للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عن مجلة الفجر التونسية


القضاء والقدر في نظر الغربيين

مقالة منقولة من الجزء الخامس
مجلد مجلة (الفجر) الأول
عني نخبة من علماء الإفرنج بالبحث في أسباب رقي الإسلام وعلل انحطاطه،
ودوّنوا لذلك الكتب الضخمة واستفرغوا المجهودات الجمة وأنفقوا الأوقات
الشاسعة، فكانت نتيجة مباحثهم مسفرة على أن رقي المسلمين واعتلاء كلمتهم في
الأعصر المتقدمة وسرعة انتشار الدين الحنيف في أطراف المعمورة إنما الفضل فيه
لبساطة تعاليم الدين ووضوحها وموافقتها للفطرة التي فطر الله عليها الإنسانية،
فبساطة تعاليم الدين ونزاهة غرضه وسمو مبادئه قد جلبت إليه أقوامًا دخلوا فيه
أفواجًا، وهرعوا إلى اعتناقه زرافات ووحدانًا، فأصبحوا بنعمته إخوانًا، وعلى
تأييد أعوانه ولحماية بيضته أنصارًا وأخدانًا.
اهتدوا بهديه وأشرقت على قلوبهم شمس رشده التي أضاءت لهم سبل السداد،
وأنارت لهم طرق الحق والإرشاد، فانتشروا في أطراف المعمورة يسعون في
تشريك الأمم في هذا النور العظيم، ويعملون على إيقاظ الشعوب الذين كانوا ينامون
في ليل من الجهل بهيم، وشهد التاريخ ودلت الأنباء وأجمعت كلمة المؤرخين
المنصفين على أنهم كانوا في تلك الأثناء رائدهم الصدق والإخلاص، وقائدهم العدل
والإحسان، ودليلهم في أعمالهم البر والتسامح والرفق ببني الإنسان، أما الصفات
التي ساد بها فحدِّث ما شئت عن ثبات وجَلَد ويقين في النجاح وصبر على السرَّاء
والضرَّاء، وشكر في حالتي الشدة والرخاء، وسواء لديهم أطاب عيشهم أم حلَّ بهم
ألم اللأواء، هذا إلى عزم يقد الجبال، واتحاد في السر والإعلان، وتظافر على
المصالح واعتصام بحبل الله في جميع الأحوال، هذه الصفات العالية إذا انطبعت
في نفوس وهمم عربية زكية عرفنا بها سر تقدم المسلمين وأدركنا منها أسباب
انتشار نفوذهم وسيطرتهم بسرعة البرق على أهم أرجاء العالم في ذلك التاريخ.
على أن أولئك العلماء الذين أشرنا إليهم في طالع هذا الفصل قد نظروا أيضًا
نظرة نقد واعتبار في الأسباب التي قضت على المسلمين بالتقهقر في بعض الجهات
وما هي العوامل التي أفضت إلى تقلص ظل نفوذه من كثير من الأقاليم والولايات،
(هذا ومرادهم هنا النفوذ الإسلامي فقط لا الدين والقومية اللذان لم يتغير من
جوهرهما شيء كما كنا بيَّناه في مقال قبل هذا) فأطبقوا على أن ذلك نتيجة لازمة
تأول إليها كل أمة أخلدت إلى الترف ومالت إلى الراحة وجرت في أعقاب
الشهوات وأهملت الأخذ بأسباب الحزم وتقاعست عن مجاراة الأمم الراقية في
حلبات العمل. فمنهم من يعزو الفشل الذي حَلّ بالمسلمين لتعاليم دينهم التي
يتوهمون أنها تأمر بالرضا بالمقدور والاستسلام للأمر المقضي، وهو وهمٌ شائع
عند كثير من الإفرنج، وقد اعتنى بدحض ذلك أكابر علمائهم، وإلى القارئ الكريم
مقتطفات من كلامهم تقوم أنموذجًا على ما وصلوا إليه من بعد الغور في المباحث
العلمية، ودقة النظر في الأحوال الاجتماعية.
قال (بارتلمي سانت إيلير) المؤرخ الفرنسي الشهير الذي ولي وزارة الخارجية
حوالي سنة ١٨٨١ في القضاء والقدر:
(ومنهم من يتوهم أن الدين الإسلامي يأمر أشياعه بالكسل والفتور وإرسال
الحبال على الغوارب والاستسلام للمقدور، وهو وهمٌ أدَّى إليه قلة التثبت وإعمال
الروية في فهم أسرار هذا الدين.
رأينا فيما تقدم في فصل سيرة النبي عليه السلام حركته المستمرة وثقته بنفسه
واعتماده عليها وما كان توكله على الله بأقل صدقًا، لكن كان يكتنفه حدود معقولة
ولم يتعد قط إلى ذلك التعامي المذموم الذي يفرضه العجز والبصر لا القضاء والقدر،
القرآن يأمر المسلمين بالإذعان التام والاستسلام لمشيئة الله الأمر الذي أوجب
عليهم التحلي بالاسم الذي يحملونه وبه يفتخرون، لكننا لم نعثر في تعاليم هذا الدين،
ولا في سنة النبي على ما يشعر بخلع أشرف المدارك النفسانية (الإرادة) وتعطيلها
عن العمل.
وليست الإحالة على المقادير إلا ضلة من ضلالات النفوس الضعيفة تغلَّب
عليها الكسل وناءت بحمل واجباتها فاستنامت للأقدار، وحكمتها في نفسها تفعل ما
تشاء وتختار، عندي أن هذا الفتور الذي عم المسلمين إنما كان ناشئًا عن عوائد
الترف والإخلاد للراحة والنعيم فهو عجز عن العمل لا عقيدة، وعلى كل حال فليس
القرآن هو الذي يدعو إليه، اللهمَّ إلا إذا أرادوا تفسير بعض الآيات على غير ما
اشتملت عليه حقيقة. الإسلام شعور يدرك به الإنسان ضعفه وعجزه وافتقاره لخالقه
ووجوب الخضوع له والركون لعليائه، ولكن ليس ثم ما ينبئ بنبذ أجمل قوة
وأشرف موهبة اختصنا بها الباري سبحانه وهي الإرادة) .
(وقد تكلم في هذا الموضوع قبلنا (فيل وسبرنج) فلنجمع صوتي إلى
أصواتهما ونقول: إن هذا الدين لدين عمل لا فشل رغم معتقد الجمهور) .
وقال غستاف لوبون الفيلسوف الشهير صاحب كتاب (سر تطور المادة) في
كتابه (حضارة العرب) ما يأتي:
القرآن لم يأمر الناس بترك السعي والعمل أو الانسلاخ عن خوض غمرات
التنافس الحيوي، فهو في هذا الموضوع لم يأت بأكثر مما في الكتب السالفة
(التوراة) مثلاً.
يعترف نخبة من الفلاسفة أن مجرى الأمور لا يلحقه تبديل، ونظام الخليقة
بيد مبدعة لا يعتريه تغيير، فقد قال لوثر، منقح الديانة المسيحية: تتفق معظم
آيات الكتاب في صعيد واحد على مناسبة (الحكم الحر arditre Lidre) وهذه
الآيات لا أحصي لها عددًا بل هي الكتاب بأجمعه، وهذه عقيدة القضاء والقدر
مفعمة بها الكتب الدينية لكل الأمم، وقد اعتنى بها الأقدمون واعتبروها قوة دونها
قوى الرجال والآلهة والحوادث التي سطرتها لا يشكون في وقوعها، فهذا (أوديب)
حين أخبره الكاهن أنه سيقتل أباه ويتزوج بأمه حاول عبثًا إيقاف هذا الأمر،
فطفق يقدم النذور وأنواع القربات للآلهة بدون جدوى إلى أن ضربت الأيام
بضرباتها، فإذا هو متزوج بأمه قاتل أباه كما هو مشهور، فالنبي العربي صلى الله
عليه وسلم لم يأت بشيء عجاب، فإنه لم يخالف طريقة مُتقدميه ولا طريقة من بعده
أي علماء العصر الحاضر فإنهم يقولون كما قاله لابلاص وبنيتر: إن علم (الله)
يكتنفه في طرفة عين القوى والأسرار التي في الطبيعة على اتساعها وتباعد
أطرافها ويحيط خبرًا بأحوال الكائنات التي وضعت فيها كبيرها وصغيرها دقيقها
وجليلها من شأنه أن لا يفوته شيء وأن يكون علم المستقبل لديه كعلمه الماضي.
ثم إن عقيدة القضاء والقدر الشائعة في فلسفة الشرقيين وديدن بعض فلاسفة
العصر هي نوع من الصبر والجلد على تلقي مكاره هذه الحياة ودرع حصينة
لمكافحة النوائب والمضاضات، وقد كان العرب عاملين بهذه العقيدة في جاهليتهم،
ثم استمر عليها المسلمون ولم تدخل في شيء من ارتقائهم ولا من انحطاطهم اهـ.

(المنار)
إن ما شرحناه من حقيقة معنى القدر في القرآن ينقض بناء عقيدة الجبر التي
اتبعنا بها سنن من قبلنا وفتن بها كثير من المتكلمين والصوفية، فكان لها ذلك
التأثير الذي حسبه كثير من علماء الغرب من الإسلام وما هو منه، بل سرى إلى
أهله ممن قبلهم كما فطن لذلك بعض المحققين منهم.