الخيال والتخييل،
ولا نقف عند اصطلاح القدماء من الفلاسفة أو علماء البلاغة، حيث خصوا بها ما لا
يصادق عليه العقل والمخالفة في الاصطلاح، ما دامت الحقائق قائمة والمقاصد ثابتة
بحالها لا يبعد عن تبديل العبارة وتغيير الأسلوب.
يقول الناس عندما يسمعون بيتًا أو أبياتًا لأحد الشعراء: هذا خيال واسع. أو:
هذا تخيل بديع. فيفهم السامع لهذه الكلمات وما يماثلها أن لصاحب هذا الشعر قدرة
على سبك المعاني وصوغها في شكل بديع، ولو قالوا: (ما أضيق هذا الخيال أو
ما أسخف هذا التخيل) فيفهم السامع أن الشاعر لديه قدرة على إخراج المعاني في
صورة مبتكرة.
فيصح لنا أن نأخذ هذا المعنى الذي يحضر في الذهن عند سماع تلك الجمل
ونشرح به معنى المتخيلة، فنقول: هي قوة تتصرف في المعاني لتنتزع منها صورًا
بديعة، وهذه القوة إنما تصوغ الصور من عناصر كانت النفس قد تلقتها من طريق
الحس أو الوجدان، وليس في إمكانها أن تبدع شيئًا من عناصر لم يتقدم للمتخيل
معرفتها. ومثال هذا من الصور المحسوسة أن قدماء اليونان رمزوا إلى صناعة
الشعر بصورة فرس له جناحان، وهي صورة إنما انتزعها الخيال بعد أن تصور
كلاًّ من الفرس والطير بانفراده.
وقد يجول في خاطرك عند ما تمر على قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
أن هذا الشاعر قد تخيل الأغوال وأنيابها، ولم تسبق له معرفة بها؛ إذ لا أثر
للغول وأنيابها، ولا لشيء من موادها في العيان، فيلوح لك أن هذا يقدح في قولنا:
إن المخيلة لا تؤلف الصور إلا من مواد عرفتها بوسيلة الحس أو الوجدان.
والذي يكشف الشبه أن كلاًّ من الغول وأنيابها صورة وهمية، ولكن لم يحدثها
الخيال من نفسه، بل أخذ من الحيوانات الفظيعة المنظر أعضاء متفرقة وأنيابًا حادة
وتصرف فيها بالتكبير، ثم ركبها في صورة رائعة وهي التي تخطر على الذهن
عندما يذكر اسم الغول، حتى إن الناس لا يتفقون فيما أحسب على تصور هذا الأمر
الموهوم، فكل ما يخطر له المعنى في أبشع صورة يتمكن خياله من جمعها وتلفيقها.
فغاية ما صنع الشاعر أن تخيل أمرًا محسوسًا، وهي النصال المحددة في
صورة أمر هو في نفسه خيالي أيضًا، ولكن صورته مأخوذة من مواد كان يعرفها
من قبل بطريق الرؤية أو السماع.
وتعتمد المخيلة على قوة التذكر، وهو تداعي المعاني وخطورها على الذهن
بسهولة، وبعد أن تتراءى لها الصورة بوسيلة التذكر تستخلص منها ما يلائم
الغرض فتفصل الخاطرات عن أزمنتها أو أمكنتها، أو ما يتصل بها مما لا يتعلق
به القصد من التخييل، ثم تتصرف في تلك العناصر بمثل التكبير أو التصغير،
وتأليف بعضها إلى بعض حتى تظهر في شكل جديد.
***
تداعي المعاني
ترجع الأسباب التي تجمع بين المعاني وتجعلها بحيث يكون حضور بعضها
في النفس يستدعي حضور بعض إلى ثلاثة أنواع:
أولها: اقتران المعنيين في الذهن بحيث يكون تعلقهما أو إحساسهما في وقت
واحد أو على التعاقب، ومن هذا تذكر الوقائع عندما يخطر بالبال مكانها، كما قال
ابن الرومي:
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلك

أو زمانها كما قالت الخنساء:
يذكرني طلوع الشمس صخرًا ... وأذكره بكل مغيب شمس
وخصت هذين الوقتين بالتذكير؛ لأنهما مظهر لعملين عظيمين من أعمال
صخر؛ إذ كان يغدو للإغارة التي هي مظهر الشجاعة عند مطلع الشمس، ويبذل
الطعام إكرامًا للضيوف وقت الغروب.
ومن هذا الوجه نشأت الكنايات وبعض أنواع المجاز المرسل، أما الكنايات؛
فلأنها الدلالة على المعنى باسم ما يلازمه في الخارج، وصح هذا نظرًا إلى أن
حضور المعنى الموضوع له اللفظ يستدعي حضور لازمه في ذهن المخاطب،
كقول الحصين بن الحمام:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
أراد الشاعر أن يفيد ثباتهم في مواقف الحروب، وأنه لا يلتفت بهم الفزع من
الموت إلى سبة الهزيمة، فعبر عن هذا المعنى بأن دماءهم لا تقع على أعقابهم ألبتة،
وهذا يقتضي أنهم لا يولون العدو ظهورهم حتى ينالها بسيوفه، كما أن معنى قطر
الدماء على الأقدام يذهب بالسامع إلى معنى أنهم يستقبلون العدو بوجوههم إلى أن
ينالوا ظفرًا أو يلاقوا موتًا شريفًا.
وأما بعض أنواع المجاز المرسل فكإطلاق اسم الحال على المحل، والسبب
على المسبب، والكل على الجزء وعكسها، ومداره على أن ذهن المخاطب ينتقل
إلى المعنى المراد بسهولة حيث كان بينه وبين المعنى الحقيقي مناسبة تقتضي
تقارنهما في الذهن؛ لأن إدراكهما كان في وقت واحد كالحال والمحل، والكل
والجزء، أو على التعاقب كالسبب والمسبب.
النوع الثاني: من الأسباب التي تتلاحق بها المعاني في الذاكرة: التباين، فإن
الصور التي يكون بينها تضاد لا يكاد بعضها يتخلف عن بعض، فمن تصور
الشجاعة خطر له معنى الجبن، ومن مرت على باله الصداقة انساق إليه معنى
العداوة، ولهذا أدخل علماء البلاغة في وجوه الوصل بين الجملتين ما يقوم بينهما
من التضاد في المعنى، وساقوا في أمثلته قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: ١٣-١٤) ، وإن شئت مثلاً من الشعر،
فقول المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
ومن هذا الوجه أيضًا صح لهم أن يعدوا في علاقات المجاز المرسل الضدية.
النوع الثالث: التشابه، وهو أن يكون بين المعنيين تماثل في بعض أمور
خاصة، كمن يرى الرجل المقدام فيتصور الأسد، ويسمع الألفاظ البليغة قد تبرجت
في أسلوب محكم فيذكر الدور المتناسقة وأسلاكها. وعلى هذا النوع يقوم فن
التشبيه والاستعارة اللذين هما أوسع مضمار تتسابق فيه قرائح الشعراء والكتاب.
***
لماذا تختلف الأفكار في تداعي المعاني
تختلف الناس فيما يتداعى إليهم من المعاني إلى أن ترى صورًا تتوارد على
شخص متعاقبة، وهي في خيال آخر لا تتقارن ألبتة، قال أحد الفلاسفة: إني لا
أسأل عن السبب في أن معنى من المعاني يدعو آخر ويأخذ بناصيته، ولكنني
أبحث في شيء آخر وهو أن المعنى الواحد قد يختلف تواليه باختلاف الأشخاص.
ثم قال: ويمكن الجواب عن هذا بأن الناس يختلفون في ميولهم وشعب وجهتهم في
الحياة، فكل معنى يدعو لصاحبه ما هو ألصق بميله وأقرب إلى عمله.
وإيضاح هذا الجواب أن توالي المعاني يختلف باختلاف الأشخاص لأحد
سببين.
الأول: أن الدواعي والعواطف النفسية لها مدخل في تجاذب المعاني
واسترسالها على الخيال، فالطمع أو الحاجة أو الرهبة مثلاً تستدعي المعاني العائدة
إلى المديح أو الاستعطاف، والغرام يستدعي المعاني الغزلية، والكآبة والأسف
يستدعيان معاني الرثاء أو الشكوى، والسرور يستدعي المعاني اللائقة بالهناء،
والإعجاب بالنفس أو العشيرة يستدعي معاني الفخر والحماسة، فالزاهد في الدنيا لا
يسع خياله من معاني الإطراء والملق ما يسعه خيال الحريص عليها، والخالي من
عاطفة الغرام، لا يخطر على قلبه من معاني التشبيب ما يخطر على قلب الشجي
المستهام.
الثاني: ما يتفق للإنسان في طرز حياته وهو حال المحيط الذي يتقلب فيه،
فيتوالى على خاطر الناشئ في النعيم والترف ما لا يتوالى على خاطر الناشئ في
حال عسرة وبؤس، ويحضر في نفس من شب في الحاضرة ما لا يحضر في نفس
الناشئ في البادية، وينساق إلى خيال الناشئ في شمال المعمورة ما لا يدخل في
خيال الناشئ في جنوبها، فالمقيم في شمال أوربا مثلاً يذكر الشتاء، فتقارنه صورة
الثلج، وليس بينهما في ذهن المقيم بالجنوب اقتران واتصال لقلة مشاهدته للثلج، أو
عدم وقوع نظره عليه طول حياته، ولو نظر إلى الهلال رجلان: هذا نشأ في الحلية
والآخر اتخذ الحصاد حرفة فالشأن أن يتداعى إلى الأول صورة السوار وينتقل منه
إلى المعصم أو الصياغة، ويتداعى إلى الثاني صورة المنجل وينتقل منها إلى
الزرع أو الحدادة.
محمد الخضر التونسي
(يتبع)
((يتبع بمقال تالٍ))