للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الطور الجديد للمسألة المصرية

بدأنا مرة بعد أخرى بكتابة مقال مفصل في المسألة المصرية، ثم كنا
نترك نشره لسبق الجرائد اليومية إيانا إلى نشر مقالات كثيرة في معنى ما كتبنا ما
غادرت متردمًا، بل جاءوا بالذرة وأذن الجرّة، كما قيل في المثل، فإن كان أكثر
ما كتب لم يخل من تحرّف لجدل أو تحيز إلى فئة، فذلك أحرى باستقصاء أصول
المسألة وفروعها، فنكتفي إذًا باستخلاص الزبد من المخيض واستنباط النتيجة من
المقدمات، بكلمات وجيزة تحز في المفصل، وتعطي قارئها من الموعظة والاعتبار
والحكم، ما لعله لا يجده كله في غيرها.
***
مقدمة وتمهيد
(١) قد سبق الذكاء الفرنسي الدهاء الإنكليزي إلى معرفة مكانة مصر من
ارتباط الشرق بالغرب وما فيها من ينابيع الثروة، فمد إليها حسامه نابليون الأول
نابغة عصره في الذكاء والإقدام، ولكن الدهاء الإنكليزي قطع ذلك الساعد الذي مد
الحسام، ثم أعانت العلوم والفنون الفرنسية محمد علي الكبير على تكوين دولة
جديدة عربية، فعارضتها إنكلترة بنفوذ الدولة التركية، حتى وقفت مدها وأرجعتها
إلى ما وراء حدها، ثم تعاون الدولتان على إرهاق مصر في زمن إسماعيل، ثم
سبقت أدهاهما إلى احتلالها في عهد توفيق.
(٢) كانت نهضة مصر في عهد محمد علي مادية محضة، الحاكم الأعلى لها
شارع ومنفذ، ومالك يتصرف في البلاد وأهلها تصرف السيد المالك بماله وعبيده،
وما كان يرجى أن تتكون في ظل هذا الحكم بهذا العصر أمة، ولا أن تعتز دولة،
بل يهدم مستبد مفسد ما بناه مستبد مصلح، كما هدم إسماعيل المبذر ما أسسه
محمد علي المعمر، حدثني المرحوم حسن عبد الرزاق باشا أن قيمة أطيان القطر
المصري كلها ما كانت تزيد في آخر مدة إسماعيل عما كان عليه وعلى البلاد من
الدَّين للأجانب.
(٣) إن غايات الأضداد تتصل بمباديها، ففي عهد إسماعيل الذي انتهى
إليه الاستبداد في محق ثروة البلاد وإفساد الأخلاق - زرع ونبت غرس الإصلاح
الاجتماعي والسياسي والأدبي بإرشاد حكيم الشرق وموقظه السيد جمال الدين
الأفغاني مؤسس الحزب الوطني الأول في مصر، ومعلم الكتابة والخطابة والسياسة
والفلسفة، ولكن بريطانية العظمى كانت بالمرصاد لهذا الإصلاح المعنوي، فناوأته
كما ناوأت ذلك الإصلاح المادي، فأغرت توفيق باشا بنفي السيد جمال الدين من
البلاد بعد أن كان قد عاهده - وهو ولي العهد - على العمل بما اقترحه من
الإصلاح، ومنه جعل حكومة البلاد نيابية، وتعميم التعليم وغير ذلك، ولكنه قال
عند خروجه من مصر: إنه ترك فيها مَن يُتم ما بدأ، وهو مريده الذي أحاط
بمبادئه ومقاصده الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
(٤) تجدد في البلاد عهد الإصلاح المادي والمعنوي معًا في أول إمارة
توفيق؛ إذ تولى الوزارة مصطفى رياض باشا ذو الفطرة الطاهرة والوطنية الصادقة
التي لم تر مصر في تاريخها الحديث وزيرًا يدانيه في مجموع أخلاقه وفضائله
واستقلاله وعدله وإصلاحه الإداري، وإن وجد فيها من الوزراء وغيرهم ألوف
فاقوه في العلوم القانونية بأنواعها مع المشاركة في بعض الفنون التي لم يكن يعرفها،
فقام هو بإصلاح المالية والإدارة خير قيام، وولى الشيخ محمد عبده إدارة
المطبوعات ورئاسة تحرير الجريدة الرسمية، فتوسل الشيخ بهذا إلى إصلاح لغة
الصحف والدواوين، ثم إلى إصلاح التعليم الرسمي وغير الرسمي كما فصلناه في
ترجمته وترجمة رياض باشا، ولكن كان من سوء حظ مصر أن وقف سير هذا
الإصلاح بالثورة العرابية المشئومة بانتهائها بالاحتلال الأجنبي قاتل الأمم ومفسد
الشعوب ومذل البشر.
(٥) توسل الإنكليز إلى الاحتلال بطلب أمير البلاد توفيق واستدراج
السلطان صاحب السيادة عليها واستخدام اسمه ونفوذه، وخداع أوربة بإيهامها أنهم
يقصدون حماية رعاياها وحفظ أموالها ومصالحها، وطمأنوا هؤلاء وأولئك بأن
الاحتلال مؤقت لا تقصد بريطانية العظمى فيه لنفسها نفعًا، ولا تنوي سيادة ولا
أثرة، وإنما تنوي خدمة مصر وأوربة والإنسانية، وياطالما خدعوا البشر بمثل هذا
الإيهام، ولم تعرف عامة أمم الأرض رياءهم وخداعهم إلا في هذه الأيام، ثم طفقوا
يمكنون نفوذهم بالتدريج، ويسيطرون على الإدارة والقضاء والتعليم، ويفسدون
أخلاق العامة بالإباحة التي يسمونها الحرية الشخصية، وأخلاق الخاصة بخدمة
الحكومة ذات الرواتب العظيمة، ويمنون على الشعب بأنهم المنقذون له من ظلم
الترك وأعوانهم، والمعدون له للاستقلال الذاتي، حتى إذا ما استعد له تركوا له
بلاده، نعم إنهم ساعدوا ما كانت البلاد متوجهة إليه من إصلاح الري وترقية
الزراعة لتكون البلاد ينبوع ثروة لهم، ولكنهم ندموا أخيرًا أنهم لم يحولوا دون
تحصيل بعض الأهالي للثروة الواسعة في بلادهم كما يعلم مما يأتي:
(٦) ظل الإنكليز يمهدون السبل لضم مصر إلى مستعمراتهم مدة ثلث قرن
وينتظرون الفرص كدأبهم، حتى إذا ما اشتعلت نار حرب المدنية المادية الملعونة
وآذنوا الدولة العثمانية بالحرب، انتحلوا لأنفسهم ما كان لها من السيادة على مصر،
وأعلنوا حمايتهم عليها، وأطلقوا أيديهم في رجالها وأموالها وغلالها، وحميرها
وجمالها، بل تصرفوا في كل شيء للحكومة وللأمة واستخدموه في حرب الدولة
العثمانية صاحبة السيادة الشرعية على البلاد التي لم تكن تستخدم في سيادتها أحدًا
في نفسه ولا تصادره في شيء من ماله، حتى إن الحملة التي وجهت إلى فتح
فلسطين في آخر حرب صليبية - كما وصفها رئيس الوزارة البريطانية لويد
جورج - قد سموها الحملة المصرية، وقد كانت هذه التسمية حقًّا، وإن قصد بها
معنى آخر خفي - وهو الأخذ بثأر قلب الأسد وسائر الصليبين الذين كسرهم مسلمو
مصر وغيرها بقيادة صلاح الدين (قدَّس الله روحه) وانتزاع البلاد المقدسة من
المسلمين بحملة مصرية جل العاملين فيها من شبان مسلمي مصر، وجل المال الذي
أنفق فيها على السكك الحديدية وغيرها من مال مسلمي مصر. كما أنه تم بمساعدة
أشهر الأمراء المنسوبين إلى نبي الإسلام عليه وآله من دونهم الصلاة والسلام، ولو
قصدوا بالتسمية معناها الحق، لما صح أن يجازوا المصريين عليها بالرق، بل
لوجب أن يشركوهم بهذا الفتح ويجعلوا لهم حظًّا من حكم البلاد التي فتحوها كما
جعلوا لأنفسهم مثل هذا الحظ بل أكبر منه في حكم السودان بحجة أنهم شاركوا
مصر في فتحها الثاني له بعد إجبارها على تركها إياه، وإن كان خصوا أنفسهم في
هذه الشركة بالغنم، وحملوا المصريين فيها الغرم، كما بيَّناه في مقالة خاصة على
إثر الاتفاق على هذه الشركة بينهم وبين بطرس باشا غالي الذي لا يملك من أمر
السودان شيئًا، وذلك بعد أن امتنع مصطفى باشا فهمي رئيس النظار عليهم أن
يجعل ذلك الاتفاق بقرار من مجلس النظار محتجًّا بأن هذا حق الدولة العثمانية
صاحبة السيادة على البلاد وحدها، وكان هذا الامتناع أكبر منقبة لمصطفى باشا
فهمي تدل على شرفه ونزاهته واستقلاله، على ما كان من ضعف إرادته معهم
واستسلامه.
الحماية البريطانية والوزارة الرشدية
(٧) أعلنت بريطانية العظمى الحماية على مصر بالاتفاق والمواطأة مع
وزارة رشدي باشا التي كان عدلي باشا أحد أركانها، وهذه الوزارة هي التي مكنت
للإنكليز في البلاد، ومكنتهم من استخدام كل ما تملك الحكومة والأمة من الأعيان
والمنافع والأناسي والدواب والأنعام، ولولاها لما استطاع الإنكليز أن يستخدموا
زهاء ألفي شاب مصري، وينتفعوا بما يقدر بألوف الألوف الكثيرة من الجنيهات،
وقد نقل عنها أنها لم تفعل ذلك إلا عن موعدة وعدوها إياها، وهي منح البلاد
الاستقلال الإداري بعد انتهاء الحرب، وما كان رجالها أول من خدعته الوعود
البريطانية، فنقول: إنهم لا يفقهون السياسة وأخاديعها، ولما انتهت الحرب وزال
الخطر عن بريطانية العظمى وأحلافها، وشعرت بأن أزمة سياسة العالم صارت في
قبضة يديها، قلبت لمصر ظهر المجن وشرعت تمهد السبيل لضمها إلى أملاكها،
والإجهاز على لغتها العربية التي طالت محاربتهم لها واستبدال اللغة الإنكليزية بها،
وجعل السلطان الغالب في هيئتي حكومتها التشريعية والتنفيذية للإنكليز وغيرهم
من الأوربيين، والقبض على ناصية الثروة والمواصلات التي هي شرايين الحياة
الإدارية والمالية في الأمة، وقد ظهرت مبادئ هذه المقاصد في عمل اللجنة التي
أُلفت لوضع نظام لإلغاء الامتيازات الأجنبية، وحصر النفوذ الأجنبي في
البريطانيين، وقد كان عدلي باشا عضوًا فيها، فلما رأت ذلك وزارة رشدي ظهر
لها أن هلاك مصر بالاستعباد للإنكليز واقع على يديها، فكبر عليها الأمر، وسدت
في وجهها منافذ الحيل، حتى ظهرت مبادئ النهضة الوطنية الجديدة على يد سعد
باشا زغلول ورجاله.
تأليف سعد الوفد
ومساعدة رشدي وعدلي
(٨) إن خبر تأليف سعد باشا للجنة وطنية تسعى لاستقلال مصر باسم الوفد
المصري معروف، ومشايعة وزارة رشدي باشا له غير مجهولة، وقد كانت قيمة
مساعدتها حتى السلبية ثمينة، وأعني بالسلبية عدم مقاومته عند أخذ وثائق التوكيل
من ممثلي الأمة للوفد بطلب الاستقلال التام، وقد حاول مستشار الداخلية الإنكليزي
منع هذه الوثائق، فلما لم يستطع استخدام الوزارة فيه كان عمله أبتر ناقصًا، فكان
هذا من أظهر الشواهد على عجز الإنكليز عن التصرف في الأمة بأنفسهم، فهم لم
يعملوا شيئًا ضارًّا ولا نافعًا إلا بأيدي المصريين، ولم تكن مساعدة الوزارة لسعد
باشا عن تواطؤ وتعاهد على السعي معه إلى الاستقلال التام الذي التزمه؛ إذ لم تكن
ترجو هذا، وإنما رأت أن قيامه بهذا الأمر يكون وسيلة لها إلى أحد الأمرين: إما
الحصول على استقلال إداري واسع مع الارتباط بالإمبراطورية بالحماية أو السيادة
على ما كانت وعدت به عند إعلان الحماية، وإما إثبات وطنية أفرادها لتعلم الأمة
أن موافقتها للدولة البريطانية على إعلان الحماية ومساعدتها إياها على استخدام
قوى الحكومة والأمة في الحرب كان عن اجتهاد في خدمة البلاد يغفر لها خطأها فيه
حسن النية والتكفير عنه بمساعدة الأمة على طلب الاستقلال.
الاستعداد للاستقلال
وأسبابه
(٩) إن استعداد الأمم للانقلابات الاجتماعية التي يظهر بها انتقالها من
طور إلى طور، إنما يتم بأعمال شتى في أزمنة مختلفة تكون كالمقدمات للنتيجة، فلا
يعلم عند النظر في كل منها منفردًا ما سيفضي إليه أو ما سيترتب عليه عند اتصاله
بغيره على وجه مخصوص، وإن رجال الاستعمار من الإفرنج يراقبون الشعوب
التي يسودونها ليحولوا بينها وبين الأعمال التي تجتمع بها كلمتها، فتكون أمة
مستقلة بالاستعداد بالقوة، الذي لابد أن يتبعه الاستقلال بالفعل، فيصرفونها عن
هذه الأعمال ويشغلونها بضدها بقدر علمهم واجتهادهم، وقد يخونهم العلم فيعملون
بأنفسهم لإعداد الأمة للاستقلال ما لا تستطيع عمله أو ما لا يأتي منها وهم لا
يشعرون، فلم يكن لورد كرومر (وقد كان أوسع إنكليز مصر علمًا وخبرًا وحزمًا)
يعلم بأن إباحته للمصريين حرية الانتقاد على حكومتهم وأعظم رجالها سيكون سببًا
من أسباب جمع كلمتها إذ كانت الحكومات هي السالبة لاستعداد الشعب بمصر،
والحائلة دون جعله أمة، وإنما كان منتهى اجتهاده في ذلك أن سقوط هيبة الحكومة
الوطنية وزوال سلطانها يجعل المصريين خاضعين للإنكليز خانعين لهيبتهم وحدهم،
وهم الذين لا يطمع أحد في إضعاف سلطانهم، ولم تكن السلطة العسكرية
البريطانية تعلم أن ذلك التصرف في أموال الفلاحين وسائر الطبقات الواطئة وفي
أنفسهم، يولد عندهم من العلم بضرر السلطة الأجنبية والشعور بكراهتها وعداوتها ما
تشارك به أعلى الطبقات علمًا وأشدهم شعورًا فتجعل الأمة كتلة واحدة وكلمة واحدة،
بل أقول: إن الحكومة البريطانية العليا في لندن كانت تجهل ما تلده لها الدعوة
(البوربغندة) التي نشرتها في العالم كله طول سني الحرب لإقناع الأمم كلها بأنها مع
حلفائها يقاتلون لتحرير الأمم والشعوب وإزالة ما يريده الألمان وحلفاؤهم من جعل
السلطان للقوة دون الحق، وهو توجه أنفس الشعوب المستعمرة أو المستعبدة
بالأسماء المختلفة إلى الحرية والاستقلال وبغض المستعبد واحتقاره والخروج عليه
مهما تكن النسبة بعيدة بين قوته وضعفها كما كانت تجهل بالأولى أن نفي سعد باشا
زغلول ورفاقه من مصر عند إظهارهم الاستعداد لطلب الاستقلال يولد في مصر
ثورة اجتماعية عامة. كيف وقد سمعت هذه الحكومة ممن كانت تعده أعلم رجالها
بحال المصريين وهو مستشار الداخلية السابق قوله: إذا اشتعلت نار ثورة في
مصر فهو يطفئها ببصقة من فمه.
الوحدة المصرية
وما حدث من صدعها
(١٠) ظهرت مبادئ استعداد الوحدة المصرية للاستقلال ونبذ السلطة
الإنكليزية بعد وقوع أسبابه التي أشرنا إلى بعضها في زهاء ثلث قرن، فكانت
كلما قاومها الإنكليز تزداد قوة لأنها حقيقية لا صورية مدبرة كما ظنوا بادئ ذي بدء،
ولو علموا أنها حقيقية لعالجوها باللين والخدعة، لا بالشدة والصراحة، ولكن هذه
الوحدة لم تعش أكثر من عامين حتى فت في عضدها التفرق والانقسام، ومن
العجيب أن أعظم مظاهر الاعتصام والوحدة قد كان هو نفسه أعظم مظاهر الانفصام
والفرقة، ألا وهو الوفد المصري الذي أجمعت الأمة على الثقة به، وجعلت في
تصرفه مئات الألوف من الجنيهات، لقد جنى الوفد على نفسه بما جنى على الأمة
فخابت فيه الآمال، وغلب يأس الجمهور على الرجاء، وآخرون متحيرون يقولون
ماعدا مما بدا؟ وهل لمصر من موسى يأتيها بخبر أو يجد على هذه النار هدى؟
وقد يعجبون لقول مثلي بعد هذا التفرق الذي أشرب العداء ولم يسلم من الهجر
والبذاء، على أكابر الزعماء والرؤساء: إن الوحدة المصرية حقيقية ولم تكن خدعة
صورية، نعم إنني قلت ما قلت على علم، وإنني أثبت رأيي بالدليل:
لا تتمحص الحقائق إلا بدخولها في جميع الأطوار التي من شأنها التطور بها،
فما ظهر من التفرق والانقسام في الوحدة المصرية التي أكبرها العالم مدة سنتين
يشبه ما كان من إكبار العالم للانقلاب العثماني الذي هتفت له الشعوب العثمانية على
اختلاف مِللها ونحلها، ولغاتها وتربيتها، وتعانقت وتآخت لأجل تنفيذ قانونه، ثم لم
تلبث جمعية الاتحاد والترقي التي أحدثته أن هدمته بيدها، وكذلك هدم الوفد
المصري ما حدث على يديه من الوحدة المصرية واجتماع الكلمة عند نفي رئيسه
وثلاثة من أعضائه المؤسسين إلى مالطة - ثم عند إطلاقهم من اعتقالهم - ثم في
مقاطعة لجنة لورد ملنر وإجماع الأمة على ردها إلى الوفد المصري - ثم في
استقبال لجنة الوفد التي جاءت لاستشارة الأمة في تقرير لورد ملنر - ثم في استقبال
الرئيس سعد باشا زغلول بحفاوة عامة اشترك فيها القطر المصري من أدناه إلى
أقصاه باحتفالات وزينات وخطب وقصائد ومآدب لم يسبق لها نظير، ولم يبق أحد
يجهل أن اتحاد الأمم هو أعظم قوة لها تتبعها سائر القوى إذا ثبتت، وينتكث فتل
كل ما يوجد منها إذا نكثت، فما سبب هذا التفرق بعد ظهور ثمرة الاجتماع بجنوح
بريطانية العظمى إلى استمالة مصر وإرضائها برفع الحماية عنها والاعتراف
بالاستقلال لها، مقيدًا ذلك بقيود تحفظ بها مصالحها.
موضوع الاتفاق
وسبب الافتراق
(١١) إن ما كان من الوحدة والاتفاق كان على أمر مجمل توجه إليه
استعداد جميع طبقات الشعب، وهذا التفرق لم يزده إلا قوة، ولكن الشعب (لما
اتفق على طلب الاستقلال التام كان أهل الرأي منه يعلمون أن الكمال يقصد في أول
السعي، وقلما ينال إلا في آخره، وأن المسافة بين الأول والآخر في أعمال الأمم
قد تكون قريبة تحسب بالسنين، وقد تكون بطيئة تعد بالأحقاب، ومنهم من كان
يرى مع هذا أن كل ما يؤخذ من الغاصب فهو ربح، ومن يرى أن أخذ بعض
المغصوب قد يتضمن الاعتراف للغاصب بالبعض الآخر، فالواجب الانتظار لأخذ
الحق كله ولو بعد حين، فكان هذا خلافًا يداخل الاتفاق وإن لم يذكر في الوقت الذي
لم يظهر من الغاصب فيه جنوح ما إلى الاعتراف بشيء من الحق لصاحبه، دع
الوعد ببذله كله أو بعضه، فلما أثمر سعي الوفد بقوة وحدة الأمة التي تؤيده جنح
الإنكليز لإرضاء المصريين بالاعتراف لهم بحقهم في إدارة بلادهم واستقلالهم فيها
(بشرط اعترافهم هم لبريطانية العظمى بمركز ممتاز في البلاد تحفظ به مصالحها
ومنافع أوربة بما اكتسبته من الأهلية لهذا الامتياز بالاحتلال الطويل الذي خدمت
البلاد فيه ورقت موارد الثروة فيها وغير ذلك مما تدَّعيه سواء كان مسلمًّا أم لا)
ودُعي الوفد المصري من باريس إلى لندن لأجل المفاوضة في التقرير الذي وضعه
لورد ملنر وزير المستعمرات البريطانية لحل إشكال القضية المصرية - لما كان
ذلك ظهر في المسرح عدلي باشا يكن أحد أركان الوزارة الرشدية التي استقالت
في سبيل تأييد الوفد، فكان وسيطًا بين الوفد ولجنة ملنر التي فوضت الحكومة
البريطانية إليها أمر المفاوضة وسبر غور الوفد، وظهرت بتلك الوساطة مبادي
الخلاف الكامن الذي أشرنا إليه، وانتهى بالتفريق والشقاق الذي نشكو منه، فما ثم
شيء جديد إلا وله أصل تليد كان يتخلل بذور الاستقلال المطلق بذور الاستقلال
المقيد بقيد الإمبراطورية، فنبت ذاك أولاً في مصر، ونبت هذا بعده في أوربة ثم
في مصر، فكان كالزئوان بين القمح.
لقد فتن الجمهور المصري تبعًا لوفده بمشروع ملنر، وبعد طول البحث فيه
والتمحيص له استقر رأي سعد باشا على أنه (حماية مقنعة) الغرض منه جعل
مركز الغاصب المبطل شرعيًّا بقبول الأمة المصرية هذه الحماية المقنعة، ورأى
عدلي باشا أنه مشروع جدير بأن يبنى عليه الاتفاق بين إنكلترة ومصر، وأنه يمكن
تعديل بعض ما يشتد سعد باشا في إنكاره منه، وكان سعد باشا يرى عدم المفاوضة
في هذا المشروع، ثم رأى بعد مفاوضة لجنة ملنر التي استدرج إليها أنه لا يجوز
جعله أصلاً للاتفاق بين مصر وإنكلترة، ولا أساسًا للمفاوضات الرسمية، إلا إذا
ألغيت الحماية وقبلت التحفظات التي وضعها الوفد بعد مشاورة الأمة والاطلاع على
رأيها، واشتد النزاع بينه وبين ملنر مرارًا حتى هم بقطع المفاوضات، وكان عدلي
باشا يعيد المياه إلى مجاريها بلطفه وكياسته، فأرضى بذلك الإنكليز وعلقوا آمالهم
به، وأغضب سعد باشا، وسعد شديد الشكيمة حديد المزاج إذا غضب جرح فأدمى،
وعدلي باشا رقيق الطبع من أبعد الناس عن النضال والخصام، ولكن مال إليه
بعض أعضاء الوفد وآثروه على رئيسهم في شخصه وفي طريقته، فاجتهدوا أولاً
في التأليف بينهما، ولولا ذلك لظهر ما نجم من الشقاق بينهما في أوربة، على أن
سعد باشا أنبأ لجنة الوفد بمصر ببرقية من باريس بأن عدلي باشا مشاق للوفد، فلم
تنشر ذلك اللجنة وتدارك ذلك الأعضاء هنالك، فأصلحوا بينهما إصلاحًا التزم فيه
عدلي بألا يعمل عملاً إلا بالاتفاق مع الوفد، وحمل سعدًا على كتابة برقية تنسخ
البرقية الأولى، فنشرت هذه دون تلك، ويقال أنهم أقنعوا سعدًا بأن يؤلف عدلي
وزارة تتولى المفاوضة مع إنكلترة ويكون الوفد بالمرصاد لما يقرره الفريقان، فإن
كان مرضيًا أيده وإلا استأنف جهاده وسعيه.
ثم ظهر الخلاف بين سعد والمشايعين لعدلي من أعضاء وفده، فغادره خمسة
منهم وعادوا إلى مصر، فسبقهم إليها نبأ منه بمخالفتهم له فاستقبلهم جند الوطنية من
الشبان أسوأ استقبال منذ بلغوا مرفأ الإسكندرية إلى أن آووا إلى بيوتهم وأسمعوهم
أذى كثيرًا مشوبًا بالوعيد والنذر، وأخذوا منهم كتابًا بأنهم على رأي الرئيس ومعه،
ولكن لم يمنعهم ذلك من بث الدعوة لعدلي باشا والطعن في سعد باشا والتنفير والصد
عنه، وكان منهم الغالي والمعتدل في ذلك.
الوزارة العدلية
(١٢) من القضايا التي صارت معروفة للجمهور ومسلَّمة بين الخصوم أنه
لمّا كان الوفد المصري وعدلي باشا في لندن تقرر لدى الحكومة البريطانية أن يؤلف
عدلي باشا بعد عودته إلى مصر وزارة تتولى المفاوضة الرسمية وعقد الاتفاق بين
بريطانية العظمى ومصر على أساس تقرير لجنة ملنر بشرط إلغاء الحماية فقط،
والشائع أن أعضاء الوفد الذين تحولوا ثمة عن سعد إلى مشايعة عدلي قد
تواطئوا معه هنالك على تأييد الوفد له، إما بجذب سعد إليهم وإما بنبذه بأكثر الآراء،
ولولا هذا التواطؤ لم يقبل عدلي باشا أن يدخل في هذه المعمعة وينقض عهده،
فإنه رجل شديد الاحتياط في حفظ كرامته وشرفه واتقاء القيل والقال، دع الاستهداف
للطعن والنضال، وأنهم حاولوا هذا هنا فلما لم يستطيعوا إليه سبيلاً تحيزوا إلى
عدلي جهارًا، وإننا نلخص خبر الوزارة بموجز من القول:
سبق أن ذكرنا في المنار الصفة الرسمية لتأليف الوزارة، وأنها كانت بسبب
البلاغ البريطاني لعظمة السلطان في شأن المفاوضة باستبدال علاقة أخرى بالحماية
البريطانية على مصر تربطها بالإمبراطورية، وقد اشتهر أن السلطان كان يرغب
أن تتولى وزارة محمد توفيق باشا نسيم ذلك؛ لأنها كانت أحظى الوزارات عنده،
ولما استقالت لأجل هذا العمل عهد إلى محمد مظلوم باشا بتأليف الوزارة المطلوبة
فلم يمكن، ويقال: إنه ذكر غيره، ثم علم أنه لا يمكن أن يقوم بهذا الأمر إلا عدلي
باشا.
ولما ألف عدلي باشا الوزارة ذكر في جوابه عن الأمر السلطاني بتأليفها
خطتها السياسية الناطقة بأنها (ستجعل نصب عينيها في المهمة السياسية التي
ستقوم بها لتحديد العلاقات الجديدة بين بريطانية العظمى وبين مصر، الوصول إلى
اتفاق لا يجعل محلاًّ للشك في استقلال مصر. وستجري في هذه المهمة متشبعة بما
تتوق إليه البلاد ومسترشدة بما رسمته إدارة الأمة، وستدعو الوفد المصري الذي
يرأسه سعد باشا زغلول إلى الاشتراك في العمل لتحقيق هذا الغرض) .
وقع هذا القول على إبهام عبارته واضطرابها [١] أحسن موقع من الأمة؛ فإن
آمالها كانت محصورة في الوفد الذي ينطق باسمها، فرأت أنها قد وجدت في البلاد
حكومة تؤيد الوفد وتعمل معه فأصبحت الأمة والحكومة كلمة واحدة ويدًا واحدة بعد
أن كانت الحكومة خصمًا للأمة منذ تمكن الاحتلال الإنكليزي، وأنشب براثنه فيها
إلى هذا العهد؛ لأجل هذا صفقت الأمة لهذه الوزارة وقابلتها بمظاهرات الثقة بها
والهتاف لها مع الهتاف للوفد ولرئيسه سعد باشا.
التفرق والشقاق بين المصريين
(١٣) ثم إن الوزارة آذنت سعد باشا - وهو في باريس - بتأليفها وخطتها
وطلبت منه الحضور إلى مصر للتعاون معها على العمل، فبادر فقابلته الأمة من
أعلى طبقاتها إلى أدناها في جميع البلاد من أدناها إلى أقصاها، بمظاهر من
الحفاوة والتكريم، لم يسبق لها شبه ولا نظير، فكانت الأمة كالمجمعة على ما قامت
به جميع هيئاتها النظامية المنتخبة وسائر ممثليها من تكريمه وإعلان الثقة به في
المحافل العامة والمآدب الخاصة، ولكن هذا الإجماع لم يكن تامًّا عامًّا سالمًا من
الشذوذ الخفي، بل كان بعض أعضاء الوفد الذين خرجوا من أوربة مغاضبين،
وبعض الحاسدين الذين زادهم ما رأوا حسدًا - يخفون في أنفسهم ما لا يبدون للناس،
فلما تعذر التوفيق بين الوفد والوزارة أو بين رئيسيهما ظهر ما كان خفيًّا وصار
أعضاء الوفد المغاضبون لرئيسهم يتسللون من (بيت الأمة) [٢] لواذًا، وينفضون
إلى الوزارة ثبات وأفرادًا، ثم استمالوا هم والوزارة إليهم آخرين منهم، وحمي
وطيس الخلاف والجدل، وصرَّح رئيس الوفد بعدم الثقة بتولي الوزارة للمفاوضة
مع الحكومة الإنكليزية والاتفاق معها على مستقبل مصر، فعارضته الوزارة
وقاومته بكل ما لدى الحكومة من حول وقوة، تظاهرها في ذلك السلطة المحتلة،
ومن ورائها الأمة البريطانية بحكومتها وجرائدها، ويالها من قوى هائلة تستغيث
من هولها الأمم، وتخشى صولتها كبرى الدول، فظهر بذلك صدق ما قيل من أنه
قد تقرر في إنكلترة أن يتولى عدلي باشا الوزارة ويؤيده الوفد، ثم يكون هو الذي
يعقد الاتفاق بين بريطانية العظمى ومصر على قواعد تقرير ملنر بشرط إلغاء
الحماية واستبدال علاقة بريطانية أخرى بها.
فوقع بذلك الشقاق في الأمة، وانشقت عصا تلك الوحدة التي ليس لمصر من
دونها حول ولا قوة، فكان هذا أول طلائع الظفر البريطاني الذي يغالب جميع
الخطوب بالصبر والجلد، مع الدأب في العمل.
وقل من جد في أمر يحاوله ... واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر
ففيم كان هذا الشقاق الذي شوه تلك السمعة الشريفة التي نالتها مصر في العالم
كله بوحدتها واتفاق كلمتها مدة عامين؟ هل هو شقاق في المذهب السياسي أم تنازع
على الزعامة والرياسة بين الأفراد وانتصار كل فريق لزعيم لتفضيله إياه في
الزعامة للمصلحة العامة أو المنفعة الخاصة؟ ومن المذنب المسئول؟ وأي الحزبين
هو الظافر وأيهم المغبون؟
موضوع الشقاق وزعيماه
(١٤) من القضايا التي صارت معروفة لكل أحد أن وحدة الأمة المصرية
التي كان يمثلها سعد باشا زغلول رئيس الوفد المصري قد انصدعت فصارت الأمة
في طريق السعي إلى استقلالها فريقين، وأن زعيم الفريق الأكبر أو الأكثر هو سعد
باشا ويعبر عن أفراد حزبه بالسعديين، وأن زعيم الفريق الأصغر أو الأقل هو
عدلي باشا، ويعبر عن أفراد حزبه بالعدليين، وأن كل قوة سعد مستمَدة من الأمة،
وأن جل قوة عدلي مستمدة من الحكومة المصرية التي هو رئيسها والسلطة
البريطانية الموجدة لهذه الحكومة، وأن هذا الصدع قد كان من قِبل الزعماء الذين
أسسوا بناء الوحدة بما كان من استعداد الأمة له وهم زعماء هذه الوزارة وزعماء
الوفد الذي تأسس بمساعدتها بما وقع من الخلاف بينهم، فهم المسئولون، وإن
التنازع على رئاسة الوفد الرسمي الذي يتولى عقد الاتفاق بين بريطانية العظمى
ومصر إذا أمكن قد كان من أسباب هذا الخلاف.
هذه قضايا لا مِراء فيها، والعدليون يتهمون سعدًا بأنه لا عذر له في الامتناع
من تأييد الوزارة إلا حب الرئاسة، وقد أذاع كُتابهم في جرائدهم وغيرها أن المسألة
شخصية، وهذا عار كبير على الأمة بأسرها، وسعد باشا يحتج بأنه يجب أن يكون
هو الرئيس للوفد الرسمي؛ لأنه هو الممثل للأمة التي وعدت الحكومة باتباع
إرادتها في قضيتها السياسية، والوزارة الحاضرة ليست إلا وزارة الحماية الإنكليزية،
فهي مظهر للسلطة البريطانية، فإذا كانت هي التي تتولى إدارة المفاوضة ثم
الاتفاق مع بريطانية فكأن ملك الإنكليز هو الذي يتفق مع نفسه، وأن ما تعتذر به
الوزارة أو تحتج به على ما تحرص عليه من جعل رئاسة الوفد الرسمي لرئيسها،
وهو أن التقاليد المتبعة في جميع الدول أن رئيس الحكومة هو الذي يرأس كل
جماعة رسمية يكون فيها، وهو الذي يعقد المحالفات والاتفاقات مع الحكومات
الأخرى - عذر باطل وحجة داحضة، فإن ما ذكروه من تقاليد الحكومات المستقلة
النيابية التي يمثل رئيسها الحكومة والأمة جميعًا إذ لا يكون رئيسًا لها إلا بتأييد
مجلس نوَّابِها الممثل للأمة، وهذا مباين لحال الوزارة المصرية.
ويقول العدليون: إن الوزارة أجابت سعد باشا إلى جميع ما اشترطه لتأييد
الوفد لها إلا مسألة الرياسة، فمهما يكن له من حجة على طلب هذه الرياسة لنفسه،
فليس له أن يوقع الشقاق في الأمة لأجله، وناهيك بقبول كون أكثر أعضاء الوفد
الرسمي من أعضاء وفد الأمة الذين يختارهم رئيسه، وكون الثقة بشخص عدلي
باشا لا نزاع فيها، وسعد باشا وحزبه يرددون هذا القول بكلام لم ينشروه كله في
الجرائد، فينكرون إجابة ما عدا شرط الرياسة من شروط الوفد، فقد كان أهم
الشروط إصدار المرسوم السلطاني ناطقًا بتحديد الأساس الذي تجري فيه المفاوضة
على ما يتفق مع مطلب الأمة ومبادئ الوفد، كالنص على إلغاء الحماية البريطانية
على مصر حتى أمام الدول الأجنبية وعلى الاستقلال الدولي التام المطلق في الداخل
والخارج، ويليه شرطا إلغاء الحكومة العرفية والمراقبة على الصحف لتكون الأمة
وصحفها حرة في أقوالها وأفعالها لا مسيطر عليها في إبداء رأيها إلا القانون، فلم
ينفذ شيء من ذلك، ويقولون أيضًا: إن الرئيس لم تبق له ثقة باقتدار عدلي باشا
على تحقيق مقصد الأمة المصرية بعد أن تمحصت قضيتها؛ لأنه يرضى بدون ما
ترضاه، ولا ثقة له بأعضاء الوفد المتحيزين إليه، فهذا كله مما كتب، وهو يفيد
أنه لم يعد اشتراط كون أكثرية الوفد الرسمي من أعضاء الوفد غير الرسمي مفيدًا،
فإذا ألَّف عدلي الوفد الرسمي فجعل ثلثهم من رجال الحكومة الذين على رأيه
والثلثين من أعضاء الوفد غير الرسمي وكان نصفهم من المتحيزين إليه تكون بيده
الأكثرية الساحقة، وإذا كان مع هذا هو الرئيس الذي يتولى إدارة المفاوضة فلا
يبقى لرأي سعد باشا معه تأثير، فلهذا اشترط أن يكون هو الرئيس للوفد الرسمي لا
لمجرد حب الرياسة، فإنه ليس فوق ما خولته إياه الأمة من الزعامة فيها والرياسة
لها، غاية تطلب.
وأظهر حجة لبعض العدليين، رضيها بعض المعتدلين هي أن الوفد الرسمي
الذي ترضى بريطانية العظمى أن تتفق معه؛ لا بد أن يكون من قبل عظمة السلطان،
فإذا جاز أن يرسم السلطان لغير رئيس حكومته بتأليفه فلا يجوز أن يجعل سعد
باشا هو الرئيس له؛ إذ لا صلة بينه وبينه يعرف بها رأيه وفكره ودرجة إخلاصه
له، وهؤلاء ينكرون على سعد باشا عدم زيارته للسلطان عقب عودته، وهو يعلم
أيضًا أن الحكومة البريطانية لا ترضى برئاسة سعد باشا، فإذا كان الأمر كذلك فلا
ينبغي لسعد باشا أن يوجه كل نفوذه في الأمة إلى منع ما اتفقت عليه الحكومتان
بمحاولة إسقاط عدلي باشا وإلجائه إلى استعمال نفوذ حزبه ونفوذ الحكومة إلى جزائه
على عمله بمثله الذي أدَّى إلى شق عصا الوحدة وخسارته، بل خسارة البلاد ما كان
من إجماع الأمة على زعيم واحد وهو (سعد باشا) وكان يكفيه ألا يؤيده، ولا يشاركه
في المفاوضة ويقف له ولوفده الرسمي بالمرصاد، فإن جاء الاستقلال التام الذي
يرضاه هو والأمة لم يكن عليه أدنى غضاضة في قبول ذلك وتوجيه نفوذ زعامته إلى
النهوض بأعباء هذا الاستقلال الذي يشهد الجميع بأنه حجر الزاوية له، وإن وقع
الاتفاق الرسمي باسم من كان عونًا له لا خصمًا. وإن جاء بحماية مقنعة أو استقلال
صوري مقيد بقيود الإمبراطورية البريطانية ومغلل بأغلالها، فليحمل عليه بحمل
الأمة على ردِّ هذا الاتفاق وعدم التصديق عليه، فإذا لم ينفذ الاتفاق حينئذ نكون باقين
في موقفنا، بل أقوى مما كنا بعد اعتراف إنكلترة لنا بما اعترفت به، وإذا نفذ نكون
قد ربحنا ما تركته لنا من حقوقنا من حيث لم تتقيد الأمة بالاعتراف لها بشيء بإثباتنا
حينئذ أن الوفد الرسمي المفاوض لا يمثل الأمة، أو لم تقره الأمة على ما عقده.
والسعديون يردون على هؤلاء بأنهم موقنون بأن عدلي لا يأتي إلا بالحماية
المقنعة، وبأن السكوت أو ترك المعارضة يفضي إلى نجاح الوزارة في اغتصاب
الثقة بها من الأمة بنفوذ الحكومة المعزز بالرجال والمال، ثم إلى التصديق على ما
تتعاقد عليه مع الحكومة البريطانية، فإذا اجتمعت القوتان على ادَّعاء هذا التصديق
والإقرار له وكونه مبنيًّا على تلك الثقة والتفويض، فماذا تفعل الأمة الضعيفة بعد
ذلك؟ فهذه صفوة حجج الفريقين في جوهر الموضوع وموضع النزاع، وما نحن
لما عدا ذلك من المراء والجدل بناظرين.
الموازنة بين الرئيسين
(١٥) عدلي باشا يكن رجل عزيز النفس، كريم النحيزة، مهذب الأخلاق،
رقيق الطبع، أبيٌّ، مترفع في غير كبرياء، مبالغ في حفظ كرامة نفسه، مع
المراعاة لكرامة معاشره وجليسه، واسع الحلم، نزيه النفس واللسان قليل الكلام،
وهو كبير بيت يكن الذي هو أكبر بيوتات السلائل التركية في مصر، بل هو البيت
الأول بعد بيت الإمارة ممن تولوا الأحكام والمناصب العالية، وهو كبير في نفسه،
كما أنه كبير في بيته، حريص على حفظ شرفه، فهو بهذه الصفات جدير بمنصب
السفارة والوزارة وبرئاسة الوزارة، وقد أوتي من العلم العصري ما يحتاج إليه
المنصب، وقلما يوجد بمصر من يقسر كبراء الإفرنج - حتى الإنكليز منهم -على
احترامه مثله، بل هو قوي الشبه بكبراء الإنكليز في ترفعه وآدابه وشمائله.
ولكنه لم يؤت من طلاقة اللسان في الخطابة، ومن بلاغة القول في الكتابة،
ومن الإقدام على مكافحة الخطوب ومصارعة الأخطار ما يؤهله لزعامة الأمة أو
التأثير فيها والسير بها في سبل الارتقاء الاجتماعي، ولا لقيادتها في ميادين الجهاد
السياسي، بل هو غير مستعد للتصدي لإحداث أدنى تأثير في الأمة بنفسه، ولعله
لولا المناصب العالية التي تولاها، كإدارة الأوقاف العامة ومحافظة العاصمة
والوزارة لما كان يعرفه إلا القليل من طبقات الأمة الوسطى دع الدنيا، وهو لا
يعرفهم بالأولى.
سعد باشا زغلول، هو رجل من بيت وسط من مديرية الغربية عربي السلالة،
كما أخبرني صديقي المرحوم عبد الرحمن زغلول ابن أخي سعد باشا، طلب في
حداثته العلم في الأزهر، وكان من حسن الحظ أن اتصل في أثناء ذلك بالأستاذ
الإمام، وتلقى عنه وعاش معه زمنًا وتخرج به، فهو أستاذه الأول ومربيه على ما
خلق مستعدًّا له من الاستقلال في الرأي والفهم وقوة الإرادة والشجاعة وصناعة
الحجة وحب الحق. وأدرك أيام موقظ الشرق ومصلح مصر السيد جمال الدين
الأفغاني وحضر بعض أنديته وسماره، ولما تولى الأستاذ الإمام إدارة المطبوعات
ورياسة تحرير الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) جعله محررًا في القسم الأدبي
الإصلاحي الذي زاده فيها، فتمرن على الكتابة في المسائل الاجتماعية والسياسية
والأدبية والاقتصادية، واطلع على جميع شؤون الحكومة، فإن إدارة المطبوعات
كانت في ذلك العهد مسيطرة على الجرائد وسائر المطبوعات ومراقبة على الحكومة
تنتقد جميع أعمالها في جميع فروعها، وفي أثناء ذلك حدثت الثورة العرابية، فهو
قد نشأ وترعرع وشب في حجر العلم والسياسة والانقلاب الفكري والاجتماعي
والسياسي.
ثم اشتغل بالمحاماة والتزم فيها جانب الحق، فكان لا يقبل الوكالة في دعوى
يرى أن صاحبها مبطل، فبرع في الخطابة وإقامة الحجة والاطلاع على القوانين،
والخبرة بشؤون الناس وأخلاقهم ومعايشهم وحيلها، ثم صار قاضيًا في أعلى
مناصب القضاء الأهلي، فاشتهر بدقته في التحقيق، واستقلاله في الرأي، وعدله
في الأحكام، حتى شهد له مستشارو الاستئناف من الأجانب والوطنيين كتابة بأنه
رقَّى المحاماة وشرَّف القضاء بعدله واستقلاله، وهي شهادة لم ينلها - فيما نعلم -
أحد من صنفه، ثم صار وزيرًا للمعارف ثم وزيرًا للحقانية، ثم وكيلاً منتخبًا
للجمعية التشريعية.
وكان في كل منصب من هذه المناصب الكفؤ الكريم الممتاز بين أهله فيه،
ولا نعرف أحدًا في وطنه يشاركه في هذه المجموعة من المزايا، بل قَلَّ أن يوجد
له ند يضارعه في فرد من أفرادها، فهو بها أجدر أفراد هذه الأمة بزعامتها
الاجتماعية والسياسية إلا أنه ينقصه من صفات الزعماء السياسيين - كما يقولون -
ما يسمونه المرونة السياسية، وهي تشمل سعة الصدر والحلم والمداراة والتمويه
والخداع، وإن شئت قلت: والبراعة في الإفك والكذب الذي يحتمل التأويلات الكثيرة
والتملق، والبراعة في الاستمالة، والتزلف عند الحاجة. وهو لغلبة ملكة القضاء
على ملكاته لا يستطيع كل ذلك ولو تكلفًا، فهو لا يبالي بمن خالفه فيما يعتقد ولا
يحفل بعداوته له مهما يكن عظيمًا، وقد كان الأستاذ الإمام يقول: إن سعدًا خلق
ليكون قاضيًا، ووصف سيرته في القضاء واستقصاءه فيه للدلائل ودقته في
الاستنباط وحرصه على العدل، وخصومه يسمون هذه الملكة غلظة وكبرًا، أو
يطلقون أمثال هذه النعوت على بعض لوازمها.
وقد زادوا في بعض هذه الأيام نعته أنه مستبد لا يخضع للشورى، فهو يعمل
باسم الوفد ما يراه، وإن خالف قرار الأكثرين، وهذا خلاف ما نعرف فيه ونعهد
منه، فإذا أردنا إنصاف القائلين بهذا بحمل كلامهم على الصدق، ولا سيما فيما
ينقلونه من الوقائع المعينة، فلا نرى جامعًا يجمع بينه وبين ما هو معروف عنه من
الإنصاف والاستقلال ومعرفة قيمة النظام ومراعاة القوانين إلا ما حدث في الوفد من
الشقاق واختلاف النيات، وإلا فإن مثل سعد لا يخفى عليه أن شعبه الذي يفتخر
بحق بارتقائه وأهليته لتولي أمور نفسه بنفسه في حكم دستوري، لا يمكن أن يقبل في
عمل من أعماله رئيسًا مستبدًّا لا يجري على نظام الشورى، ولا متكبرًا لا يحترم
آراء من معه، وإن هذين الخلقين لا يخفيان على أحد.
على أننا قد سمعنا بآذاننا وسمع الجماهير مثلنا خطبه في المحافل والمجامع
العظيمة، وقرأها أكثر ممن سمعوها، فهم يشهدون بأنه كان يعزو فيها كل عمل
إلى أعضاء الوفد، ويذكرهم بمنتهى الأدب والاحترام، ويقدمهم أحيانًا على نفسه،
وعلمنا أنه زار من لم يزره ممن عادوا من أوربة قبله مغاضبين له، مع العلم بأنه
كان أشدهم زراية عليه وصدًّا عنه، وفضله على نفسه في إحدى خطب المجامع
الحافلة، ولم يكن هذا بجاذب لذلك العضو إلى الوفاق، بل لم يزده إلا حقدًا وضغنًا
وإعراضًا وطعنًا.
الحكم في الشقاق بين أعضاء الوفد ورئيسه
(١٦) إنني أعرف بعض أعضاء الوفد المصري معرفة صحبة ومودة،
وأعرف بعضهم معرفة مواجهة ومحاولة، وأجهل حال غير المشهورين منهم جهالة
تامة، فأنا أحكم بصدق الوطنية لبعضهم على علم وخبر، وأحكم به للآخرين على
قاعدتَي أصل البراءة وحسن الظن، وقد سمعت ما قاله المختلفون على رئيسهم سعد
باشا وقرأت ما كتبوا، فرأيت أنهم قد أخطأوا في اجتهادهم، حتى على تسليم جميع
أقوالهم، فكيف إذا كان القول الوسط المعقول في هذا الاختلاف هو القول في كل
اختلاف بين فريقين في أمر من الأمور العامة والمصالح السياسية والمسائل
الاجتهادية التي تختلف فيها الآراء والأنظار، وهو أن يكون كل فريق مخطئًا في
بعض ما اختلفوا فيه ومصيبًا في بعض، فإن جاز عقلاً أن يكون أحدهما مصيبًا في
كل ما خالف فيه الآخر فأي الفريقين أجدر بأن يحكم له بالصواب؟ آلفريق الذي
يخطئه السواد الأعظم من الأمة بعد معرفة كل ما أدلى به من الحجج وما أدلى به
خصمه؟ ولا يؤيده إلا نفر قليل جدًّا أكثرهم من أصدقاء أفراده أو من أتباع أصحاب
العصبية منهم؟ أم الفريق الذي يؤيده السواد الأعظم، ويرمي مخالفيه بأشنع التهم،
وينبزهم بأفظع الألقاب؟
أقول: إن المؤيدين لأعضاء الوفد الذين شاقوا الرئيس نفر قليل جدًّا في
مجموع الأمة، مع العلم بأن الذين أيدوا الوزارة العدلية كثيرون جدًّا، فإن الذين
أيدوا الوزارة لا يؤيد جميعهم ولا أكثرهم أعضاء الوفد المشايعين لها، بل أكثرهم
يرى أن سعد باشا هو زعيم الأمة بحق، وأنه هو المرجع الذي يعول عليه عند
تحكيم الأمة فيما يأتي به وفد الحكومة الرسمي من الاتفاق مع الحكومة البريطانية،
ولئن كان المشاقون لسعد أول من أيد عدلي، ويعتقد أهل الرأي أنه لولاهم لما كان
ما كان، فإن المؤيدين له بعد أن أصر على السير في القضية بدون اتفاق مع سعد
والوفد إنما أيده أكثرهم بنفوذ الحكومة لا بنفوذ هؤلاء الأعضاء، فهم قد نزلوا
بمشاقتهم لسعد عن مقام الزعامة العامة في الأمة إلى أدنى مما كانوا عليه قبلها، فإن
كانوا تركوا سعدًا لحفظ كرامتهم الشخصية التي نقلوا عنه أنه لم يكن يعطيها حقها،
ولتأييد المصلحة العامة التي قالوا أنهم رأوه باستبداده غير أهل لها، فقد كانت
خسارتهم الشخصية بهذا الترك أعظم، وصاروا عن القيام بخدمة المصلحة العامة
أعجز، فهذا هو وجه تخطئتي لاجتهادهم حتى على تقدير تسليم جميع أقوالهم،
وإنما كتب هذا لأجل التذكير وبيان وجه العبرة لمن يعتبر من أمتنا بما كان من
أغلاط الزعماء والعلماء بالمصلحة العامة فيما نستقبله من حياتنا السياسية التي لا
نزال فيها أطفالاً بالنسبة إلى الأمم التي طال عهدهم بالتمرس بأعمالها والجهاد في
ميادينها.
يقولون: إن العمل معه صار متعذرًا، فإن لم نقل إن المتبادر أنه صار
متعذرًا بعد المشاقة إذ كان متيسرًا قبلها، قلنا: إن الإخلاص في العمل للأمة
والحرص على وحدتها لا يمكن أن يكون بغير جهاد شاق وصبر واحتمال وإيثار،
وقد قيل في المثل: إن صح منك الهوى أرشدت للحيل، فعلى هذا لم يكن من
المتعذر أن يقنع بعضهم بعضًا بالتناصر والتظاهر على الرئيس - وهم معه - فيما
يرونه أنه مُخلاًّ بكرامة بعضهم أو الاستبداد بالأمر دونهم، كما تظاهروا عليه في
الانتقاد الصريح في الجرائد والخروج من الوفد، فإن كانوا توهموا أنه كان الممكن
إسقاطه واستبدال غيره به قبل مجيئه من أوربة، وما قابلته به جميع طبقات الأمة
من أدنى البلاد إلى أقصاها من الحفاوة والغلو الذي كاد يكون من العبادة، فوقوع
هذا التوهم بعد ذلك كله من أغرب الخطأ، ولاسيما من هؤلاء الأذكياء العلماء
بأخلاق الأمم وسنن الاجتماع.
لقد كان زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذين شبهناهم بهم في أول المقال أهدى
سبيلاً منهم في المحافظة على زعامتهم ونفوذ جماعتهم في الدولة والأمة، فقد كان
ينكر بعضهم على بعض فيغلظون في الإنكار، ولكن لم يكن ذلك ليتعدى أنديتهم ولا
ليفرق جماعتهم، وبذلك كان لهم الفوز على جميع الأحزاب المناوئة لهم على قوتها،
والوفد المصري لم يكن له في الأمة خصوم يعتد بهم ويخشى عليه منهم، حتى
كانوا هم الذين شقوا عصاهم بأيديهم، وسنجد ألوفًا من العاذلين لنا على هذه
الطريقة، ولا نتسامى إلى منصب القضاء فنقول: هذه الرأفة، الرأفة في الحكم
عليهم، أولئك الذين يتهمونهم بأنهم قصدوا بذلك خدمة أنفسهم، وما نحن لهذه التهمة
بشارحين، لأنا نكتب للوعظ والإرشاد، لا للتحيز إلى الزعماء والتحرف للأحزاب.
مكانة الزعامة في الأمة
ومكان سعد منها
(١٦) إن اجتماع كلمة السواد الأعظم من الأمة على زعيم يمثلها ليس من
الهنات الهينات، ولا من المقاصد التي تنال بسعي الأفراد والجماعات، إلا بمساعدة
الزمان بوقائعه وأحداثه وإشعاره الأمة بمعنى الزعامة والحاجة إليها، وإعداده
للزعيم الكفؤ للنهوض بها، وتمثيل وحدتها فيما استعدت له وتوجهت إليه، فإذا
وفقت الأمة للثقة بزعيم كفؤ للزعامة وجب على جميع أهل الرأي والمكانة فيها أن
يؤيدوه في العمل، ويقيلوا عثرته إذا عثر، ويقوِّموا عوجه إذا زاغ وانحرف، وأن
لا يشترطوا في المحافظة على زعامته العصمة، فإن الكمال المطلق لله وحده،
فبذلك يرجى نفعه، ويؤمن ضرر خطأه وضعفه، ولا يحل لهم أن يؤاخذوه على ما
ينقمون منه بخذله ولا بالطعن في كفاءته لما يعقب ذلك من تنكيث قوى الوحدة،
وصدع بناء الزعامة، ورب تنكث يتعذر إبرامه، ورب صدع لا يرجى التثامه.
وقد سبق القول بأن زعامة سعد كانت بالأكثرية الساحقة من السواد الأعظم،
ولم تكن إجماعًا سالمًا من الشذوذ كما كان يتوهم؛ لأن إجماع الأمة التام على رجل
واحد في الظاهر والباطن محال في سنن الاجتماع وأخلاق البشر، وقد رأينا أن
مظاهرات الحفاوة بقدوم سعد كانت تحجب عن الأبصار ما على بعض الوجوه من
وجوم واكتئاب، وأن صيحات الهتاف له كانت تشغل الآذان عما يتفلت من الألسنة
من هيمنة إنكار، بل كان يتخلل تلك الحفلات ما يشير إلى ما سيكون بعدها من
الحملات، وقد سمعت في بعض المظاهرات اعتراضات فلسفية عليها، وشهدت
احتفالين أقامهما جيراننا وجهاء مصر القديمة صرَّح في أكبرهما بما أختصره وإن
كان من لباب الموضوع.
دعيت إلى الخطابة في هذا الاحتفال فأبيت؛ لزهدي في الظهور على مثل
هذه المنابر التي يتزاحم عليها طلاب الشهرة، ورغبتي عن الكلام في السياسة في
محافل أكثر شهودها من العامة، وعجزي عن الإطراء، الذي يألفه الجمهور في
هذا المقام، وكان من الخطباء فيه القمص سرجيوس خطيب قسوس القبط المشهور،
فخالف جميع الخطباء والشعراء الذين أخلصوا المدح والإطراء للرئيس سعد باشا
بما جاء به من المزيج وأمشاج القول المتضمن لتوقع الخلاف بين سعد وعدلي
ووصف سعد بالعناد والصلابة والإشارة إلى علاج ما يتوقع فارتأى أن تقتدي فيه
الأمة المصرية بسيرة (الفاتيكان) عند انتخاب البابا وهي أن الكردنيالات الذين لهم
حق الانتخاب يحبسون في حجرة يوضع لهم فيها قوت قليل، ولا يسمح لهم
بالخروج منها إلا بعد الاتفاق على انتخاب أحد المرشحين.
ولما سمعت خطابه آذنت الذين كانوا يراجعونني في اقتراح إلقاء شيء في
الحفلة بأنني قبلت فدُعيت فصعدت المنبر وألقيت خطابًا بينت فيه تحقق تكوين الزمان
للأمة المصرية بالعصبية القومية، وأن اتحاد الكثرة إنما يحصل إذا مثلتها جهة
واحدة، وهي ما يسمونه الزعامة والرياسة، ومتى تكونت الأمة وشعرت بنفسها
هداها هذا الشعور إلى الزعيم الذي يمثلها كما ينبت الرأس في الجنين عند تمام تكوين
أعضائه، وكم ينشأ في الأمة من رجال جديرين بالزعامة، ولا تعرف الأمة قيمتهم؛
لأنها ليست أمة إلا بالصورة الظاهرة كما تسمى صورة الأسد في الورق والجدار
أسدًا، وقد كان الأستاذ الإمام يقول: يا ويح الرجل الذي ليس له أمة، ولا يقل أن
توجد أمة راشدة لا يوجد فيها رجل، بل رجال حقيقون بالزعامة فيها، وقد كان
الأستاذ الإمام من الرجال الذين يقل في الأمم الراقية أمثالهم، بل قال فيه الأستاذ
الدكتور براون من أكبر علماء الإنكليز المدرسين في إحدى جامعاتهم الكبرى
(كمبردج) : إنني لم أر في الشرق ولا في الغرب مثله. ولم تكن الأمة قد تكونت في
عهده تكونًا تعرف به كنه قيمته، وتعمل بإرشاده وزعامته، وهذا تلميذه الزعيم الكبير
الذي نحتفل به اليوم قد كان أهلاً لهذه الزعامة منذ سنين كثيرة، ولم تكن الأمة تعرف
فيه ذلك على شهرته؛ لأنها لم تكن تعرف نفسها فتعرف زعيمها. ثم ذكرت من
صفات سعد ما اقتضاه المقام، وهو في معنى ما تقدم في موضعه من هذا المقال.
وهنا تلطفت في الإشارة إلى الرد على ما رماه به القمص سرجيوس من العناد
والتعصب لرأيه، وقلت: إن الذي نعهده منه بالاختبار، الاستقلال في الرأي واحترام
الحقيقة والاعتراف بها إذا ظهرت له، وطالما شهدنا له في داره محاورات في
مسائل علمية واجتماعية كان ينصف فيها مناظريه ومحاوريه بكل ارتياح، ويعترف
بصحة رأيهم إذا ظهر له أنه الصواب، وربما كنا منهم أو معهم في بعض الأحيان.
واستطردت في الخطاب إلى الرد على من ينكرون فائدة هذه الاحتفالات
والمظاهرات بأنها هي الذريعة الوحيدة إلى جعل عقيدة الاستقلال شعورًا عامًّا شاغلاً
لقلوب جميع أفراد الأمة من جميع طبقاتها في زمن قصير، وإلى تربية أطفالها
ونابتتها عليها، فإن هتاف الألوف الكثيرة من الرجال والنساء والأطفال في المجامع
والشوارع والبيوت للاستقلال التام ولمصر الحرة ولزعيمها المطالب باستقلالها
وحريتها، والوفد العامل معه - قد علَّم جميع الأميين من الطبقات الدنيا وأشعرهم بما
لم يكن يعلمه ويشعر به إلا أهل التعليم العالي والتربية الاجتماعية السياسية.
وانتقلت من هذا إلى بحث قلت إنه أشبه بالدرس منه بالخطابة، وهو ما يجب
على الأمة من العمل للمحافظة على دوام وحدتها وتكافلها في سبيل المطالبة
باستقلالها وما يجب لحفظ الاستقلال والنهوض بأعبائه إذا نالته، وأهم ذلك وأعلاه
ما يسمى المسألة الاقتصادية وحفظ ثروة الأمة، وليس هذا من موضوع مقالنا هذا،
فنلخص فيه ما قلناه في ذلك الخطاب وطالما كررناه في المنار وفي بعض المقالات
التي نشرناها في المؤيد والجريدة، ومن أشهر هذه المقالات ما عنوانه (إلى أي
شيء أنت يا مصر أحوج؟ !) .
وجملة القول أن مكانة الزعيم الذي يمثل وحدة الأمة في أول العهد بتكونها
السياسي ودخولها في ميدان الجهاد القومي للحرية والاستقلال - لها شأن عظيم في
جهادها، فيجب أن يحرص على تقويتها لئلا يتصدع بناء الوحدة في أشد أوقات
الحاجة إليه، ولا يخفى على أهل البصيرة أن تقويم عوج في الزعيم الموثوق به من
السواد الأعظم أيسر من إسقاطه واستبدال غيره به، وإن تأييد الوحدة به على
ضعف وعوج فيه خير من شق عصاها بخذله والتفرق عنه.
فإن استطاع خصوم سعد إسقاطه من مكانته بإقناع الأمة بعدم كفاءته، فمن ذا
الذي يستطيع إقناعها بكفاءة زعيم آخر من بعده، إذا فرضنا أنه يوجد فيها كثيرون
من مثله.
ومثل كثير في الأنام قليل
ومن ذا الذي يستطيع في كل وقت أن يحدث لها أحداثًا كالأحداث التي مهدت
السبيل لزعامة سعد؟ كغفلة رقباء الشعوب وحراسها، ورعاة الأمم وسوَّاسها، وقطاع
طرق الاستقلال والحرية عليها، تلك الغفلة التي أوقعت إنكلترة فيها سكرة الحرب أولاً
ونشوة الظفر آخرًا، فكان من أثر السكْرَتين في رجالها بمصر ما وقعوا فيه من
الأغلاط الإيجابية والسلبية التي جمعت كلمة الشعب مع حكومته أول مرة في تاريخ
الاحتلال، وقد أشرنا في هذا المقال إلى ما كان من فائدة ذلك في تكوين الوحدة
المصرية وجمع الكلمة على سعد في وزارة رشدي، وقد تم ذلك وكمل في وزارة عدلي
التي هي وزارة رشدي بعينها في وقت آخر وترتيب آخر، إذ لولا هذه الوزارة لما
أمكن للشعب أن يحتفل بعودة سعد إلى البلاد، تلك الاحتفالات العامة التي لم يسبق لها
نظير، ولكن واأسفاه! قد صدق في هذا المقام قول الشاعر:
إذا تم شيء بدا نقصه
على أن هذا التمام وما تلاه من النقص إنما كانا في طور واحد من أطوار حياة
الشعب الاجتماعية، وفي فصل من فصول تاريخه، فعسى بأن يفيده عبرة تقيه أن
يلدغ من جحر مرتين، وخبرة تجعل بالفوز منه قاب قوسين.
جهاد سعد الأخير
(١٧) علم سعد باشا بما كان من التجربة الأخيرة والاختبار، أن الأمة التي
اجتمعت كلمتها على طلب الحرية والاستقلال وجعلته لسانها الناطق وقلبها الخافق -
لم يمكنها إعلان رأيها وإظهار شعورها إلا بمواتاة الحكومة الوطنية لها، وأن
تأثير الحكام في أنفس هذا الشعب وما ورثه وتربى عليه من الخضوع لهم منذ
التاريخ القديم، لا يزول كله في أول نهضة قومية جديدة، وإن وافقت أصول شرعها
الإلهي {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) وأصول الحقوق العصرية التي
يسمونها الديمقراطية الحديثة، ولعله لم يقدر هذا قدره كما ينبغي إلا بعد الحوادث
الأخيرة، إذ لم يكن يخطر ببال أحد أن يصد عنه نفوذ الوزارة الألوف الكثيرة،
حتى من أولئك الذين أقاموا له أكبر المحافل وآنق المآدب، وأن يشايعهم على ذلك
أكثر الجرائد، فلهذا وجه كل عنايته إلى تقوية روح شخصية الأمة والفكرة
الديمقراطية فيها بحملاته الشديدة على الوزارة العدلية في خطبه البليغة، وبلاغته
واحتجاجاته المختلفة على سلوكها فيما سماه (اغتصاب الثقة من الأمة) .
فهو يمثل للأمة وزارة عدلي باشا متفقة مع الدولة البريطانية على جعل
سلطانها (أي حكمها وسلطتها) على مصر شرعيًّا يعقد معاهدة على أصول مشروع
ملنر الذي رفضه هو ألبتة يلغي فيها لفظ الحماية ويقرر معناه بصفة شرعية، بعد
أن كان عدوانًا تبطله الحقوق الأساسية والقوانين الدولية، وتُرشى فيها البلاد
بضرب من الاستقلال في الإدارة يتعذر تنفيذه لما وضع في سبيله من العواثير
والعقبات الكأداء، على أنه عرضة للإلغاء أو الاسترداد، ما دامت قوة الاحتلال
العسكرية راسخة الأقدام في البلاد، وناهيك بما أنشأوا فيها من ميادين الطيران
الحربية والتجارية، لجعلها ملتقى جميع قوى الإمبراطورية البريطانية.
وأقول: إن من أقوى حججه على أن الإنكليز يريدون خداع مصر وإرضائها
باستقلال صوري حظها منه دون حظ سائر مستعمراتها المستقلة - تعظيمهم لشأن
حادثة الإسكندرية التي يمكن حدوث مثلها في كل بلد من البلاد يوجد فيه أجناس
مختلفون، أو إحداثه ببذل قليل من المال، فقد هيجوا جاليات الأجانب والدول
الأوربية بها على المصريين وخوفوهم منهم على أرواحهم وأموالهم، إذا لم تكن
الجيوش البريطانية بمدافعها وطياراتها حامية لهم، واتخذتها برقياتهم وجرائدهم
(إياها) حجة بالغة على أن المصريين غير أهل للاستقلال بالإدارة والحكم.
حادثة الإسكندرية - وما أدراك ما حادثة الإسكندرية - هي الحادثة التافهة التي
عظَّم شأنها غلاة الاستعمار بكيدهم وعبثهم بالأمم والدول، ولعبهم بها كلعب
الصبيان بالكرة، حتى جعلوها من أعظم حوادث الكون التي يقضي العدل بأن تكون
القاضية على حرية الأمة المصرية بأسرها - وهي أن بعض السوقة والعوام مروا
في مظاهرة وطنية ببعض بيوت الروم (اليونانيين) وكانوا يهتفون لمصطفى باشا
كمال بعاطفة الوجدان الديني الذي لا يدع عددًا من جريدة إسلامية في تونس خاليًا
من الإشادة بذكره، والتعظيم لأمره، فأطلق عليهم الرصاص بعض اليونانيين
فأصاب بعضهم وجر ذلك إلى تشاجر بين الوطنيين واليونانيين ومن يشتبه بهم من
الغربيين قتل به أفراد من الفريقين وجرح آخرون، والمصابون من الوطنيين أكثر،
وقد استنكر ذلك وأظهر الأسف لوقوعه جميع المصريين من جميع البلاد في جميع
الجرائد، وأصدر الزعيم الأكبر سعد باشا زغلول وصية للأمة بأن تبالغ في مجاملة
الأجانب وحسن معاملتهم، ولا تعتدي عليهم وإن هم اعتدوا عليها.
لكن السياسة التي تستحل كل منكر في سبيل مطامعها جعلت هذه الحادثة
برهانًا قاطعًا على بغض جميع المصريين الذين استنكروها وقبحوها لجميع الأجانب
وتعصبهم عليهم وتربصهم بهم الدوائر ليفتكوا بهم، ولو كان المصريون متعصبين
على الأجانب وماقتين لهم، لظهر أثر ذلك في كل بلد فيه أجانب ليس لهم من القوة
عُشر ما للأجانب في الإسكندرية التي تكاد تكون بلدًا أجنبية، ولا سيما في أثناء
ثورة سنة ١٩١٩ على الإنكليز أنفسهم، والهجوم على رشاشاتهم ومدافعهم، وقد
كانت السلطة في كثير من البلاد لعامة الأمة في تلك الأثناء لا للحكومة الوطنية ولا
للمحتلين، ولو كان المصريون كذلك لما نال اليونان في بلادهم هذه الثروة الواسعة
التي ليس لهم مثلها في بلادهم، ولقد كانوا قبل الاحتلال مع سائر الأجانب أعظم
كسبًا وأقوى نفوذًا، ولو كان المصريون كما ذكر لأمكنهم أن يبلغوا من النكاية
باليونان بمقاطعة تجارتهم وزراعتهم ما لا يبلغه الاعتداء على أشخاصهم.
فحق لكل مصري أن يعد سلوك الإنكليز في تكبير هذه الحادثة دليلاً على
نيتهم فيهم، وهم يعلمون أنه إذا كان الاستقلال يتوقف في وجوده أو بقائه على
استحالة وقوع مثل هذه الحادثة فلا مطمع فيه؛ لأن هذا مما يمكن حدوثه وإحداثه
في كل آن، ومن غرائب تهافت هؤلاء البارعين في تصوير الحوادث بغير
صورها والاستفادة منها في كل زمن بحسبه أن حادثة الإسكندرية كانت في الزمن
الذي تروي لنا برقيات الإنكليز وجرائدها أنباء الأرلنديين (السين فين) أخدان
المصريين في رفض العبودية البريطانية في تدميرهم للمباني التجارية وغيرها
واغتيالهم لمن استطاعوا اغتياله من السالبين لحريتهم، ولم نسمع أن أحدًا منهم
احتج بهذه الأفاعيل الفظيعة بمثل ما احتجوا على المصريين في حادثة تعد بالنسبة
إليها ضئيلة، ويكثر وقوع مثلها في كل أمة، ولكن عارض هذا التهويل في الحادثة
كثير من عقلاء اليونان وغيرهم من فضلاء الأوربيين وشهدوا حقًّا بتسامح
المصريين وإكرامهم للأجانب وحسن معاشرتهم لهم، ولو سكت هؤلاء أو جروا في
أباطيل تيار السياسة الكاذبة لغرسوا في قلوب المصريين وسائر الشرقيين من بغض
الأوربيين وسوء الاعتقاد فيهم ما لا يمكن أن يتلافى مستقبله الاحتلال العسكري
للبلاد، بل لا يزيده إلا اشتعالاً، وهل يوجد بشر يحب الإنسانية يود هذا ويرضاه.
وجملة القول إن جهاد سعد باشا موجه الآن لتقوية الأمة وإعدادها لرد ما
يتوقع من تقييد وفد الحكومة البلاد به بضمها إلى الإمبراطورية البريطانية بأي اسم
من الأسماء، وأي شكل من أشكال الحكم الذاتي بحيث يكون الاتفاق الجديد بين
الحكومتين - إن نُفذ - مظهرًا من مظاهر القوة لا شية فيه من الحق، وتستمر
الأمة على جهادها له حتى تنال حريتها تامة كاملة بإذن الله وقوته التي لا تعلوها قوة،
ورحمته التي لا تضيع حقًّا إلا على من فرط في حقه وترك الجهاد في سبيله،
فكان هو المضيع له بمخالفته لسنن الله في العمران.
لهذا الذي شرحناه كنا نعجب جد العجب من طلب سعد لرياسة الوفد الرسمي
وتولي المفاوضة؛ لأننا نعتقد أنه لا يخفى عليه أن الدولة البريطانية يستحيل أن
تسمح بحرية مصر واستقلالها التام بمجرد المفاوضة السياسية، ونقول في أنفسنا:
لم يرد أن يعرض نفسه للفشل إذا كان لا يرضى بجعل الحماية شرعية باسم آخر،
أم يظن أن الاتفاق على توليه أمر المفاوضة كاف في جعل ذلك المجال السياسي
ممكنًا وواقعًا، ولما اعترض بعض الكُتَّاب كأمين بك الرافعي على دخوله في
المفاوضة الرسمية كنا محبذين لرأيه إذ كان عين رأينا، إلى أن صار شقاقًا لزعيم
الأمة؛ لأن الزعامة الممثلة للوحدة فوق كل شيء في هذا المقام. ولم نجد مخرجًا
من هذا العجب والحيرة إلا بما جاءتنا به الجرائد الإنكليزية من التصريح برفض
سعد لمشروع ملنر برمته وعدم الرجاء بعقد اتفاق معه يرضي بريطانية العظمى،
فظهر لنا من ذلك أنه كان يخفي في نفسه شيئًا أوسع بإخفائه دائرة الجدل ومجال
الشقاق؛ لأن إظهاره يفسد الخطة التي كان يرى أنه لابد منها وهي - أي الخطة -
إما حمل الحكومة بقوة وحدة الأمة على تقييد نفسها بالمرسوم السلطاني الذي طلبه
حتى تكون الحكومة والأمة كلمة واحدة لا يخشى أن يفرقها الدهاء الإنكليزي لينال
مراده من جعل مركزه في مصر شرعيًّا، وإما جعل الحكومة عاجزة عن عقد اتفاق
مع الدولة البريطانية لا ترضاه الأمة، ويكون حجة عليها، ولو تحقق الشق
الأول من خطته لكانت الأمة المصرية وحكومتها وسلطانها كتلة واحدة وكلمتها
واحدة، وإذ لم يتم، فتأييد الوفد الرسمي والوزارة يحبط الشق الثاني، فتعينت
معارضتها، ولم يكن التصريح بذلك لأعضاء الوفد المتفقين مع عدلي باشا من قبل
ممكنًا كما علم مما سبق من التفضيل، بل لم يكن من الممكن أيضًا أن يصرح سعد
للأمة عقب عودته بأن الدولة البريطانية تريد منا كذا وكذا وترى أنها لن تجد إليه
سبيلاً إلا بقوة حكومة وطنية تصدع بناء الوحدة التي هي قوتنا في إظهار حقنا أمام
قواها الكثيرة التي تعتمد عليها في سلب هذا الحق منا؛ لأن هذا التصريح ينافي
الخطة التي استنبطناها على كونه غير معقول، فإن معناه دعوة الحكومة جهرًا من
أعلاها إلى أدناها إلى مقاومة الدولة البريطانية، وهو تصريح لا يأتي من عاقل.
النتيجة
(١٨) هذا ما ظهر لنا من سياسة سعد باشا وخطته بعد التروي والتمحيص،
ولعل هذا قد خفي على الألوف من الناس بضروب الجدل والمطاعن، وأكثر مَن
أيَّد وفد الوزارة الرسمي إنما أيدوه في طلب الاستقلال التام المطلق لمصر
والسودان الذي هو جزء من المملكة المصرية لا يقبل الانفصال، وكثير
منهم يعتقدون أن مطلب سعد وعدلي واحد، وأن عدلي إذا لم يوفق إلى هذا المطلب
فإنه يقطع المفاوضة ويعود بالوفد الرسمي أدراجه خلافًا لما يعتقد السعديون كافةً.
فالاحتمالات في نتيجة سعي الوفد الرسمي ثلاثة أو أربعة، لكل منها عاقبة.
الاحتمال الأول: عقد الاتفاق مع الحكومة البريطانية على اعترافها باستقلال
مصر مع السودان استقلالاًّ دوليًّا تامًّا مطلقًا من كل قيد ينافيه مع محالفة بين
الدولتين أساسها مبادلة المنافع كسائر المحالفات الدولية، فإن وفق الوفد لهذا فإن
الأمة تتلقاه بالقبول والثناء وتكرمه بمثل ما كرمت به سعد باشا، بل أعظم،
ويكون ذلك إجماعًا صحيحًا من الأمة، وإن فرض أن شذَّ سعد باشا عنها في ذلك
وظل معارضًا لعدلي باشا، فإنها تنبذه ظهريًّا وتحكم عليه بأنه يعمل لنفسه لا لها.
فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
الاحتمال الثاني: أن ييأس عدلي باشا من الاستقلال التام المبين في الاحتمال
الأول أو ما يقرب منه، فيقطع المفاوضة ويعود بالوفد أدراجه، وعاقبة هذا أن
تعود وحدة الأمة إلى خير مما كانت عليه وتستأنف الجهاد السياسي في سبيل حريتها،
ويتفق سعد وعدلي ورشدي ثانية في ذلك، ويكون الرجاء في النجاح عظيمًا، فإن
يد الله على الجماعة كما صح في الحديث، ويد الله لا تُغلب. وقد رأيت من
المحسنين للظن في هؤلاء الكبراء كلهم من كان يعتقد أن الخلاف بينهم صوري
تواطئوا عليه لأجل المصلحة، ويتوقع كثير من العارفين بأخلاق عدلي باشا
ووطنيته أن يقطع المفاوضة، بل يرجحون ذلك على نجاحه فيها.
الاحتمال الثالث: أن يصح رأي سعد ويعقد الوفد الرسمي الاتفاق الذي يقيد
مصر وينظمها في سلك الإمبراطورية البريطانية باسم من الأسماء المعروفة
والمخترعة، وعاقبة هذا أن تتحول قلوب أكثر الذين كانوا يحسنون الظن بعدلي أو
رشدي عنهما، ويكبر حزب سعد، بل تكون الأمة كلها معه إلا من لا يُذكَر من
طلاب الوظائف والمنافع من الحكومة، ولكن لا يعلم أحد - إلا الله - ما يترتب
على اصطدام قوة الأمة وقوة الحكومة المؤيدة بقوة الاحتلال إذا حاولت الوزارة تأييد
الاتفاق بالقوة، ولا يظن أحد يعرف قيمة عدلي ورشدي بأنهما يفعلان ذلك، ولكن
قد يفعلانه في حال الاحتمال الرابع المذبذب بين هذا وبين الأول وهو:
الاحتمال الرابع: أن يعقد الاتفاق على اعتراف إنكلترة باستقلال سياسي دولي
تام لمصر في داخليتها وخارجيتها، وحقوق في السودان لا تتبع مصر في الإدارة،
وارتباط بالإمبراطورية بمعاهدة لا يعرض مصر للخطر في سلم ولا حرب، وأعظم
الخطر تعهد مصر بأن تجعل قواها ومواصلاتها تحت تصرف الجيش البريطاني
وهو ما سبق المقطم جميع الجرائد إلى بيانه. ففي مثل هذه الحالة تجد الوزارة من
الأنصار ما تقاوم به السواد الأعظم الذي يقوده سعد باشا، ونسأل الله حسن العاقبة
وإنقاذ هذه البلاد من كل محنة، إنه سميع مجيب.