للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عن مجلة الفجر التونسية


الإسلام وسياسة الحلفاء

نقلنا هذه المقالة عن الجزأين ٩ و١٠ من المجلد الأول من مجلة
(الفجر) التونسية الغراء.
في أوائل العام الماضي ظهر في عالم المطبوعات كتاب تحت العنوان أعلاه
للدكتور (إنسباطو) المستشار السياسي بوزارة خارجية إيطالية نقلته إلى اللغة
الفرنسية الكاتبة البليغة الآنسة (ماقالي بدانام) فأحببنا تلخيص ما حواه هذا الكتاب
المهم لقراء (الفجر) ليكونوا على خبرة بما تخطه اليوم أقلام المفكرين الاجتماعيين
في القارة الأوربية في المباحث الهامة الخاصة بأحوال الممالك الإسلامية.
قال الدكتور إنسباطو: لا يخفى أن السياسة الاستعمارية لا يمكن أن تكون
واحدة في كل الجهات والأقاليم وأنها تختلف طبعًا باختلاف الممالك وتباين عادات
وأخلاق سكانها مع مراعاة مصلحة كل مستعمر بانفرادها وعقائد أهاليها وانتمائهم
المذهبي. بخلاف السياسة العامة، فإنها واحدة في جميع الأنحاء؛ لأنها مرتكزة على
معرفة أحوال الإسلام الأساسية التي لم تتغير قط؛ إذ بالرغم من الهجمات الخارجية
والانقسامات الداخلية، فإن الإسلام من حيث جوهره لم يتبدل لما للمدنية التي
تولدت منه من الصبغة العالية، ذلك لأن الإسلام كان أحسن طريقة للوفاق والتآخي
بين الأمم التي اعتنقته على اختلاف عنصرياتها وتباين أجناسها فهو أهم سبيل
للتعارف الروحي، وهذا هو سر قوته وسرعة انتشاره إلى اليوم انتشارًا حار فيه
فطاحل العلماء، ومن هنا ندرك أهمية الثمرة التي يجنيها السياسي الحاذق الذي يعرف
كيف يستخدم تلك الآلة الدقيقة بنباهة وفطنة، ولا شك أن درس حقائق الدين
الإسلامي على هذه الصورة سيعين على إزالة جميع الخرافات التي يروجونها ضد
الإسلام وأخص منها بالذكر ما يسمونه بالبانسلامزم (التعصب الإسلامي) الذي
يصورون به الإسلام في شكل هيئة مخيفة تترصد الفرص للقضاء على الكفار،
بيد أن الإسلام يظهر لمن عرف أسراره في زي مخالف لذلك على خط مستقيم حيث
إنه المدنية الوحيدة التي اكتنفت في صلبها كل العقول على تباين مشاربها، وأفسحت
مجالاً واسعًا لكل المساعي الصادقة ولو اختلفت طرائقها، كيف لا والإسلام دين
التسامح والكرم الإنساني وهما صفتان ما وجدتا في قوم أو مدنية إلا
ونهضتا بها إلى أرقى وأحسن الدرجات الاجتماعية؟ ولا ينقص الأمم الإسلامية اليوم
لبلوغ تلك المرتبة العالية إلا مساعدة أمة أوربية لا تخفى تحت كلمات الرقي والتهذيب
والحرية والأخوة التي تنشرها على الويتهانية (الاسترقاق السياسي والاقتصادي)
الذي تنفر منه كل نفس أبية. إذن فلا خوف مما يسمونه (بالبانسلامزم) ليس هو
إلا آلة مرعبة اتخذها أولئك الانتفاعيون الذين يدَّعون معرفة الإسلام وهم عنه
بعيدون، وما الحوادث المنسوبة (للبانسلامزم) إلا حركات فكرية عادية لا خوف
منها بل ربما أفادت المدنية بكيفية مهولة لو استخدمت لهذه الغاية الشريفة، ولذا لم
يعد هناك موجب للسياسي الأوربي أن يعني بغير مركز العالم الإسلامي الاقتصادي،
ذلك لأن الإسلام من حيث هو قوة عاملة في الحياة الاقتصادية يقدر أن يغني
أو يفقر الممالك التي لها علاقة به.
ثم نظر الدكتور إنبساطو نظرة إجمالية في الأساليب الاستعمارية التي تسلكها
الدول الأروباوية بمستعمراتها، فأبدى رأيه في كل منها ومما قاله في هذا الشأن:
إن سياسة فرنسة بالممالك التابعة لها وإن نالت الأرجحية نظرًا لما امتازت به
عن غيرها من حرية الإدارة والتسامح الفكري إلا أنها تفتقر إلى فكرة إدارية واسعة
بدونها لا يمكن الحصول على الثمرة المطلوبة من الأعمال العظيمة التي قامت بها
هناك، ثم قال: إنه يجب أن ترتكز سياسة البلاد الإسلامية على معرفة نظامات
الإسلام معرفة دقيقة، ومن هنا انتقل المؤلف إلى درس السلطة في الإسلام والقواعد
التي تستند إليها، فأتى في هذا البحث العويص بأفكار دلت على تضلعه من الفقه
الإسلامي وتاريخ المسلمين فقال: (إن القرآن الشريف وأعمال الخلفاء الراشدين
هي الأصول التي قامت عليها الديانة الإسلامية وحياة الأمم الخاضعة لأحكامها
وإن من أراد أن يفهم شؤونهم وحملهم على المشاركة السياسية يجب عليه أن يقبل
مبدئيًّا كافة قواعد دينهم لأنه لا سبيل إلى التفاهم مع المسلمين إلا إذا عُرفوا كما هم
لا كما يُراد أن يكونوا، والصعوبة الوحيدة التي تعترض السياسي في هذا الطريق
إنما هي التمييز بين ما لا يتبدل في الإسلام وبين ما هو قابل للتغيير والتطور
والانطباق على الحالات الحياتية الجديدة، لأن هذا الدين له خاصية أساسية يجب
أن لا نغفل عنها أبدًا وهي ملاءمته لكل الظروف بدون خروج عن حدوده الأصلية
وصلوحيته لكل الأجيال والأقاليم والأخلاق، ومن الغلط أن نعتقد أن المذاهب
الأربعة المضبوطة من حيث شكلها هي قواعد مؤبدة تقضي على الإسلام بالانكماش
والجمود، بل إنها قابلة للانطباق على نواميس الحياة العصرية ولا يصعب التوفيق
بينها وبين المدنية الحديثة - ذلك لأن سنة النبي تمثل تلك الصفة العالية التي
اختص بها الإسلام ألا وهي ملاءمته لجميع الشعوب والأجناس مهما اختلفت منازلها
وألوانها، إلا أنه يجب على الباحث الأوربي أن يتجنب الآراء الضالة والأغلاط
النفسانية الناشئة عن عدم فهم السنة على حقيقتها، ولذلك تحتم على حكومة الخلافة
اليوم إلغاء كل ما قيل أو قرر في الإسلام بعد عهد الخلفاء الراشدين، ولا أقصد
بذلك أنه يجب إعدام أو إهمال أو مس هيكل العالم الإسلامي الذي وهب العالم أكثر
القوانين دوامًا وأدقها من عدة وجوه، ولكن حيث إن حكومة الخلافة سنية بكل معنى
الكلمة فإنها تستفيد من آثار كل المشرعين الذين منهم الأئمة الأربعة وتسلخ منها ما
تراه موصلاً لنهوض الأمم الإسلامية وسُلَّمًا ترقى به للحياة والمدنية العصرية) .
ومن هنا انتقل المؤلف إلى درس مسألة الجهاد على اختلاف أطوارها
وشروطها فقال: إن الحرب مستحيلة قانونًا بين الأفراد والأمم التي لها اتفاقات مع
المسلمين، وإن عقد معاهدات معهم طبق أصول الشريعة المطهرة تضمن لنا السلم
المطلق مع كافة أشياع النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - المنتشرين في العالم
أجمع، الخاضعين لتعاليم الكتاب والسنة المحمدية، ثم بسط القول على أركان
الإسلام التي يجب على الدول الغربية احترامها وبالأخص الحج إلى البيت الحرام،
وختم كتابه البليغ بشرح مسألة الخلافة ودار الإسلام فقال: لا يمكن أن تحل مسألة
الخلافة حلاًّ أوربيًّا، لأنها مسألة دينية بحتة وليس لغير المسلمين حق في فصلها
وإنهائها، ولا يجوز لأوربة المسيحية حملهم على تسويتها أو إكراههم على ذلك بوجه
من الوجوه، وعلى كل حال فالخليفة يجب أن يكون حرًّا بدار الإسلام الأمر الذي
يستلزم استقلال المدن الثلاث، وهي مكة والمدينة والقدس وكذا الآستانة العلية
عن كل سلطة مسيحية، وليست المشاكل التي ظهرت في الشرق بعد معاهدة سيفر
إلا نتيجة تعامي إنجلترة عن التصديق بهذا المبدأ المسلم، ومن هنا تخلص الدكتور
إنسباطو إلى إبداء رأيه في السياسة التي ينبغي سلوكها مع المسلمين فحقق أن
الفاصلة بينهم لا توجب التباغض والعداء؛ لأن التباين في تصور الحياة ومظاهرها
لا يمنع الثقة والمودة بين الأمم، كما أكد وجوب الاعتراف بيقظة المسلمين وبأحقية
تطلعهم إلى الرقي العلمي والاجتماعي قائلاً: إن انتباههم أمر طبيعي وفي مقدرتهم
ومن واجبهم الاشتراك معنا في سبيل المدنية العامة، وأن يبذلوا لهذه الغاية من الكد
والاجتهاد ما بذلوه في صفوفنا مدة الحرب من الشجاعة والإقدام، ويرى الكاتب أن
تحقيق هذه الأماني لا يتم إلا بواسطة الطبقة المنورة من المسلمين تلك الطبقة العديدة
الأفراد المنتشرة في كافة البلاد الشرقية التي تقاسي من العذاب ألوانًا بسبب
الظروف الاجتماعية الحرجة المحاطة بها إلى الآن فإذا أنجدنا هؤلاء المفكرين
وأيدنا رغائبهم فإننا نجد منهم أثمن مساعدة سياسية ويعتقد الدكتور إنسباطو أنه يجب
للحصول على ذلك أن نساعدهم على درس مؤلفاتهم بطريقة عصرية وأن نفتح لهم
أبواب المدنية الغربية؛ لأنهم سيكونون دعائم السياسة الإسلامية وأكبر العاملين
لإنهاض المجتمع الإسلامي لفائدتهم ولفائدة الأمم الأوربية المشرفة عليهم لا ضدها،
ولكن هذا يتوقف على أن تدرك أوربة المسيحية أن واجبها يقضي عليها بإضاءة
العالم الإسلامي بنور المدنية والعرفان إذ لا سبيل لأن نجد بين المسلمين أشياعًا
متفانين في مصلحتنا بالوسائط التي استعملتها أوربة إلى الآن كالتجنيد الجبري وبث
الدعوة بالصور والنشريات واستخدام أعوان لا همَّ لهم إلا اكتساب المال أو امتلاك
الذمم بوسائل الإرضاء على اختلاف أنواعها لأن الأمم الإسلامية لا يمكن لها ولا
ترضى أن تقبل بالتضحية لغاية مغايرة للغاية التي ترمي إليها، وهنا أضع القاعدة
الأساسية لاتفاقنا مع الإسلام راجيًا أن تُسمع نصيحتي وأن تكون كقانون ثابت لا
يتبدل، وهي أن تسمح أوربة للمسلمين بأن يعملوا لصالحهم ولصالح الإسلام،
ويومئذ يصبح الإسلام ليس المساعد المهم في أعمالنا التمدنية فقط بل الصديق
والحليف الذي يقلب بيقينه المكين العوالم ويحرك الجبال. اهـ.

(المنار)
لم نر لأحد من كُتاب الإفرنج كلامًا مثل الدكتور إنسباطو جمع بين الحق
والمصلحة المشتركة التي لا يمكن التوفيق بين الشرق والغرب بدونها، فهذا الكلام
مبني على علم صحيح بالإسلام والمسلمين ونصيحة حكيمة للإفرنج المستعمرين،
ولكن أهل الشَّرَه والنَّهَم من هؤلاء المستعمرين قلَّما ينظرون في كلام أمثال هؤلاء
العلماء الناصحين، والواجب على العقلاء مِنَّا أن يتعاونوا مع أمثاله في سبيل
خدمة الإنسانية بهذه الطريقة السلمية، فإن لم يقبلها المنهومون اليوم فسيندمون
غدًا.