للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد كمال


بحث لغوي
في براءة القرآن الشريف من بعض الألفاظ الأعجمية [١]
للعالم الأثري المحقق أحمد بك كمال
لا يزال أصل اللغة العربية مجهولاً، أي ليس في كتبها ما يدل على المرجع
الذي ترجع إليه ألفاظها، وقد وفقني الله إلى تمهيد السبيل المؤدي إلى ذلك، أي إلى
إرجاع كل كلمة إلى أصلها وإلى تدوين قاموس اللغة تدوينًا مؤسسًا على أصول ثابتة
تظهر اللغة بمظاهرها الحقيقية، والذي حملني على ذلك ما ظهر من نقوش قديمة
محفورة على جدران معبد الدير البحري في طيبة الغربية وإزاء لُقُصر من الغرب
تدل على أن المصريين القدماء أرادوا تخليد ذكرأصلهم فأثبتوه بالحفر على آثارهم
قائلين إن أجدادهم يُدعَون الأعناء (جمع عنو) أي أنهم أقوام من قبائل شتى
اجتمعوا في وادي النيل وأسسوا فيه مدنًا كثيرة منها مدينة عين شمس، ويقال لها
بالمصرية العين (الجنوبية) ومنها العين الجنوبية وهي أرمنت ومنها عين التي
سميت فيما بعد دندره، ولما نموا وكثروا وتفرقوا في الجهات المجاورة لوادي النيل
ففريق منهم وهو المعروف باسم أعناء الحنو أو اللوبيين توجهوا إلى بلاد القيروان
وتونس والجزائر وسكنوا فيها، وفريق آخر يسمى أعناء المنتو هاجر إلى بلاد
الصومال واجتاز البحر الأحمر إلى بلاد العرب وانتشر ممتدًّا إلى فلسطين. وفريق
ثالث يسمى أعناء السيتو سكنوا القسم الجنوبي من مصر حيث جنادل النيل،
وفريق رابع يقال له أعناء الكنوز وهم أهل النوبة، وهكذا تفرق الأعناء وتوطنوا
في الجهات التي ذكرناها وبثوا فيها لغتهم مدة من الدهر فكانت لغة البلاد التي تتكلم
إلى الآن بالعربية، فاللغة المصرية أي لغة قبائل الأعناء التي سكنت مصر وما
جاورها من الأقاليم هي أصل اللغة العربية بلا مراء بنص النقوش المذكورة آنفًا،
وقد نزل القرآن الشريف بهذه اللغة العربية ونص على ذلك نصًّا صريحًا في آيات
كثيرة.
قال المفسرون: إن في القرآن الشريف كلمات غير عربية لكنها لا تخرجه
عن العربية كما أن الكلمة العربية إذا وردت في القصيدة الفارسية لا تخرجها عن
كونها فارسية، وأنا أخالف هذا القول مخالفة كلية لما سأذكره بعد.
هذا وقد جمع المرحوم الشيخ حمزة فتح الله جميع الكلمات الواردة في القرآن
الشريف ويقال إنها أعجمية وطبعها بأمر نظارة المعارف العمومية سنة ١٩٠٢
ميلادية وها أنا ذا أخالفه في ذلك مبينًا أنها عربية لورودها في اللغة المصرية
القديمة التي هي أصل العربية كما ترى فيما يلي:
(١) أكواب وأباريق: من سورة الواقعة (٥٦: ١٨) قال الشيخ رحمه الله:
الأولى نبطية والثانية فارسية، ومن المعلوم أن اللغة النبطية قريبة من القبطية
التي ترجع إلى لغة الأعناء. وأكواب جمع كوب، وردت في اللغة المصرية بلفظ
(قب وقوب وقبو) وبالعبرية (كب) وبالقبطية (كاب وكابي وكيبي) وهي مشتقة
من مادة (قأب) الواردة في اللغة المصرية القديمة، وفي العربية أيضًا بمعنى شرب
فيقال: قأب الماء: شربه، أو شرب كل ماء الإناء، ويقال: إناء قوأب وقوأبي:
كثير الأخذ للماء، ورجل مقأب: كثير الشرب، كما يقال: كاب يكوب كابًا: شرب
بالكوب، فالكلمة مصرية عربية كما يتضح من موادها المذكورة في القواميس
العربية.
أما أباريق فهي جمع إبريق، وليست بفارسية بل هي مصرية وجدت مكتوبة
في حجر نقش بأمر أحد ملوك الحبشة وعثر عليه في دنقلة فبقيت في العربية بهذا
اللفظ، وقد جاء القرآن الشريف بها قال تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن
مَّعِينٍ} (الواقعة: ١٨) أي من ماء طاهر، والكأس وردت أيضًا في المصرية
والعبرية بهذا اللفظ، وورد أيضًا في المصرية (كاز) وفي القبطية (كاجي) بمعنى
الكوز، ومن ثم تعلم أن (إبريق وكأس وكوز) كلمات مصرية وعربية ليست من
الأعجمية في شيء.
(٢) أب: وردت هذه الكلمة في نقوش معبد دندرة وعلى جدران مدينة آبو
كما وردت في قرطاس إبرس، وفي القاموس المحيط: الأب: الكلأ أو المرعى أو ما
أنبتت الأرض والخضر فهي إذن عربية لا أعجمية.
(٣) سري: قال الشيخ رحمه الله: إنه نهر بالسريانية أو القبطية أو
اليونانية، وفاتَه كما فات غيره من المفسرين أنه مشتق من (سرى يسري وسرى به)
فاشتق منه (سرى) أي النهر لمسيره وجريانه، وقد وردت (سرى) في المصرية
بهذا المعنى في لوحة الإحصاء وجاء في العربية أيضًا: ظرى يظري: جرى الماء
وبطنه لم يتمالك لينًا. فلعلها لغة في (سرى) بقلب الظاء سينًا لقرب المخرج، فهي
قريبة منها في المعنى لقرينة الجريان، وعلى كل حال فمادة الكلمة عربية ومصرية،
وليست بأعجمية كما قال المفسرون.
(٤) هيت: قال الشيخ رحمه الله: معناها (هلمَّ) بالقبطية أو السُّريانية أو
الحورانية أو العبرانية، والحقيقة أنها من: هيت به: صاح به ودعاه، وهيت لك وقد
يكسر أوله أي هلم، ووردت (هيت) بمعنى أقبل، وذُكرت في العربية والمصرية
أيضًا بغير التاء، فيقال في العربية: هيا، أي: أسرع وأقبل على كذا، وعليه فهي
عربية محضة خلافًا لما قاله المفسرون.
(٥) رس: قال الشيخ رحمه الله: الرس: البئر، أعجمية، مع أنها وردت
في القاموس المحيط وغيره من معاجم اللغة أنها البئر المطوية بالحجارة، وبئر كانت
لبقية من ثمود كذبوا نبيهم، ورسوه في بئر أي دفنوه، إذ من معاني (رس) الحفر
والدس ودفن الميت، وقد ذكرت كثيرًا في النصوص المصرية القديمة، وكثيرًا ما
تلحقها تاء التأنيث ومعناها البئر المُعدَّة لدفن الموتى؛ إذ كان من عادة المصريين
القدماء أن يدفنوا موتاهم في آبار ينحتونها في الجبال والسهول، فهي عربية
ومصرية بحتة.
(٦) قط: قال تعالى في سورة ص: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ
الحِسَابِ} (ص: ١٦) قال الشيخ رحمه الله: أي كتابنا، بالقبطية، وجاء في
القاموس للفيروزآبادي: قط بالكسر: الصك وكتاب المحاسبة، جمعه قطوط،
والقطَّاط أي الخراط، وهو من مادة (قط) أي قطع عامة وعرضًا، أو قطع شيئًا
صلبًا كالحقة، وفي المصرية: قط وجمعه قطوط، أي: كاتب، والقط والقطَّاط:
الخراط أو الخطاط (راجع مفردات دارمان الصحيفة ١٣٥) وهي في المصرية من
مادة (قط) أي قطع النقوش في الأحجار أي حفرها بقلم الحفر؛ لأن (قط وخط)
معناهما في المصرية واحد وهي الكتابة بالحفر أي رسم الشيء بالقطع أو الخرط،
فالمصرية تظهر حقيقة المعنى في الكلمتين، وكان من عادة المصريين في كتابة
نقوشهم أن يرسم الكاتب النصوص بالمداد الأحمر على الجدران في المعابد أو المقابر
أو نحوها، ومتى أتمها أتى القطاط فيقطعها بقلم الحفر شيئًا فشيئًا حتى يتم حفرها كما
يُفعل الآن في النقش على الأحجار، هذا هو المعنى الأصلي لقط وخط، فالقطاط لغة
في الخطاط أي النقار أو النحات أو النقاش، وقد يطلق عليه الآن في عرف العامة
ويقرب من هذا المعنى (القديدي) والجمع (قديدون) أتباع العسكر من الصناع
كالعشاب والبيطار (قاموس المحيط) وكالنحات لأنه اسم مشتق من مادة (قد) أي
قطع مثل: قط، فالكلمة إذن عربية لا حظ لها من العجمة.
(٧) يم: في قوله تعالى: {فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (طه: ٧٨)
قال الشيخ رحمه الله: معناها البحر بالسُّريانية أوالعبرانية أو القبطية. وهي كلمة
مصرية وردت بهذا المعنى في اللغة المصرية القديمة تطلق على النيل وعلى البحر
ويقال لها في القبطية: أيام وأيوم وأيوم بإمالة عين الكلمة في اللفظ الثالث، وذكر
في القاموس المحيط: اليم: البحر، ويُم بالضم فهو ميموم: طرح فيه. فهي عربية،
بل عريقة فيها لوجودها مذكورة بلفظها ومعناها في المصرية ثم القبطية.
(٨) يحور: في قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} (الانشقاق:
١٤) قال الشيخ رحمه الله تعالى: يرجح أنها بالحبشية، والحال أنه فعل متصرف
من (حار) بمعنى رجع ونقص، وحاوره يحاوره: تراجع في الكلام، وحار يحار
حيرة أي نظر إلى الشيء ولم يهتد، فهي مادة عربية محضة وذكرت في المصرية
بلفظها ومعانيها في قرطاس سلير وقرطاس إنسطاسي وقرطاس هرس وفي الدنكميلر
وفي مدحة النيل لماسبيرو.
(٩) سينين: في قوله تعالى من سورة التين: {وَطُورِ سِينِينَ} (التين:
٢) وهو جبل بالشام ويقال له أيضًا: (طور سيناء) في سورة (المؤمنون) في
قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ} (المؤمنون: ٢٠) قال الشيخ:
إن الأولى والثانية معناهما بالحبشية: الحسن. والحقيقة أن أصلهما في المصرية
والعربية من مادة (أن) كذا وأنان وأنين ومأنان، ثم ألحق بها السين فصارت سيناء
وسينين، أي: حسن. هذا ما أيدته اللغة المصرية القديمة ووجد مطابقًا للعربية،
وقد جاء في القاموس المحيط: سنَّن النطق، أي: حسنه، ورجل مسنون الوجه:
مملسه. وهي مؤنث (سني) من مادة (سنيت) فهذا يؤيد أن (سينين وسيناء)
لفظان عربيان بلا نزاع.
(١٠) قيوم: في قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} (البقرة:
٢٥٥) قال الشيخ رحمه الله: معناه الذي لا ينام بالسريانية، وفي المحيط: القيوم
والقيام الذي لا ند له من أسمائه عز وجل، وهو مشتق من مادة قام قومًا وقيامًا،
وقد ورد هذا اللفظ في المصرية وذكره إرمان في مفرداته (الصحيفة ١٣٦) فقال:
قيوم: صفة، وإله أوجد نفسه بنفسه سماه اليونان (كاميفيس) والكلمة مركبة في
المصرية من لفظين معناهما (قيم الأم) أي زوج الأم، أي زوج وأم في آن واحد
أوجد نفسه بنفسه، ثم ركب تركيبًا مزجيًّا فصار صفة يراد بها الموجد لنفسه، فهو
ليس من مادة قام العربية والمصرية، بل هو كلمة قائمة بذاتها عريقة الأصل في كلتا
اللغتين.
... ... ... ... ... ... وسيأتي الكلام على سائر الألفاظ
... ... ... ... ... ... ... ... ... المحقق أحمد كمال

((يتبع بمقال تالٍ))