للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس
(تتمة ما سبق)
(الاعتذار الثاني) ملخصه: إذا شرع العلماء في الخطب في المجامع
والنوادي، وركبوا الأخطار للمواعظ، ونشروا المقالات في الجرائد والدفاتر،
واجتمعوا للمذاكرة وتدبير شؤون الأمة واستنباط القواعد المتكفلة بالإصلاح،وجمعوا
الثروة لإقامة الشركات العمومية وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
قالت (طرابلس) :
(لا سيما لأهل السطوة والنفوذ، وشدوا على الكثير من فاسدي الأخلاق،
وحاولوا نزع خلالهم الفاسدة عنهم إلى أمثال ذلك من الشؤون التي يرجى عندها
نهضة الأمة، فهل يروق ذلك منهم في كل نظر، ويساعدون عليه من أهل البدو
والحضر، أو يعارضون أشد المعارضة ويقصدون بالأذى من ذوي الشرور وحقائب
الريب والعيب، ولا يقوم بمساعدتهم إلا من لا تجدي مساعدته نفعًا، وربما نسب إليهم
أنهم جماعات إفساد ودسائس ضد الحكومة أو الأمة أو مثل ذلك ويرشقون بسهام
الملام من أكثر الأنام حتى يقول قائلهم: ما لهؤلاء القوم يتعرضون لما لا يعنيهم. إذا
منوا بالأذى ظهرت الشماتة بهم حتى من أهليهم وقيل: هكذا جزاء التعرض لما لا
يعني الإنسان. فما كان أغنى هؤلاء العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) اهـ.
الجواب:
إذا كان وجوب الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطًا بأن
يروق عند الشروع فيه في كل نظر، ويساعد عليه أهل البدو والحضر كما يفهم من
صريح كلام الجريدة (طرابلس) ، فلا شك أن الوجوب ساقط عن العلماء بل لا
ريب في أن هذا الفرض لم يتحقق شرطه في عصر من الأعصار. وإن إيجابه في
الشرع لا معنى له، ولكن هذا الشرط لم يقل به شرع ولا عقل، فذِكره في معرض
الاعتذار عن العلماء وبيان سقوط الوجوب عنهم - لغو لا معنى له وأما المعارضة
والقصد بالأذى؛ فالأولى منهما لا معنى لذكرها أيضًا، ولكن القصد بالأذى محل نظر
ويحتاج القول فيه إلى تفصيل نكتفي بموجز منه؛ لأن كلامنا مع أهل العلم، فنقول:
أولاً - لأن القصد بالأذى لأجل الإرشاد غير محقق، وإنما هو احتمال يصح أن
يفرض وقوعه في كل عمل.
ثانيًا - أن القصد لا يوجب الإيقاع لاحتمال الموانع من جانب القاصد أو
المقصود أو الأحوال الخارجية.
ثالثًا - أن الأعمال الواجبة على العلماء كثيرة جدًّا، وغير جائز أن يكون كل
عمل متروك منها يعود على فاعله بالضرر والأذى، فيجب على العالم أن يأتي ما
يغلب على ظنه السلامة فيه حتى إذا ما ساوره البلاء وواثبه الإيذاء وتحقق أنه لا
يستطيع الغلب - يعدل عنه إلى عمل آخر.
رابعًا - أن الأذى أو الضرر الذي يخافه من يقوم بخدمة الأمة له درجات
سنفصل القول فيها عند الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونكتفي هنا
بقول أئمة العلماء: إن توقع الإيذاء الشديد حقيقة كالضرب المُبَرِّح والقتل والسلب
إذا غلب الظن بأَمارات واضحة - يُسقط وجوب الحسبة ويبقى الاستحباب، وأما
الرشق بسهام الملام - الذي يخاف منه أستاذ طرابلس وذكره في الاعتذار - فلا يسقط
الوجوب. قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: (ولو تُركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب
فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله - لم يكن للحسبة
وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفكّ الحسبة عنه) .
ثم إن ما نحن في أشد الحاجة إليه من إرشاد العلماء يحصل بإصلاح التعليم
والخطابة الجمعية وكثرة المذاكرة في مواضيع الإصلاح في المنتديات والسّمار، ولا
خطر على العلماء في شيء من ذلك إلا في دار السلطنة حيث يمنع الاجتماع والكلام
في الإصلاح الذي يمس السياسة فقط، فعليهم أن يستبدلوا ما لا خطر فيه بما فيه
الخطر. ووراء هذا كله نقول: أين وراثة النبوة التي هي مفخر العلماء؟ أَمَا كان
الأنبياء يُضربون في سبيل تعليم الحق وإرشاد الناس ويهانون ويسبون ويشتمون
ويهجرون ويطردون بل وكثير منهم يقتلون؟ أليس العلماء أحق الناس بالأخذ
بآية {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} (الأحزاب: ٢١) أما يعلم صاحب الأعذار أن رسوله أوذي في الله فأُلقي عليه سلا
الجَزور وهو يصلي ورمي بالأحجار وأُلجئ إلى ترك وطنه وشج رأسه وكسرت
رباعيته؟ أين الذين لا يخافون في الله لومة لائم؟ هل يرضى العلماء أن يكونوا
ممن قال تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ
النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: ١٠) ؟ إذا كانوا يعلمون أن الله اشترى من
المؤمنين أموالهم وأنفسهم وكلفهم بأن يبذلوهما في سبيل الحق فكيف يعرضون عن
عمل يعترفون بأن فيه قوة الملة ومنعتها وعزها وشرفها إجابة لداعي الوهم وإخلادًا
إلى الراحة والكسل، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: ٦٨) .
(العذر الثالث) ملخصه: كما في أسئلة جريدة طرابلس ما ترى: (هل لديك
من يضمن حسن العاقبة لهؤلاء الأخيار ويؤمّنهم على مستقبل حالهم إن تجشموا هذه
الأخطار) تأملوا - أيها الناس - وتعجبوا: (وتالله لئن كان لديك - أيها اللائم
حضراتِ العلماء على تقصيرهم المزعوم - من يضمن لهم أمر معاشهم ومعاش
عيالهم ويؤمنهم على حياتهم وشرفهم إن هم قاموا بما به عليهم حكمت أني أنا
الضمين بأنهم يتهالكون على إرشاد الأمة وبعث نفوس أهل الثروة إلى خدمة الأوطان
والسعي على مقتضى نوايا جلالة السلطان - نصره الله تعالى فهم - والله - ليسوا
في هِمَمهم دون همم سواهم من وعاظ الغرب، ولا أقل نشاطًا ولا أضعف قوةً، بل
فيهم الهمم العالية والنفوس السامية والإيمان الذي يحملهم على إخلاص النصيحة إن قدروا وسلموا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) .
الجواب:
إن هذا العذر مبني على سابقيه؛ لأن حاصل العذر الأول أن الإرشاد المطلوب
يتوقف على الثروة فإن كان يوجد من يمد العلماء بالمال؛ فإنهم يقومون به. وحاصل
الثاني أن الذي يقوم بالإرشاد يكون عرضة للوم اللائمين وإيذاء المفسدين واتهام
المتهمين (وما أغنى العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) نعوذ بالله من الغفلة،
وأما الثالث هذا فحاصله أن القيام بالإرشاد يشترط لوجوبه مع احتمال ما ذكر من
الأخطار أن يكون هناك ضامن يضمن للمرشد ولعياله حياتهم ومعاشهم وشرفهم،
ويدخل في ضمان الشرف ضمان الألسنة اللائمة والقلوب الشامتة، ولا شك أن
شركات الضمان الأوربية التي تضمن الأموال والأعمار إلى أجل مسمى لا تُقْدم على
ضمان الألسنة والقلوب التي يخاف صاحب طرابلس من لومها وشماتتها. فإن كان
يتنزل لنا عن ضمان الألسنة والقلوب اتباعًا لحكم الشرع واسترشادًا بنور العقل -
فإننا نضمن له ما عداهما.
ليؤلف في بلده جمعية من العلماء الذين وصفهم بما مر عنه، وليبحثوا في
أساليب التعليم النافعة والخطب المفيدة، وليتعاهدوا على التعاون بما يظهر لهم أنه
الأنفع، ثم ليعملوا، وليكن مما يتعاهدون عليه أن يكون كلامهم في النوادي والسمار
في مصلحة الأمة والملة عوضًا عن الكلام الذي يضيعون به الحياة العزيزة، وهو ما
نعلمه نحن ويعلمه هو. ليكفوا عن جعل الخطب في فضائل الشهور وبعض وقائع
الدهور. وليجعلوها سهلة العبارة. خالية من غريب المجاز والاستعارة ولا يتكلفوا
فيها التسجيع ولا أنواع البديع؛ ليفهم الناس جميع ما يقولون ويعلموا أنهم به
مخاطَبون، لا أنه مقصود بالذات، مكفر بأسراره للسيئات. ليجعلوا الخطب
والمناظرات والدروس والمذاكرات في هذه الأمراض الروحية والأدواء الاجتماعية
وفي مناشئها من العقائد الزائغة ومثاراتها من طريق الإرشاد الرائغة وبيان الحق بالحجج البالغة وزهق الأباطيل بالحقائق الدامغة. ليبينوا للناس حقائق التوحيد
والتوكل والزهد والتواضع والاقتصاد؛ ليعلموا أن مراعاة سنن الخلقة والتمسك
بالأسباب الظاهرة هو طريق السعادة في الدنيا، كما أن موافقة الأعمال للشريعة
الحقة هو سبب السعادة في العُقبى، وأن طلب الشهادتين بغير هاتين الوسيلتين غرور
وأن الكسل والذل والخمول والسرف والمخيلة والاحتجاج بالقدر والاستعانة بغير
الله تعالى والاعتماد على العفو والشفاعات مع التقصير في العمل - كل ذلك من
أسباب الشقاء والخذلان.
ولينظروا (أي: العلماء) مع ذلك في طرق التعليم والتأليف الجديدة،
ويعتمدوا على أقربها وأفيدها، ويرشدوا الناس إلى ما هم في أشد الحاجة إليه من
الفنون الرياضية والطبيعية، ويوضحوا لهم أن الدين والدنيا لا يُحفظان إلا بها.
هذه إشارة إلى ما تطلبه الأمة من العلماء، فهل يقول أستاذ طرابلس إن قيامهم
به يعود عليهم بالضرر والأذى -وإن الوجوب سقط عنهم لذلك أو يوجد ضامن يضمن
لهم ما ذُكر؟ إن كان يقول هذا فأنا الضامن له ولمن شاء من أهل بلده وغير بلده ما
سوى الألسنة والقلوب. حقًّا أقول: إنه إذا تدبر في الأمر فإنه يرجع عن أحكامه
واعتذاراته ويتثبت - بعد ذلك - في مثلها من الأحكام والإيمان وما يتذكر إلا مَن
ينيب.