للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مسيح الهند

(س٢) من أحد القراء في زنجبار
نكتب ملخص هذا السؤال لكثرة الغلط في عبارته لُغةً وإملاءً وإعرابًا، وهو
أن الدعوة إلى مسيح الهند غلام أحمد القادياني قد بثت في زنجبار بأنه (النبي
المسيح المهدي) وأن مذهب أتباعه ودعاته هو مذهب خوجة كمال الدين الذي في
لندن والإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ويقول السائل: إنهم قد غشُّوا
الناس بهذه الأسماء وصار الناس بالمجادلات حزبين، أحدهما مُصدِّقٌ والآخر مُكذِّبٌ،
وسألنا هل عندنا كتابٌ في الرد عليهم فنرسله إليه؟ ، وقد أرسل إلينا صورة
القادياني التي يوزعونها هنالك.
(ج) إن غلام أحمد القادياني قد ادعى أنه هو المسيح عيسى ابن مريم وأن
الله تعالى قد أوحى إليه بذلك وأن البسملة تدل بلفظ الرحمن الرحيم على أن محمدًا
صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله وأن غلام أحمد القادياني هو المسيح عيسى ابن
مريم، وقد نسخ من أحكام الشريعة الجهاد، وكان يستدِلُّ على صدق دعوته بقصيدةٍ
نظمها وادعى أنها معجزة كالقرآن، على أنها كثيرة السخف والغلط والهذيان،
وبكتابٍ في تفسير الفاتحة سماه (إعجاز أحمدي) ، وأكثره لغوٌ لا يفهم واستنباط
معانٍ لا تدل عليها الألفاظ بحقيقتها ولا بضرب من ضروب المجاز ولا الكناية، بل
هي دعاوٍ باطلةٌ كادعاء دَلالةِ البسملة على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم
ومسيحيَّتِهِ، وكان يتأوَّل الأحاديث الواردة في نزول المسيح عيسى ابن مريم من
السماء في الشام وبكونه يقتل الدجال ويفعل كيت وكيت، أو يردها بزعم أنها
مخالفةٌ للقرآن، والقرآن لا يدل عليه، بل ولا على نزول المسيح عيسى ابن مريم
أيضًا كما بيناه في المنار مِن قبل. والآيتان اللتان استدَلَّ بهما بعضهم على ذلك
ليستا نصًّا ولا ظاهرًا فيه.
فأما قوله تعالى في المسيح: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: ١٥٩) - فإنه لا يدل على ما ذهب إليه بعضهم في تأويل الآية إلا
بتكلُّفٍ بعيدٍ لا مُسَوِّغَ له، كما بيناه في تفسيرها [١] وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ
لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الزخرف: ٦١) بعد قوله
عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا
خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: ٥٧-٥٨) ،
ففي مرجع الضمير في قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} (الزخرف: ٦١) وجهان،
ذكرهما المفسرون: (أحدهما) أنه القرآن، فإنه ذَكَرَ أوّلاً رسالةَ موسى، ثم رسالة
عيسى لأجل الاستدلال بهما على رسالة محمدٍ (عليهم الصلاة والسلام) وصدق
القرآن، (ثانيهما) أنه عيسى عليه السلام، وقد ذكروا لكونِهِ عِلمًا للساعة وجوهًا:
أظهرها أنه إحياؤُهُ لبعض الموتى وحياة صورة الطير من الطين بنفخه فيها، فإنه
دليلٌ يعلم به أن البعث مُمكِنٌ تتعلق به قدرة الله تعالى، وواقعٌ بتأييده تعالى لعيسى،
وجعل إحياء الميت وحياة الجماد من آياته الدالة على رسالته، وقد أوضحنا هذا في
المنار من قبل.
وقد ردَّ عليه كثيرٌ من علماء الهند، وناظروه، ففندوا دعوته، ورددنا عليه
في المجلد الثالث، والمجلد الخامس من المنار، وترجمت ردنا عليه الجرائد الهندية
في حياته؛ فساءه ذلك وآلمه حتى حمله على تأليف كتاب في شتمنا وتهديدنا يُضحك
الثَّكْلَى، سمَّاهُ (الهدى والتبصرة لمَن يرى) فإنه خلط فيه الهزل بالجد، وجمع
بين الذم والمدح، ولم يخلُ من المجُونِ، ووحي شياطين الجنون، ومما توعدني به
فيه زعمًا أنه قاله بالوحي قوله بعد كلامٍ: (وعمدَ أن يؤلمني ويفضحني في أعين
العوام كالأنعام، فسقط من المنار الرفيع، وألقى وجوده في الآلام، ووطئني
كالحصى، واستوقد نار الفتنة وحضى [٢] وقال ما قال، وما أمعن كأولي النهى -
إلى أن قال - سيُهزم فلا يرى، نبأٌ من الله الذي يعلم السر وأخفى) إلخ [٣] .
ولو قدر الله تعالى جعْل وفاتنَا أو نكبة تقع بنا أو بالمنار بعد صدور كتابه هذا-
لادَّعى هو وأتباعُه أنها مصداقُ دعواه، ولكنَّ الله لم يزدنا إلا صحةً وقوَّةً وحُجَّةً،
ولم يزد المنار بفضلِهِ إلا تأييدًا، وانتشارًا، وقبول كلمة، إذ رددنا عليه بعد هذا
عدَّةَ مراتٍ، فكان هو المنهزمَ إلى أن مات.
ولكن كان من الغريب أن أتباعه قد مرنوا على المناظرة والجدل، فانصرف
أناس منهم إلى الدعوة إلى الإسلام في الهند وإنكلترة والولايات المتحدة الأميركية،
وما أعرف لهم بدعةً غير هذه الضلالة الوهمية، التي زاحموا بها البابية البهائية،
ولو تركوها للقي دعاتهم للإسلام مساعدةً وتعضيدًا من جميع المسلمين، وما أدري
أي فائدةٍ يطلبون بإصرارهم عليها؛ فإنهم ليسوا كالبهائية الذين اخترع دعاتهم دينًا
جديدًا ملفَّقًا، أصابوا به مجدًا وعظمةً بإقرار مَن أُشْرِبَتْ قلوبهم الوثنية بأن البهاء
إلههم وربهم، حتى إن خليفته وابنه، الذي فعل في تأسيس هذا الدين ما عجز قبله
أبوه عن مثله، قد لقب نفسه بعبد البهاء.
وكنت أظن أن هؤلاء القاديانية قد رجعوا عن هذه الدعوى الخرافية، حتى إذا
ما زرت الهند جاءني وفدٌ منهم للسلام عليَّ في (لكهنؤ) ودعوني إلى زيارة بلدهم،
فعلمت منهم أنهم لا يزالون على غرورهم، ولم يتسع الوقت لاختبارهم التام
بزيارة بلدتهم، ولا يبعد أن يكون خوجة كمال الدين منهم؛ فإنه ليس من كبار
العلماء الأعلام، وحاشا حكيم الإسلام والأستاذ الإمام، أن يكونا من أهل هذه
الأوهام.