للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألة المصرية في طورها الأخير

سبق لنا القول في تأليف سعد باشا زغلول للوفد المصري، وفي لجنة لورد
ملنر وما كان من أمرها مع الوفد ولجنة الوفد التي جاءت من باريس لعرض
المشروع على الأمة وخلاصة رأي الأمة فيه.
ثم إن تقرير لجنة ملنر صدر رسميًّا بنصه في ١٢ جمادى الآخرة هذه السنة
(٢٠ فبراير سنة ١٩٢١) وفيه فوائد وعبر كثيرة، ربما نلم بشيء منها في فرصة
أخرى، وتلا صدوره بلاغ رسمي من الحكومة البريطانية هذا نص ترجمته:
القاهرة في ٢٦ فبراير سنة ١٩٢١
إلى حضرة صاحب العظمة السلطان بسراي عابدين
يا صاحب العظمة
لم أتأخر عن إبلاغ حكومة جلالته الرأي الذي أبديتموه عظمتكم مرارًا عن
ضرورة وصول الحكومة إلى قرار في موضوع اقتراحات ملنر يتفق مع أماني
مصر والشعب المصري، تلك الأماني التي اشتهر عطف عظمتكم عليها.
ويسرني أن أبلغ عظمتكم قرار حكومتي، وإني متأكد أن هذا القرار يطابق
رأي عظمتكم، وهي تعيين وفد رسمي لأجل الشروع في تبادل الآراء مع حكومة
جلالته فيما يختص بالاتفاق المنوي عقده.
وإني أود بصفة خاصة أن أوجه نظر عظمتكم إلى روح حسن النية الذي
أظهرته حكومتي بقَبولها التساهل في أمر إلغاء الحماية قبل المفاوضات الرسمية.
وستقدرون عظمتكم أن هذا التساهل الكبير دليل صريح على الأهمية التي
تعلقها حكومتي على إقامة علاقاتها مع الشعب المصري على أساس ودي دائم،
وهذا نص قرار حكومتي الذي كلفت إبلاغه إلى عظمتكم.
إن حكومة جلالة الملك بعد درس الاقتراحات التي قدمها اللورد ملنر استنتجت
أن نظام الحماية لا يكون علاقة مرضية تبقى فيها مصر تجاه بريطانية العظمى،
ومع أن حكومة جلالته لم تتوصل بعد إلى قرارات نهائية فيما يختص باقتراحات
اللورد ملنر، فإنها ترغب في الشروع في تبادل الآراء في هذه الاقتراحات مع وفد
يعينه عظمة السلطان للوصول إذا أمكن إلى إبدال الحماية بعلاقة تضمن المصالح
الخصوصية التي لبريطانية العظمى، وتمكنها من تقديم الضمانات الكافية للدول
الأجنبية، وتطابق الأماني المشروعة لمصر والشعب المصري، وإني أغتنم هذه
الفرصة، فأكرر لعظمتكم تأكيد احترامي الفائق.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... اللنبي

وبناءً على هذا البلاغ والاتفاق غير الرسمي في لندره على أن يكون عدلي
باشا يكن هو رئيس الوزارة التي تتولى تأليف الوفد الرسمي الذي يعقد الاتفاق بين
إنكلترة ومصر - استقالت وزارة محمد توفيق باشا نسيم، وألف عدلي باشا
الوزارة بالأمر السلطاني كما ترى:
الأمر السلطاني لعدلي باشا يكن بتأليف الوزارة
عزيزي عدلي يكن باشا
لقد كان من أقوى بواعث السرور لدينا إبلاغ أمتنا المحبوبة قرار الحكومة
البريطانية الذي تبلغ إلينا بواسطة حضرة صاحب المقام الجليل مندوبها السامي فيما
يتعلق بإلغاء الحماية، وتعيين وفد رسمي من جانبنا للمفاوضة في وضع اتفاق بين
البلدين، وإنا لنبتهج لهذا القرار الذي فتح الطريق لتحقيق الأماني القومية.
وبما لنا في ذاتكم من الثقة الكاملة قديمًا، وما نعهده فيكم من الرويَّة الصائبة
التي تستدعيها مهام الأمور، قد اقتضت إرادتنا السلطانية توجيه مسند رئاسة مجلس
وزرائنا مع رتبة الرئاسة الجليلة لعهدة لياقتكم، وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ
بتأليف هيئة وزارة جديدة تقوم باتخاذ الوسائل السياسية التي تقتضيها الظروف
الحاضرة وعرض مشروعه لجانبنا لصدور مرسومنا العالي به.
وإني أضرع إلى الله عز وجل بأن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا
ورعايانا بالخير والسعادة بحوله تعالى وقوته.
... ... ... ٦ رجب سنة ١٣٣٩ (١٦ مارس سنة ١٩٢١)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فؤاد
جواب حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا
يا صاحب العظمة: أتقدم لعظمتكم بجزيل الشكر على ما أوليتموني من الثقة
العالية؛ إذ تفضلتم بتكليفي بتأليف الوزارة في الظروف الحاضرة، وشرفتموني بتقليد
رتبة الرئاسة، لقد كان لي من جليل عواطف عظمتكم أكبر مشجع على قبول تلك
المهمة، ووضع إخلاصي كله في خدمتكم، وفي خدمة البلاد.
لذلك أتشرف بأن أعرض على عظمتكم أسماء الوزراء الذين تتألف منهم
الوزارة، وقد قبلوا مشاركتي في العمل، حتى إذا صادف ذلك الاستحسان العالي،
يصدر الأمر الكريم بالتصديق عليه.
حسين رشدي باشا نائب مجلس الوزراء.
عبد الخالق ثروت باشا وزير الداخلية.
إسماعيل صدقي باشا وزير المالية.
أحمد زيور باشا وزير المواصلات.
جعفر والي باشا وزير المعارف العمومية.
أحمد مدحت يكن باشا وزير الأوقاف.
محمد شفيق باشا وزير الأشغال العمومية والبحرية.
نجيب بطرس غالي باشا باشا وزير الزارعة.
عبد الفتاح يحيى باشا وزير الحقانية.

إن الوزارة ستجعل نصب عينيها في المهمة السياسية التي ستقوم بها لتحديد
العلاقات الجديدة بين بريطانيا العظمى وبين مصر الوصول إلى اتفاق لا يجعل
محلاًّ للشك في استقلال مصر، وستجري في هذه المهمة متشبعة بما تتوق إليه
البلاد، ومسترشدة بما رسمته إرادة الأمة، وستدعو الوفد المصري الذي يرأسه
سعد زغلول باشا إلى الاشتراك في العمل لتحقيق هذا الغرض.
ومما يوجب الارتياح أن تصريح الحكومة البريطانية بأن المفاوضات ستجري
على أساس إلغاء الحماية من شأنه أن يسهل مهمة الوزارة من هذه الوجهة، فإن
ذلك التصريح الذي يدل على حسن استعداد بريطانيا العظمى مما يدعو إلى الأمل
بأن المفاوضات التي ستحصل بهذه الروح ستفضي إلى اتفاق محقق للأماني الوطنية،
وتكون فاتحة عصر جديد بين البلدين شعاره المودة وتبادل الثقة، وسيكون للأمة
على لسان الممثلين لها في الجمعية الوطنية القول الفصل في هذا الاتفاق.
وبما أن هذه الجمعية ستكون أيضًا بمثابة جمعية تأسيسية، فإن الوزارة ستأخذ
على عاتقها تحضير مشروع دستور موافق للمبادئ الحديثة للأنظمة الدستورية،
وستحاط الانتخابات لهذه الجمعية بكل الضمانات التي تكفل تمام حريتها، وتنظم
بكيفية تحقق تمثيل رأي الأمة تمثيلا ًصحيحًا.
وفي هذا المقام تعرب الوزارة عن اعتقادها بأن الظروف الحاضرة تبرر
الإسراع في الرجوع إلى النظام العادي، وبأنها ستتمكن بفضل نفوذ عظمتكم من
رفع الأحكام العسكرية وإلغاء الرقابة في القريب العاجل، وإنا نعتمد على حكمة
الأمة في تسهيل هذا العمل الذي يحقق نجاحه أعز أماني الوزارة.
وإننا لندرك حق الإدراك ما تحتاج إليه البلاد من الإصلاحات الكبرى، بيد أننا
لتمسكنا باشتراك الأمة في وضعها نمتنع عن كل تغيير جوهري قبل تنفيذ النظام
النيابي الجديد، على أننا بتأييد عظمتكم لنا سنعنى بإدارة أمور البلاد، وننشط في
خير الطرق وأصلحها للمحافظة على مرافقها وتوسيع نطاق رقيها، وستكون
المسألة الاقتصادية الحاضرة موضوع اهتمامنا العظيم.
هذا، وإن الوزارة على يقين من أن هذا المنهاج يوافق المقاصد التي ما زالت
عظمتكم تصبو إليها لخير رعاياها، وهي ما تشعر به من عبء المسئولية الملقاة
على عاتقها، تأمل الوصول بمهمتها إلى النجاح المنشود، معتزة بعطف وتعضيد
عظمتكم، ومعتمدة على ثقة البلاد.
وإني لعظمتكم العبد الخاضع المطيع، والخادم المخلص الأمين.
القاهرة في ٧ رجب سنة ١٣٣٣ (١٧ مارس ١٩٢١)
عدلي يكن
وقد قابل الشعب هذا البيان بالسرور والابتهاج لتصريحه بالسعي إلى
الاستقلال الذي لا شك فيه بالاتفاق مع الوفد الذي يرأسه سعد باشا زغلول وفقًا
لرغائب الأمة، بل تنفيذًا لطلبها، وإلغاء الأحكام العرفية التي كان قد اشتد ختامها
بمحاكمة الوطنيين الذين اتهموا بالإرهاب والانتقام من المخالفين لهم في إثر
مظاهرات سنتي ١٩١٩ و١٩٢٠ وحكم بالإعدام على أفراد منهم في مقدمتهم عبد
الرحمن بك فهمي سكرتير الوفد المصري ذو المكانة العالية في وطنيته، ولكن بدل
بحكم الإعدام الحكم عليه بالأشغال الشاقة خمس عشرة سنة، وقد سميت هذه
الوزارة وزارة الثقة، وقام الشعب لها، وفي مقدمتهم طلبة المدارس الذين هم دمه
الحي وعصبه الحساس بمظاهرات عظيمة، وقد بلغت رئيس الوفد المصري سعد
باشا زغلول بيانها الوزارة، ودعته لتأييدها في عملها - وكان في باريس - فعاد
بمن بقي معه من أعضاء الوفد؛ ليتولى العمل في الوطن بعد أن يقف على حال
الشعب وآرائه بعد أن غاب عنه زهاء عامين، فتلقته البلاد بضروب الحفاوة
والاحتفال ما لم يسبق لها نظير فيها، وربما عز نظيره في غيرها أيضًا، فكان ذلك
أكمل مظاهر الوحدة، وإجماعًا من السواد الأعظم على زعيم واحد، ولكن جراثيم
التفرق والاختلاف التي لحق بها الوفد في أوربة فجعلته فريقين: أحدهما يظاهر
عدلي باشا، والآخر يظاهر رئيسه، لم تلبث أن فعلت فعلها قبل أن تتم الاحتفالات
بالرئيس، وسنبين ذلك بما يزيل كل تلبيس ضللت الصحف به الجمهور.
((يتبع بمقال تالٍ))