للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حقيقة التصوف ومكانه من الشرع

(س٣) من صاحب الإمضاء
السلام عليكم ورحمة الله
إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا
وقع نظري على بعض الأعمال الدينية في بلدي المسمى بالسنبلاوين مما من
أجله أرجو أن تعرفونا حقيقة التصوف، وهل له قوانين وقواميس غير ما بينته
الشريعة المحمدية؟ وإذا كان هو ما جاءت به الحنيفة، فما الحاجة إليه والقرآن
والسنة بين يديه؟ وإن كان مخالفًا فمن أقر المبتدئ فيه عليه، ومن أين استنبط ذلك
المخترع تلك الطرق التي توصل إلى الله كما يعبرون؟ ولعمري إن صح هذا كان لله
طريقان: طريق بينه على لسان رسوله الكريم في كتابه المبين، وآخر قد هدى إليه
بعض عباده المهتدين.
وإنما دعاني إلى سؤالكم، والاستنارة بمناركم، ما أخشاه من كسوف شمس
شريعتنا في ذلك الأفق (أفق الصوفية) فإني أرى من ينسبون إليه ويدعونه قد
ولعوا بمقتضياته وشغفوا به حتى أنستهم الأذكار والأوراد التي يتغنون بها في
الساحات والأنحاء ومبالغاتهم في الشيوخ والأولياء - أنساهم ذلك أساس الدين وكبد
الشريعة (التوحيد) وهذا طبق ما أراه غريزة في بعض النفوس من الشغف
بالكماليات، وربما سحبت ذيول النسيان على الواجبات غشًّا منها لأصحابها، وأنهم
قاموا بما فرض عليهم، وارتقوا إلى أن وجب عليهم ما ندب إليه الدين، وزجًّا منها
بهم إلى زمرة المقربين الذين امتثلوا وأمضوا أوامر الدين.
وإن سبق لكم هذا، فأرجو من فضيلتكم إعادته باختصار، وذلك كما تعلمون
لقرب عهدنا بالمنار، لا زلتم مصدر الرشد وأهل الفضل والوقار.
... ... ... ... ... ... ... ... حسين محمد حسين النجار
... بمدرسة القضاء الشرعي
(المنار)
التصوف مصدر تصوف الرجل - أي صار صوفيًّا أي: أحد أفراد الطائفة
المعروفة بالصوفية، وأشهر الأقوال في المنسوب إليه أنه الصوف؛ لأنهم كانوا
يلتزمون لبسه وقيل: إنه كلمة سوفا أو سوفي باليونانية، ومعناها الحكمة، وذهب
الحافظ ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) أنه نسبة إلى صوفة وهو لقب
الغوث بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر؛ لأنه قد اشتهر عند العرب أنه
أول من انقطع إلى الله تعالى لعبادته عند بيته الحرام، وتسلسل ذلك في ولده،
فصار لقب (صوفة) يطلق على كل منهم، وناطت العرب به وبهم من بعده إجازة
الناس بالحج من عرفة ومنى، وهي الإفاضة منهما، فكانت لا تفيض منهما حتى
يفيض صوفة، فإذا حانت الإجازة تقول: (أجيزي صوفة) ، وكان سبب هذه
التسمية أن أم الغوث كان لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة
ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له ثم لولده من بعده صوفة. نقله عن السائب
الكلبي.
قال الحافظ المذكور: كانت النسبة في زمن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - إلى الإسلام والإيمان فيقال: مسلم ومؤمن، ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم
نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد فتخلوا عن الدنيا وانقطعوا إلى العبادة واتخذوا في
ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقًا تخلقوا بها، ثم ذكر نسبتهم التي لخصناها عنه
آنفًا. ثم قال في تاريخه ومبدئه: هذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين، ولما أظهره
أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة، وحاصله أن التصوف عندهم
رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق
الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخلال
الحسنة، ثم ذكر أن أوائلهم كانوا على ذلك حتى لبس عليهم الشيطان، فكان أول
تلبيسه أن صدهم عن العلم، وأراهم أن المقصود العمل، فلما انطفأ مصباح العلم
تخبطوا في الظلمات، فمنهم من غلا في ترك الدنيا وهي قوام مصالح الخلق،
ومنهم من أغري بتعذيب النفس بالجوع والعري والفقر الاختياري، ومنهم من
غلبت عليهم الخيالات، حتى قالوا بالحلول والاتحاد، وكانوا يعنون بالنظافة
والتنطع في الطهارة، وراجت عليهم لقلة العلم الأحاديث الموضوعة، وذكر بعد
هذا تصانيفهم وما فيها من الغلو في الدين والأحاديث الباطلة، ثم انتقل إلى بيان
ضروب التلبيس عليهم وما خالفوا فيه الشرع عن جهل أو تأول وأطال في ذلك،
وكتابه هذا جدير بأن يطبع.
ولشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية فتوى في الصوفية والفقراء نشرناها
في ج١٠ م١٢ من المنار، ثم طبعناها في رسالة على حدتها لتعميم نفعها، وقد
ضعف فيها القول بنسبتهم إلى صوفة؛ لأنها قبيلة كانت في الجاهلية ولا وجود لها
في الإسلام ورجح نسبتهم إلى الصوف، وقال: إن لفظ الصوفية لم يكن مشهورًا في
القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقال: إن أول ظهورهم كان في
البصرة؛ لأنه كان فيها من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف، ونحو ذلك مما لم
يكن في سائر الأمصار، ولهذا كان يقال: فقه كوفي وعبادة بصرية. وذكر بعض
أحوال الصوفية ووزنها بميزان الشرع وسيرة السلف الصالح كعادته، فبين الراجح
من الشائل فيها، وإن الناس فيهم بين ذام يرميهم بالابتداع والخروج عن السنة، وبين
غال يدعي أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، وأن الصواب هو الوسط، وهو أنهم
كغيرهم من الطوائف مجتهدون، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق
بالخيرات بإذن الله، ولكن انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ثم بين أن
كلامه في صوفية الحقائق الأولين، وأنه حدث بعدهم صنفان وهم صوفية الأرزاق
الذين يقيمون في الخوانك ويأكلون فيها ما وقف على الصوفية، وصوفية الرسم
الذين همهم تقليدهم في اللباس والآداب الوضعية، ويسهل على السائل أن يراجع
هذه الفتوى ويقرأها، ويقرأ ما كتبه ابن خلدون في مقدمته إن لم يكن قرأه، فإن
أكثره صواب.
وإننا قد ذكرنا في تاريخ الأستاذ الإمام عيون ما ذكره هؤلاء المحققون في بيان
حقيقة الصوفية، وزدنا عليهم مسائل مهمة استنبطناها من كتبهم، ومن كتب التاريخ
أجملناها في ورقتين مثل أوراق المنار ملخصها أن الصوفية طائفة انقطعت إلى
الزهد في الدنيا والعمل للآخرة برياضة النفس وتربية الإرادة، والأخذ بالعزائم
ومحاسبة النفس وحسن النية والمبالغة في العبادة، وغايتهم الوصول إلى تجريد
التوحيد وكمال المعرفة بالله تعالى، ثم ادعى حالهم من ليس منهم غشًّا وتلبيسًا،
ولبس لباسهم من تناقض حاله حالهم دعوى وتقليدًا، وإن رياضة النفس وتزكيتها
تثمر للصادق فيها علمًا وعرفانًا بسنن الله في الأرواح وأسرار قواها، وأحوالاً
وأذواقًا غريبة غير مألوفة ولا معروفة لغير أهلها (منها) التأثير بقوة الإرادة في
بعض أمور الكون كشفاء مريض، وتنفير من الشر وجذب إلى الخير، ويسمونه
التأثير بالإرادة أو الهمة، (ومنها) معرفة بعض الأمور من غير طريق الحس أو
الفكر، وهو مايسمونه الكشف، (ومنها) الغوص على دقائق أسرار الشريعة
وحكمها، وصفات النفوس البشرية وقواها وعللها إلخ، ومنها غير ذلك مما لا حاجة
إلى ذكره هنا.
وإن هذا التصوف برياضة النفس قد سبق المسلمين إليه قدماء الهنود والصينين
واليونان، وقد سرى إلى المسلمين كثير من بدع أولئك الأقوام وضلالاتهم وشعائرهم
وشاراتهم كالسبح والأعلام، حتى إنهم أخذوا عنهم فلسفة وحدة الوجود فصارت غاية
الطريق عندهم، وبث الباطنية في التصوف ضلالات أخرى شر أصولها التأويل
البعيد للآيات والأحاديث وطامة الإذعان لكل ما يأمر به السالكين شيوخهم، وإن كان
منكرًا، وعدم الإنكار عليهم في شيء، وكانت الباطنية تقصد بهذا التعاليم إفساد دين
الإسلام وإبطاله، وإزالة ملكه بالدسائس التي وضعها عبد الله بن سبأ اليهودي
وجمعيات المجوس السرية التي بثت في المسلمين دعوة الغلو في التشيع لآل البيت،
والطعن في أعاظم الصحابة؛ لإفساد دين العرب وتقويض دعائم ملكهم بالشقاق
الداخلي؛ لتتمكن تلك الجمعيات بذلك من إعادة ملك المجوس وسلطان دينهم اللذين
أزالهما العرب بالإسلام، ولولا هذان الأصلان - التأويل والطاعة المطلقة - لما
راجت الضلالات والبدع في هذه الطائفة؛ لأن أصل طريقتها تزكية النفس بالعلم
والعمل الشرعيين مع الصدق والإخلاص والأخذ بالعزائم ومحاسبة النفس حتى على
الخواطر، ومن المأثور المشهور عن أئمة الصوفية قولهم: التصوف أخلاق، فمن
زاد عليك في الأخلاق زاد عليك في التصوف. ومن قواعد الإسلام المنصوصة
المعلومة منه بالضرورة أنه (لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف) وهذا
اللفظ من حديث مرفوع في الصحيحين وغيرهما عن علي - كرم الله وجهه -، وفوقه
قول الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في آية المبايعة: {وَلاَ يَعْصِينَكَ
فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: ١٢) .
ثم بينا هنالك أنه لا سبيل إلى تصفية التصوف من البدع إلا بتحكيم الكتاب
والسنة وسيرة السلف الصالح فيه قبولاً وردًّا بعد بيان أن الضلالات والبدع المتغلغلة
في كتب الصوفية قسمان - ما أخذه الباطنية من صوفية البراهمة واليونان ودسوه
في التصوف الإسلامي، وليس له أصل في الكتاب ولا في السنة إلا ما زعموه من
التأويلات المخالفة للغة والشرع - وما أحدثه بعض شيوخ الطريقة من الأوراد
والشعائر الدينية المخالفة للسنة في ذاتها وأصلها، أو في صفتها وطريقة أدائها،
حتى إن بعض كبار الفقهاء والمتكلمين روجوا بعض هذه البدع والآراء بالتأويلات،
والتوسع فيما جوزه بعضهم من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ولم
يراعوا ما اشترطه المحققون في هذا من الشروط - فترى مثل الغزالي من أكبر
أئمة علماء الكلام والفقه يرغب في بعض العبادات المبتدعة مستدلاًّ عليها بهذه
الأحاديث الواهية أو الموضوعة دع ما يتعلق منها بالاعتقاد.
مثال ذلك صلاة الرغائب في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان ذكرهما
الغزالي في الإحياء مستدلاًّ عليهما بما ورد فيهما وهو موضوع، وقد قال فيهما
النووي في منهاجه: وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. ولم يكن
النووي أعلم بفقه الشافعي من الغزالي، بل قال بعض العلماء: إن كتب الشيخين
الرافعي والنووي مأخوذة من كتبه التي حرر بها المذهب كما قال فيه وفيها بعضهم:
حرر المذهب حبر ... أحسن الله خلاصه
ببسيط ووسيط ... ووجيز وخلاصه
ولكن النووي كان أعلم منه بالسنة، فإن الغزالي لم يتوسع في علم السنة إلا
في آخر عمره (ونعمت الخاتمة التي وفقه الله لها بحسن نيته وإخلاصه له الدين)
ولعله لم يؤلف بعد ذلك شيئًا.
فهذا مثال ما أخذوا فيه بالموضوع، ومما أخذوا فيه بالضعيف الواهي - وهو
أكثر - دعاء الوضوء، قال في المنهاج: وحذفت دعاء الوضوء؛ إذ لا أصل له.
وهو يعني الدعاء الذي ذكره الرافعي تبعًا للغزالي، واعتذر الشمس الرملي شارح
المنهاج عنه بأنه يعني أنه ليس له أصل صحيح، أو لم يكن مستحضرًا لما ورد فيه
من حديث ضعيف ورد من طرق، والضعيف يعمل به في الفضائل ما لم يشتد
ضعفه فيما له أصل صحيح كلي، ولكن لا يستدل به على السنية، هذا ما أذكره
عنه بالمعنى، وذكر أن والده الشهاب الرملي اعتمد دعاء الوضوء، وأقول: إن
النووي نفى ورود شيء من السنة في دعاء الوضوء في مواضع من كتبه، ومنها
الأذكار، وتعقبه صاحب المهمات فقال: ليس كذلك، بل روي من طرق منها عن
أنس رواه ابن حبان في ترجمة عباد بن صهيب، وقد قال أبو داود: إنه صدوق
قدري. وقال أحمد: ما كان بصاحب كذب. وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: لو لم
يرد فيه إلا هذا لمشى الحال، ولكن بقية ترجمته عند ابن حبان: كان يروي
المناكير عن المشاهير حتى يشهد المبتدئ في هذه الصناعة (أي رواية الحديث)
أنها موضوعة وساق منها هذا الحديث اهـ. وقال الذهبي في ترجمته في الميزان:
وروى عن حميد عن أنس بخبر طويل في الذكر على الوضوء باطل إلخ.
أقتصر على هذين الشاهدين من الأخذ بالأحاديث الموضوعة والواهية
لنصوص الفقهاء فيهما، وهم الذين يعول الجمهور على كلامهم، ويرجحونه على
كلام سائر العلماء فيما اختلفوا فيه؛ لأنهم هم الذين انتدبوا لتحرير فقه الأئمة الذين
يدعي الناس تقليدهم، وكانت الحكام تحكم بما دونوه في كتبهم، ولا تقبل الفتوى إلا
منها حتى صار جماهير المنتسبين إلى طرق الصوفية يتبعون هؤلاء الفقهاء وإن
كان الصوفي الحقيقي - وهو العارف بربه العالم بدينه العالم به - لا يقلد أحدًا، وقد
احتكر الفقهاء لأنفسهم حق ترجيح أقوالهم على أقوال المفسرين والمحدثين، بله
الصوفية والمتكلمين، كما صرح به ابن حجر الهيثمي في الفتاوى الحديثة، وكان
الصواب أن يحكم علماء الآثار من التفسير والحديث، وسيرة سلف الأمة في كل
خلاف وتنازع يقع بين المسلمين ليبينوا لهم حكم الله ورسوله فيه؛ عملاً بقوله عز
وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) ، ولا خلاف بين أحد من
العلماء في معنى هذا الرد، بل هم متفقون على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه،
والرد إلى الرسول بعد وفاته هو الرد إلى سنته، وعلماء الآثار هم المختصون بعلم
ما صح في التفسير، ومن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرة السلف،
وكثيرًا ما يأخذ الفقهاء بما لا يصح من الأحاديث، وقد يحكمون بالقياس مع وجود
النص، بل يأخذون بأقوال المصنفين المنتمين إلى مذاهبهم، وإن لم يعرفوا لها
دليلاً ولا نصًّا من كلام أئمتهم المجتهدين، ولا سيما المتأخرين منهم، وقد أعطوا
للمشتغلين بكتبهم سلاحًا يحاربون به نصوص الكتاب والسنة اعتذارًا بالتقليد، فكل
كتاب ينتمي مصنفه إلى مذاهبهم يحتج به عندهم ويعمل بما فيه، ولكن لا يجوز
الاهتداء عندهم بالكتاب ولا بالسنة إلا من هداه الله ووفقه، ولم تضل أمة من أمم
الرسل عن دينها أبعد من ضلال هؤلاء، ولولا حفظ الله لكتابه وتوفيقه الحفاظ
لتدوين السنة لتعذر الإصلاح ومعرفة حقيقة الإسلام، وقد سبق لنا بيان هذا مرارًا
كثيرة، آخرها ما بسطناه في الكلام على فتوى شيخ الأزهر في إنكار بعض البدع،
وما فصلناه في الفتوى الأولى والثانية من جزئي المنار اللذين قبل هذا.
وجملة القول في صوفية المسلمين أن علماءهم كسائر أصناف علماء
المسلمين الذين استعملوا عقولهم في الدين من المتكلمين والفقهاء كل صنف قد انفرد
بالتوسع في علم، فجاء فيه بما لم يجئ به غيره، وكل منهم أخطأ وأصاب،
فالصوفية أتقنوا علم الأخلاق والآداب الدينية وحكم الشريعة وأسرارها، وطرق
تزكية النفس وإصلاحها، وهذا غرض الدين ومقصده، فإن كانوا قد غلوا وأتوا
ببعض ما يخالف النصوص، ودخل في كتبهم وأعمالهم من تصوف الأمم السالفة،
ومن البدع ما ينكره الإسلام، فالمتكلمون أيضًا قد دخل في كتبهم مثل ذلك من
الفلسفة اليونانية وغيرها من البدع المخالفة للنصوص ولما كان عليه السلف،
وكذلك الفقهاء قد دخل في كتبهم مثل ذلك بالرأي والقياس والأخذ بالأحاديث الضعيفة
والموضوعة، وكل من في هذا العصر من المنتحلين لطرق الصوفية، فهو منتم
إلى أحد مذاهب الفقهاء والمتكلمين، فلو صلح حال المشتغلين بعلم الفقه لأمكنهم
إصلاح أهل الطريق، وأنى يصلح غيره من لم يصلح نفسه؟ وأنى يصلح نفسه
أو غيره من اتخذ علم الدين حرفة للارتزاق به، فهو يخدم ويطيع من يعتقد أو يظن
أو يتوهم أن أمر رزقه بيده، ولو فيما يضر ملته وأمته؟
من هذا البيان الوجيز المفيد يعلم السائل حقيقة التصوف، وأن له كتبًا تشبه
القوانين أكثر ما فيها منصوص أو مستنبط من الشرع، أو غير مخالف له،
وبعضها بدع تلصق به إلصاقًا بشبهات وتأويلات باطلة. وأحسن الكتب في تصوف
الحقائق، وأسلمها من مخالفة الكتاب والسنة فيما نعلم كتاب (مدارج السالكين) ،
وأما سؤال السائل عن وجه الحاجة إليه مع وجود الكتاب والسنة، فجوابه: إن
علمي الكلام والفقه يشاركان التصوف في هذا السؤال وجوابه، فكما شعر المسلمون
بالحاجة إلى تصنيف الكتب في بيان أصول العقائد التي تستند إلى الكتاب والسنة
للتمييز بينها وبين البدع، وإثباتها بالأدلة النظرية الفنية التي كانت مألوفة بانتشار
كتب الفلسفة، ورد شبهات المخالفين على هذه العقائد، وكما شعروا بالحاجة إلى
تدوين علم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات لإيضاح ما جاء في الكتاب
والسنة من النصوص، وما يمكن أن يستنبط منها، ولو بطريق القياس الذي احتج
على إثباته ببعضها، كذلك شعروا بالحاجة إلى تدوين الكتب لبيان طريقة التربية
والتأدب بالآداب المنصوصة فيهما، أو المستنبطة منهما، والمفصلة لما فيهما من
الإجمال، وقد قلنا آنفًا: إن ما وقع في كتب الصوفية من المخالفة لبعض
نصوصهما وسيرة السلف الصالح الذين أجمعت كل الفرق على تفضيلهم وخيريتهم
وقع مثله في كتب المتكلمين والفقهاء، يعلم ذلك من كتب السنة، ومن الكتب التي
يرد فيها كل منهم على الآخر، والفقهاء المقلدون يوجبون طاعة شيوخهم الذين
التزموا تقليد مذاهبهم، ويجعلون كلامهم أصلاً في الدين يردون به نصوص الكتاب
والسنة بتأويل أو غير تأويل، كما يوجب المتصوفة طاعة شيوخهم المسلكين،
ويؤولون ما خالفوا فيه الشرع، ولكن لا يقولون: إنه أصل في الدين يجب على الناس
اتباعه شرعًا، بل شبهة هذه الطاعة عندهم أن التربية المرادة من سلوك الطريقة
تتوقف على هذه الطاعة مؤقتًا لا دائمًا، وأن كلامهم في الحقائق رموز لا يفهمها
غيرهم.
وقد ذكر المحقق ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) أمثلة كثيرة لما خالف
فيه المقلدون للمذاهب المشهورة النصوص الصحيحة الصريحة المحكمة اتباعًا
لأقوال شيوخهم، واحتجوا لهذه الأقوال بالأقيسة، أو بجعل المتشابه أصلاً للمحكم،
أو بأحاديث لا تصح، ولا يحتج بها بحسب القواعد الأصولية، ومنها ما احتجوا له
بعبارة من حديث صحيح يردون باقيه المخالف للمذاهب، وهذا من عجيب أمرهم
كما قال، وقد أورد له ستة وستين شاهدًا في الوجه التاسع عشر من وجوه الرد على
المقلدين التي بلغت ٨١ وجهًا، فليراجعها السائل ومن شاء في الفصل المعقود للكلام
في القياس والتقليد من الجزء الأول من هذا الكتاب الجليل.
ثم إنه عقد بعد هذا الفصل فصلاً آخر في (تحريم الإفتاء والحكم في دين الله
بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص، وذكر إجماع
الفقهاء على ذلك) وقد أورد في هذا الفصل ٧٧ مثالاً لرد أهل المذاهب السنة
الصحيحة الصريحة المحكمة بالقياس، أو بغير الصحيح أو بالمتشابه، وذكر في
الوجه الثامن منها بعض شبهاتهم، ورد عليها باثنتين وخمسين وجهًا كلها شواهد
تؤيد ما ذكرناه.
فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يخشى السائل كسوف شمس الشريعة في أفق
الصوفية دون غيرهم، وهو يعلم أن المنتحلين لطرق التصوف والمنتحلين لمذاهب
الفقه لا تزييل بينهم ولا تمييز، فلا هؤلاء على هدي أئمة الفقه من علماء السلف
كمالك والشافعي، ولا أولئك على هدي أئمة التصوف كالجنيد والشبلي وأمثالهم من
عباد السلف، فالحق أن جميع الفرق لها حسنات وسيئات {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ
مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: ١٣-١٤) ، وأكثر مسلمي هذا العصر ضعفاء في الدين
علمًا وعملاً، ولا سيما في البلاد التي ليس فيها حكومة إسلامية تقيم الحدود وتلتزم
الشرع، والبلاد ذات الحكومة الإسلامية على قلتها بعضها شديد التعصب لمذهب
معين، كالبلاد الأفغانية المتعصبة لمذهب الحنفية، وحكومة اليمن المتعصبة لمذهب
الزيدية، فهذان لا يرجى أن يكون فيهما إصلاح إسلامي عام؛ لاستحالة اتباع جميع
المسلمين لهذا المذهب أو ذاك، وبعضها شديد الغلو في العمل مع ضعف في العلم
كبلاد نجد، ولكن لهذه مزية لا نعرفها لبلاد أخرى من بلاد المسلمين في هذا العصر،
وهي أنهم وإن كانوا منتمين إلى مذهب الإمام أحمد، فلا نعرف جماعة من
جماعات الإسلام غيرهم تقبل اتباع كل ما يثبت في الكتاب والسنة وسيرة السلف
الصالح وتدعو إليه، وترد ما خالفه وإن قاله أو كتبه حنبلي مثلهم، ومع هذا يرميهم
كثير من المسلمين بالابتداع والضلال، ومنهم من يكفرهم، كما يرمون بذلك من
يدعو إلى الكتاب والسنة من الأفراد، وأي بلاء أشد على الإسلام من هذا؟ وإذا
قيض الله لهذه البلاد أن يتسع فيها العلم، فإنها تحيي الإسلام في جزيرة العرب،
ومن ثم يتجدد في سائر العالم فيعود الأمر كما بدأ.
قال - صلى الله عليه وسلم -: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ
فطوبى للغرباء) رواه مسلم عن أبي هريرة والنسائي عن ابن مسعود وابن ماجه
عنهما وعن أنس. وروى مسلم من حديث ابن عمر مرفوعًا: (إن الإسلام بدأ
غريبًا وسيعود كما بدأ ويأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) ، وفَسَّر
الغرباء في حديث آخر مرفوع بقوله: (الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من
سنتي) رواه الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني، صدق رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فقد عاد الإسلام غريبًا كما بدأ حتى صار المسلم الحق
المحيي للسنة غريبًا مطعونًا في دينه، فإذا قوي هؤلاء الغرباء الذين يحيون ما
أمات الناس من سنته - صلى الله عليه وسلم - واعتزوا بعد ضعفهم الذي هو عليه
اليوم كما كان سلفهم في بدئه، فإن غربته تستتبع المجد والعزة لله ولرسوله
وللمؤمنين آخرًا كما استتبعه أولاً لاتحاد السبب.
إن العالم الإسلامي ليئن من ضعف دينه وامتهان شعوبه بامتهانه، وإنه ليتبرم
من سوء حال سادته وكبرائه، والمنتحلين لعلم الدين، ومن جهل أكثرهم بما يجب
من الخدمة في هذا العصر، وقعودهم عنها حتى امتهنوا وسقطوا من مكانتهم
الاجتماعية، ولم يبق بأيديهم من مصالح الأمة شيء يعتد به، بل وطنوا أنفسهم في
بعض البلاد على الحرمان منها، ورضوا بعدم مشاركة غيرهم حتى للبحث فيها،
وأنه سيضطر علماء الأزهر وأمثالهم من معممي سائر الأقطار إلى الإصلاح الذي
كانوا يقاومونه، وإنما يضطرهم إلى ذلك باحتقاره لما هم عليه اليوم؛ إذ قرب أن
يزول ما كانوا يعتزون به من اتباع السواد الأعظم من العوام لهم، وتقبيلهم لأيديهم
ومواساتهم بالهدايا والصدقات والوصايا، فبهذا كانوا إذا قام فيهم مصلح كالسيد
الأفغاني الحكيم، والأستاذ الإمام همسوا في آذان هؤلاء العوام: هذا معتزلي، هذا
فيلسوف، هذا كافر يريد أن يفسد عليكم دينكم، فحافظوا على تقاليدكم وموالدكم
واستغاثتكم بأهل القبور الذين يتوسطون لكم عند الله بدفع النقم وحفظ النعم، التي
جعلتكم وراء جميع الأمم.
نعم أوشك أن يزول ذلك، بل زال إلا قليلاً , وقد رأينا ما كان من تأثير موت
الأستاذ الإمام وموت غيره من أكابر الشيوخ الذين تولوا منصب الإفتاء مثله وتولوا
ما لم يتول من مشيخة الأزهر، اضطرب القطر المصري واهتز العالم الإسلامي
كله لموت الأستاذ الإمام بأشد مما اضطربت بيوت أولئك الشيوخ لموتهم الذي لا
يكاد يشعر به، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يعيشون لأنفسهم وبيوتهم، وكان يعيش
لأمته وملته.
سبقت الهند مصر وسورية والحجاز في إحياء السنة علمًا وعملاً، وقد
تمهدت العقبات أمام مصر، وبدت طلائع الإصلاح في نابتة الأزهر، ولكن الحركة
فيه لا تزال بطيئة، ولا تسرع بها إلا صدمات المعارضة والمقاومة لها، وحينئذ
تجد من طلاب الإصلاح الديني والدنيوي أعوانًًا وأنصارًا تجرئها، ويتعاون رجال
الدين ورجال المدنية على الإصلاح الإسلامي الديني المدني، ويظهر صدق قولنا
في المقصورة بعد التنويه بما قام به الأستاذ الإمام من الاجتهاد في إصلاح الأزهر:
فإن يك الأزهر لم يصلح بها ... فقد نأى عن سبل من كان مأى [١]
ونبتت من غرسه نابتة ... ستلأم الصدع وترأب الثأى
وترفع الحجب عن المعهد أو ... يعود جحر الضب حيًّا كامنا [٢]
إذًا ينال وهو قد أشفى الشفا ... من معضل بات به على شفا
ثمت ولى المصلحون شطره ... ألا يفيضون علومًا وهدى
فأحيوا الإسلام في أنفس من ... داناهم بهجره صرف الردى
فعاد آهلاً إلى موطنه ... من غربة طال بها عهد النوى
واستتبعت غربته المجد كما ... كان فعاد الأمر مثلما بدا
فتبين بهذا أن خوف السائل على الإسلام من بدع خلف المتصوفة هو من قبيل
توقع الواقع، وإنما يتلافى هذا الواقع فيهم وفي غيرهم بتجديد يكون سريعًا إذا أيدته
حكومة إسلامية، وبطيئًا إذا لم يتح له ذلك في بدء التجديد، وإنما يكون التجديد
بالتعارف والتعاون بين الطائفة التي بشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أمته
لا تخلو من وجودها، فإنها الآن متفرقة في البلاد، ما من قطر إلا وفيه أفراد منها،
ففي حديث ثوبان في الصحيحين وكتب السنن: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين
على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) ، وفي معناه أحاديث
أخرى.
وأهم القواعد التي يجب بناء الإصلاح عليها هي:
١- الاعتراف بإسلام كل مذعن لما أجمع عليه المسلمون من أمر الدين.
٢- بث دعوة العمل بهداية الكتاب والسنة الصحيحة وسيرة السلف الصالح
فيهما كما أثبته علماء الحديث بالأسانيد المعتمدة، وترك ما خالفه من أنظار
المتكلمين وآراء الفقهاء، ولا نزيد في أمور العبادات والحلال والحرام على ذلك،
ولا ننقص منه، وقد بينا حجج هذه المسألة مرارًا، وليس معنى هذا أن يكون
المهتدي بذلك إمامًا مجتهدًا، بل أن يكون على بصيرة من دينه على طريقة السلف
عوامهم وخواصهم مع الاستعانة على فهم النصوص بما فسرها به العلماء.
٣- عدم التعصب لبعض المذاهب على بعض، وذلك بأن نعذر كل متبع لإمام
من أئمة السلف المجتهدين في حكم من الأحكام من أئمة آل البيت كزيد بن علي
والصادق والباقر وأئمة فقهاء الأمصار كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأئمة
الصوفية كالجنيد، وعلماء الصحابة والتابعين بالأولى، ولا نكفر مسلمًا مذعنًا بذنب
ولا بدعة ارتكبها بجهل، أو بشبهة اتباع إمام أو بتأول، ومتى زال التعصب تكون
المناظرة بين المختلفين في ذلك بالدليل الشرعي مع الأدب والاحترام واتقاء الشقاق
والتفرق بين المسلمين، ويتبع دعاة الإصلاح في ذلك قاعدة الإمام مالك: كل أحد
يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، يعني النبي - صلى الله عليه
وسلم - فلا يتعصبون لشخص معين غير الرسول - صلوات الله وسلامه عليه -
ولا لجماعة غير الصحابة رضوان الله عليهم، فما أجمعوا عليه فلا مندوحة عن
اتباعه، وما اختلفوا فيه يرجح فيه ما كان دليله أقوى، والآخذون به من التابعين
وسائر علماء السلف أكثر، فإنه قلما يسلم عالم مجتهد من شذوذ كبار العلماء الذين
خالفوا الجمهور، وليكون شرحًا لقاعدة الإمام مالك رحمه الله تعالى.
٤- الاستعانة بإرشاد الكتاب والسنة على الإصلاح الدنيوي مع تحصيل العلوم
والفنون التي ترتقي بها الزراعة والصناعة والتجارة والقوى الحربية، فإن هذا
مفوض إلينا بتلك الهداية التي نصت على أن الله خلق لنا ما في الأرض جميعًا،
وأمرتنا بأن نعد لحفظ دعوة الحق ما نستطيع من قوة، وقال رسولنا - صلى الله
عليه وسلم -: (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا
أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواهما
مسلم في صحيحه.
ولهذه المسائل تفصيل شرحناه في المنار مرارًا، بل كان المنار في جملته
وتفصيله دعوة إلى الإصلاح الإسلامي المبني على أساس اتباع جمهور السلف
الصالح في أمور الدين رواية ودراية، وعملاً بلا زيادة ولا نقص، ويا ليتنا نبلغ
مُدّ أحدهم أو نصيفه، واتباع ما تقتضيه المصلحة ويثبته العلم والاختبار في أمور
الدنيا مطلقين لاجتهادنا العنان فيه، وهذا اتباع للسلف فيما فهموه من هدي الكتاب
والسنة أيضًا، كما يعرف من سيرتهم في فتح البلاد وإنشاء الداواوين وتمصير
الأمصار وتدوين العلوم والفنون والعمل بها، وهو مذهب إمام دار الهجرة مالك بن
أنس كما بينه الشاطبي في الاعتصام وغيره {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى
صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: ١٠١) .