للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين


الخيال في الشعر العربي
(٦)

الغرض من التخييل
عادة النفس الارتياح للأمر تشاهده في زي غير الذي تعهده به، والتخييل
يأتيها من هذا الطريق، فيعرض عليها المعاني في لباس جديد ويجليها في مظهر
غير مألوف.
فللتخييل فائدة عامة لا تتخلى عنه وهي تحريك نفس السامع لتلقي المعنى
بارتياح له وإقبال عليه، ولو كان من قبيل الحديث المألوف أو المعلوم بالبداهة،
وانظر إن رمت الثقة بهذا إلى قول الشاعر:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح
فالمعنى الذي صيغ البيت لتأديته أننا أخذنا نتناوب الحديث والإبل تسير
مسرعة في الأباطح، وهذا كما رأيته معنى مبذول وحديث لا يختص به عابر سبيل
دون آخر، ولولا أن الشاعر أورده في هذه الصورة التي خيلت إليك بطاحًا تتدفق
بسيل من أعناق المطايا - لم ينل عندك هذا الموقع من الحظوة والاستحسان.
قد يكون للمعنى في ذاته وجه يدعو نفس السامع إلى النفور عنه، وصناعة
التخييل تبقي له أثرًا لذيذًا في النفس، فتأتيها اللذة من ناحية غير الناحية التي
يجيء منها النفور، فلو سمع أشياع ابن بقية قول عمارة اليمني شامتًا به وهو
مصلوب:
ونكس رأسه لعتاب قلب ... دعاه إلى الغواية والضلال
لوجدوا لهذا البيت في أنفسهم ألمًا بليغًا يدخل عليها من جهة القدح في كرامة
رجل امتلأت صدورهم بإجلاله، وهذا الألم لا يمنع من أن يبقى للبيت في نفوسهم
أثر لذة تسري إليها من جهة التخييل، وإن كانوا لها كارهين، ومما قلت في بعض
الخاطرات: قد يهذب السياسي حاشية ظلمه فيكون كالبيت البليغ يؤثر في نفس من
يهجي به لذة وألمًا.
قد يبدو لك أن هذه الفائدة العامة إنما تتحقق فيما إذا كان المعنى معروفًا للسامع
من قبل التخييل، كوصف حال القمر والكواكب والبرق والسحاب والرياض
والأنهار، والمقلة والثغر، والقلم والدواة، أو حال الرجل من كرم وشجاعة وعلم،
وغيرها من الخصال. إذ يصح أن يقال: إن التخييل قد عرض على السامع هذه
المعاني في صور حديثة. وأما الوقائع والأحوال المجهولة فلم يعرفوا لها صورة من
قبل حتى تعد الصورة الخيالية جديدة، وتحدث في النفس لذة زائدة عن لذة العلم
بأصل المعنى.
والجواب أن المعنى الذي تتلقاه من الشاعر دون أن تسبق لك معرفة به قد
يلقيه إليك بوجه صريح، ثم يدخل به في الخيال كما هي الطريقة الشائعة في
التشبيه والتمثيل، وعُد التخييل في هذا صورة جديدة بالنسبة إلى الصورة التي
نقشها التصريح أولاً مما لا تعتريك فيه شبهة.
وقد يلقيه لأول الخطاب في صورة خيالية، وهذا مما يصح عده في الصور
المستجدة، إذ للمعاني صور أصلية وهي التي ترتسم في النفس لأول ما تدرك
المعنى بمشاهدة أو وجدان، فالنفس تشعر حال تلقيها للصورة الخيالية أن للمعنى
الذي تحمله إليها صورة أخرى هي الصورة البسيطة التي يعبر عنها بالقول
الصريح.
ولعلك تقول بعد هذا: إن صور المعاني تختلف ما اختلفت العبارات سواء
كانت تصريحية أو تخييلية، فالصورة التي يعطيها قولك: زيد يكتب، غير
الصورة التي يفصح عنها قولك: زيد يخط بالقلم على القرطاس، وكل منها صريح
لا مدخل فيه للخيال، وإذا كان التخييل يلذ للنفس من جهة أنه يكسو المعنى لباسًا
جديدًا، فيمكن لنا أن نصوغ للمعنى عبارة صريحة غير التي يعرفها المخاطب،
فيأخذ بها صورة جديدة، ولا يفوز التخييل بهذه الفائدة ويختص بها دون التصريح.
والجواب أن الصورة التي تنشأ من العبارات الصريحة وإن تفاوتت في مواقع
البلاغة واختلفت بالإيجاز والإطناب - لا تعد كما تعد الصورة الخيالية غريبة عن
المعنى المراد، ألا ترى أنك تعرض المعنى الواحد في صور خيالية متعددة والشعر
واحد، فيجد السامع عند كل صورة داعية لذة، ولو ألقيت المعنى في عبارة
صريحة ثم بدا لك أن تخرجه في عبارة أخرى تشاكلها في الصراحة والمخاطَب
واحد - لقيت في نفس المخاطب سآمة؛ لأنك لم توافها بصورة غريبة تخيل بها أنك
تعبر عن معنى غير ما ألقيته عليها أولاً.
فلا أنكر أن الصورة في العبارات الصريحة تتفاوت بحسب اختلاف العبارات
في كيفية تأليفها ومقدار ما تشتمل عليه من المعاني الزائدة عن أصل المراد، وإن
هذا الاختلاف هو الذي يجعلها متفاضلة في مقامات البلاغة، وإنما أذهب إلى أن تلك
الصور وإن أحكمت فسقتَها وأضفتَ إليها من المعاني ما يرتفع به شأنها لا تهيج في
نفس السامع هزة الطرب التي تثيرها العبارات الخيالية.
فالعبارات الخيالية تشارك العبارات الصريحة في جودة نسجها واشتمالها على
المعاني التي ترتقي بها في مدارج البلاغة، وتزيد عليها بإراءتك المعنى في صورة
بديعة تتعشقها النفس وتهتز لوقعها طربًا.
ثم إن التخييل لا يخلو في أكثر أحواله من صوغ المعنى في صورة ما تكون
معرفة المخاطَب له أقوى وفهمه إليه أسرع، وهذا مما يجعل أنس النفس أوفر
وارتياحها له أكمل.
ولا أحسبك تقع من هذا الوجه في شبهة أو تقف في حيرة حين ترى الوجه
السابق يقتضي أن لذة التخييل جاءت من غرابة الصورة، وهذا يقتضي أن انبساط
النفس لها جاء من جهة إلفها وكثرة التردد عليها، فإن غرابتها بالنظر إلى المعنى
المراد لا تنافي أن تكون معرفتها بهيئاتها أو عناصرها أجلى لدى المخاطب في ذاتها،
فالشاعر الذي يقول:
كأن شعاع الشمس في كل غدوة ... على ورق الأشجار أول طالع
دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض فتهوى من فروج الأصابع
قد خيل إليك حال تدفق الأشعة وقت الغداة وتجليها على الأوراق في صبغتها
الصفراء في صورة دنانير يضم عليها الأشل يده ليقبض عليها، فتنساب من بين
أصابعه متساقطة إلى الأرض. وهذه الصورة - بالنظر إلى مساق الحديث وهو حال
الأشعة - غريبة، ولكنها في نفسها جلية، إذ السامع للبيتين وإن لم يشاهد من قبلهما
دنانير تتناثر من يد الأشل فإن المواد المؤلفة منها الصورة كالدنانير ويد المرتعش
من أوضح معلوماته.
وللتخييل بعد هذا أغراض خاصة يرمي إليها الأدباء ويتفاوتون في التمكن
منها، ولا يسع هذا المقال سوى أن نلم بمهماتها فنقول:
قد يقصد الشاعر من التخييل تقوية الداعية إلى الأخذ بالشيء حيث يصوره
بصورة ما لا يُستغنى عنه، كما قال بشار:
فلا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم
ضرب المثل للشورى في تثبيت الرأي وإقامته على وجه السداد بالخوافي من
الجوانح حيث تساعد القوادم على الطيران، وهذا التمثيل يلقي في نفس السامع أنه
محتاج إلى الشورى حاجة القوادم إلى الخوافي، ويؤكد داعيته إلى العمل على سنتها
أو الحث على الثبات والصبر على الأمر حيث يخرجه في مثال ما لا يمكن بطبيعة
هذه الحياة الخلاص منه، كما قال بشار أيضًا:
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
فالأبيات مسوقة في الإرشاد إلى تحمل ما يصدر عن الإخوان من جفاء أو
هفوة، فضرب لهم المثل بالمشارب حيث لا مندوحة للإنسان عن ورودها، وهي لا
تصفو له سائر حياته، بل يصادفها في بعض الأحيان كاشفة له عن وجه كالح وماء
كدر يلجئه الظمأ إلى الشرب منها وإغضاء الجفن عن أقذائها، فهذا التمثيل يريك
أنك لا تستطيع أن تعيش مستقلاًّ عن الإخوان، وأن ليس في طبيعتهم أن يسيروا
في مرضاتك بحيث لا تلاقي منهم طول حياتك إلا ما يلائم طبيعتك ويوافق بغيتك،
ومقتضى هذا أن تشد يدك بعرى صحبتهم وتغضي عما يعرض لهم في بعض
الأوقات من جفاء أو يزلون فيه من عثرات.
أو التحذير مما يرغب فيه، كما قال أبو نواس:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
لو ذهب إلى ذم الدنيا صراحة وهي حلوة خضرة، لم يأخذه السامع بمأخذ
التسليم، وأنكر أن يكون في لذيذ المذاق جميل المنظر الحذر منه، فعدل إلى إخراج
الذم في مثال يريه كيف يتزيى الشر بزي الخير، ويظهر المؤذي في بهجة ما يعد
نافعًا، أو تخفيف الرغبة فيه وتقليل الاهتمام به كما قال المعري:
وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل
فمن تمثلت له الملابس بمنزلة الغمد والحمائل من السيف لم يطمح بنظره إلى
تنميقها أو يجهد سعيه في اتخاذها من النسيج الفاخر، وإنما يصرف همته إلى ما
تسمو به النفس من علم وفضيلة، كما أن البطل لا يعبأ بالغمد والحمائل وإنما يقبل
على السيف فينفق وسعه في إجادة صنعه وإرهاف حده.
أو التسلية، كقول صاحبنا الأمير شكيب يسلي البارودي وهو في المنفى:
إن يحجبوك فما ضر النجوم دجى ... ولا زرى السيف يومًا طي أغماد
لا بأس إن طال نجز السعد موعده ... فأعذب الماء شربًا في فم الصادي
أراد أن ينفث في نفس مراسله كلمة تحل منها عقدة الضجر وتطرد عنها غيم
الوحشة، فذكره بأن ما جرى عليه من التغريب والإخفاء عن أعين من ألفوه وألفهم
قد ابتليت بمثله الكواكب فلم يمسها بنقيصة، ومنيت به السيوف فلم يضع من قيمتها
فتلاً، ورام بعد هذا تخفيف ما عساه أن يساور قلبه من لوعة الحنين إلى الوطن
والهم بما طال عليه من الأمد، فأقام له مثالاً من حال الماء حيث يكون مذاقه في فم
من بعد عهده به - وهو الظمآن - ألذ وأشهى.
ومما صنعت في غرض التسلية:
بثثت شعاع علمك في نفوس ... تسوق إليك ما اسطاعت حقوقًا
كذا الأقمار تكسو الأرض نورًا ... ولولا الأرض مالقيت خسوفًا
أو إزالة ما يخالط النفس من النفور عن الأمر، أو عده عيبًا كما قال الفرزدق:
تفاريق شيب في الشباب لوامع ... وما حسن ليل ليس فيه نجوم
ضرب المثل للشعر الأسود تتخلله شعرات من الشيب بحال ليل داجٍ تتألق في
سمائه الكواكب ليخيل أن الشيب مما يحدث في الخلقة حسنًا ويزيدها بهجة حتى
يضع الأنس به مكان التجافي عنه، ومن هذا القبيل قول قابوس:
يا ذا الذي بصروف الدهر غيَّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تطفو فوقه جيف ... وتستقر بأقصى قعره الدرر
وفي السماء نجوم لا عِداد لها ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
أو الدلالة على أن الذي تحكي عنه صفة قد بلغ فيها غاية قصوى؛ لتستدعي له
في نفس المخاطب إجلالاً وإشفاقًا أو تحقيرًا له أو جفاء عنه، ويرجع إلى هذا
الغرض كثير من التخييلات الواردة على طريق المبالغة في المديح والفخر
والاعتذار والهجاء والوشاية، وأمثلتها كثيرة الدوران في كتب الأدب والبيان.
وقد يكون المعنى مما لم تتداوله الأفكار، وليس من البعيد أن يلاقيه المخاطب
بالتعجب الذي هو مطية الإنكار، فيجيء التخييل عقب هذا كما يقول أبو تمام
الأندلسي:
لا يفخر السيف والأقلام في يده ... قد صار قطع سيوف الهند للقصب
فإن يكن أصلها لم يقو قوتها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب
ادَّعى في البيت الأول أن القطع الذي عهدت به السيوف قد انتقل إلى الأقلام
التي تهزها يد ممدوحه، فلم يبق للسيوف خصلة تفاخر بها، وليست هذه الدعوى
من الجلاء بحيث تفتح لها النفوس باب القبول بسرعة، وأول ما يطعن فيها أن
الأقلام مشتقة من القصب وهي أوهن من العصا، دع السيف ومضاءه، فاحتاج إلى
تأييدها بما يدفع الشبهة ويحشرها في زمرة الأقوال المسلمة، فضرب لها المثل في
البيت الثاني بالخمر التي هي عصارة العنب، وقد امتازت عن بقية العصير بإطفاء
نور العقل وإطلاق اللسان يخبط في فلاة الهذر خبط عشواء فصارت بهذه الخاصية
حقيقة قائمة بنفسها، ومالكة لقوة لم تكن في جنسها.
وقد يكون المعنى مما تألفه العقول، ولا يتشبث به في سياقه ما يجر السامع
إلى ارتياب أو يحمله على إنكار، وإنما يقصد الشاعر إلى إيراده في مثال أوضح
حتى يقع من نفوس السامعين في قرار مكين، ومثال هذا قول سيف الدين بن المشد:
إن ترقى إلى المعالي أولو الفضل ... وساخت تحت الثرى السفهاء
فحباب المدام يعلو على الكأس ... محلاًّ وترسب الأقذاء
فارتفاع الفضلاء إلى المراتب العالية وهبط أهل السفه إلى ما تحت الثرى
ليس في نفسه بأمر يتعجب منه أو يتلقى بإنكار، فمحاكاته بارتفاع الحباب على
وجه الكأس ونزول الأقذاء إلى أسفله إنما كانت مؤكدة له ومفصحة على مناسبته
للحكمة وانطباقه على سنة الله الجارية بارتفاع العناصر النقية ورسوب الأجرام
المتعفنة، ومما صغت على هذا النمط:
لا يألف العز شعبًا لج في وسن ... من الخلاعة لا مسعى ولا أملا
كالدر يزهو على صدر الفتاة وإن ... دب النعاس إلى أجفانها اعتزلا
ومن الدواعي إلى التخييل تخصيص بعض السامعين أو القارئين بفهم المعنى
إما لفضل ألمعيته أو لأن في يده من القرائن المساعدة له على الفهم ما ليس في يد
غيره، فلو حاورك إنسان في أمة من الناس أقاموا على فريق من أموالهم رقباء
فأردت أن تذكر له أن أولئك الرقباء لم يحرسوها بعين الأمانة حتى تناولها قوم
ملأوا منها حقائبهم ونثروها في سبيل شهواتهم، فكتبت إليه على مثال ما كنت قلت:
يا رياضًا خانها الحراس إذ ... غرقت أحداقهم في وسن
سرقت ريح الصبا منك شذى ... طاب وانسابت به في الدمن
لم يستطع فهم ما أردتَ من الكلام إلا من دارت بينك وبينه تلك المحاورة،
وقد يذهب الشاعر إلى التخييل لقصد التهكم، كما قال المعري يتهكم بمن يحكي أن
أول من شاب إبراهيم عليه السلام:
ما أقبح المين قلتم لم يشب أحد ... حتى أتى الشيب إبراهيم عن أمم
كذبتم ونجوم الليل شاهدة ... أن المشيب قديمًا حل في الأمم
فكأنه يقول هذه الرواية الملفقة ليست أهلاً لأن تقابل بغير هذا الرد القائم على
الخيال، ويقرب من تخييل نجوم الليل بالمشيب قول أحمد بن دراج القسطلي يصف
الجرة:
وقد خيلت طرق الجرة أنها ... على مفرق الليل البهيم قتير
وربما لا يجد الشاعر داعيًا إلى مسلك التخيييل بعد بسط النفس سوى التنبيه
على ما بين المعاني من المناسبات الخفية أو مجاراة البلغاء وإقامة الشاهد على
الحذق في هذه الصناعة، ومما يرمي إلى أحد هذين الغرضين ما يتعلق به الأدباء
في وصف بعض المناظر الفطرية كالكواكب والحدائق، أوالصناعية كالشمعة
والسفينة.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضر
((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ... ... ... ...