للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


وثائق تاريخية في المسألة العربية
نشرنا في مجلدات المنار (١٩، ٢١) عدة وثائق وحوادث يصح أن يرجع
إليها في تاريخ ما يسمى المسألة العربية، وسننشر في هذا المجلد وثائق أخرى من
رسمية حقيقة أو حكمًا، وغير رسمية ما يعتمد في ذلك، ونذكرها بالعدد.
(١) (كتاب من ملك الحجاز إلى نائب ملك الإنكليز في مصر)
هذا الكتاب نشر في العدد ٢٩١ من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في
٢٣ رمضان سنة ١٣٣٨ الموافق ١٠ يونيو سنة ١٩٢٠ بعد مقدمة وجيزة، ويليه
تعليق عليه في الافتخار به من قبل الجريدة، ونحن ننقله عن هذا العدد، وإن نشر
بعده مرة أخرى، وهذا نص ما جاء فيه تحت عنوان: (الأسى والحزن) :
إذا تأملنا ما هو واقع في ساحل البلاد على البحر المتوسط وشماليه مما تنقله
الصحف وترويه البرقيات من الحوادث والبواعث تجد أن قولنا: (الأسى والحزن)
لا يفي عن تعبير تلك الحالة، وليس لنا ما نقوله عنها إلا: ينتقم الله من أنور
وطلعت وإخوانهم ومن نحا نحوهم وآلهم وشيعتهم، لنا ولكل سكان الدولة التركية من
سلطانها إلى راعي غنمها بما جروه على تركيا؛ بإلقائها في هاويتهم الحاضرة التي لا
يعلم شأن نتيجتها والتي تنقل لنا تفاصيلها صحف العالم بأسره مما يجعلنا في دعة
وسكون، أن لا نتكلم أو نبحث عما كانت ترمينا به سهام الأغراض على اختلاف
نزعاتها مما يجعلنا أن نقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: ١٠٥) .
ولحسن الحظ متعنا بالوقوف على صورة تحرير من مولانا المنقذ [١] بتاريخ
٢٠ ذي القعدة سنة ١٣٣٦ نفس علينا مآله شيئًا مما نجده عن حالة البلاد العربية،
وما يقال عن قيامها وخروجها عن المهالك (الأنورية) والجنايات (الطلعتية)
وهذه صورة الكتاب:

(صورة تحريرنا لفخامة نائب الملك بمصر بتاريخ ٢٠ ذي القعدة سنة ١٣٣٦)
ما رأيته خصوصًا بهذا الأثناء من اعتناء فخامتكم وتأكيداتها في إزالة أسباب
دواعي سوء التفاهم الذي لا أرتاب بأن المقصود بذلك الاعتناء هو صيانة تأثر
حسيات مخلصكم خاصة، لذا ولما تكونه المواد البسيطة أيضًا من ذلك المعنى
رأيت أن أتبين من حكومة جلالة الملك في الأساس المقرر مع عظمتها في النهضة،
وما بنيت عليه من مواد الاتفاق المقدم بطيه بيانها بأني ما طلبت للبلاد أمام حكومة
جلالة الملك ما طلبته من المواد التي تعهدت عظمتها بها رغبة مني في تأسيس
حكومة، أو تشكيل دولة لأستأثر بحاكميتها أو حرصًا على جاهها أو رياستها لكن
عندما دعتني بريطانيا إلى ما دعتني إليه، وعلمت أن مقاصدها بهذا أيضًا تأمين
مصلحة المسلمين عامة والعرب خاصة، لم يسعني إلا الإجابة وطلبي أقله تلك
المواد المؤدية في اعتقادي لما يأتي:
أولاً: لحفاظة الكيان للعالم الإسلامي بالنظر لما حل وما سيحل بتركيا.
ثانيًا: صيانة العظمة البريطانية من الاستهداف مما سترمى به عكس
مقاصدها.
ثالثًا: سلامتي من الاتهام بالتواطؤ معها ضد الأساس المقصود بالنهضة.
نعم، إني لم أجد من جناب الفاضل الأديب المستر أستورس عند اجتماعي
بحضرته في السنة الأولى بجدة، ثم بعده بحضرة الشهم الهمام السير مارك سايكس،
ثم في السنة الماضية بالقومندان الهمام هوغورت الموقر ما يشير إلى ما يخالف أو
يخل بتلك المقررات، غير أن ما في طبيعة مشروعنا وتتماته الحياتية من الرقة وما
يتصادف من بعض حالات يستدعي سياقها زيادة تعين الأمر وتأكد الحقيقة عن
الحدود فقط، وإلا باقي المواد فإنا لنعجز عن أداء شكر الوفاء بها شكرًا يملأ
الخافقين، خصوصًا أمر الإعانات عما لو فهمت الغلط في مقرراتنا المذكورة أساسًا
أو حدث ما يوجب تعديلها الأمر الذي لا أقول: إنه يمس كيان العالم الإسلامي.
ولكني أظن، وبعض الظن إثم أنه لا يخلو من شيء من ذلك. هذا على فكري
الخصوصي، فمتى أضفنا عليه تظاهر عجزي بعدم حصول ما كان يؤمل من
النتائج؛ يتحتم علي الانسحاب من الأمر والتنازل عنه؛ لاعتقادي الشخصي أن تعديل
مقرراتنا المذكورة بصرف النظر عما في إخلاله بالغايات المقصودة الأساسية،
وعرضتنا لحذر موادنا الثلاثة آنفة البيان وطمس صحيفة تاريخي، فهو يزيل
ويسقطني من ثقة واعتماد بلادي وأقوامي الأقربين حينما يظهر لهم عكس تلك
المقررات التي أعلنتها لهم، وصرحت بها شفاهًا وتحريرًا في ظرف هذه المدة،
وأسست عليه الأعمال، وأكون خدعت نفسي وغششتكم يا أصدقائي بما وراء هذا
من اضطراب البلاد بالفتن والثورات ونحوها مما لا يمكن لي معه حتى الاستفادة
لذاتي، وما يزيل حسن كل ظن حكومة جلالة الملك بي، وأكيد إخلاصي يجبرني
أن أقول من الآن: إن مبادي هذه الخطرية على وشك التحسس بها بالنسبة للطلبات
المتكررة المختلفة عن أمرهم بإعلان استقلال بلادهم، ولم أجد ما أدفعهم به إلا
قولي: إن استقلالي هو استقلال عموم أنحاء البلاد. ولكنهم يقيموا الحجة على دفعي
هذا بأوجه أخر، وعليه فإن كان ولا بد من التعديل، فلا لي سوى الاعتزال
والانسحاب، ولا أشتبه في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا، إلا أنه أمر يتعلق
بالحياة لا لقصد عرضي، ولا لفكر غرضي، وإنها لا ترتاب في أني وأولادي
أصدقاؤها الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء. ثم تعينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا
فيها بالسفر إليها في أول فرصة، وإن رأت ذلك، ولكن مشاكل الحرب الحاضرة
تقتضي بتأجيله إلى ختامها، فحقوق الوفاء والجميل يفرض علينا الثبات أمام ما
سيتضاعف علينا من التهمات ونحوه من العموم مما لا مقاومة لدينا أمامها إلا حسن
النية، فالأمر إليها، أما عطف الأمر وتعليقه بمؤتمر الصلح، فالجواب عليه من الآن
بأن لا علاقة لنا به، ولا مناسبة بيننا وإياه حتى ننتظر منه سلبًا أو إيجابًا، ولو قرر
المؤتمر المذكور أضعاف مقرراتنا، وكان ذلك عن غير وساطتكم وقبلناها، فنكون
من المطرودين من رحمة الباري جل شأنه الرقيب على قولي هذا، الذي أتوسل
إليه بكل آلائه أن يتولانا جميعًا بعنايات رأفته الأحدية، وقبول ما أقدمه لفخامتك في
الختام من جزيل احتشامي هو من سجايا شيمكم , انتهى.

* * *
(القبلة)
بالطبع إنا لا ندري ما كان من الرد على هذا التحرير السامي، ولا عن مواد
الاتفاق، ولكنا ندري أنه بأدنى تأمل بسيط يتضح أن هذا التحرير لم يدع نقطة
مادية أو معنوية تتعلق أساسًا بأساس (النهضة) وسائر محتوياتها، وما بنيت عليه
في ذاتها وما يتعلق بالعالم سواء في الماضي أو الحال أو الاستقبال، لا، بل
بالاختصار نقول: إنه أحصى ذرات كل ما يتعلق بها بسائر الأوجه.
فماذا عسى أن يقول القائلون في هذا التنبؤ السياسي ونزاهة الضمير عن
الذاتيات والشخصيات في كل ما يتعلق بنفس (النهضة) أو بالعالم؟
وكيف لا نقول بهذا التنبؤ في التحرير العالي، وهو صادر منذ سنتين تقريبًا؟
فليتأمل المتأملون، وفي هذا فليتنافس المتنافسون، ولمثله فليعمل العاملون.
نعم، كيف لا نقول ذلك ونحن نرى الأمم الأخرى تتباهى بالجزئية مما احتواه
تحرير مولاه المنقذ؟
فلا عجب على (القبلة) أن تقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: ٦١) .
ومتى كانت الأعمال على مثل هذا الأساس فلا علينا من الوسواس والخناس
من الجنة والناس اهـ تعليق جريدة القبلة) اهـ.
(المنار)
نشرنا كل ما تقدم بحروفه، ومتى عادت حرية النشر إلى ما كانت
عليه نقول في هذه الوثيقة التاريخية وأمثالها كلمتنا التي نظن أنها لا تخطر لأحد من
محزري جريدة القبلة على بال.
٢ - ٣ - ٤
(حديث الأمير فيصل، رواية حكومة مكة عن معاهدتها مع إنكلترة، رواية
الوزارة البريطانية فيها)
جرى حديث للأمير فيصل مع صاحب جريدة المفيد الدمشقية في الشام
يتضمن ذكر بعض الوثائق الرسمية بين والده ملك الحجاز وبريطانية العظمى،
نشرته هذه الجريدة في عددها الذي صدر بدمشق في ٢٦ جمادى الأولى سنة ١٣٣٨
(الموافق ١٥ شباط (فبراير) سنة ١٩٢٠) بعنوان: (حديث سياسي مع سمو
الأمير فيصل، وثائق رسمية لم تنشر حتى الآن) ، وهذا نصه:

(مقدمة جريدة المفيد)
لا ريب في أن كل عربي تهمه مصلحة البلاد العامة يتطاول إلى الوقوف على
سير السياسة العربية، ويود معرفة ما قام به سمو الأمير فيصل، وما هو موقف
سموه تجاه السياسة الأوربية وجلالة والده الملك المعظم والأمة العربية جمعاء،
والسوريين خاصة؟
وقد تشرف أحد صاحبي هذه الجريدة يوسف بك حيدر بمقابلة سموه، فجرى
بينهما حديث تضمن من الوثائق السياسية ما لا مندوحة من نشره، وإحاطة القراء
بدقيقه وجليله، وإلى القراء ما دار بينهما:
ابتدأ أحد صاحبي الجريدة فقال للأمير: رأينا يا صاحب السمو في العدد
المؤرخ بثامن جمادى الأولى ١٣٣٨ من جريدة القبلة الصادرة في مكة المكرمة
إعلانًا رسميًّا يقول به والدكم صاحب الجلالة الهاشمية أن لديه معاهدات من الحلفاء
الكرام تقضي باستقلال البلاد العربية جميعها، وأن جلالته ينشرها للملأ عند الحاجة،
فهل لسموكم أن توضحوا لنا ما هي هذه المعاهدات وما تحوي؟
سمو الأمير: إن المعاهدات التي يذكرها صاحب الجلالة ما رأيتها، وقد
طلبت منه مرارًا أن يجعلها سلاحًا لي إذا كانت موجودة، ولا أعلم ما سبب تأخيره
إرسالها إليّ، واكتفاء جلالته بإرسال صورة اتفاقية يقول: إنها نسخة من تلك
المعاهدة، وها أنا أعطيك تلك الصورة ويمكنك نشرها، وهذا نصها بحروفها:
(صورة ما تقرر مع بريطانيا العظمى بشأن النهضة) [*]
١- تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني
الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، وتكون حدودها شرقًا من بحر فارس، ومن
الغرب بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً ولاية حلب
والموصل الشمالية إلى نهر الفرات، ومجتمعه مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس
ما عدا مستعمرة عدن، فإنها خارجة عن هذه الحدود، وتتعهد هذه الحكومة
برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من
العرب في داخل هذه الحدود بأنها تحل محلها في رعاية وصيانة تلك الحقوق
وتلك الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد.
٢- تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي
مداخلة كانت بأي صورة كانت في داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي
تعد بأي شكل يكون، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد
بعض الأمراء فيه تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع ذلك القيام لحين
اندفاعه، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أي:
لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية.
٣- تكون البصرة تحت أشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة الجديدة
المذكورة تشكيلاتها المادية، ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود يراعى فيه
حالة احتياج الحكومة العربية التي هي حكمها قاصرة في حضن بريطانيا، وتلك
المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال.
٤- تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية من
الأسلحة ومهماتها والذخائر والنقود مدة الحرب.
٥ - تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو ما هو مناسب من النقاط
في تلك المنطقة؛ لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد لعدم استعدادها اهـ.
قال سمو الأمير: ولكني مع الأسف حينما كنت في لوندرة قدمت هذه الصورة
إلى رئاسة الوزارة، فأنكرت وجودها كل الإنكار، وقالت بأنه لا يوجد عهد ولا
كتاب كعهد ينطق بمثل هذا التصريح، ولكن لدينا رسائل أهمها شأنًا رسالة من
السير هنري مكماهون وهذا نصها بحروفها:

(كتاب السير هنري مكماهون إلى جلالة الملك المعظم بمكة في ٢٤ أكتوبر
سنة ١٩١٥)
لما كانت مقاطعة مرسين والإسكندرونة وبعض أجزاء سورية الواقعة إلى
الغرب من مقاطعات دمشق وحمص وحماه وحلب لا يمكن تسميتها عربية محضة،
فإنه يقتضي إخراجها من الحدود التي بينتموها، وإنه بمقتضى هذا التعديل، ومن
غير إخلال بمعاهداتنا السابقة مع بعض زعماء العرب نقبل الحدود على ما ذكرتموه.
ثم بخصوص الأراضي التي لبريطانيا العظمى حرية العمل فيها من غير
إضرار بمصالح حليفتها فرنسا، فإن لي السلطة باسم بريطانيا العظمى أن أعطي
التأكيدات الآتية وأجيب عن كتابكم بما يأتي:
إن بريطانيا العظمى مستعدة بعد التعديلات المذكورة آنفًا أن تعترف باستقلال
العرب والأخذ بناصرهم، وذلك ضمن الحدود التي قدمها شريف مكة.
أما ولاية بغداد وولاية البصرة، فعلى العرب أن يسلموا أن مركز بريطانيا
العظمى ومصالحها تقتضي اتخاذ تدابير خاصة لإدارتهما وحمايتهما من كل اعتداء
أجنبي، ولارتقاء أهاليهما والمحافظة على مصالحنا المشتركة فيهما. انتهى.
قال سمو الأمير: عندئذ كررت طلب تلك المعاهدة من مكة المكرمة، ولكنها
ويا للأسف لم ترد عليّ حتى الآن، فلهذا لا يمكنني أن أقول بأن وزارة الخارجية
البريطانية مخالفة للحقيقة بأقوالها، ولا أقول: إن حكومة مكة تقول غير الواقع، فإذا
كان لدى حكومة مكة المكرمة عهد كهذا فتأخير إبرازه في هذا الوقت الذي وضعت
به مسألة العرب على بساط البحث، وقد أوشك المؤتمر أن يبت بشأنها مضر جدًّا؛
لأن هذه المعاهدة لم تعقد إلا لتبرز في مثل هذا اليوم العصيب ويعمل بموجبها، وقد
ألححت في المدة الأخيرة على جلالة والدي بإرسالها، وأظنها ستصلني عما قريب،
فإذا وصلت سيكون لي موقف في النوادي السياسية غير موقفي الحاضر.
سؤال: هل دفاعكم في مؤتمر السلم سيكون خاصًّا في شؤون سورية، أم
يتناول المسألة العربية كلها؟ [١]
جواب: إن صفتي في مؤتمر السلام هو تمثيل والدي وحكومته الذي قام
مدافعًا عن حقوق العرب بأجمعها، فإذا تخليت عن جانب من بلاد العرب المحررة
من الأتراك أكون قد قصرت بواجبي السياسي وأخللت بما أودع إلي من الوظائف،
فلذا يتحتم عليّ أن أضع المسألة العربية برمتها موضع البحث، وأدافع عنها باسم
جلالة الملك.
سؤال: في كتاب السير مكماهون الذي تقدم الكلام عنه ما يتعلق بفلسطين
وبغداد والبصرة، فما رأي سموكم فيما ينطوي عليه؟ وهل صرحت لكم الحكومة
البريطانية بشيء بعده؟
جواب: إذا وجد ذلك العهد الذي أعلن جلالة الملك والدي وجوده، فأظن
الحكومة البريطانية ستكون مضطرة إلى تشكيل الوحدة العربية والاعتراف
بالاستقلال العربي، وأما إذا لم يوجد، فحكومة إنكلترا ملزمة بمقتضى عهدها الوارد
في كتاب السير مكماهون أن تؤلف حكومة في العراق تكفل مصالح العرب
والبريطانيين معًا، وأن تعترف بأن فلسطين والموصل عربيتان داخلتان في ضمن
الحكومة السورية، والصداقة التي بيننا وبين الحكومة البريطانية تجعلني أواصل
البحث فيما هو واجب على إنكلترا إجراؤه في الممالك والبلدان التي هي الآن تحت
أشغالها العسكرية، وأملي عظيم بأنه ستقوم بعهودها.
سؤال: هل تفكرون برفض ما تدعيه الحكومتان الفرنسوية والإنكليزية من
الحقوق في أقسام البلاد العربية سواء كان في سورية أو العراق أو غيرهما، وما
هي خطة سموكم في هذا الأمر؟
جواب: إنني لا أتصور أن أقابل جميل هاتين الحكومتين بمعاملة غير لائقة،
وأنا أعلم بأن لهما منافع أدبية واقتصادية يجب احترامها، ولكني في الوقت نفسه
أؤمل أن تنظر إلينا هاتان الحكومتان بنظر الاحترام، وإلى حقوقنا بنظر الإنصاف
والعدل، وأن لا تطالبنا بما يخل باستقلالنا ورقينا المادي والمعنوي، وأن لا تجبرانا
على اتباع تقاليدهما على العمياء، بل نأخذ منهما ما طاب من مدنيتهما الحديثة،
ونترك ما هو مخالف لمدنيتنا وعنعناتنا التاريخية.
سؤال: نشرنا في المفيد برقية منقولة عن جريدة الأهرام المصرية واردة من
جلالة الملك يحدد بها دائرة توكيل سموكم، فما ترون فيها؟
جواب: إن الوكيل يدافع في قضيته على قدر قوة ما بيده من الحجج، فإن
كانت مستنداته قوية وكان الحاكم عادلاً، فلا شك بأن الوكيل إذا خسر القضية يكون
مسؤولاً، وأنا في هذه الحالة لا فرق بيني وبين وكلاء الدعاوى أمام المحاكم،
فمدافعتي تكون على قدر قوتي المادية والمعنوية، وعلى كل فإنني أؤمل من رجال
الحكومات والأمم المتمدنة أن تنظر إلينا بعين الحب ولا تهضم لنا حقًّا كيما نتمكن
من خدمة المدنية الحاضرة كما خدم أجدادنا المدنية الغابرة.
سؤال: كنا قرأنا في جريدة الشرق التي كانت تصدر في دمشق إبان الحرب
نص معاهدة تسمى (معاهدة سايكس بيكو) نشرها جمال باشا زاعمًا أن البلشفيك
ظفروا بها بين الأوراق الرسمية في بتروغراد عندما استولوا عليها، ثم انقطعت
أخبار هذه المعاهدة حتى عادت صحف أوربا منذ بضعة أشهر تردد صداها، وقيل:
إن جلاء الجنود الإنكليزية عن سورية منذ مدة كان تنفيذًا لنص تلك المعاهدة، فهل
ذلك حقيقي؟ وهل سمعتم سموكم بها في الأماكن الرسمية أو اطلعتم عليها في أثناء
الحرب أو بعدها؟
جواب: حينما نشر جمال بك تلك المعاهدة أثناء الحرب اطلع عليها والدي في
العدد ١٠١ من جريدة المستقبل، فسأل جلالته الحكومة البريطانية بواسطة معتمده
بمصر عن تلك المعاهدة، فأجابته الحكومة الانكليزية بكتاب هذا نصه:
إن البلشفيك لم يجدوا في وزارة الخارجية في بتروغراد معاهدة معقودة، بل
محاورات ومحادثات مؤقتة بين إنكلترا وفرنسا وروسيا في أوائل الحرب لمنع
المصاعب بين الدول أثناء مواصلة القتال ضد الترك، وذلك قبل النهضة العربية،
وأن جمال باشا إما من الجهل أو الخبث غيّر في مقصدها الأساسي، وأهمل شروطها
القاضية بضرورة رضى الأهالي وحماية مصالحهم، وقد تجاهل ما وقع بعد ذلك من
أن قيام الحركة ونجاحها الباهر وانسحاب روسيا قد أوجد حالة أخرى تختلف عما
كانت عليه بالكلية منذ أمد مضى.
قال سمو الأمير: فيظهر لكم من هذا الجواب أن تلك المعاهدة لم تكن معترفًا
بها اعترافًا رسميًّا لدى والدي والعرب، وإذا فرض وجودها فإنهم قد أنكروها بتاتًا
بحيث أصبح كأنها لم تكن وتصريحات الحكومات بإلغاء جميع المعاهدات السرية
تجعلنا لا نعترف بتلك المعاهدة اهـ.
(المنار)
هذا ما صرح به الأمير فيصل في دمشق قبل نصبه ملكًا على سورية فيها
بزهاء ثلاثة أسابيع، فهو إلى ذلك الوقت لم يكن مطلعًا على شيء غير ما ذكر فيه
مما دار بين والده وبريطانية العظمى من الاتفاق الذي حمله على الخروج على
الدولة العثمانية ومحاربتها مع الحلفاء، وكان هو القائد لجيش والده في هذه الحرب،
بل كان صرح لي قبل التصريح لصاحب جريدة المفيد بأنه لم يطلع على شيء قط،
وأنه حارب بأمر والده اعتمادًا على أن بيده شيئًا وظاهر أن كلاًّ من الروايتين
مباين لمصلحة العرب ومناف لحريتهم واستقلالهم، فإن تشكيل بريطانيا العظمى
لحكومة عربية تدخل فيها الحجاز بالشروط المذكورة التي منها حفظها وصيانتها في
داخليتها وخارجيتها يجعلها حكومة تابعة للإمبراطورية الإنكليزية، ويخول لجيوش
هذه الإمبراطورية أن تقيم حيث شاءت منها بحجة منع الثورات والفتن الداخلية، دع
إحاطتها بها بحرًا وبرًّا كما هو معروف.
وإننا كنا قد اطلعنا على النص العربي للمعاهدة المشار إليها في هذه الوثائق،
وهي بين السير هنري مكماهون بالنيابة عن حكومته وبين شريف مكة وأميرها سنة
١٩١٥، وقد رأينا أن كلاًّ من الروايتين الحجازية والإنجليزية اللتين صرح بهما
الأمير فيصل قد ذكرت بعض ما جاء في تلك المعاهدة بالمعنى على ما نتذكر كله، وقد
نشر ملخصها أًيضًا في مقال للكولونيل الإنكليزي لورانس مستشار فيصل في أثناء
الحرب وبعدها.
((يتبع بمقال تالٍ))