للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين الأفغاني


العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [١]

لسيدنا آية العصر، وسر حكمة الدهر، ودرة تاج الحكماء، وواسطة عِقد
البلغاء، مَن لا تستوعب وصفه الأقلام وما نسقت، والطروس وما وسقت، أستاذنا
الأكبر، الفيلسوف الأشهر، السيد جمال الدين الأفغاني أعزه الله.
إن الممكن بالإمكان الخاص (وهو الذي لا يلزم مِن وجوده ولا مِن عدمه
محالٌ) يكون وجوده بوجود علته، وعدمه لعدمها، ولا ريب في أن السعادة من
الماهيَّات الممكنة بالإمكان الخاص، وأنها العلة الغائية لحركة كل فردٍ من أفراد
الإنسان، حِسِّيَّةً كانت تلك الحركة أو معنويَّةً، إذ لو لوحظت مساعيه آناء الليل
وأطراف النهار، وأخذه بوسائل الحِرَفِ مِن زراعةٍ، وصناعةٍ، وتجارةٍ، وجدّه
في تحصيل العلوم والفنون، وارتكابه المصاعب، في نيل المراتب والمناصب -
ما وجد لها مِن باعثٍ أو داعٍ سوى طلب السعادة، مع أنك لا تجد مَن نالها أو دنا
منها، ولو تنقل في مراتب الشؤون وتقلب في درجات التطورات، وما ذلك إلا
لعدم تحقق علتها، فعلينا أن نبحث عن تلك العلة، وعن الأسباب التي أوجبت عدم
تحققها، حتى يتبين وجه ضلال طلاب السعادة عن أن يصيبوها، فنقول:
إن بين السعادة والصحة شبهًا كليًّا، فكما أن صحة الجسم هي نتيجةٌ ومعلولةٌ
للتناسب الطبيعي بين أعضاء ذلك الجسم وجوارحه، وكمال الاعتدال فيما تكونت
عنه تلك الأعضاء، وحسن قيام كل عضو منها بأداء وظيفته مع مراعاة اللوازم
والشروط الخارجية: من الزمان، والمكان، والمطعم، والمشرب، والملبس،
فيكون زوالها لزوال هذه الأمور كلها أو بعضها، كذلك سعادة الإنسان هي معلولةٌ
للتناسب الحقيقي في الاجتماعات المنزلية، وقيام كلٍّ مِن أركانِ المنزل بأداء
وظيفته، وللتعادل التام في الائتلافات المدنيَّةِ بأن تكون المدينة فيها من الحِرَفِ
والصنائع ما يكفيها مؤنة الافتقار من دون نقصٍ أو خروجٍ عند حد حاجتها مع حسن
التعامل بين أرباب تلك الصنائع، وأن تكون أحكامها تحت قانونِ عدلٍ تساوَى فيه
الصغير والكبير، والأمير والمأمور، وللارتباطات العادلة بين الدول بأن تقف كل
دولة عند حدها، ولا تتعدى على حقوق غيرها، وأن يمهد سبل التواصل بينها
وبين باقي الدول لكمال التعاون والتوازر بين نوع الإنسان، وانتفاع كلٍّ من الآخر،
فيكون حصولها على السعادة بحصول تلك الأمور وفقدها لفقد جميعها أو بعضها.
وهذه الأمور وإن كانت ممكنة الحصول وجدَّ الناس في التماسها ما استطاعوا-
إلا أن هناك مانعًا من الوصول إليها، وهو اعتقاد كلّ كمال نفسه، ونقص غيره،
ونظره إلى أفعاله بعين الرضى، وإلى أفعال غيره بعين السُّخط، وزعمه أنه ما
حاد عن حدِّ الاعتدال، ولا أخلَّ بشيءٍ من واجباته وشؤونه، ولا تقاعدت همته عن
أداء وظائفه في العالم الإنساني، ويتحمل لإثبات ذلك بما تسوله له نفسه من الحجج
والبراهين، وإن أصابه العناء، ونزل به الشقاء، حسبهما من تهاون الغير فيما
يلزمه وإهماله ما يجب عليه مبرئًا نفسه من أسباب ذلك، حتى لو أغفل شأنًا من
شؤونه، يزعم أن قد سُدَّتْ دونه أبواب الإمكان، وتعذَّر عليه القيام به، ولو انتهك
محظورًا من المحظورات لادَّعى أنه لا اختيار له فيه، وإنما الضرورة هي التي
ساقته إلى ارتكابه، فهو مجبورٌ لا مختارٌ، مع أنه لا يلتمس للغير عذرًا فيما يفوته
أو يقع منه، ولو كان في نفس الأمر مجبورًا. ومن ثَمَّ وقع التضارب في الآراء،
والتدافع في الأفعال والحركات، وعمل كلٌّ على نقيض الآخر، فارتفع التناسب
وانعدم العدل وذهب الارتباط.
انظر إلى حال الآباء مع الأبناء والسادات مع الخَدَمَة، كيف أن كلاًّ منهم مع
علمه بأن السعادة المنزلية إنما تُحَقَّقُ بأدائه ما يجب عليه، وجعْل حركته من
متممات حركات الآخر، يخالفه في أفعاله، ويضاده في آرائه، معتقدًا أنه لو لم
يقصر ذلك الآخر في أداء الحقوق المفروضة عليه لاستقرت الراحة المنزلية،
وارتفع العناء، وإلى حال المشتركين في المدينة؛ فإن كل واحد مع جزمه بأن
الراحة والنجاح إنما يكونان بإحكام الصنعة وتهذيبها، وحسن التعامل، وكف يد
الشَّرَه والخيانة، وضبط العهود والمواثيق، واجتناب الكذب والاعتصام بحبل
الصدق والوفاء - لا يرى نفسه مخلاًّ بشيءٍ من ذلك، وإن أخل بجميعه، ويزعم
أن زوال السعادة المدنية إنما جاء من تهاون الآخرين.
وتدبر حال الملوك مع رعاياها تَرَ كلاًّ منهما يرمي الآخر بالإغراق وعدم
الاعتدال، ويتهمه بانتهاك المحارم والحقوق، ويبرئ نفسه من نسبة شيء من ذلك
إليها.
فالملوك - فضلاً عما رسخ في نفوسهم من أن رتبتهم الملوكية إنما هي رتبةٌ
سماويةٌ ساقتها إليهم يد العناية الإلهية؛ بسبب طيب عنصرهم، وطهارة طينتهم -
يعتقدون أن لا قوام للرعية بدون وجودهم، وأن لا غنى لها عنهم؛ إذ هم يحفظون
أموالها، ويحقنون دماءها، ويوفون لكل ذي حق حقه، وينتقمون للمظلوم من
الظالم، ويحرسون الثغور لدفع ضرر المهاجمين، فيرون أن لهم بذلك حق
التصرف في أموال الرعية ودمائها، وأنه يجب عليها طاعتهم، والخضوع
لسطوتهم وسلطتهم، وامتثال أوامرهم، واجتناب نواهيهم، ويرمون الرعية
بالتقصير فيما يجب عليها.
والرعايا يخاطبونهم قائلين: لا مَزِيَّة لكم علينا كما زعمتم، ولستم أطهر
عنصرًا، ولا أطيب طينةً، بل نراكم أناسًا استولى عليكم حب الرئاسة، وأسرتكم
الشهوة واستعبدكم الهوى، فاستمالكم إلى سلب راحتكم، وراحة رعاياكم حرصًا
على التغلب، وطمعًا في توسيع دائرة السلطة، وكسب الافتخار مينًا، وأما
اعتقادكم أن لا قوام لنا إلا بكم فأَنَّى لكم صدق هذا الاعتقاد، وقد أصبحتم كَلاًّ على
كواهلنا: نحن نغرس ونحرث، ونغزل ونحوك، ونفصل ونخيط، ونبني ونشيد،
ونخترع الصنائع، ونتفنن في المعارف، وأنتم تأكلون وتشربون، وتلبَسون
وتسكنون، وتتمتعون بلذة الراحة. وأما ما تعللتم به من حفظ أموالنا، وحقن دمائنا-
إلى آخر ما ادَّعيتم - فذلك إنما نشأ عن العظمة والكبرياء اللذين ثبتت أصولهما
في نفوسكم، أفلا تعلمون أن الحارس والمرابط إنما هو منَّا، وأنَّ الحافظ والحاقن
والمنتقم، إنما هو القانون والشريعة الحقة، وما أنتم إلا مَنُوطُون بحفظها، والعمل
في الناس بها، فإن قمتم بذلك على وجه الاستقامة كان لكم علينا ما يُقَوِّمُ أَوَدَكم،
فكيف ساغ لكم أن تلعبوا بأموالنا، وتعبثوا بدمائنا، وتلقوا بنا في هاوية الشقاوة،
ثم تبتغوا طاعتنا وامتثالنا، وترمونا بالتقصير والتهاون فيما وجب علينا.
وذلك الذي ذكرناه فيما إذا لم يكن الملوك من المتغلبين المباينين للرعايا جنسًا
ومشربًا، وأما المتغلبون من الملوك والمتغلب عليهم، فكل منهما يزعم فوق ما ذكر
أنه الوسيلة لمنفعة الآخر، والواسطة لمصلحته، وأن الآخر قابل حسنته بالسيئة،
ومنفعته بالمضرة.
مثلاً إن الحكومة الإنكليزية المتغلبة على الهنود تخاطبهم بقولها: إني عمرت
لكم المدن (كبمباي) و (كلكتا) و (كراجي) وأمثالها وزيَّنتها بالأبنية الشاهقة،
والقصور الشائقة، ووطَّأت شوارعها، ووسعت مسالكها، ورقشتها بالأغصان
وزخرفتها بمروجٍ وبساتين، ومهَّدت لكم سُبُلَ التجارة، وسهلت لكم أسباب الزراعة،
وفتحت أبواب الثروة؛ بما مددت من الأسلاك البرقية في أرجاء بلادكم، وأنشأت
من الطرق الحديدية في أنحائها. وحفرت من الترع والأنهار، ووضعت من
القناطر، وكذلك أسست لكم المدارس، ورفعت عنكم ظلم النوابين وقهر الراجاوات.
وأنتم مع ذلك أبيتم إلا الشقاق والنفاق، ونبذ الطاعة وسلب الراحة ...
وإن الهنود يجيبونها متظلمين مستغيثين منها قائلين لها: إنك ما عمرت تلك
المدن إلا بعد أن خربت بلادًا كانت زينة الأرض وفخار الأبناء (شيو) و (وشنو)
و (كهكلي) و (مرشد آباد) و (عظيم آباد) و (أكبر آباد) و (الله آباد)
و (دهلي) و (رايبود) و (فيض آباد) و (لكهنؤ) و (حيدر آباد) وغيرها
من البلدان، وإنك ما مددت الأسلاك البرقية ولا أنشأت الطرق الحديدية، ولا
حفرت الترع والأنهار، ولا وضعت القناطر إلا لنزف مادة ثروتنا، وتسهيل سبل
التجارة لساكني جزيرة بريتانيا وتوسيع دائرة ثروتهم، وإلا فما بالنا أصبحنا على فقرٍ
وفاقةٍ وقد نفِدَت أموالنا، وذهبت ثروتنا، ومات الكثير منا يتضوَّر جوعًا؟ فإن
زعمت أن ذلك لنقصٍ في فطرتنا، وضيقٍ في مداركنا، فيا للعجب من أبناء
(بريتوس) الذين مضت عليهم أحقابٌ متطاولة يهيمون في أودية التوحش والتبربُر؛
إذ يعتقدون النقص، وعدم الاستعداد في أولاد (برهما) و (مهاديو) مؤسسي شرائع
الإنسانية وواضعي قوانين المدنية.
وأما المدارس التي تمُنِّين علينا بتأسيسها فلم تكن لمصلحةٍ تعود علينا؛ إذ لو
كانت لذلك لاحتوت على العلوم، والفنون، والصنائع، مع أنها لم تنشأ إلا لتعليم
اللغة الإنجليزية المتعجرفة الخشنة لأبناء اللغة (السنسكريتية) اللغة المقدسة
السماوية حتى تستعمليهم في إدارة مصالحك في تلك الممالك الشاسعة.
وأما دعواك رفع ظلم النوابين، وقهر الراجوات عنا، فمما يُضحك الثكلى
ويُبكي المستيئس الذي جاءته البشرى؛ فإن الظلم إذ ذاك كان قاصرًا على البعض،
وظلمكِ الآن قد عم وطم، وإن الثروة والأُبَّهَةَ والجلالة والشأن التي يزدهي بها الآن
أهالي بريتانيا كان المتمتع بها وقتئذٍ أبناء وطننا؛ إذ النوابون والراجوات وغيرهم
من الأمراء، والكبراء، وحاشيتهم، وخاصتهم كانوا من أبنائنا، ومشاركينا في
الجنسية وكنًَّا نَتِيهُ بهم فخارًا على سائر الممالك والأقطار، فكيف بكِ أن تُمَنِّي
علينا بما مننت زورًا ومَينًا، وإنا لا نراكِ أيتها المتغلّبة علينا إلا كالعلق مصصت
دماءنا، بل كالسَّلاخ سلخت جلودنا؛ لتتخذيها أحذية لنعال البريتانيين، على
أنك لم تكتفِ بهذا وذاك، بل تريدين أن تستعملي عظامنا النخرة لتصفية السكر في
معاملك.
وتبصَّر في شأن الملوك بعضها مع بعض، فإن كل واحدٍ منهم يرى بما أقيم
من الحجج القاطعة - أنه على صراط العدل، وحدِّ الاستقامة، لا يُقدم على محاربةٍ،
ولا يحجم عنها، ولا يضع غرامةً أو يأخذ مِن ممالِكِ الآخر شيئًا إلا وهو في ذلك
مُحِقٌّ عادلٌ، مثلاً ملك الروسيين يحتج لحرب العثمانيين بأن أنين النصارى من
رعاياهم قد ذهب براحته، وتجافى به عن مضجعه، وحرك فيه حاسة الشفقة،
حتى دعته الرحمة والإنسانية للأخذ بناصرهم، واستنقاذهم من أيديهم، وتحريرهم
من رِقِّ عبوديتهم، مِن ... والعثمانيون يدحضون حجته قائلين: (أولاً) لو كنت
مِمَّن تحركهم الشفقة والرحمة لكان الأحق بنيلها رعاياك المتحدون معك في المذهب
من أهالي (لهستان) ، فما دعواك هذه إلا محض الرياء والمواربة، (وثانيًا) أننا
لا نعامل رعايانا إلا كمعاملة الآباء للأبناء بدون تفرقة بين مذهبٍ ومذهبٍ وجنسٍ
وجنسٍ، وأوضح دليلٍ على ذلك بقاؤهم على مذهبهم حافظين للغاتهم وجنسيتهم،
ولو أننا كنا نفرق بين المذاهب والأجناس - كما تدعي - لحملناهم على رفض
مذاهبهم وتغيير لغاتهم، وكنا قادرين على ذلك في وقتٍ لم يكن لك فيه اسمٌ ولا رَسمٌ،
بل لم تكن شيئًا مذكورًا.
وكذلك إمبراطور الفرنساويين - بما ثبت عنده من البراهين البيِّنةِ على طمع
الجرمانيين، وحرصهم، وشرههم - يرى لنفسه الحق في افتتاح الحرب عليهم،
وإمبراطور الألمانيين - بما تحقق لديه من كبر الفرنساويين، وعُجبهم، ومجاوزتهم
الحد في أطوارهم - يحسب أن من الواجب عليه أن يضع عليهم غرامةً باهظةً،
ويتسلط على قطعةٍ واسعةٍ من بلادهم لتذليل نفوسهم، وإضعاف قوتهم؛ ليدفع بذلك
شرهم، ويأمن على نفسه، وأمته من تعدِّيهم.
ودَقِّقِ النظر في شؤون العقلاء، والحكماء وذوي الآراء والمذاهب الذين
يعتقدون أن الحق واحدٌ في نفس الأمر، والواقع لا يتعدد - كيف أنهم بعد اتفاقهم
على أن القواعد المنطقية هي ميزان النظر، وبها يعرف صحيح الفكر من فاسده -
قد انتهج كل واحدٍ منهم منهجًا واتخذ مشربًا يناقض به الآخر، ويعتقد أن دلائله
المُؤَدِّية إليه هي المُنطبِقةُ على ذلك الميزان، وأن لا انطباق لدلائل غيره عليه.
وارجع البصر إلى أحوال السارقين، والقاتلين، ونحوهم من مرتكبي
الفواحش والشناعات في العالم الإنساني - ترَ أنه لا يصدر عملٌ من هذه الأعمال
المُجمَعِ على قبحها من فاعلها إلا بسبب هذه الخِلَّةِ الذاتية، أعني اعتقاده كمال نفسه،
والنظر إلى أعماله بعين الرضى - ضرورة أن الفعل إنما يكون بعد الإرادة التي
لا تكون إلا بعد ترجيح الفعل على الترك، ورؤيته خيرًا منه، وهو عين الرضى
به.
ومن غرائب آثار هذه الخِلَّةِ إبرازها لحقيقةٍ واحدةٍ بصورٍ مختلفةٍ في نظر
شخصٍ واحدٍ على اختلاف مراتبه وشؤونه، فإنك ترى زيدًا من الناس مثلاً، وهو
في رتبةٍ دانيةٍ رؤوفًا بالفقراء، رحيمًا بالضعفاء، شفيقًا على المظلومين، ذامًّا
للبُخلِ والشُّحِّ، مادحًا للكرم والسخاء، مهتمًّا بقضاء حوائج ذوي الحاجات، مدَّعيًا
للعِفَّةِ، كارهًا للانكباب على الشهوة، مستهزِئًا بذوي التكاثر والتفاخر، مُبغِضًا
للكبرياء مُتَنفِّرًا عن الارتشاء، مشمئِزًّا من الإهمال في المصالح العامة، والتهاون
في الواجبات، مستهينًا بالمستبدين بآرائِهم، المعجبين بأقوالهم وأفعالهم، مستقبِحًا
تقديم المفضول على الفاضل؛ لغرضٍ يعود على ذاته مستبشِعًا لإعطاء المراتب
لغير أهلها وحرمان مستحقيها منها، لائِمًا على الغضب، وإسراع العقوبة مستفحِشًا
للسفاهة والبذَاءِ، محبًّا للوطن، مُحاميًا عن الحرية، زاعمًا أنه لو آل الأمر إليه
لقام بصلاح العالم.
وإذا ارتقى إلى رتبةٍ ساميةٍ تجده قسِيَّ القلبِ على الفقراء زاعمًا أن التَّكفُّفَ
صناعة اتخذها أرباب السَّفالةِ والبَطالةِ هربًا من عناء الكسب، جافي الطبع على
المظلومين مستدِلاًّ بأن المتظلمين أولو مكرٍ ودهاءٍ (أو رِياءٍ) يعلنون خلاف ما
يسرون، ويستترون تحت حجاب المَسكنةِ، والالتجاء للتغلب على حقوق غيرهم
بخيلاً شحيحًا متمسكًا في ذلك بأن من مقتضيات الحزم أن تُحرَّز الأموال، وتُودَع
المخازن لوقت اللزوم أو (إن الكرم والسخاء قبيحان عند السويليين من الإفرنج)
مُتوانِيًا في الأخذ بيد المحتاجين متعلِّلاً بتراكم الأعمال عليه في وظيفتِه المهمةِ،
وعدم تمكُّنه من إسعافهم، شَرِهًا شَهَوِيًّا مُحتجًّا بأنه بشَرَهِهِ وانصبابِهِ إلى الشهوة
يؤدي حق الطبيعة، فخُورًا برتبٍ وشؤونٍ ساعَدَهُ على نيلها البخت والصُّدفة بدون
استحقاقٍ، مع أنه ما أدى حقها ساعةً من دهره مُرضِيًا نفسه في ذلك بكلمة العبد
العاجز أو (افتخار أولمسون) [٢] ، متكبرًا، يظن أنه وَقُورٌ من الواجبات عليه
إقامة الحُجَّابِ على بابه، والذائدين عن أعتابه، قيامًا بحق رتبتِهِ، ولازم شأنِهِ،
مرتشيًا يقنع نفسه بأن ما يأخذه حقٌ تبيح له الشريعة أخذه، إما لأنه جُعَالةٌ على
عمله أو هديةٌ من صديقٍ، مهملاً في المصالح العامة متهاونًا فيها معتذرًا بأنه من
آحاد الناس ليس في طوعه تقويمها. وما من مساعد يعاضده عليها. وقد أدى
الواجب على شخصه، مستبدًّا برأيه، معتقدًا أنه قد بلغ من العقل والدراية إلى حدٍّ
تنحط دونه جميع أفكار العالم، ويقصر عن إدراك غايته مدى أنظارهم، مع أنه
أعمى البصر والبصيرة، لا يرى ما تحت قدميه، مُقدِّمًا للمفضول على الفاضل،
مستنِدًا إلى سلامة قلب ذلك المفضولِ ولين عَرِيكتِه وطلاقة وجهه، أي أنه (يهز له
القاووق) وفي رواية (يمسح له جوخ) ، وأنه (سطري لجنابه العالي) [٣] رافعًا
إلى أسنى المراتب مَن لا يليق لأدناها حاسبًا نفسه طبيبًا، روحانيًّا، خبيرًا بأخلاق
العالم وطبائعهم، حكيمًا لا ينظر في أعماله إلا إلى المصالح العامة، غضوبًا،
سريع العقوبة، يحسبها سياسةً وتدبيرًا مدنيًّا، سفيهًا بذيئًا يرى أن الناس لا
يستحقون سوى قبيح فعله، وفحش قوله، ولا يدركون مزية الآداب، ولا يقدرون
الأديب حق قدره، خائنًا لوطنه، ساعيًا في خرابه وإذلال أهله (كأفيالتيس اليوناني)
ويعد نفسه في ذلك مجبورًا ملجأً طالبًا للاستعباد، متشبثًا بأن الحرية لا تليق
بالأهالي لعدم استعدادهم لها، بل إنها مما يوجب فسادهم لو نالوها! ، آيِسًا من
صلاح العالم؛ إذ يراهم لنقص قريحتِه ناقصي الاستعداد فاقدي القابلية، ويزعم أنه
لو كان لهم نوع من التهيؤ للإصلاح لأتمه لهم بسعيه واجتهاده.
ومن أغرب آثارها أن المتخلق بها مع كونه متصفًا بأرذل الأخلاق، وأشنع
الخصال - يعمى عن أنه متصفٌ بها، مثلاً يكون قسيَّ القلب، ويعتقد نفسه رحيمًا.
ومتكبرًا ويرى نفسه متواضعًا. وهكذا باقي الخصال مع أنه لو تلبس غيره بأدنى
رذيلة لأدركها وشد عليه النكير فيها، حتى إنك ترى كل واحد (كأنه) قد جعل
على إحدى عينيه نظارةً معظِّمةً (ميكرسكوب) ؛ ليقف على دقائق معايب معاشريه،
وعلى الأخرى نظارةً رَصدِيَّةً (تلسكوب) ؛ لئلا يفوته أعمال البُعداء عنه،
وعلى إحدى أذنيه موصلة الصوت (تليفون) ؛ لاستراق أخبار الناس كيلا يَعْزُب
عنه شيءٌ من نقائصهم، وعلى الأخرى حافظة الصوت (فنوكراف) ؛ ليستحفظ
قبائحهم؛ لئلا يغيب عنه شيءٌ منها، ويقتدر على استحضارها وقت الحاجة عند ما
يتحرك دولاب حقده وحسده، مع أن أقرب الأشياء إليه نفسه، وهو لا يرى شيئًا
من معايبها، فهو أعمى حديد البصر وأصم قوي السمع.
فتعسًا لها من خلة قضت على نوع الإنسان بالاختلال وسوء الحال، وآذنته
بالشقاء والعناء، وأوقعت الخبط في الأعمال، والخلط في الأقوال، ولبَّست الحق
بالباطل، والزائف بالصافي، والجيد بالرديء، وحسن القبيح، وقبحت الحسن،
وأبرزت المُعْوَجَّ مستقيمًا والمستقيم معوجًّا.
ومَن نظر بعين الحق، وسير الحقائق بنور البصيرة لا يجد لهذه الخِلَّةِ -
أعني اعتقاد كل كمالٍ لنفسه، ونظره إلى أعماله بعين الرضى - علةً وسببًا سوى
حب الذات الذي هو غشاوةٌ على عين العقل، تمنعه من استطلاع الحقائق على ما
هي عليه، ووقوفه عند حد الصواب في سير الأفكار، بل هو متغلِّبٌ على جميع
الإحساسات النفسانية، وحاكم على كلها بالتغيير، بل لا يختص حكمه بها؛ إذ
يتعدى إلى الإحساسات الطبيعية أيضًا، فإنك ترى مشوه الوجه مختل الخلقة رثّ
الثياب، الذي قد تجسدت عليه الأدران والأقذار - إذا نظر إلى صورته بهذه الصفة
الرديئة في مرآةٍ مثلاً، لا يشمئز، ولا يستنكر، وإذا وقع بصره على مَن بلواه في
ذلك أخف مِن بلواه - انفعلت نفسه، واستنفر واستبشع.
وهذا الوصف - أعني حب الذات الذي هو علة الشقاء والعناء - من
الأوصاف اللازمة لذات الإنسان ما دام موجودًا، فلا ينفك الإنسان عنه، ولا هو
يزايله، فإذن لا حيلة، ولا خلاص من بلاياه ونكباته إلا باستعمال الإنسان عقله
ورجوعه إليه في جميع أموره، والخروج من رِبقةِ عبوديةِ سلطانِ حب الذات،
ورفض أحكامه، وذلك أن يحكم على نفسه بما يراها عليه في مرآة غيره، لا في
مرآة نفسه، (ما أجملك أيها الإنسان المعجب في مرآة نفسك، وما أقبحك في مرآة
غيرك!) .
وهذا الذي ذكرناه هو العلاج الحقيقي، والوسيلة العظمى لوقوف كلٍّ عند حده،
وسعي كل لاستكمال نفسه، اللذين هما مدار السعادة.
ولسنا نذم حب الذات بجميع أنواعه؛ فإن منه ما قد يعود بسعادةٍ ما على
طائفةٍ من الطوائف، أو أمةٍ من الأمم، وهو حب الذات الداعي إلى طلب المحمدة
الحقة [٣] وهو الذي يرتقي بصاحبه إلى توجيه أفكاره وأعماله نحو المصالح
العمومية، بدون أن يطلب في ذلك شيئًا سوى الحمد، وخلود الذكر، والسلام على
مَنِ اتبع الهدى، ورجَّح العقل على الهوى.