للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


محاربة البدع
تتمة الرد على المعترض على فتوى شيخ الأزهر
قول الفخر الرازي في اسم الله الأعظم:
٤- ذكر المعترض أن الفخر الرازي قال في شرح البسملة من تفسيره ما
نصه: اختلف العلماء في الاسم الأعظم، ويرجح عندي أن (أه) هو الاسم الأعظم
الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب لاشتماله على سر الإشارة وتكوين
الكائنات وظهور التجليات.
ونقل الحافظ ابن حجر أنه نقل عن بعض الصوفية أن الضمير (هو) هو
الاسم الأعظم، ونحن ننقل هنا نص عبارته في تفسير الفاتحة في هذه المسألة؛
ليعلم الناس أن ما عزاه المعترض إليه هو خلاف ما ذهب إليه، وليعلم المعترض
نفسه أن ما اعتمد من كتب أهل الطريق في هذه المسألة لا يوثق بنقلها، ولا يعلم
أهلها، فنقول:
ذكر الرازي في المسألة الحادية عشرة من الباب الثالث من أبواب تفسير
البسملة أن الاسم الموضوع لذات الخالق واجب الوجود يجب أن يكون أعظم
الأسماء وأشرفها، قال: وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة، وهو اسم
الله الأعظم، ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما
يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانية والروحانية. ثم
قال:
المسألة الثانية عشرة: القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على
وجوه، وذكر أن (الأول) ذو الجلال والإكرام، وضعفه. و (الثاني) هو الحي
القيوم، وضعفه. و (الثالث) قول من يقول: أسماء الله كلها عظيمة لا يجوز وصف
واحد منها بأنه أعظم. وضعفه. (ونقول: إن ذكره سهو؛ لأن التقسيم والأقوال
لمثبتي الاسم الأعظم والقائلين به) ثم قال:
القول الرابع: إن الاسم الأعظم هو قولنا (الله) وهذا هو الأقرب عندي؛ لأنا
سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم الْعَلَم في حقه سبحانه، وإذا كان
كذلك كان دالاًّ على ذاته المخصوصة (اهـ) بحروفه من الصفحة ٦٢ من الجزء
الأول المطبوع بالمطبعة الخيرية سنة ١٣٠٧، ومنه يعلم بعض الفرق بين الرازي
والحافظ ابن حجر في سعة الاطلاع.
ثم إن الرازي جعل الأسماء الإلهية بحسب دلالتها على ما وضعت له أقسامًا،
فصلها في أبواب وفصول، وجعل الفصل التاسع من الباب السابع (في الأسماء
الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة وهي أنا وأنت وهو، عندما تقع في
الكلام دالة على الله تعالى، وقد أطال في هذا الفصل الكلام في الضمير (هو)
بكلام جله من نظريات الصوفية والفلاسفة، وذكر له إحدى عشرة فائدة، واستنبط
بعد ذلك أن الذكر به أعظم الأذكار، ولكنه لم يقل: إنه هو الاسم الأعظم، ولعله
صرح به في كتاب آخر من كتبه. ولكنه لم يذكر أن (أه) من أسماء الله تعالى
ألبتة.
واستنباطه هذا مردود شرعًا فإنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة الذكر بأسماء
الله تعالى مفردة غير واقعة في كلام مركب له معنى، والضمير (هو) ليس من
أسماء الله تعالى ولا يدل بنفسه على ذات الله تعالى ولا على صفة من صفاته،
وإنما يدل على ذلك كما يدل على غيره إذا وقع في الكلام ضميرًا راجعًا إليه،
ويحسن أن نذكر نظريته ونبين بطلانها، وملخصها: أن نداء الله تعالى بكل اسم من
أسمائه يدل على وصف يتضمن الدعاء والسؤال المناسب لمعنى ذلك الاسم، فمن
قال: يا رحمن؛ كان معناه: ارحم، ومن قال: يا كريم؛ كان معناه أكرم، إلخ،
ثم قال: (وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليًا عن السؤال والطلب،
أما إذا قال: يا هو كان معناه خاليًا عن الإشعار بالسؤال والطلب، فوجب أن يكون
قولنا: (هو أعظم الأذكار) اهـ.
ونقول: إن هذا الكلام باطل مقدماته ونتيجته، فليس أشرف الأذكار ما كان
خاليًا عن دعاء الله تعالى وسؤاله، بل الدعاء أعظم العبادة كما صح في الحديث
(الدعاء هو العبادة) وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: ٦٠) ،
رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة
والحاكم من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا، وصححه الحاكم والترمذي وأبو
يعلى في مسنده من حديث البراء، وهو على حد حديث (الحج عرفة) رواه أحمد
وأصحاب السنن وصححوه، ومعناهما أن معظم الحج وركنه الأعظم عرفة، ومعظم
العبادة أو روحها ولبابها الدعاء، ويفسره حديث أنس (الدعاء مخ العبادة) رواه
الترمذي من طريق عبد الله بن لهيعة قاضي مصر ومحدثها وعالمها، وفيه مقال
معروف، ولذلك جعله الحافظ مؤيدًا لما ذكرناه في تفسيره بعد أن عزاه إلى الجمهور،
وروى الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث أبي هريرة
رفعه (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) .
ولما كان الدعاء ركن العبادة الأعظم ومعظمها ومخها صار يطلق ويراد به
العبادة مطلقًا كما قالوه في تفسير كثير من آيات القرآن حتى صار بعض الناس يظن
أن الصيام يسمى دعاء مثلاً، وقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ
بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف:
١٨٠) ، أفرأيت من عمل بهذه الآية فذكر الله داعيًا له بأسمائه خير أم من ألحد فيها
فصار يقول: هو هو هو، أو يا هو يا هو، وهي عبادة لم تَرِد في كتاب الله
ولا في سنة رسوله، ولا رويت عن السلف الصالح؟ وهي مع ذلك فاسدة في لغة
الكتاب والسنة، فإن الضمير وحده لا يسمى كلامًا ولا يكون له معنى إلا إذا وقع في
كلام يكون له فيه مرجع، ومثله ما إذا كان جوابًا لسؤال يعرف فيه المرجع بالقرينة،
ولا يدخل عليه حرف النداء ولا على الضمير المخاطب الذي يوجه إليه النداء،
فلا يقال: يا أنت. وحرف النداء يتضمن معنى الدعاء أو النداء، ويؤول بالفعل،
ولذلك جعلوا المنادى من المنصوبات وكل من أنت وهو ضمير رفع منفصل.
ولو صح نداء الغائب من الخلق وعهد في كلامهم بالضمير المنفصل أو غيره
لما كان ذلك بالذي يصح في نداء الخالق الذي لا يغيب عنهم، وقد روى الشيخان
وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي - صلى
الله عليه وسلم: (أيها الناس إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا
قريبًا وهو معكم) ، والصوفية الصادقون العارفون أجدر من غيرهم بملاحظة
الشهود والحضور، والرازي رحمه الله لم يكن صوفيًّا، وإنما ينقل كلامهم
ويتصرف فيه، ولو سلمنا له قوله: إن أشرف الذكر ما كان خاليًا عن معنى الدعاء؛
لما كان ذلك مستلزمًا التسليم له بجعل الذكر بضمير الغيبة - على فرض جوازه
وصحته - هو المتعين في تحصيل ذلك الذكر، بل نقول حينئذ: إن المتعين ذكره
تعالى باسمه الذي جزم هو تبعًا للجمهور بأنه اسم علم للذات الواجب الوجود وأن
جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا تجري عليه، ورجح هو أنه اسم الله الأعظم
كما سبق النقل عنه، وهو اسم الجلالة (الله) ونتبع فيه المأثور، فنجعله بكلمة
التوحيد لا مفردًا، فقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (أفضل الذكر لا
إله إلا الله) رواه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بسند صحيح من حديث
جابر بن عبد الله، ثم نقول: إن القرآن قد جعل اسم الرحمن مرادفًا لاسم الجلالة في
عدة مواضع، كقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ
الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: ١١٠) ?وذكر في عدة آيات في سياق الضر
والعذاب في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى حكاية عن الناصح لقومه باتباع المرسلين:
{إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} (يس: ٢٣) ، وقوله في حكاية إنذار إبراهيم لأبيه:
{إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ} (مريم: ٤٥) ، وقوله: {قُلْ مَن
كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ} (مريم: ٧٥) ، وهذه أبعدها عن
التأويل.
فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى واسع الاطلاع، ولا سيما في العلوم
العقلية، ولكنه كثير الخطأ، ولا سيما فيما يختص بعلوم السنة وآثار السلف،
وكلامه في تفسيره المشهور كثير التعارض والتناقض، وكثيرًا مما نتعقبه في
تفسيرنا، وإننا ننقل هنا من كلامه ما هو حجة عليه فيما ذكره من تفضيل ذكر الله
وندائه بضمير الغيبة، وهو قوله في سياق رد قول جهم في مسألة إطلاق مثل كلمة
شيء على الله تعالى من تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: ١٨٠) قال:
الحق في هذا الباب التفصيل، وهو أنا نقول: ما المراد من قولك أنه تعالى
شيء وذات وحقيقة؟ إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود
وشيء، فهو كذلك من غير شك ولا شبهة، وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى
بهذه الألفاظ أم لا؟ فنقول: لا يجوز لأنا رأينا السلف يقولون: يا الله يا رحمن
يا رحيم - إلى سائر الأسماء الشريفة - وما رأينا ولا سمعنا أن أحدًا يقول: يا ذات
يا حقيقة يا مفهوم يا معلوم، فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء
والدعاء واجبًا لله تعالى، والله أعلم اهـ.
ثم قال: المسألة الرابعة، قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: ١٨٠) يدل على أنه تعالى حصلت له أسماء حسنة، وأنه يجب على
الإنسان أن يدعو الله بها، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية،
ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال يا سخي، ولا أن
يقال: يا عاقل يا طبيب يا فقيه، انتهى بنصه، ونقول: ومثله: يا هو يا هو،
فإنه لم يقله أحد من السلف الصالح ولا هو جائز في لغة الدين وأولى منه بالإنكار
(أه) فإنه ليس من هذه اللغة، وإنما هو من اللغة السريانية كما قيل.
يقول المعترض على سائر العلماء:
٥- قد تبين مما تقدم أن نقل المعترض على فتوى شيخ الأزهر عن صحيح
مسلم ومستدرك الحاكم وعن الفخر الرازي كذب، وبقي ما نقله عن حاشية الحفني
على الجامع الصغير، وشرح العزيزي له، وعن حاشية الشيخ الأمير على متن
غرامي صحيح وحاشية الباجوري للجوهرة، فنقول فيه أولاً: إن ما نقله عن
الأولين هو في شرح حديث الأنين في المرض، وقد علمت أنه لا يصح، وفي
شرح حديث: (اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى) هكذا
ذكر المعترض ولم يذكر تتمة الحديث وهي (دعوة يونس بن متى) ، وهذه التتمة
تنفي ما يزعمه المعترض، وهذا الحديث عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى
ابن جرير عن سعد وبجانبه علامة الضعف، وأورد قبله حديث (اسم الله الأعظم
الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن، في البقرة وآل عمران وطه) ،
وعزاه إلى ابن ماجه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة وعلم عليه السيوطي في
جامعه بالصحة، وذكر غيره أن في سنده هشام بن عمار، وهو مختلف فيه على أنه
نص في خلاف ما يريد المعترض إثباته.
أما ما ذكره العزيزي في شرحه للجامع الصغير، فقد نقل عن العلقمي عشرين
قولاً في الاسم الأعظم، أولها إنكاره، وثانيها أنه مما استأثر الله بعلمه، والعشرون
ألم، ويعلم باقيها مما أوردناه عن الحافظ وليس فيها أن (أه) منها وتبعه الحفني في
ذلك.
وأما كلامهم في حديث الأنين فقد قال المناوي في شرحه له عند قوله: (فإن
الأنين من أسماء الله تعالى) ما نصه: أي لفظ (آه) من أسماء الله تعالى، لكن
هذا تتداوله الصوفية ويذكرون له أسرارًا، ولم يرد به توقيف من حيث الظاهر.
وأما الحفني فقد شرح الحديث في الجزء الثاني من حاشيته على الجامع
الصغير (ص ٢٧ من الطبعة الأميرية) فقال عند قوله: (دعوه يئن) أي يأتي
بقوله (آه) وقال عند قوله: (من أسماء الله) أي من أثر بعض أسماء الله كالضار
والقهار، فإذا تجلى تعالى على عبده بهذا الاسم حصل له الضر، وإلا فآه لم يرد أنه
من أسمائه تعالى اهـ.
وأما الشيخ الأمير فنستغني بما ذكره في حاشيته على عبد السلام شارح
الجوهرة، فقد قال عند قوله: (الأنين) : ينبغي أن يقال (آه) ؛ لأنه ورد اسمًا
لله دون آخ لما قيل من أنه من أسماء الشيطان، ونقل الباجوري قوله هذا، ولكنه لم
يذكر صيغة التمريض في كون آخ من أسماء الشيطان، وقول المناوي هو الصحيح؛
لأنه أعلمهم بالحديث والآثار وبالتصوف على أنهم كلهم ذكروا كلمة (آه) بالمد،
ولم يذكر أحد منهم قولاً في لفظة (أه) التي يدعيها المعترض، فسقط كل ما قاله
ولم يفده قول أحد منهم، بل كلهم حجة عليه لا له، فيا ليت شعري هل يرجع ذلك
الشاذلي المعترض وأمثاله إلى الحق بعدما تبين له أن كل ما استند إليه أهل طريقته
في ذلك باطل عملاً بعنوان اعتراضه (الرجوع إلى الحق فضيلة) ، إلا إذا وافق
الهوى التقليدي وإن كان كذبًا على الله ورسوله ومخالفًا لما كان عليه السلف الصالح
ومحققو الخلف في ذلك؟