للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة مغربية من عاصمة البلاد الإسبانية

(س١٢-١٤)
الحمد لله ...
فضيلة العلامة الأستاذ الشريف السيد محمد رشيد رضا الحسيني، حيَّاكم الله.
توجد جماعة من المسلمين بأسبانيا دعتها دواعي اقتصادية وسياسية أن يكون
لباسها اللباس الإفرنجي بسائر أنواعه من البرنيطة وغيرها.
ولقد اطلعتُ على فتوى العلامة المقدس الأستاذ الإمام مفتي الديار الإسلامية
بمصر برّد الله ضريحه وأسكنه من الجنان فسيحه، إلا أن الجماعة المذكورة على
مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وعمدة كتب المالكية الفقهية هو مختصر أبي
الضياء خليل وما كتب عليه، والشيخ المذكور يقول في كتاب الردة (وشد زنار)
كتب عليه الزرقاني ما نصه: ونحوه مما يختص بالكافر كلبس برنيطة نصراني
وطرطور يهودي إن سعى بذلك للكنيسة، قال بناني محشيه: المراد ملبوس الكفار
الخاص بهم، وكلام المصنف إن فعل ذلك محبة في ذلك الزي وميلاً لأهله، وأما
إن فعل هزلاً ولعبًا فهو محرم اهـ.
نحن نريد زيادة إيضاح في المسألة سواء كان ذلك داخل المذهب المالكي أو
خارجه من بقية المذاهب الفرعية، وذلك فيما يتعلق باللباس لا من جهة الحب فيه
والميل لأهله، بل من جهة الاقتصاد والتسهيل ليس إلا.
كذلك نريد بيان الحكم في مسألة الصيام والإفطار على حساب النتائج
المصرية والتونسية لتعذر رؤية الهلال علينا هنا في حينه، والشيخ خليل يقول:
(لا بمنجم) فهل يجزئ الصيام والإفطار بمقتضى تلك النتائج أم لا بد من الرؤية أم
ماذا.
وكذا نريد الحكم في حلق اللحى، هل يحل شرعًا أم لا، وإذا كان يحل فهل
الحديث الوارد في الموطأ الذي من ضمنه (أعفوا اللحى وقصوا الشوارب) صحيح
أم لا، وإذا كان صحيحًا فما حجة من يحلقها من المسلمين بما فيهم من حَمَلَة
الشريعة الإسلامية في جل الأقطار؟
وحيث شاء الله تعالى انفرادكم في هذا العصر بالتوسعة في العلوم الدينية
وغيرها، وتمكنكم من زمام الفتاوى، أملنا من فضيلتكم الكريمة إنارة ظلمتنا على
صفحات مجلة المنار، أفتونا مأجورين ولكم الفضل سلفًا، والله المسئول أن يديمكم
مصباحًا يستضاء به في الإسلام بجاه النبي عليه الصلاة والسلام.
... ... ... ... ... مدريد في ٢٢ فبراير سنة ١٩٢١
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مخلص الود لكم
... ... ... ... ... ... ... محمد البلغيثي العلوي الحسني

تمهيد للأجوبة عن هذه الأسئلة
تشديد الفقهاء وعاقبة تقليدهم
اعلم - أيدنا الله وإياك بروح منه، وجعلنا من المعتصمين بهداية كتابه وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح من هذه الأمة الوسط - أن فقهاء
المذاهب كلها قد توسعوا في فروع الشريعة بأقيستهم واختلاف أفهامهم وتأثير
الأزمنة والأمكنة التي كانوا فيها، فجعلوا الحنيفية السمحة التي رفع الله منها الحرج
وبناها على أساس اليسر دون العسر من أعسر الشرائع فهمًا، وأثقلها على البشر
حملاً، حتى هجر جل أهلها دراستها، وترك أكثرهم العمل بأكثر أحكامها، وما
جاء هذا كله إلا من توسع هؤلاء المصنفين في تلك الكتب المطولة في الفقه التي
يقل فيها ذكر القرآن والأحاديث النبوية، ويكثر فيها قال فلان، وصحح فلان،
ورجح فلان، ومن معجزات هذا الدين أن كل ما صح في كتاب الله تعالى وما بينه
من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في منتهى اليسر والسماحة، كما صح في
وصف هذه الشريعة، وكل ما أشرنا إليه من العسر إنما هو اجتهاد من أولئك
المصنفين في الفقه بعد عصر السلف الصالحين وأكثرهم غير مجتهدين، ولا على
سيرة من ادعوا اتباعهم من المجتهدين، فمن تقيد بتقليد هؤلاء يتعذر أو يتعسر عليه
أن يكون مسلمًا قائمًا بأمر دينه كما يجب، ولقد كان الأعرابي في عصر السعادة
يسلم بين يدي الرسول ويتعلم دينه في مجلس واحد، ويقسم أنه لا يزيد على ما علم
بوجوبه عليه ولا ينقص منه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (أفلح إن
صدق) أو (دخل الجنة إن صدق) كما ورد في الصحيحين وغيرهما.
وأنت تعلم أن الأئمة المجتهدين من علماء الأمصار المتبعين لم يجيزوا
لأنفسهم أن يكونوا شارعين، وأن يكون كلامهم دينًا يتبع؛ لأن من انتحل هذا فقد
جعل نفسه شريكًا لرب العالمين كما بيناه في التفسير من هذا الجزء والذي قبله،
وإنما استنبطوا ما استنبطوا لأجل فتح أبواب الفهم في النصوص مع إرشاد الناس
إلى أنه لا يجوز لأحد أن يقلدهم فيه، وإنما يعمل به من ظهر له مع النظر في الكتاب
والسنة أنه هو الحق الذي شرعه الله، وقد بين ذلك المزني صاحب الإمام الشافعي
في أول مختصره الفقهي بقوله بعد البسملة: اختصرت هذا الكتاب من علم محمد
ابن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله؛ لأقربه على من أراده مع
إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه، وبالله
التوفيق.
وكان جميع الأئمة على هذا، ولو لم يكونوا عليه لما صح أن يكونوا أئمة
هادين مهتدين، وقد دخل القعنبي على الإمام مالك، وهو في مرض موته فرآه
يبكي فسأله عن سبب بكائه، فأخبره أنه ما بلغه من أن الناس يعملون بأقواله مع أنه
قد يقول القول ثم يظهر له خطؤه فيرجع عنه، فقد خشي أن يضل الناس به عن
شرعهم ونصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأذكرك مع علمك بهذا أن مذهب المجتهد عبارة عن الطريق الذي سلكه في
فهم الشريعة من الدلائل وأصول الاستنباط المعروفة في الأصول، فهذا ما يصح
للفقيه على مذهبه أن يجري عليه إذا كان مقتنعًا بصحته، وليس معناه أن يأخذ
فروعه المستنبطة فيجعلها أصولاً للدين يستنبط منها أحكامًا ويقيس عليها أخرى
بحسب فهمه، ويسمي هذا شرع الله في الإيمان والكفر وعبادة الله والحلال والحرام،
مع ما عظم من أمر التشريع وجعل انتحاله واتباع منتحله من الشرك والافتراء
على الله، وبهذا تعلم أن هؤلاء المقلدين المؤلفين في الفقه ليسوا مُتَّبعين - في كل ما
قالوه في كتبهم - لمذاهب الأئمة الذين يدَّعون أن هذا الفقه فقههم.
مثال ذلك: أن مذهب الإمام مالك اتباع نصوص الكتاب والسنة في العبادات
والوقوف مع ظواهر النصوص وفهم أهل الصدر الأول لها وعملهم بها، ولا سيما
أهل المدينة في زمنه، دون الدوران فيها مع العلل والحِكم، وما يسمونه المعنى
المناسب، ومذهبه في أحكام المعاملات والعادات مراعاة مقاصد الشرع والمصالح
العامة المعروفة من أصوله لا مجرد ظواهر الألفاظ كما بينه العلامة الشاطبي في
الاعتصام وغيره، وهو معروف مشهور عنه، وترى بعض الفقهاء خرجوا عن
أصل مذهبه المذكور في مسائل كثيرة من العبادات بحجة اتباعه والعمل به،
وأكتفي بشاهد من الشواهد على ذلك:
رأيت رجلاً مالكيًّا معممًا لا أعرفه يذكر لفقيه مالكي أعرفه ما ذكره هؤلاء من
الشروط في ماسح الخف، وفي الخف الذي يجوز المسح عليه ككونه من الجلد
وكونه مخروزًا، وأنه إذا كان ملصقًا لا يجوز المسح عليه إلخ.
فقلت له: ما الدليل على هذه الشروط في المذهب؟ قال: قاعدة الإمام مالك في
الاتباع في العبادات، والتزام ما ثبت في الكتاب والسنة، وهكذا كانت الخفاف في
عصر النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: إن هذا مخالف لمذهب الإمام مالك كل
المخالفة، فإنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة أن الخف الذي يجوز المسح عليه
يجب أن يكون جلدًا وأن يكون مخروزًا، ولا دليل أن الخفاف كلها كانت كذلك،
وإذا ثبت كونها كذلك بالفعل فذلك لا يدل على الشرطية لا عند أهل الاتباع المحض
ولا عند أهل الرأي في التعبد، مثال ذلك المطابق له المسح على العمامة، قد ثبت في
السنة، فهل يشترط في مسحنا العمامة أن تكون كعمامة الرسول صلى الله عليه
وسلم في صفات نسيجها ككونها من القطن أو الصوف؟ وكونه من نسيج اليمن أو
غيرها وكون طولها كذا ذراعًا؟
إن من الأصول التي لا يتمارى فيها عاقلان أن أمثال هذه الصفات والأحوال
التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في لباسهم وأكلهم وشربهم
وهيئاتهم حتى في وقت أداء العبادة لا تعد من فرائض الدين، ولا من شروط صحة
العبادة، ولا من المندوبات الشرعية لمجرد كونهم عليها، وإنما يتحقق كون الشيء
واجبًا أو شرطًا أو مندوبًا بنص شرعي يدل عليه دلالة صحيحة، والجمهور لا
يعدون فعله صلى الله عليه وسلم دالاًّ على الوجوب إلا إذا كان بيانًا لمجمل.
وجملة القول أن جماهير المصنفين من خلف هذه الأمة قد خالفوا سلفها
وعسروا يسر شريعتها حتى أدخلوا الأمة في جحر الضب الذي حذرهم منه الرسول
صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (ولتتبعن سَنَن من قبلكم شبرًا بشبر
وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) وقد صبر المسلمون قرونًا على
الحبس في جحر الضب، ثم ضاقوا به ذرعًا حتى خرج بعضهم منه من غير الباب
الذي دخلوا منه، فمرقوا من الإسلام وحسبوا أنه هو جحر الضب لا سواه، وأنه لا
قبل لهم به، ودعاة الإصلاح يريدون أن يخرجوهم إلى حقيقة الإسلام وهو الباب
الذي دخلوا منه إذ أوهمهم المعسرون أنه هو الإسلام، وما الإسلام إلا القرآن وسنة
الرسول في بيانه على الوجه الذي كان عليه جماعة السلف الذين أمر رسول الله
بلزوم جماعتهم، فكان إجماعهم حجة فيما اتفقوا على أنه دين.
وفي هذا المقام أحتج على المقلدين بعلم إمام من الأئمة المجتهدين وأجعله
شاهدًا ثانيًا على ما ذكرته من معنى مذاهبهم ومخالفة من يدعون اتباعهم لها.
قال الإمام الشافعي - رحمه الله - في أول باب الإجماع من رسالته بعد
تفصيل الكلام في الكتاب والسنة: وقامت الحجة بما قلت بأن لا يحل لمسلم علم
كتابًا ولا سنة أن يقول بخلاف واحد منهما. فقال: لا يحل لمسلم، ولم يقل:
لمجتهد، وهو نكرة منفية تفيد العموم، ثم بين في هذا الباب لمن سأله عن الحجة
على العمل بالإجماع أن الجماعة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلزومها هي
جماعة الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهم الذين لا تعزب سنن
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عامتهم (أي جملتهم وسوادهم الأعظم) وقد
تعزب عن بعضهم، وقال في آخر الفصل: فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما
عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما.
وهذا ظاهر كالشمس، وهو غير الإجماع الأصولي الذي لا تقوم عليه حجة.
إذا تمهد هذا فهاك أجوبة الأسئلة:
الجواب عن مسألة الزي
إن ما قاله الفقهاء في الزنار ونحوه لا ينطبق على حالكم في لبس ثياب
الإفرنج؛ لأنها ليست من الزي الديني ولا تلبسونها بالقصد الذي قالوه، ونوضح
المسألة ببعض ما سبق لنا تفصيله في المجلد الأول والسادس وغيرهما فنقول:
إن الإسلام لم يقيد المسلمين بزي خاص، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
يلبس زي قومه الذي كانوا عليه في الجاهلية في عامة أيام رسالته، وقد عرض له
لبس أزياء غيرهم من الأمم فلبسه بيانًا للجواز كالجبة الرومية من لباس النصارى
كما ثبت في الصحيحين، وجبة الطيالسة الكسروانية من ملابس المجوس كما ثبت
في صحيح مسلم، فالأصل في الأزياء الإباحة كأمثالها من العبادات، وقد تعتريها
الأحكام الخمسة بما يعرض عليها من دفع ضرر يقيني أو ظني، أو وقوعه، أو
تحصيل نفع كذلك، ومما سبق لنا بيانه غير مرة أن بعض كبار العقول من
المسلمين قد تنبهوا ونبهوا لما في مسألة الزي من التأثير السياسي والاجتماعي
فكرهوا أن يقلدوا غيرهم من الأمم في أزيائهم في أثناء الفتوحات العربية وغيرها؛
لئلا يندغموا في الأمم التي فتحوا بلادها بسبب قلتهم فيها، ولأنهم جاءوا ليكونوا
أئمة هادين متبوعين لا تابعين، وقد اتبعهم الأوربيون في هذا المعنى.
وأول من تنبه لذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد
روى مسلم أنه كتب إلى جيشه وهم في أذربيجان مخاطبًا قائده: يا عتبة بن فرقد،
إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في
رحلك وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك إلخ، قال النووي في شرح مسلم: وقد جاء
في هذا الحديث زيادة في مسند أبي عوانة الإسفراييني بإسناد صحيح قال: أما بعد،
فائتزروا وارتدوا، وألقوا الخفاف والسراويلات، وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل،
وإياكم والتنعم وزي الأعاجم، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا
واخشوشنوا واقطعوا الركب، وابرزوا وارموا الأغراض اهـ. وقوله تمعددوا،
معناه تشبهوا بجدكم معد بن عدنان في أسباب القوة والصلابة، وهذا نحو ما يعرف
في تاريخ اليونان عن الإسبرطيين والتشبه بهم في مصارعة الشدائد.
ثم إن المسلمين لبسوا كل زي في بلاد أهله وفي بلادهم، وقد لبسوا في زمن
المنصور بأمره قلانس كقلانس الكفار، ولم ينكر ذلك أحد من العلماء كما أنكروا
على السلطان محمود العثماني استبدال زي الإفرنج بزي قومه المعروف، ثم زال
الإنكار، وللمسلمين في الأقطار المختلفة أزياء كثيرة طبعت صورها حديثًا في
صحيفة كبيرة إحدى إدارات الجرائد الإنجليزية، وفيها يرى الناظر ما يرى من
المشابهة بينها وبين أزياء الملل الأخرى.
وما قاله الفقهاء في حكم من لبس ملابس الكفار فهو مبني على مدرك نظري
معروف، وهو أن من يلبس ملابس أهل ملة مما هو خاص بدينهم تفضيلاً لتلك
الملة على ملته كان مرتدًّا، وهذا اللبس بشروطه دليل على الردة عنها والانضمام
إلى غيرها، ولكنه غير مطرد، وإذا صح للفقيه أن يذكره للتنبيه والتذكير والتنفير
فلا يصح للمفتي ولا للقاضي أن يأخذ به عند الفتوى أو الحكم في النوازل
والدعاوي المعينة على علاته، ولا يصح بالأولى أن يحمله على نفسه من يلبس
لبس أهل ملة لسبب من الأسباب التي لا تنافي الدين ولا تخل بالإيمان كالأسباب
الصحية، ومنها اتقاء الحر والبرد، أو الاقتصادية، أو السياسية كالعيون
والجواسيس، أو العسكرية، أو الاجتماعية، كمن وُجد مع قوم وهو يعلم أنه إذا
ظهر بزي مخالف لزيهم يتأذى باحتقارهم إياه، أو تشهيرهم به، أو كثرة التطلع
إليه والاستغراب لزيه، وقد ورد في السنن النهي عن لبس الشهرة والوعيد عليه في
حديث أبي ذر عند ابن ماجه والضياء، وحديث ابن عمر عند أبي داود وابن ماجه
وحسنوهما، وأكثر من يغير زيه من المسلمين الذين يذهبون إلى أوربة فإنما
يغيرونها للسبب الأخير، ولا سيما التغيير بلبس القبعة المعروفة بالبرنيطة، فإنه لم
يبق فارق بين كثير منهم وبين الأوربيين إلا فيما يوضع على الرأس، والبرنيطة
هذه ليست شعارًا دينيًّا للإفرنج، ولا هي خاصة بهم، وقد ثبت أن بعض عرب
اليمن صنعوها للوقاية من الشمس، ويسمونها المظلة، ولا يخطر ببال أحد ممن
يلبسها من المسلمين أنه فضَّل على دينه دين القوم، فلا وجه إذًا لجعلها أمارة على
الردة، ولا للقول بتحريمها، بل هذا التحريم شر من لبسها، وأشد خطرًا على دين
القائل به؛ لأن معناه أن الله تعالى أنزل وحيه بخطاب يقتضي ترك لبسها اقتضاء
جازمًا، ويخبر بأن جزاء من لبسها العقاب في الآخرة، وهذه جرأة على الافتراء
على الله تعالى، والقول عليه بغير علم، وهذا كفر يتعدى شره إلى حمل الناس
على العمل به، فهو أغلظ من الشرك القاصر ضرره على صاحبه كما قاله بعض
العلماء في تفسير آية: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ
وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) إذ قال: إن غلظ هذه المحرمات جاء فيها على
طريق الترقي، وإنما كان الأخير أغلظ مما قبله؛ لأنه شرك متعدٍّ، وما قبله شرك
قاصر، ومن اتبع قائله به بغير علم من نبأ الوحي فقد اتخذه ربًّا وشريكًا لله كما علم
بالتفصيل من تفسير هذا الجزء من المنار والجزء الذي قبله، وقد حققنا مسألة الردة
في بعض الفتاوى من أجزاء هذا المجلد وفي مجلدات أخرى من المنار.
***
الجواب عن مسألة الصيام والفطر
بقول أهل الحساب أصحاب النتائج
هذا السؤال غريب من مثل سائله الفاضل، فهو يعلم أن حكم الشرع في صيام
رمضان والإفطار منه منوط برؤية الهلال إذا تيسر، وإلا فبإكمال عدة شعبان في
الصيام، وعدة رمضان في الإفطار ثلاثين يومًا، وحكمة ذلك جعل العبادة ابتداء
وانتهاء مما يتيسر العلم بمواقيته لكل جماعة ولكل فرد من الأمة، وحكمة عدم نوط
هذا التوقيت بالحاسبين من علماء الفلك هو أن لا يكون أمر العبادة متوقفًا على
أصحاب الفنون الذين لا يوجدون في كل مكان، وأن لا يكون لأمثال هؤلاء الأفراد
حكم فيها ولا رياسة، أو شبه رياسة دينية بسببها، ولعله لا يعلم أن أهل مصر
وتونس أنفسهم لا يعملون بهذه النتائج في الصيام والإفطار، بل بإثبات رؤية الهلال
أو إكمال العدة، ولكن قد يستعينون بها على الاستهلال فيرصدون الهلال في الليلة
التي تنص على أنه يُرى فيها وفي المكان الذي يُرى فيه بالنسبة إلى مغرب الشمس.
وقد استغربنا بناءه هذا السؤال على تعذر رؤية الهلال عليهم في أسبانية وهو
لم يبين سببه، وقد كانت هذه البلاد (الأندلس) في حكم الإسلام، وكانوا يرون
الهلال فيها، ولعل السائل ومن معه يقيمون في فندق أو دار لا يمكنهم الصعود إلى
سطحها، أو لا يرى مكان الهلال من الأفق للواقف على سطحها ويتعذر عليهم
رؤيته من سطح آخر أو من ضواحي البلد، فإذا تعذر عليهم ذلك بالفعل فلا يبعد أن
يقال إنهم يعملون بحسابهم أو حساب من يثقون بعلمه، إذا قال: إن الهلال في ذلك
البلد أو في أُفُقه أو يولد في وقت كذا، ويمكن رؤيته بالأبصار في ليلة كذا، فالليلة
التي يمكن أن يرى فيها الهلال بالفعل هي أول الشهر الشرعي.
واختلاف المطالع ثابت قطعًا، فلا يصح اعتماد من في أسبانية على نتائج
مصر أو تونس بجعل أول الشهر فيها هو أول الشهر في مدريد.
***
الجواب عن مسألة حلق اللحى
هذا المسألة وأمثالها مما سيأتي ليست دينيةً مما يعبد الله به فعلاً أو تركًا، وإنما
هي من الأمور العادية المتعلقة بالزينة والتجمل والنظافة، وقد سميت في الأحاديث
الواردة فيها سنن الفطرة، أي العادات المتعلقة بحسن الخلقة، ففي حديث أبي
هريرة عند الجماعة (أحمد والشيخين وأصحاب السنن الأربعة) قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (خمسة من الفطرة: الاستحداد - أي حلق العانة - والختان
وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار) ، وفي حديث عائشة مرفوعًا عند أحمد
ومسلم والترمذي والنسائي: (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية،
والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط،
وحلق العانة، وإنقاص الماء (أي الاستنجاء) ، قال مصعب بن شيبة راويه:
ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
وورد في اللحية والشارب أخبار معللة بعلة أخرى، وهي مخالفة المشركين
والمجوس، ففي حديث ابن عمر في الصحيحين ومسند أحمد مرفوعًا: (خالفوا
المشركين، وفروا اللحى وأحفوا الشوارب) زاد البخاري: وكان ابن عمر إذا حج
أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل أخذه - أي قصه - وفي حديث أبي هريرة
عند أحمد ومسلم: (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس) .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام يحب مخالفة المشركين
وموافقة أهل الكتاب، ثم صار بعد الهجرة يأمر بمخالفة أهل الكتاب حتى في
الأمور الاجتماعية والعادية؛ لأن المسلمين كانوا في أول الإسلام مع المشركين في
مكة فكان يحب أن يمتازوا عنهم، وكانوا بعد الهجرة مخالطين لأهل الكتاب فكان
يحب أن يمتازوا عنهم، مثال ذلك أمره بصبغ الشيب، ففي حديث ابن عباس في
الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون
فخالفوهم) وفي لفظ عنه للترمذي (غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود) .
والأمر في مثل هذه الأمور العادية ليس للوجوب الديني، والنهي عنها ليس
للتحريم كما قال الإمام الطبري، والظاهر أن الأمر فيها للإرشاد الذي يتعلق بمنافع
الدنيا ومصالحها كحديث: (كلوا الزيت وادهنوا به) رواه ابن ماجه والحاكم عن
أبي هريرة بسند صحيح وتتمته: (فإنه طيب مبارك) وعنه وعن غيره بأسانيد
ضعيفة وتتمة أخرى، هذا ما يوافق أصولهم، والمشهور عند أكثر الفقهاء أن هذه
الخصال كلها مستحبة إلا الختان، فقد قالوا بوجوبه للذكور، وقالت المالكية بوجوب
إعفاء اللحية، وقال الجمهور باستحباب إرسال شعر الرأس وفرقه، واستحباب
صبغ الشيب وخضابه لمخالفة الكفار كما ورد، فأما ما وصف بأنه من سنن الفطرة،
فالغرض منه أن تكون الأمور الفطرية، أي أمور الخلقة على أحسن حال في
حسن المنظر والنظافة والصحة، وأما ما ذكر لمخالفة أهل الملل فلأجل أن يكون
للمسلمين مشخصات وعادات حسنة خاصة بهم من حيث هم أمة جديدة جعلها دينها
إمامًا وقدوة لسائر أهل الملل في إصلاح أمور الدين والدنيا، وقد كان الفساد الديني
والاجتماعي عامًّا في جميع الأمم بإجماع المؤرخين.
أما قص الشارب، وأقل ما قال الفقهاء فيه أن تظهر الشفتان، وأكثره
استئصاله ولو بحلقه، فحكمته ظهور الفم وجماله، ومراعاة الصحة والنظافة، فإن
شعر الشاربين يعلق به الغبار ودسم الطعام وما فيه من جراثيم الأمراض، فإذا
شرب صاحبه من إناء دخل شعره فيه، فيؤثر في الشراب كما يؤثر الشراب فيه،
وقد يتعذر الإسراع بتنظيفه، كما يؤثر في الملاعق إذا أكل بها مائعًا، ولا يزال
أكثر الناس يضطرون إلى الشرب من إناء واحد، والأكل من صحفة واحدة كأهل
العصور القديمة، ولا يخفى ما يترتب على ذلك، وأما كون إعفاء اللحية من سنن
الفطرة، فمعناه أنه زينة خص بها الرجل الذي هو أكمل من المرأة خلقًا، فامتاز به
عليها كامتياز أكثر ذكور الحيوان على إناثها، ولم ترد مبالغة في إعفائها كما ورد
في إحفاء الشارب، بل قال ابن السيد: حمل بعضهم قوله: (أعفوا اللحى) على
الأخذ منها بإصلاح ما شذ منها طولاً وعرضًا، واستشهد بقول زهير:
على آثار من ذهب العفاء

وهو شاذ، وظاهر الرواية أن المراد به ترك حلقها كما كانت تفعل الأعاجم،
أو قصها قصًّا يقرب من الحلق بحيث تزول هذه الزينة وما فيها من المهابة، قال
الحافظ في شرح ما ذكرنا من زيادة البخاري في حديث ابن عمر المذكور آنفًا:
الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التخصيص بالنسك، بل كان يحمل
الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو
عرضه، فقد قال الطبري: ذهب قوم إلى ظاهر الحديث فكرهوا تناول شيء من
اللحية من طولها ومن عرضها، وقال قوم: إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد
وذكر عنه الاستدلال بحديث ابن عمر وغيره، ثم قال: ثم حكى الطبري اختلافًا
فيما يؤخذ من اللحية، هل له حد أم لا، فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي
يزيد منها على قدر الكف، وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها وعرضها ما
لم يفحش، وعن عطاء نحوه قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم
تفعله من قصها وتحفيفها، قال: وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة،
وأسنده عن جماعة، واختار قول عطاء وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض
لها حتى فحش طولها وعرضها لعرض نفسه لمن يسخر به، واستدل بحديث عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته
من طولها وعرضها) وهذا أخرجه الترمذي، ونقل عن البخاري أنه قال في رواية
عمر بن هارون: لا أعلم له حديثًا منكرًا إلا هذا، وقد ضعف عمر بن هارون
مطلقًا جماعة، وقال عياض: يكره حلق اللحية وقصها وتحذيفها، وأما الأخذ من
طولها وعرضها إذا عظمت فحسن، بل تكره الشهرة في تعظيمها، كما تكره في
تقصيرها، وتعقبه الثوري بأنه خلاف ظاهر الخبر في توفيرها. اهـ المراد منه.
وجملة القول إن حديث مالك في المسألة مؤيد بأخبار الصحيحين والسنن فهو
صحيح، وأكثر العلماء على كراهة حلق اللحى وقصها، وترك الشارب إلى ستر
الشفتين، والمسألة عادية دنيوية لا دينية تتزكى بها النفس لتكون أهلاً لجوار الله
وثوابه في الآخرة كما قلنا، وإن كان فعلها بنية الاتباع وتقوية رابطة الأمة مما يثاب
عليه كسائر العادات والمباحات التي تحسن فيها النية، ولكون هذه المسائل غير
دينية لم يُعن المسلمون بالخضاب وصبغ الشعر، كما عنوا بإرسال اللحى مع صحة
الأحاديث بالأمر به، وكونه زينة ومخالفة لأهل الكتاب، بل كرهه بعضهم وحرمه
آخرون بالسواد، وقد صح أن أبا بكر كان يخضب بالحناء والكتم، وفي حديث أبي
ذر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي: (إن أحسن ما غيرتم به
هذا الشيب الحناء والكَتَم) والكتم - بوزن الجبل - نبات يمني صبغه أسود ضارب
إلى الحمرة، نعم صرح به كثيرون باستحباب صبغ الشعر وخضابه مطلقًا،
وبعضهم بما عدا السواد لحديث أمره صلى الله عليه وسلم بتغيير شيب أبي قحافة
مع قوله: (وجنبوه السواد) ولأحاديث أخرى لا يصح منها شيء مرفوع، وقد
سبق لنا تحقيق ذلك في المنار، وحديث: (جنبوه السواد) لا يدل على تحريم
السواد، ولكنه لم يستحسنه صلى الله عليه وسلم لشيخ بلغ من الكبر عتيًّا كأبي
قحافة، وكان شعر رأسه ولحيته كالثغامة في بياضه، كما قال بعضهم، فالعلة
ذوقية واضحة كما يأتي عن ابن شهاب قريبًا، وذكر الحافظ في الفتح أن الذين
أجازوا الصبغ بالسواد تمسكوا بالأمر المطلق بتغييره مخالفة للأعاجم (ثم قال) :
وقد رخص فيه طائفة من السلف منهم سعد بن أبي وقاص وعقبة بن عامر والحسن
والحسين وجرير وغير واحد - أي من الصحابة - واختاره ابن أبي عاصم في كتاب
الخضاب له، وأجاب عن حديث ابن عباس عند أبي داود: (يكون قوم في آخر
الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة) بأنه إخبار عن
قوم هذه صفتهم، وذكر عن ابن شهاب أنه قال: كنا نخضب بالسواد إذ كان الوجه
جديدًا، فلما نغض الوجه والأسنان تركناه.
وجملة القول: إن أكثر العلماء كرهوا الخضاب بالسواد، وجعل النووي
الكراهة للتحريم، وهو كثير التشديد. وقد حقق ابن الأثير وغيره أن الخضاب
بالحناء والكَتَم معًا يكون أسود، وقد صح استحسان النبي صلى الله عليه وسلم له
قولاً وفعلاً إذ رأى من خضب به، وإن أبا بكر كان يخضب بهما معًا أو منفردين،
وهل يعقل إذا صح أن سواد خضابه يضرب إلى الحمرة أن يكون السواد الحالك
سببًا للحرمان من رائحة الجنة؟ أوليس الموافق لأصول الشريعة - إن صح هذا -
أن نقول: إنه علامة لقوم من المبتدعة المجرمين في آخر الزمان يُحرمون الجنة
بإجرامهم لا بخضابهم، كما جعل حلق الشعر علامة للخوارج، وإلا كان سعد بن
أبي وقاص أحد العشرة وسيدا شباب أهل الجنة أول من يتناولهم هذا الوعيد الشديد؟
أوليس من علامة وضع الحديث ترتيب الثواب العظيم، أو العقاب الشديد
فيه على التافه من العمل؟ وقد قال ابن الجوزي بأن هذا الحديث موضوع، وخطأه
من صححوه وحسنوه من حيث السند على أن فيه عبد الكريم غير منسوب، قيل:
إن كان الجزري فقد روى عنه الشيخان نُقول، ومنع ابن حبان الاحتجاج بما ينفرد
به كهذا الحديث، وإن كان ابن أبي المخارق فضعيف، وقد اضطروا إلى تأويل
الوعيد فيه بالتكلف.
وأما قول السائل: إذا كان الحديث صحيحًا فما حجة من يحلق لحيته من
المسلمين بما فيهم من حملة الشريعة - فجوابه أن المسلمين قد ترك الكثيرون منهم ما
هو أعظم شأنًا من قص الشارب وإعفاء اللحية من السنن والآداب الإسلامية من
دنيوية واجتماعية ودينية، وكثيرًا من الفرائض أيضًا، وقلَّما يحتجون لشيء من ذلك
إلا إذا قال أو عمل به بعض شيوخهم في الفقه أو التصوف، وقد يقولون: إن
جمهور علمائهم يقولون باستحبابه لا وجوبه مثلاً، والصواب أن كل قوم يعملون بما
ألِفوا واعتادوا من هذه السنن، حتى إن بعض السلف تهاونوا في بعضها، ولأجل هذا
توسعنا في المسألة بذكر سنة الخضاب التي لم يتعودها إلا القليل منهم منذ عصر
السلف، فقد روي أن الإمام أحمد رأى رجلاً قد خضَّب لحيته، فقال: إني لأرى
رجلاً قد أحيا ميتًا من السنن، وفرح به، وروي عنه في ذلك أقوال أخرى،
ونضرب له مثلاً من المقابلة أعظم من هذا؛ لأنه في مسألة عملية تتعلق بعقيدة
التوحيد، وهو ما ورد من حظر الصور والتماثيل والأمر بطمسها، وحظر تشريف
القبور، ولا سيما قبور الصالحين واتخاذها مساجد ووضع السرج عليها، والأمر
بتسوية القبور المشْرِفة المرتفعة عن الأرض بالتراب، كل ذلك صح في الأحاديث
وعلته أنها من أعمال الشرك والوثنية التي سرت إلى أهل الكتاب من الوثنيين،
ولكن المسلمين تركوا العناية بالتصوير والصور والتماثيل، حتى ما لا دخل له في
الوثنية وأمور الدين بوجه من الوجوه، وإن كان من أهم منافع الدنيا ومصالحها
كاللغة والحرب، وعنوا بمقابر الصالحين حتى اتخذوها مساجد، وشرفوها ورفعوا
بنيانها، وحبسوا الأوقاف على عمرانها ووضع السرج والمصابيح عليها، وصاروا
يشدون الرحال إليها ويطوفون بها تدينًا، فوقعوا في كل ما حرم الشرع بناءها
وتعظيمها لأجله، والفقهاء يقرونهم على ذلك، والقضاة يحكمون بصحة أوقافهم،
وهم يقرءون الأحاديث الصحيحة في لعن من فعل ذلك.
أكبر أسباب تهاون المسلمين بأمور دينهم وآدابهم ومشخصاتهم الملية في أكثر
البلاد أمران (أحدهما) ترك العلماء فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر و (ثانيهما) عدم وجود حكومة إسلامية تحافظ على الشعائر
الدينية، ومقومات الأمة ومشخصاتها الملية، ولذلك لا ترى مثل هذا التهاون في
بلاد نجد وبلاد الأفغان وكذا بلاد اليمن التي لم يتول الترك الحكم فيها، كجبال
الزيدية، ولكن بعض هؤلاء المتدينين قد غلوا في دينهم حتى وقعوا في مثل ما
أنكروا، وفيما هو شر منه كتحريم ما لم يحرم الله ورسوله، افتراء على الله،
وقولاً عليه بغير علم، وتكفير المسلمين بما ليس كفرًا ولا محرمًا.
وقد فتن أهل البلاد العثمانية والمصرية بتقليد الإفرنج والتشبه بهم، كما هو
معروف، ومن المجرب أن كثيرًا من الذين يتركون أزياءهم من المسلمين ويلبسون
الزي الأفرنجي يتهاونون بأمور الدين، ويتجرأون على الفسق والفجور، وإن
اختلاف الزي كان من أسباب ضعف الرابطة الملية والقومية، وقاعدة سد ذرائع
الفساد ثابتة في شرعنا، ومن غيَّر زيه لأجل التوسل به إلى المعاصي كان تغييره
معصية، ومن خاف على نفسه ذلك فليس له أن يقدم عليه، والذين لا يبالون بهذا
إذا كان لعدم إذعان أنفسهم للأمر والنهي فليسوا على شيء من الدين، ولعل هذا ما
كان يحذره بعض الفقهاء المشددين حتى في العادات، ولكن الجرأة على التحريم
والتكفير للأشخاص المعينين خطر على صاحبه، أعظم من الخطر الذي يحذره
وينكره الغلاة، فالإفراط في الدين كالتفريط فيه، كلاهما ينتهيان إلى الجناية عليه
والإضاعة له، فنسأل الله الحفظ والسداد.