للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانتقاد على المنار

نطلب في أول جزء من كل مجلد من قرَّاء المنار إتحافنا بما يرونه منتقدًا فيه
سواء كان بمخالفة الحق في بعض المسائل أو مخالفة المصلحة العامة التي نتوخاها
في خدمتنا، ونُذكِّر في خاتمة آخر جزء من المجلد بذلك مشيرين إلى ما لم ننشره
من النقد الشفوي أو غير الموجه إلى المنار.
فنقول الآن في خاتمة هذا المجلد: إننا قد نشرنا كل ما كتب إلينا من النقد
كالرد على ما نقلناه عن ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - في مسألة فناء النار
وعدمه والخلود فيها ومعناه، ولم يهمل المنار شيئًا في هذا الباب مما كُتِبَ إليه،
وأما النوع الآخر من النقد فليس لدينا منه إلا ما قاله بعض السوريين أو نشروه في
بعض الجرائد ولم يرسلوه إلى المنار في موضوع مقال (الحقائق الجلية في المسألة
العربية) التي نشرت في الجزء السادس، فقد استحسنها الجماهير في الأقطار
الإسلامية المختلفة، حتى إن محرر جريدة (بيغام) الهندية الإسلامية التي تصدر
في كلكته كتب إلينا بأنه ترجمها ونشرها في جريدتهم فنقلتها عنها (الجرائد الوطنية
والهندية واستحسنها الناس كثيرًا) .
انتقد ساطع بك الحصري في حديث دار بيننا وبينه مسألتين من المقالة وهو
مطلع على ما جرى؛ لأنه كان وزير المعارف في الحكومة السورية ورسول الملك
فيصل إلى الجنرال غورو في أثناء المفاوضة بينهما في أمر الإنذار المشهور.
(الأولى) قولنا في الصفحة ٤٦٩: قبلت الحكومة برياسة الملك فيصل جميع مطالب
الجنرال غورو ومنها قبول الوصاية بلا شرط ولا قيد، فأصبحت بذلك ساقطة غير
شرعية بقرار المؤتمر، (والثانية) قولنا فيها أيضًا: عظم الخطب على فيصل
ووزرائه لما رأوا أنهم سلَّموا بقبول الوصاية مع تلك الشروط المخزية ليدفعوا
الاحتلال عن دمشق ويبقوا فيها متمتعين في ظل الوصاية وخدمتها بما كانوا عليه
بعد أن قالوا في عدم قبولها ما قالوا من المبالغات، فقال في الأولى: إن الوصاية
كانت مقيدة بقيود معلومة لا تخفى عليكم، وفي الثانية: إن الوزراء وإن قرروا قبول
شروط الجنرال غورو لم يكونوا يرجون أن يبقوا في الوزارة؛ لأن الجنرال طلب فيما
طلبه من فيصل تأليف حكومة موالية لفرنسة. وقد تناقشنا في المسألتين ورغبت إليه
أن يكتب انتقاده كتابة لأبين حقه من باطله وأعترف له بما فيه من الحق فإنني لا أكتب
لغرض ولا هوى، بل لبيان الحق وخدمة الأمة، فإذا ظهر لي أن فيما كتبت ما يخالف
ذلك اعترفت به ورجعت إلى الصواب الذي أقتنع به، ولكنه لم يكتب.
وجوابي عن المسألة الأولى أن الجنرال غورو هو الذي قيد الوصاية في
إنذاره بما عناه ساطع بك لا الحكومة السورية (الوزارة مع الملك) وهذه ترجمة
الشرط أو الطلب الثالث من إنذاره:
(٣ - قبول حق وصاية فرنسة على سورية بحيث تكون حرية البلاد مضمونة،
وبحيث لا يمس حق الوصاية المذكور ما للحكومة التي تنتخبها الأمة من السلطة،
بل يكون محصورًا في المساعدة الودية خاليًا من كل غرض استعماري) .
وأما المسألة الثانية فالذي أعلمه فيها أن إنذار الجنرال غورو لم يكن فيه طلب
تغيير الوزارة وإنما الشرط أو المطلب الخامس منه عقاب جميع الذين أظهروا
العداء لفرنسة، وكان الجنرال يتهم الحكومة بأنها تساعد العصابات التي تناوئ
الاحتلال الفرنسي كما بينه في بعض أجوبته عما كتبه إليه فيصل بعد قبول الإنذار،
ولعل طلب تأليف حكومة موالية كان من المطالب التي تجددت بعد قبول الإنذار،
وكان ساطع بك الحصري هو الرسول بين فيصل وغورو فيها.
والذي عَلِمناه من أمر تلك الوزارة أن بعض أعضائها كان معدودًا من المعادين
لفرنسة كالمرحوم يوسف العظمة والدكتور شاهبندر، وبعضهم كان مواليًا لها كعلاء
الدين بك الدروبي الذي عينه فيصل رئيسًا للوزارة الموالية بعد الاحتلال، وأما
الآخرون فلم نعرف عنهم عداءً ولا ولاءً لفرنسة.
ثم كتب رجل من دروز لبنان اسمه الدكتور سعيد طليع كان من أعضاء
المؤتمر السوري العام بدمشق مقالة رد بل تهكم بمقال المنار ونشرها في جريدة
الأهرام على إثر كلام أغضبه مني في الإسكندرية ظن خطأ أنني قصدت إهانته فيه،
سبقه غضبات كانت في دمشق، بعضها في المؤتمر إذ تكرر أن منعته من الكلام في
بعض المسائل منعًا قانونيًّا، فظن أنني تعمدت التحامل وتقديم غيره عليه وكنت
أظن أنه نسيها؛ لأنني وكَّدت له القول بأن ظنه كان من الإثم، على أنه من شيعة
الملك فيصل إذ لم يبلغني أن أحدًا من أعضاء المؤتمر ذهب إلى لقاء فيصل في
اليوم الذي كان ينتظر أن يجيئه فيه جميع الأعضاء بمكتوبات خطية سرية يبينون
فيها رأيهم في إنذار الجنرال غورو؛ لأن الدعوة بثت ليلاً وصباحًا بأن لا يكتب
إليه أحد، وقد جاءني الدكتور طليع هذا بعد ذلك اليوم الموعود إلى الدار بدمشق،
وكان من أكثر الأعضاء مودة لي، وأخبرني أنه كان عند الملك وأنه وجده مُستاء
جدًّا؛ لأنه كان منتظرًا من أول النهار إقبال أعضاء المؤتمر عليه بما وعدوا من
الكتابة إليه بآرائهم ولم يجئ أحد ولا الرئيس الذي كان يجيء في مثل هذا اليوم
عادة (وهو يوم أحد) وقال الدكتور طليع إنه ينتظر ذهابك إليه فيحسن أن تذهب
وتسليه، فقلت: حقًّا إنني بعد اشتغالي برياسة المؤتمر قصرت زيارتي له على يومي
الجمعة والأحد لعدم عقد الجلسات العامة فيهما (وكنت أزوره صباح كل يوم)
ولكنني بعد أن رأيت منه ما رأيت من احتقار الأمة عزمت على ألاَّ أزوره إلا
بدعوة رسمية.
وإذ نحن في الحديث جاءني رسوله يقول: إن جلالة الملك ينتظرك، فذهبت
إليه فرأيته واجمًا مغمومًا، وسألني: ما بال أعضاء المؤتمر قد أخلفوا موعدي ولم
يأتوني بآرائهم في الأزمة الحاضرة مكتوبة، وقد ظللت منتظرًا لهم النهار بطوله؟
قلت: إنني علمت منذ خرجنا من هنا أنهم عازمون على عدم إجابة اقتراحكم الذي
ساءهم جدًّا؛ لأنهم عدوه متضمنًا للطعن فيهم بالجبن والمداهنة للعامة فيما يبدونه في
المؤتمر، قال: لكنهم أظهروا استحسان الاقتراح وقبوله، قلت: إن الجمهور سكتوا
واجمين، وإنما صفق واحد منهم للاقتراح، ولما خرجوا صاروا يتناجون بينهم بأن
هذه مكيدة يُراد إيقاعهم بها ويتواصون بعدم الوقوع في شَرَكها.
والظاهر أنه لم يذهب إليه إلا الدكتور سعيد بك طليع وأنه لم يذهب إليه إلا
وقد كتب إليه ما يحب وهو إجابة الجنرال غورو بقبول إنذاره.
لم يكن ما كتبه الدكتور طليع بالذي يستحق أن يعنى به ويرد عليه؛ لأنه
دعاوى زور وإفك وبهتان اختلق ليبنى عليه ما يشفي غيظ الكاتب من التهكم
والإزراء، ويتقرب به إلى أولئك الملوك والأمراء، وليس نقدًا صحيحًا ولا قصد
به بيان حقيقة، ولذلك نشر في جريدة يومية سياسية ولم يرسل إلى المنار.
وإنني مع ذلك قد رددت عليه ونشرت الرد في جريدة الأهرام لغرضين،
أهمهما إطلاع من لا يقرأ المنار من قُرَّاء الأهرام على حقيقة المسألة العربية التي
يهتم جميع المسلمين وكثير من سائر الشعوب بأمرها، ولذلك نشرت مقالتنا جرائد
الهند الإسلامية والإنكليزية والوثنية، وثانيهما إعلام من ذكر من قرَّاء الأهرام بما
افتراه الكاتب على المنار، وقرَّاء المنار في غنى عن ذلك.
على أنني ألخص تلك الدعاوى والأكاذيب فأقول:
(أولها) : إنكار قولي أنه لم يوجد في الأمة العربية في فرصة هذه الحرب
زعماء يجمعون كلمتها ويوحدون قواها لحفظ استقلالها كما وجد في الترك مصطفى
كمال باشا وأنصاره من كبار القواد والسياسيين ودعواه: (أن الزعامة الطبيعية
توفرت في جلالة الملك حسين إلخ.
(ثانيها) : افتراؤه عليّ بأنني قلت: إنني أشرت على الملك حسين بأن
يحارب الاتحاديين، وقد سبق للمنار ذكر هذه الفرية في الرد على جريدة القبلة من
الجزء التاسع بعد الرد عليها في الأهرام منذ أشهر.
(ثالثها) : عبارة كاذبة بنى عليها استنكار تصريح المنار بالرواية التي
صرح بها بشأن امتناع الملك حسين من قبول مشروع اتفاق أمراء جزيرة العرب.
(رابعها) : زعمه أنني قلت: كنت في دمشق ثاني الملك وصاحب النفوذ
الأعلى وأنني كنت أنصب الوزراء وأعزلهم، استنبط هذا مما ذكرته في مسألة
المرحوم يوسف العظمة وجَعَله حقيقة واقعة لأجل التهكم الذي أراده، وقراء المنار
يعلمون ما قلنا في ذلك.
(خامسها) : قوله: ويقول أيضًا: إنه هو الذي أقنع المؤتمر السوري بأن
يقلع عن فكرة وضع الحكومة بيد دكتاتور. وقراء المنار يعلمون أنني لم أقل هذا
وإنما قلت: كان بعض الأعضاء يريد عدم امتثال أمر الملك بتأجيل اجتماع المؤتمر
فأقنعتهم بأن هذا خير للمؤتمر، وقد أوضحت هذا في الأهرام ببيان أن بعض
أعضاء المؤتمر طلبوا مني الإذن بالكلام والخطابة بعد تلاوة أمر الملك المذكور،
فلم آذن لأحد منهم ونزلت عن كرسي الرياسة تنفيذًا للأمر وعدم جعله موضوعًا
للمناقشة، وإن بعض هؤلاء كلموني مع غيرهم فيما كانوا يرون من عدم امتثال الأمر
فأقنعتهم بما ذكرت، وأزيد الآن أنني لو سمحت لأعضاء المؤتمر بأن يتكلموا في
موضوع الأمر ويلقوا فيه الخطب لكانت خطبهم أشد مما كانت في الجلسة السرية
التي عقدوها قبل ذلك إذ كان التهيج والسخط على الحكومة والملك فيصل بالغين حد
الإفراط، وكان الشعب أشد تهيجًا وهو مستعد لاتباع كل ما يقرره المؤتمر، وإذًا
لوقعت ثورة داخلية تكون عاقبتها اتهام المؤتمر بأنه هو المضيع لاستقلال البلاد.
(سادسها) : الاحتجاج على ما وصفت به أمراء مكة بأنني أثنيت مرة على
الملك فيصل، وقد أبهم هذا الثناء بما يوهم أنه ثناء بالكفاءة للزعامة وإنقاذ الأمة
العربية. والحقيقة أن ما أشار إليه كان ردًّا على ثناء الملك على أعضاء المؤتمر
بإجابتهم دعوته إلى مأدبة رمضان بأنه هو المحسن في الدعوة وفي الشكر على
قبولها، فهو أحق بأن يثنى عليه، ولو أُجلَّ عن شكر الصنيعة محسن لأجللناه كما قال
ابن الجهم.
(سابعها) : إنكاره ما سمَّاه دعوة للفرنسيس بأن لا يعادوا الأمة العربية في
بيت ملك الحجاز، وأنا ما دعوتهم إلى ذلك دعوة كما زعم، وإنما بينت لهم خطأهم
والخطب سهل.
(ثامنها) : زعمه أنني قلت: إن جلالة الملك حسين وافق على معاهدة
سايكس وبيكو واستدل على رد هذا بعدم تصديقه على معاهدة فرساي، قال:
(لتضمنها المادة ٢٢ من عهد عصبة الأمم) وقد رددت عليه في الأهرام، وقرَّاء
المنار يعلمون أنني لم أقل من عندي: إنه صدَّق على معاهدة ١٩١٦ وإنما رويت
روايات فيها عمن سمعوا بآذانهم من السر مارك سايكس ورأوا بأعينهم كتاب جلالة
الملك إلى نجله الأمير فيصل، وأطلت في ذلك بما لا حاجة إلى ذكره هنا؛ لأننا نريد
إقفال هذا الباب الآن لا كثرة الدخول فيه والخروج منه.

علاقتنا بأسرة ملك الحجاز
وليعلم القراء أنني لم أكتب قط كتابة من شأنها أن يسوء الحقُ فيها أحدًا من
الناس ويؤلمه، وأنا متألم وخجل من مساءته كالذي كتبته في المسألة العربية عالمًا
بأنه يؤلم الملك حسينًا وأولاده لأنني عرفت منهم الأمير عبد الله أولاً والأمير زيدًا
والأمير فالملك فيصل أخيرًا، ووالدهم فيما بين ذلك فلم أشكُ من معاملتهم لي قولاً ولا
فعلاً، بل كنت معجبًا أشد الإعجاب بآدابهم العالية وقد أكرم مثواي الكبير في
الحجاز وأضافني مع من كان معي من نساء ورجال أحسن الضيافة كما يعلم من
تنويهي به وشكري له في رحلة الحجاز من المنار، وإني لأعلم أن منع المنار بتلك
العبارة الخشنة قد كان بدسيسة.
وكان يسهل عليّ تلافي ذلك كما اقترح علي بعض رجال الإنكليز هنا،
ولكنني قد سررت بذلك المنع؛ لأنني كنت قد علمت أن الأمر جارٍ على ما ينافي
مصلحة العرب والإسلام، وقد كنت صرَّحت له عند توديعي إياه بحجرته في الحرم
الشريف بأنني لا أعمل إلا ما أعتقد أنه لمصلحة الملة والأمة، فما دمت أعتقد أن
الحركة العربية كذلك فأنا أخدم فيها كالجندي، قلت هذا بعد أن تلطف كل التلطف
في الثناء ورجاء المساعدة كما أشرت إلى ذلك في الرحلة حتى كان من تواضعه
ولطفه بعد ذكر خدمة المنار للإسلام أن قال في صاحبه: إنه أعلم مِنَّا بكل شيء،
فنحن نحتاج إلى علمه وسعة اختباره بإقامته بمصر كل هذه السنين في كل عمل نريده
في حكومتنا، وفصل ذلك تفصيلاً أخجلني.
وعرفت الأمير عبد الله في الآستانة وكان أول كلامي معه تعريضًا شديدًا
بأمرائنا قابله بغاية اللطف والأدب، ثم ذكر اجتماعي به. وأترك وصف تواضعه
معي اقتداء بأدبه في التواضع.
وأما فيصل، فكان أول لقائي إياه وحديثي معه في بيروت بعد عودته الثانية
من أوربة حيث كان له ما يعلم الناس من علو المكانة، طلبت الخلوة به على ضيق
الوقت فسمح بها ليلاً، فكان أول حديثي معه في السياسة بعد مجاملات اللقاء أن
ذكرت له بالاختصار رأيي في ثورتهم ومضارها من مبدئها إذ بنيت على الاتكال
على الأجنبي لا الاستقلال الصحيح ولا جمع الكلمة، إلى ما كان لها من سوء العاقبة
وأسباب ذلك، فلما وافقني على رأيي في سوء النتيجة والمقدمات، قلت له: إنني
أرجو أن تكونوا قد استفدتم بالاختبار ما ينهض بهمتكم إلى تلافي هذه الأخطار،
ولذلك طلبت الخلوة بكم لأقف على خطتكم الجديدة، فإن وافقت رأيي كنت مساعدًا
لها على قدر طاقتي، وإلا كنت مقاومًا لها على ضعفي، ولا أراكم تستكبرون مني
كلمة المقاومة لأنني لست أميرًا فقد قاومت السياسة الحميدية على عظمتها وخضوع
الرقاب لها ولم أكن أميرًا، فقابل قولي - على خشونته - الذي أوجبته المصلحة
والإخلاص في النصيحة باللطف والثناء والرجاء في التعاون والاتفاق، ثم إنه ألحّ
عليّ بالذهاب معه إلى الشام لأجل التعاون على العمل فوعدته بأن أتبعه ووفيت،
وكنت قبل الاشتغال بالمؤتمر أول من يخلو به صبيحة كل يوم للحديث والتشاور في
المسألة السورية والمسألة العربية وقد بينتُ له رأيي فيما يجب من العمل في المسألة
العربية قولاً ثم كتابة، فاستحسنه جد الاستحسان ووعد بأن يفرغ ما في وسعه في
سبيله، ولو كنت ممن يسعون إلى أخذ المال والتحف لكُنتُ أقدر على استدرار
تلك الكف الواكفة كالسحاب بغير حساب ولا تفرقة بين المستحق وغيره من
العفاة والطلاب، وإذ كان يعلم أنني لا أطلب ولا أقبل عطاء زين له جوده أن
يحتال لتقديم هدية يخلق لها مناسبة فألح عليّ بأن أستأجر دارًا؛ لأن طول الإقامة
في الفندق غير لائق، وقال مرارًا: عليك الدار وعلينا فرشها، فاستأجرت دارًا
واستحضرت لها فرشًا من بلدتي طرابلس الشام بعد أن بلغته بنفسي وبعدة وسائط منها
رئيس أمنائه إحسان بك الجابري عدم القبول، وقد اختلفنا غير مرة في المسائل
السورية حتى تغاضبنا وكان كل منا سريع الفيء لا نلبث أن نعود إلى ما كُنا عليه من
صفاء المعاشرة التي كان يفضلني فيها ويفضل أكثر الناس أدبًا ولطفًا وتواضعًا حتى
كان الخلاف الأخير الذي انتهى بمقاطعتي له بعد تعطيل المؤتمر، على أنني لما
علمت أن الفرنسيس آذنوه بوجوب الخروج من دمشق لم أر بُدًّا من توديعه، وقد
أعرض عنه المتملقون فكنت آخر من ودَّعه ليلاً على قلتهم، وأفضل ما أذكره له من
ولاء بعد جفاء أنه كاشفني بكل ما في نفسه وما ينويه من سعي وعمل، فقلت له: يا
مولاي إن مثل هذا لا يجوز أن يتحدث به، فقال: إنني والله لم أذكره لأحد سواك ولا
لأخي زيد. أفليست هذه الثقة منه يجب أن أعدها له إن لم يعدها أو يمنها هو علي؟
بلى، ولأجلها لقيته وكررت الزيارة إذ جاء مصر عائدًا من أوربة راجيًا أن أستفيد نبأ
منه، وأتوسل إلى ما يجب من النصيحة له، فلم أسمع نبأ يبعث على الارتياح في
مصلحتنا العامة، وصرَّح لي بأنه سيطلبني إلى العراق للعمل معه، ولو كنت أعمل
للمنفعة الشخصية كما يعمل الكثيرون لكانت مجاراة الملك فيصل في ظل بريطانية
العظمى أوسع أبوابها لدي هنالك بعد أن قال لي غير مرة بدمشق: إنه يعدني حجر
الزاوية في كل ما يتمنى من خدمة العرب والإسلام، ولكنني أعتقد أنه لن يستطيع أن
يعمل هو ولا غيره مع السيطرة البريطانية شيئًا إلا لها، ولدي من العلم الذي استفدته
في ٢٤ سنة بمصر ما ليس عنده ولا عند أحد من آله وصحبه، والمسألة المصرية
حجة بالغة ولم تبق خفية على أحد.
وجملة القول: إن علاقتي بهذه الأسرة علاقة مودة واحترام حتى إن الملك
الكبير على شممه وعلو نفسه كان إذا ذكر لي أحد أنجاله الكرام قولاً أو كتابة يقول:
(أحد أولادكم) وكنت من أقدر الناس على الانتفاع منهم لو كنت طالب منفعة
شخصية، وعلى الخدمة للأمة معهم لو سلكوا لها سبيلها، أفلا أكون خليقًا بالخجل
الطبعي من الطعن بخطتهم وسيرهم؟ بلى والله وإن كان بعض مقاصدي بها إمكان
استفادتهم منها، والمصلحة العامة هي التي يرتكب في سبيلها كل صعب،
ويستسهل كل خطب وما أنا بآمن على نفسي من الضرر، الذي لا أعد منه ما كان
من طعن وهذر، وإنما كتبت بعض ما أعلم بالاختصار عند العلم بنجاح المكيدة
البريطانية للعرب بحكومة العراق التي يغتر بها الأغرار، ويستغلها عبدة الدينار؛
لاعتقادي أنه واجب عليّ شرعًا ووطنية، وقد ظهر أنني لو لم أقم بهذه النصيحة
الواجبة لما قام بها أحد، ولكان ذلك خزيًا وعارًا على جميع العرب، ونعوذ بالله من
سوء المنقلب.