للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


شرح قاعدة
لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب
(٢)

تتمة كلام شيخ الإسلام وهو في الاختلاف في الدين
ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغي على الآخر، فيكفر بما معه من الحق
مع علمه أنه حق، ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع علمه بأنه باطل، وهؤلاء
كلهم مذمومون، ولهذا كان أهل الاختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة،
فإنه ما منهم إلا من خالف حقًّا واتبع باطلاً، ولهذا أمر الله الرسل أن تدعو إلى
دين واحد وهو دين الإسلام، ولا يتفرقوا فيه، وهو دين الأولين والآخرين من الرسل
وأتباعهم، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى
المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: ١٣) ، وقال في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: ٥١-٥٣) ؛ أي: كتبًا اتبع كل قوم كتابًا مبتدعًا غير كتاب الله،
فصاروا متفرقين مختلفين؛ لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية
المحضة التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في
قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: ٥) ، وقال في الآية الأخرى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ
المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: ٣٠-٣٢) ، فنهاه أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا،
وأعاد حرف (من) ليبين أن الثاني بدل من الأول، والبدل هو المقصود بالكلام،
وما قبله توطئة له، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (هود: ١١٠) إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: ١١٨-١١٩) ، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وقد ذكر في غير
موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام، كما قال تعالى عن نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ
مِنَ المُسْلِمِينَ} (يونس: ٧٢) ، وقال عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ
أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: ١٣١-١٣٢) ، وقال يوسف:
{فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: ١٠١) ، {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ
تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (يونس: ٨٤) ، وقال عن السحرة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: ١٢٦) ، وقال عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ
نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (النمل: ٤٤) ، وقال: {يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} (المائدة: ٤٤) ، وقال:
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَننَا
مُسْلِمُونَ} (المائدة: ١١١) ، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد) وتنوع الشرائع لا يمنع أن يكون الدين
واحدًا وهو الإسلام، كالدين الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإنه
هو دين الإسلام أولاً وآخرًا، وكانت القبلة في أول الأمر بيت المقدس، ثم صارت
القبلة الكعبة، وفي كلا الحالين الدين واحد وهو دين الإسلام، فهكذا سائر ما شرع
للأنبياء قبلنا، ولهذا حيث ذكر الله الحق في القرآن جعله واحدًا وجعل الباطل
متعددًا كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن
سَبِيلِهِ} (الأنعام: ١٥٣) ، وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: ٦-٧) ، وقوله:
{اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (النحل: ١٢١) ، وقوله: {وَيَهْدِيَكَ
صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (الفتح: ٢) ، وقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُمَاتِ} (البقرة: ٢٥٧) ، وهذا يطابق ما في كتاب الله من أن الاختلاف
المطلق كله مذموم، بخلاف المقيد الذي قيل فيه: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ
وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} (البقرة: ٢٥٣) ، فهذا قد بين أنه اختلاف بين أهل الحق
والباطل كما قال: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج: ١٩) ، وقد
ثبت في الصحيح أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر في حمزة عم رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وعلي وعبيدة بن الحرث ابني عميه والمشركين الذي
بارزوهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة.
وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس عملاً مجردًا مثل
كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ولأبي
عيسى الوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام على
اختلاف طبقاتهم، فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم، وأما
الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة، فلا يوجد
فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول
الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه،
بل لا يعرفونه، ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام، ولهذا يوجد الحاذق
منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك [١] إذا لم
يجد في الاختلافات التي نظر فيها، وناظر ما هو حق محض، وكثير منهم يترك
الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب، كما قال أبو المعالي
وقت السياق: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في
الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها
أنا ذا أموت على عقيدة أمي.
وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة بعد أن نظر فيما
كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تيسر له من طرق العبادة
والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث بالبخاري ومسلم، وكذلك
الشهرستاني مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، وصنف
فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام وقال: قد أشار علي مَن إشارته غُنم،
وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول، ما أشكل على ذوي العقول، ولعله
استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم.
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعًا كف حائر ... على ذقن أو قارعًا سن نادم
فأخبر أنه لم يجد إلا سائرًا شاكًّا مرتابًا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه،
فالأول في الجهل البسيط {كظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ
يَرَاهَا} (النور: ٤٠) ، وهذا دخل في الجهل المركب ثم تبين له أنه جهل فندم،
ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججها، ولا يكاد يرجح شيئًا للحيرة،
وكذلك الآمدي الغالب عليه الوقف في الحيرة، وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد،
بل في الموضع منه ينصر قولاً، وفي موضع آخر منه، أو من كتاب آخر ينصر
نقيضه، ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك، ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم
بالله وبصفاته وأفعاله ذكر على أن كلاًّ منها إشكال [٢] وقد ذكرت كلامه وبينت ما
أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع، فإن الله قد أرسل رسله بالحق، وخلق عباده
على الفطرة، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله وجد الهدى واليقين الذي لا
ريب فيه ولم يتناقض، ولكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية بما
حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق، كما قد ذكر
تفصيل ذلك في موضع غير هذا.
والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، ومن
الذي ذاق من هذا الشراب:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً
ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات
{ِإلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: ١٠) {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: ٥) ، وأقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: ١١) {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: ١١٠) ، ومن جرب مثل
تجربتي عرف مثل معرفتي، وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في
الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي
عليلاً أو يروي غليلاً، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من
مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في
المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره، وهكذا غيره من أهل الكلام
والفلسفة ليس هذا من خصائصه، فإن الحق واحد ولا يخرج عما جاءت به
الرسل، وهو الموافق لصحيح العقل وفطرة الله التي فطر عليها عباده، وهؤلاء
لا يعرفون ذلك بل هم {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا} (الروم: ٣٢) ،
وهم مختلفون في الكتاب {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (البقرة: ١٧٦) .
وقال الإمام أحمد في خطبة مصنفه الذي صنفه في محبسه في الرد على
الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله قال:
(الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من
ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون
بنور الله أهل الضلالة والعمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه ضال
قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن
كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية
البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون
على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون
بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم) . وهو كما وصفهم
رحمه الله، فإن المختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام، إما نقلاً مجردًا
للأقوال، وإما نقلاً وبحثًا وذكرًا للجدال مختلفون في الكتاب، كل منهم يوافق بعضًا
ويرد بعضًا، ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه، وما يخالفه هو
المتشابه الذي يجب تأويله، أو تفويضه، وهذا مجرد في كل مصنف في الكلام.
اهـ.
هذا ما أحببنا نقله من كلام شيخ الإسلام في هذا المقام، وقد أطال بعده في
وصف المتكلمين وخلافهم، وفضل الأشعري على غيره في معرفة الفرق ومذاهبها،
وذكر خلاف الفلاسفة أيضًا، ونصر مذهب السلف بالعقل والنقل على مذاهب
جميع المتكلمين والفلاسفة، ولا يهولنك تخطئة هذا الرجل لجميع أولئك الأساطين
من الفلاسفة والنظار غرورًا بشبهة الشيطان؛ لأنه لا يعقل أن يكون هو أعلم منهم
أو أذكى، حتى يكون أحق بالصواب وأولى، فالرجل ليس صاحب مذهب مخترع
تعارضت أدلته مع أدلة هذه الفرق، واشتبه علينا الأمر حتى نرجح قوله على كل
منها، أو نرجح غيره عليه، بل هو ناصر مذهب جمهور السلف الصالح بالأدلة
العقلية التي انخدع بنظرياتها كل من شذ عنه قليلاً أو كثيرًا، وأساس مذهبهم
الإيمان بكل ما جاء في كتاب الله وصح عن رسوله على الوجه الذي كان عليه خير
الأمة قبل افتتانها بالنظريات التي فرقتها شيعًا، ونحمد الله أن سخر لها من هدم كل
ما خالف السلف من تلك النظريات بأدلة من جنسها هي أقوى منها، وأثبت
بالبرهان أن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، ويتضمن هذا إثبات أن
هذا الدين من عند الله؛ إذ لو كان من عند الرسول أو غيره لترقى بأبحاث المتكلمين
والفلاسفة، وكان المتأخر أصح رأيًا فيه من المتقدم.
وقد استوفى الرد على أولئك المخالفين للسلف من المنتسبين إلى مذاهب السنة
والمبتدعة والفلاسفة في كتابه (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ، وإنني
أنقل منه هنا ما ختم به الوجه السابع من الوجوه التي تكلم فيها على تقديمهم العقل
على النقل عند التعارض وهو:
***
تفنيد ابن تيمية لقول المتكلمين بتقديم النظريات
العقلية على النصوص السمعية
والمقصود هنا التنبيه على أنه لو سوغ للناظرين أن يعرضوا عن كتاب الله
تعالى ويعارضوه بآرائهم ومعقولاتهم لم يكن هناك أمر مضبوط يحصل لهم به علم
ولا هدى، فإن الذين سلكوا هذه السبيل كلهم يخبر عن نفسه بما يوجب حيرته
وشكه، والمسلمون يشهدون عليه بذلك، فثبت بشهادته وإقراره على نفسه وشهادة
المسلمين الذين هم شهداء الله في الأرض أنه لم يظفر من أعرض عن الكتاب
وعارضه بما يناقضه بيقين يطمئن إليه ولا معرفة يسكن بها قلبه، والذين ادعوا في
بعض المسائل أن لهم معقولاً صريحًا يناقض الكتاب قابلهم آخرون من ذوي
المعقولات، فقالوا: إن قول هؤلاء معلوم بطلانه بصريح المعقول، فصار ما يدعى
معارضة للكتاب من المعقول ليس فيه ما يجزم بأنه معقول صحيح إما بشهادة
أصحابه عليه وشهادة الأمة، وإما بظهور تناقضهم ظهورًا لا ارتياب فيه، وإما
لمعارضة آخرين من أهل هذه المعقولات لهم، بل من تدبر ما يعارضون به الشرع
من العقليات وجد ذلك مما يعلم بالعقل الصريح بطلانه، والناس إذا تنازعوا في
المعقول لم يكن قول طائفة لها مذهب حجة على أخرى، بل يرجع في ذلك إلى
الفطر السليمة التي لم تتغير باعتقاد يغير فطرتها ولا هوى، فامتنع حينئذ أن يعتمد
على ما يعارض الكتاب من الأقوال التي يسمونها معقولات، وإن كان ذلك قد قالته
طائفة كبيرة لمخالفة طائفة كبيرة لها، ولم يبق إلا أن يقال: إن كل إنسان له عقل
فيعتمد على عقل نفسه، وما وجده معارضًا لأقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم -
من رأيه خالفه، وقدم رأيه على نصوص الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -
ومعلوم أن هذا أكثر ضلالاً واضطرابًا، فإذا كان فحول النظر وأساطين الفلسفة
الذين بلغوا في الذكاء والنظر إلى الغاية، وهم ليلهم ونهارهم يكدحون في معرفة
هذه العقليات، ثم لم يصلوا فيها إلى معقول صريح يناقض الكتاب، بل إما إلى
حيرة وارتياب، وإما إلى اختلاف بين الأحزاب، فكيف غير هؤلاء ممن لم يبلغ
مبلغهم في الذهن والذكاء ومعرفة ما سلكوه من العقليات.
فهذا وأمثاله مما يبين أن من أعرض عن الكتاب وعارضه بما يناقضه لم
يعارضه إلا بما هو جهل بسيط أو جهل مركب، فالأول: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ
الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ
الحِسَابِ} (النور: ٣٩) ، والثاني: {كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن
فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا
وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: ٤٠) ، وأصحاب القرآن
والإيمان في نور على نور قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا
كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: ٥٢-٥٣) ، وقال تعالى: {اللَّهُ
نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} (النور: ٣٥) ، إلى آخر الآية، وقال تعالى:
{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ} (الأعراف: ١٥٧) ، فأهل الجهل البسيط منهم أهل الشك والحيرة من
هؤلاء المعارضين للكتاب المعرضين عنه، وأهل الجهل المركب أرباب الاعتقادات
الباطلة التي يزعمون أنها عقليات، وآخرون ممن يعارضهم بقول مناقض لتلك
الأقوال هو العقليات، ومعلوم أنه حينئذ يجب فساد أحد الاعتقادين أو كليهما،
والغالب فساد كلا الاعتقادين لما فيهما من الإجمال والاشتباه، وأن الحق يكون فيه
تفصيل يبين أن مع هؤلاء حقًّا وباطلاً، ومع هؤلاء حقًّا وباطلاً، والحق الذي مع
كل منهما هو الذي جاء به الكتاب الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، والله أعلم
اهـ.
(المنار)
كل مؤمن سليم الفطرة صحيح العقل إذا قرأ هذا يجزم بأنه الحق، وأنه يجب
على المسلمين أن لا يغتروا بشهرة أحد من المتكلمين ولا الصوفية ولا الفقهاء الذين
خالفوا السلف فيما نقله ثقات المحدثين كلهم من أمر الدين، وإنما نعذر كل عالم في
اجتهاده إذا ثبت من سيرته إذعانه للأمر والنهي، وأن قصده تأييد الشرع، ولكن لا
يتبع أحدًا فيما خالف هدي السلف الصالح في الدين معتمدين على نقل ثقات
المحدثين دون آراء المختلفين، وهذا منتهى الإصلاح في الدين.