للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شكيب أرسلان


كوارث سورية في سنوات الحرب
من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي
مشاهدات ومجاهدات
شاهد عيان وهو الأمير شكيب أرسلان

(مقدمة)
قد التقينا في أوربة بصديقنا القديم الأمير شكيب أرسلان الشهير بعد افتراق
بضع سنين، وكثر اجتماعنا به في جنيف (سويسرة) ؛ بسبب الاشتراك في
أعمال المؤتمر السوري الفلسطيني، وفي سياحتنا في سويسرة، وألمانيا، وفي
هذه الأثناء سمعنا منه أخبارًا تفصيليَّة لفظائع جمال باشا في سورية، وما كان من
معارضته له بالحسنى، ثم بالمغاضبة، فتمنينا لو تُنشر هذه الوقائع لبيان الحقيقة
التاريخية؛ فإن معرفة حقيقة تاريخ الأمة هو الوسيلة الأولى للنهوض بها،
والصعود في مراقي الحياة بين الأمم، وضرر الجهل به، والكذب فيه كضرر
الجهل والكذب في بيان أحوال المريض، وأعراض أمراضه للطبيب الذي يعالجه،
وقد كانت الحقائق التي سمعناها منه ومِن غيره في أوربة مؤيدة لرأينا في جمعية
الاتحاد والترقي، وفي تأثير سياستها في الأمة التركية، والدولة الألمانية كما سنبينه
في التعليق على هذا المقال بعد، ولرأينا في الأمير شكيب نفسه أيضًا، وهو ما
نبيِّنه في هذه المقدمة:
الأمير شكيب مِن أشهر كُتاب سورية وأدبائها، بل لا أبالغ إذا قلت إنه لا يُلزُّ
به قرينٌ منهم في مجموع مزاياه كجَوَلان قلمه في جميع ميادين المنظوم، والمنثور
والوقوف على دقائق السياسة، وشؤون الاجتماع، والعمران، وفصاحة اللسان في
الخطابة والمناظرة، وله في الكتابة السياسية والاجتماعية أسلوب خاص يشبه
أسلوب الحكيم ابن خلدون، وكانت سياسته الوطنية السورية محصورةً في وجوب
الإخلاص للدولة العثمانية، مهما يكن حال سلطانها ورجالها، في إدارتها وسياستها؛
لاعتقاده أنه إذا زالت سيادة الدولة العثمانية عن وطنه الخاص (لبنان) ، وسائر
سورية، وسقط تحت سلطة دولة أوربية فإنه يذل ويخزى، وكان له خصومٌ
كثيرون في سياسته هذه، أكثرهم مِن نصارى الجبل المشايعين لبعض الدول
الأوربية، ومبغضون آخرون لا مثير لبغضائهم إلا الحسد، أو التعصب الديني،
أو المذهبي. وهو من مريدي أستاذينا موقظ الشرق الأستاذ الإمام المصري،
والسيد جمال الدين الأفغاني، وله غيرةٌ على دينه الإسلامي، ودفاعٌ عنه لا يطيق
صبرًا على مَن نال منه بلسانه أو قلمه، على أنه لطيف التساهل فكِه المعاشرة،
وله أصدقاء كثيرون في بلاده السورية، وفي مصر والآستانة وأوربة مختلفو الملل
والأجناس، ولكنه حديد المزاج، ألد الخصام، فهو كما قال ابن دريد:
سهل إذا لوينتُ لَدْنٌ معطفي ... أَلْوَى إذا خوشنتُ مرهوب الشَّذَى
ولهذا يبالغ في وده أصدقاؤه، ويغلو في عداوته خصماؤه، وإنما شذاه في
نضال الأعداء، هو ما يعهد في مجالدة الأدباء، ومجادلة العلماء، لا يكاد يعدو
كلوم الكلام، بوخز أسلات الألسنة، وأسنَّة الأقلام، فهو أديبٌ متديِّنٌ، ينفر من
الاعتداء على الأنفس والأموال، وشجاع يترفع عن دنيئة السعاية والإغراء.
وقد كان الكثيرون من الناس يزعمون أنه ليس له مبدأٌ أو مذهبٌ في السياسة
ثابتٌ، وإنما يدهن للدولة، ولكُبراء رجالها لأجل المنفعة، وأكثر هؤلاء من حُساده
أو مخالفيه في مذهبه السياسي، وبعضهم كانوا ينكرون عليه مشايعته للحميديين في
عهد عبد الحميد، الذي كان يطريه بالنظم والنثر، ثم مشايعته للاتحاديين عند ما
صاروا في الدولة أصحاب النهي والأمر، وأنه لم يكن من طلاب الإصلاح للدولة
في جملتها، ولا لبلاده السورية أو العربية في خاصتها، وعندي أن مثله في هذا
كمثل مسلمي مصر والهند وغيرهما من الأقطار البعيدة يريد من مشايعة مَن بيده
زمام الدولة تأييدها على الأجانب لا الرضى بسوء الإدارة أو السياسة، وقد كنت أنا
من هؤلاء المنكرين عليه تشيُّعه للاتحاديين، ودفاعه عنهم على علمي بما ذكرت
من مذهبه السياسي في تفضيل الدولة على جميع الأجانب، وإيثارهم عليها مهما
تكن حالها؛ لأنني كنت على هذا المذهب بحزب اللامركزية العثماني منذ عقلت
السياسة، ولا أزال عليه مثله. وقد كان سيئ الظن بحزب اللامركزية العثماني الذي
كنت أحد مؤسسيه، وطعن في الحزب، حتى نالني من طعنه بالباطل ما نالني، على
ما كان يُحمد من خدمتي للإسلام، وإخلاصي للدولة، حتى إنه أطراني بمقالٍ نشره
في المؤيد، بزعمه أنه إذا اختير من العالم الإسلامي مئةٌ، ثم من المئة عشرةٌ، ثم
من العشرة واحدٌ - لكنت ذلك الواحد، ولم أرد عليه لعِلمي بالشبهات التي مكنت
ذلك الظن السيئ في نفسه.
ولما علم ما كان من أنباء تنكيل جمال باشا بالسوريين في أثناء الحرب أشيع
أن الأمير شكيبًا معه، وأنه مساعدٌ له على سياسته الطورانية في سورية لشبهات
روّجها أعداؤه وحُسّاده، حتى صدق التهمة غيرهم، ولما علمنا منه أخيرًا أن الأمر
بضد ما قالوا اقترحنا عليه أن يكتب لنا مذكرةً بما سمعناه منه، أو مقالاً فيه لننشره
في المنار؛ إنصافًا له وللتاريخ، وقطعًا لألسنة المتقوِّلين، فأجاب طلبنا معتذرًا عما
استلزمه من تزكية المرء لنفسه، وقد نهى الله تعالى عنها، وقد جاء ما كتبه رسالةً
طويلةً، فجعلناها عدة فصولٍ، وضعنا لها عناوين من عندنا، واختصرنا قليلاً منها،
ومنه اعتذار الكاتب، وهضمه لنفسه في فاتحتها، وها نحن أولاء ننشرها تباعًا،
قال الكاتب:
١- التأليف بين السوريين واستعطاف الدولة على النصارى منهم:
عند ما نشبت الحرب العامة، وقبل دخول تركية بها، بل أثناء تأهبها
للدخول كنت في الآستانة، وكان قائد الفيلق العثماني في سورية الفريق زكي باشا،
فأبرق إليَّ أنور باشا ناظر الحربية يطلب تعجيل مجيئي إلى سورية لاحتياج الحالة
إلى وجودي فيها يومئذٍ، فأشار عليَّ أنور باشا بسرعة السفر، وإفادته ما أراه
مناسبًا مِن التدابير، فسافرت إلى سورية، وبعد وصولي بمدة دخلت الدولة في
الحرب، وحصل تخوفٌ عظيمٌ، لا سيما عند إخواننا المسيحيين، فتكلم معي كثيرٌ
منهم في خطورة مركزهم، وما يخالج ضمائرهم، فسكَّنت خواطرهم، وأخذت
على نفسي أنه لا يصيبهم أدنى سوء ماداموا هم ملازمين السكون والطاعة للدولة.
ثم أخذت ألقي المواعظ على المسلمين، وعلى غيرهم مِن الفرق الإسلامية، ولا
سيما الدروز بوجوب مصافاة المسيحيين، وحسن معاملاتهم أكثر مما يجب في كل
وقتٍ، وأظن أن ألوفًا من أهل جبل لبنان مِن كل طائفة يشهدون بذلك، ثم أبرقت
إلى أنور باشا بما عليه بطريرك الموارنة من الإخلاص للدولة، وما لا يزال ينصح
به طائفته من وجوب التمسك بالتابعية العثمانية، ويأمر به كهنته مِن الدعاء بنصر
الجيش العثماني، وبرقيتي هذه لا بد أن تكون مسجلةً في سجلات بيت التلغراف
في بيروت، فلا أستشهد بشيءٍ إلا وشاهده حاضرٌ لأي مَن أراد التحقيق.
٢- مسألة جمع أسلحة النصارى:
استشارني زكي باشا القائد المشار إليه في جمع أسلحة النصارى بقوله: إن
عندهم في لبنان بنادق كثيرة، وربما تُنزل الأعداء عساكر في سواحل سورية،
فينضم النصارى إليهم، فحذَّرته من هذا العمل قائلاً: إنه لا لزوم له، ولا يكون له
نتيجة سوى قلق الخواطر، وسوء الظن بأن مقصد الدولة تجريدهم من السلاح
لأجل الغدر بهم، فلم يكتفِ بملاحظتي الشفوية التي قلتها له في دمشق، بل أمهلني
ريثما ذهبت إلى بيتي في جبل لبنان، وحرر إليَّ كتابًا رسميًّا طلب مني فيه إذا
كنت مُصِرًّا على عدم جمع سلاح النصارى أن أكفل عدم تحفزهم لقيام ما على
الدولة. فجاوبته بما يؤيد كلامي له قبلاً، وأكدت له أنني أكفل بنفسي المسيحيين أن
لا يأتوا بأدنى حركةٍ على الدولة، ولأجل أن يزداد طمأنينةً قلت له في جوابي على
سبيل الفرض: إن بدا منهم شيءٌ مِن هذا القبيل فإنني أمشي عليهم بالدروز قبل أن
يزحف العسكر العثماني، فسكت عن هذه المسألة مِن بعد هذا الجواب. وكتابه
محفوظ عندي، ولا شك أن جوابي محفوظٌ في أوراق الحربية العثمانية. ولم أخبر
بهذه المسألة سوى بكر سامي بك الذي كان والي بيروت وقتئذٍ، فصوَّب رأيي هذا،
وكذلك أسررت بها إلى صديق حميمٍ لي، وهو الطيب الذكر المطران باسيليوس
الحجار مطران الكاثوليك في صيدا، وأوصيته جدًّا بكتمان هذا السر؛ لأنه من
الأسرار التي يعاقَب على إفشائها بأشد العقوبة، فكتمه بالرغم منه لإقناعي إياه
بالخطر على حياتي إذا علمت الحكومة العسكرية بأنني أطلعت عليه أحدًا، وكان
يتلهف إلى ساعة وفاته على كونه لا يقدر أن يخبر النصارى بما كنت أسعى به
لأجل المحافظة عليهم، مع أن الكثيرين منهم يرمونني بخلاف ذلك تحاملاً وتعصبًا.

٣- حمل جمال باشا على احترام بطرك الموارنة:
ولما نقلت الدولة زكي باشا من قيادة جيوش سورية، وجعلت بدلاً عنه أحمد
جمال باشا، ورد عليَّ بواسطة بكر سامي بك والي بيروت تلغراف رقمي من أنور
باشا بأن جمال باشا عُيِّن قائدًا للحملة المصرية، وأنه هو - أي أنور - أوصاه بي،
فحضر جمال إلى الشام، وأول ما واجهته قال لي إنه سيستقدم بطريرك الموارنة
إلى دمشق، ويأمر بإقامته بها، فبقيت يومين أراجعه بكلامٍ يلين الجوامد، وأبين له
مقدار ما يكسر ذلك مِن خاطر الطائفة المارونية، على حين أن هذه الطائفة -
وسائر المسيحيين - لا يريدون شيئا سوى رضى الدولة عنهم، فنظرًا لكونه حديث
العهد بالمجيء، وموصى بي من الآستانة اقتنع بكلامي، وقال: ماذا يصنع إذًا أفلا
يأتي البطريرك للسلام عليَّ؟ ، قلت له: إن البطريرك لا يأبى أن يسلم عليك،
لكنه عدا علوّ سنه مريض، وسيرسل إليك أساقفة ينوبون عنه بالسلام عليك،
فقال: لا أقبل إلا إذا كانوا من الدرجة الأولى، فقلت له: يأتي أكبر الأساقفة،
ومتى نَقه البطريرك يقدم بنفسه. وهكذا حفظت شرف البطريرك مِن أن يعرض
للغض، وأخبرت عما جرى نجيب باشا الملحمة الذي كان يومئذ بالشام، وكان ذهب
معي إلى جمال باشا، ففرح نجيب كثيرًا بهذا الخبر، وقال لي: اكتب التلغراف الذي
تريده إلى البطريرك؛ لأجل أن أمضيه، فأبرق إلى البطريرك بإرسال المطارِين،
وبلغني أنه كتب عما فعلت مِن جهة منع استقدامه؛ لأنني بعد عودتي إلى الجبل
صرت أسمع الثناء والشكر مِن أكثر مَن ألقى من الموارنة، ومن جملتهم حبيب باشا
السعد الذي قال لي: لا ننسى محافظتك على بطركنا، والرجل حي يُرزق،
والبطريرك نفسه حيٌّ، فلست مستشهدًا بغائبٍ، ولا بميت والحمد لله.
ثم إن البطريرك، وحبيب باشا المشار إليه اقترحا عليَّ أن يكون ذهاب وجوه
النصارى من لبنان إلى الشام للسلام على جمال باشا وفدًا واحدًا مع وجوه الدروز،
هذا إذا وافق ذلك هواي، فاستحسنت ذلك، وانتخبوا هم الوفد المسيحي، وانتخبت
أنا الوفد المحمدي، وتلاقى الوفدان بدمشق، وكان المقصد مني - ومن البطريرك
ومن حبيب باشا - أن نعلن للحكومة العثمانية اتحادنا في لبنان، وأنه ليس بيننا
خلافٌ، فلا تمتد يدٌ بالتضريب فيما بيننا، وما أظن أحدًا يقدر أن ينكر كون مثل
هذه السياسة تدل على حسن النية وحب السلام.
٤- بدء جمال باشا بمؤاخذة بعض وجهاء لبنان:
ثم إن جمال باشا استقدم عدةً من وجوه الجبل الذين كان يبلغ الدولة منذ زمن
طويل - أنهم يحطبون في حبل الأجانب، هذا في حبل الفرنسيين، وذاك في حبل
الإنكليز ... إلخ، وأمر بإقامتهم بدمشق، وكنت يومئذٍ في لبنان أجمع متطوعين
للذهاب إلى حرب الترعة، فلما ذهبت بالمتطوعين إلى دمشق تلاقيت مع حبيب
باشا السعد في محطة البرامكة، فقال لي: إن جمال باشا أمر بإقامتي بالشام مع
غيري، وإنما أذن لي بالذهاب إلى البيت لجلب ثيابي، فذهبت توًّا إلى جمال باشا،
وفتحت له هذه المسألة أمام خلوصي بك الذي كان واليًا بالشام، واعترضت بحدة،
فأجاب أنه لا يقبل مني تعرُّضًا لموضوع لم يسألني هو عنه، فقلت له: إنما
تكلمت لكوني أدرى بأمور بلادي، وبعد الآن لا أتكلم بشيءٍ، وخرجت مغاضِبًا.
وفي اليوم التالي ذهب جمال إلى زحلة لاستعراض الجند، فشاهد حبيب باشا، فأذن
له بالانصراف، وعاد إلى الشام، وطيَّب خاطري، وأنا سافرت إلى الترعة عن
طريق معان، وسافر جمال إلى القدس، وفي أثناء وجوده في القدس أبرق إليه
بعض الأساقفة المارونيين يلتمسون إطلاق سراح الذين كانوا مأمورين بالإقامة
بدمشق، فغضب مِن تدخل الأساقفة فيما لا يعنيهم، وأمر بنقل أولئك الجماعة إلى
القدس، ولما رجعنا من حملة الترعة أمر جمال بمجيئنا إلى القدس، فوجدت
الجماعة المذكورين هناك، فرجوته أن يطلقهم، مع أن بعضهم كانوا مِن ألد
خصومي، فلم يُجب سُؤْلي إلا في المرحومين خليل بك الخوري، وسليم بك
المعوشي، وكانا لم يصلا إلى القدس، فأمر برجوعهما، فطفق المفسدون يتقوَّلون
بكوْني أنا الذي أشار بنفي الآخرين.
٥- رد شبهة عن الكاتب واستبداد جمال باشا:
وطالما تشدقوا بهذا الاستدلال في مسائل أخرى قائلين إذا كان الأمير شكيب قد
أنقذ فلانًا من النفي، وفلانًا من القتل، وفلانًا وفلانًا، فهذا أوضح دليل على كون
ما وقع من أعمال جمال القاسية هو برأي الأمير شكيب. وكل مَن عنده ذرة من
المنطق يسلم بأنه إن كان أحدٌ من ذوي النفوذ تمكن بحظوته لدى حكومة أو حاكم أو
قائد أن يخلص فردًا أو أفرادًا مِن عقوبة - فلا يقتضي ذلك أنه كان يقدر أن يخلص
كل من يراد عقابه، وأن يستولي على الدولة، وأن يتصرف بالأحكام العرفية،
والمجالس العسكرية، وبإرادة القواد والولاة، وهم مئاتٌ وألوفٌ، ونحن نرى أن
أمورًا قد يأتيها أحد العمال خلافًا لرأي رئيسه أو رؤسائه، ولا يقدرون على منعه،
وأن جمال باشا بالتخصيص قد أتى أمورًا لم يكن يوافقه عليها طلعت الذي كان
روح السلطنة، ولا أنور الذي كان ناظر الحربية، وأنه لما شنق الذين شنقهم ثاني
مرة الزهراوي وشفيق المؤيد ورفقاءهما كان البرنس سعيد حليم الصدر الأعظم
نفسه خاليًا من علم هذه الحادثة، فأبرق إليه محتجًّا بشدَّةٍ، ويقال: إن قتل أولئك
الجماعة بدون قرار مجلس النظار كان سبب استعفاء خيري أفندي الأركوبي شيخ
الإسلام , وكان السلطان محمد رشاد نفسه يبرئ نفسه من العلم بمقتل أولئك الجماعة.
وأغرب من ذلك أن شلبي أفندي شيخ المولوية (وهي أكبر طريقة في تركية،
وكان المرحوم السلطان محمد رشاد ينتمي إليها) - لما ذهب بألوفٍ من مريديه
مجاهدًا في سورية رأى من غطرسة جمال ما لم يعجبه، فاستأذن في المجيء إلى
الآستانة، فأذن له جمال على شرط الرجوع وكان من المقربين جدًّا إلى السلطان،
فشكا إليه الأمر، وظن أن السلطان يُصدر إرادته السنية ببقائه في الآستانة، فكان
من السلطان أن همس في أذنه همسًا قائلاً له: لا ترجعْ إلى سورية، لكن لا تقل
إنني أنا قلت لك ذلك، أفلم يروا كيف أن جمالاً شنق في إستامبول صالح باشا خير
الدين صِهر الأسرة السلطانية في دعوى قتل محمود شوكت، وجاءت امرأة صالح
باشا - وهي ابنة أخي السلطان - تشكو إليه، وتؤكد له براءة زوجها، فتكلم
السلطان مع جمال في استبقاء صالح باشا في الحياة على الأقل، فلم يقبلوا منه،
وكان التشديد من جمال، كما كان يروي ذلك هو عن نفسه. أفبعد هذا يقال: لماذا
لم يمنعه شكيب أرسلان عن قتل زيدٍ ونفي عمرٍو؟ !
ثم إنه لما أراد إعادة الذين كانوا في القدس إلى أوطانهم أبرق إلى رضا باشا
قائد لبنان أن يسألني رأيي في إطلاقهم، فأجبته أنه لا يوجد من ذلك أدنى محذورٍ،
وأنا كفيلٌ لهم (مع أن منهم خمسة أشخاص كان مقطوعًا بيني وبينهم حتى السلام
والكلام) ، وأبرقنا بذلك إلى القدس، فأطلق نصفهم، ثم قبل إطلاق النصف الآخر
ألقوا عليَّ السؤال نفسه، فأجبت كأول مرة، وأظن أن هذه التلغرافات مقيدة مسجلة،
فلا تصعب مراجعتها.
٦- الشفاعة في الثلة الأولى من ضحايا جمال:
عندما قبض جمال باشا على رضى بك الصلح، وعبد الكريم الخليل، وعدة
من المتهمين الذين شنق منهم ١١ رجلاً، وهي القافلة الأولى، لم أترك وسيلة من
الوسائل إلا استعملتها؛ لأجل إقناعه بالعفو عنهم، وإفهامه ما يترتب على فتح هذه
المسألة من الضرر للدولة والملة، وفي إحدى المرار بينما كنت ألح عليه في
الرجاء - وكنا في صوفر -قال لي: كنت أحب أن أطلعك على المكاتيب التي من
بعضهم إلى بعضٍ بالحث على قتلك (يشير إلى مكاتيب واردة إلى سورية من حقي
بك العظم يحث فيها على ذلك) ، فقلت له: هذه كتابات لا ذنب لهم فيها، ومع هذا
فلسنا الآن في ضغائن شخصيةٍ، وإنما أنظر إلى المسألة من وجهة سياسة الدولة،
فلا أجد فتح هذا الباب في محله، ولكثرة مراجعتي إياه كتم عني نيته إلى أن أنفذ
فيهم ما أراد، ومن بعد ذلك ابتدأ الخلاف بيني وبينه تدريجيًّا بحسب تزايد شدته،
ومن جملة مَن راجعتهم في أمر نصحه بترك هذه الشدة - من ولاة الدولة - عزمي
بك والي بيروت وخلوصي بك والي الشام وعزمي بك الآخر والي الشام بعد
خلوصي، وتحسين بك والي الشام بعد عزمي، وعلي منيف بك متصرف لبنان،
وعلي فؤاد بك رئيس أركان حرب الفيلق الرابع، وكلهم أحياء لم يمُت منهم سوى
خلوصي بك.
ولما أرسلت الدولة سنة ١٩١٦ وفدًا تركيًّا إلى سورية مؤلفًا من بضعة عشر
شخصًا من نواب الأمة، وأركان الدولة منهم صلاح جيمجوز بك مبعوث الآستانة،
وعصمت بك مبعوثها أيضًا، ووالي الآستانة سابقًا - التمست منهم أن يتوسطوا
في أمر الرخصة لي بالذهاب إلى الآستانة؛ لأنه كان يمنعني إلى ذلك اليوم من
الذهاب إليها بحجة احتياج المصلحة إليَّ في سورية، والحقيقة - وقد صرح بها
أخيرًا - أنه كان يعلم أنني لو وصلت إلى الآستانة لأظهرت هناك كل ما جرى،
وحملت على سياسته حملةً شديدةً، ولا يقدر أن يتهمني هو بسوء النية؛ لأن الدولة
تعلم صداقتي لها؛ ولذلك أخذ هو يتكلم مع صلاح جيمجوز، وعصمت في أسباب
الجفاء الذي حصل، وأنه من أجل التدابير الشديدة التي يراها ضرورية لسلامة
المملكة، مع أني أنا غالبةٌ عليَّ صفات الشاعرية ورقة القلب، ويهمني أن أُرضي
أبناء وطني، وأجيب رجاءهم، ولو بخلاف المصلحة، حتى تشفَّع إليَّ لأناس
كانوا يعملون لقتله! ، وكاشفته بذلك، فقال: لا تعلم مقدار اللذة التي يجدها الإنسان
في استحياءِ مَن كان يريد قتله!
٧- الشفاعة في الثلة الثانية من ضحايا جمال باشا:
لما قبض جمال على الفرقة الثانية (العسلي والشمعة وشفيق المؤيد
والزهراوي ورفاقهم) ، واجتمع في عاليه نحو من ٧٠ معتقلاً - أخذنا نستعطف
خاطره؛ لأجل إطلاقهم، ونبين له الفوائد السياسية في العفو عنهم، وما تصاب به
الدولة من الأضرار بالنكال بهم، وحملنا علي فؤاد بك رئيس أركان الحرب على
الكلام معه في هذا الموضوع لما كان له من نفاذ الكلمة لديه، وأكدنا الرجاء الشفوي
بالرجاء كتابةً أولاً، وثانيًا، فلم تكن تعجبه هذه المساعي مني، ولم تسؤْه إلا عند
ما كلمت عزمي بك والي الشام في ذلك، وكان تعيينه لتلك الولاية بدون علمه،
فاحتج على تعيينه وطلب صرفه، فاستمهلوه ثلاثة أشهر، بعدها عاد عزمي
المذكور إلى الآستانة، وقبل سفره من دمشق ذهبت إليه في دار الولاية، وطلبت
منه مقابلة سرية، وقلت له في مبدأ خطابي إنني مودع هذه الكلمات شرفك، وأرجو
أن لا تعيدها إلا إلى طلعت بك ناظر الداخلية، وهي أن تمادي جمال باشا في
إرهاف الحد سيكون منه خطر على سورية، وينشأ عنه شقاق طويل بين العرب
والترك لا نهاية له. ولما كان جمال باشا لا يسمع ما نسمعه نحن أبناء البلاد، ولا
يجْرُؤ أحدٌ أن يقول له الحقيقة - فهو يظن أن الناس راضون بأعماله، وليس هناك
من راضٍ، ولا من مستحسن، حتى أنفس الذين يمتدحون لديه أعماله، ويملؤون
مجالسه نظمًا ونثرًا - تراهم يتهامسون فيما بينهم بوخامة العاقبة، وأنا صدقت إلى
اليوم مع هذه الدولة، وأعتدّ عدم تحذيري، وإنذاري إياكم بما ينفث في روعي من
هذه الجهة خيانة، وأخشى أن تقولوا في يومٍ من الأيام لماذا لم تنبه أفكارنا وتجهر
بالحقيقة؟ ! ، فها أنا ذا آتٍ لأقول لك الحقيقة بكل صراحة؛ لتبلغ طلعت بك ما
قلته لك بتمامه. فتأمل قليلاً، وقال: لماذا لم تراجع أنت جمال باشا؟ ، فقلت: قد
تكلمت معه مرارًا، وكتبت إليه تقارير، واستعنت بعلي فؤاد بك، ولم أَرَ منه دليلاً
على الرضى، وأخاف أن يصيب هذه القافلة الثانية ما أصاب الأولى، فتكون
المصيبة أطم والعاقبة أوخم، فقال لي: أنا لا أقدر أن أشافه بذلك طلعت بك كما
تريد؛ لأنه كالطعن في سياسة جمال باشا، مع أنني أنا أحترم هذا الرجل، وإن
شئت أقول أنا لجمال باشا نفسه. فلم يسعني إلا أن أقول له حسنًا تفعل إذا نصحته
بشرط أن تجعل الكلام منك لا مني، وبعد يومين من هذه الجلسة جاءني أحد
الشرطة يدعوني إلى (القرار كاه العمومي) أي محلة القائد العام، وذلك بخلاف
العادة إلى ذاك الوقت؛ إذ كان قبلها يدعوني دائمًا بواسطة ياور من قِبَله، فلما
ذهبت وجدت لونه متغيرًا، وصكّ الباب، وقال لي: إنه لم يحترم الآن أحدًا في
سورية نظيري لا لسبب سوى حسن أخلاقي ... إلخ، ولكن بدأت منذ مدة أتدخل
بما لا يعنيني، وأنتقد أعماله، مع أنه هو القائد، وهو المسؤول وهو وهو ... إلخ،
فقلت له: إنني غير موافق على خطة إرهاف الحد، وأخشى إذا سكتُّ أن أكون
مسؤولاً تجاه دولتي وملتي، بل تجاه ضميري، فقال لي: قلت وكتبت وبينت
فكرك وأرحت وجدانك، وهذا كافٍ، ولكنك لا تزال مواصلاً مساعيَك، غير راجعٍ
عن إصرارك، حتى ذهبت تستنجد عزمي بك، وتقول له هكذا بالحرف: قل
لطلعت بك يكتب إلى هذا الرجل ليخفف من هذه الشدة! . فلم أنكر شيئًا من هذا
الحديث، وقلت له: نعم لما قطعت أملي منك رأسًا - ظننت أنني أقدر على
استعطاف خاطرك بواسطة طلعت، وأنت تعلم أنني شخصيًّا ممنون لك، وأنك لا
تعامل أحدًا في سورية بمثل ما تعاملني به من الرعاية؛ إذ لا يحملني على هذا
السعي سبب شخصي، بل مجرد إخلاصي لدولتي، ووطني، ولشخصك أنت؛
لأنني أخشى أن يحمِّلوك في يومٍ من الأيام جميع عبء هذه المسؤولية. فقال: كن
مستريحًا من جهتي، ولا تظن أنني مقيَّدٌ بخاطر طلعت ولا غيره، ثم سكت قليلاً،
وقال: أتظن أنني أفعل ما أفعل بدون مشاورةِ رفقاء لي؟ ! ، ثم أنهى كلامه قائلاً:
إنني أنذرك بأن لا تتدخل من بعدُ في هذه المسائل التي هي منوطة بي
وحدي إلخ.
٨- خيبة التوسل بأنور باشا وظهور خوفه من جمال باشا:
ولما جاء أنور باشا سورية، وكان السهم لما ينفذْ في القافلة الثانية -
افترصت زيارته لخلاصهم، فحرص جمال جد الحرص على منع المخالطة له
طول هذه السياحة من الآستانة إلى المدينة المنورة، حتى إنني لما طلبت منه
الاجتماع في جلسة سرية في (أوتل بترو) في دمشق لم أكد أبدأ معه بالحديث حتى
عرف جمال باشا بواسطة أحد عيونه - الذين كانوا محيطين بأنور ليلاً ونهاراً -
فجاء، ودخل علينا بغتةً بدون استئذان، وقال لأنور: نحن مدعوون عند فخري
باشا أفلم يحن الوقت للذهاب؟ فنظر إليَّ أنور، وقال: ألا يمكن إرجاء الحديث
إلى الغد؟ وكان صباح ذلك الغد موعد سفره، فقلت له: لي كُليمات لا يأخذن إلا
بضع دقائق؛ فاصفرَّ لون جمال حتى صار كالكهرباء، وخرج، وأنا أكملت حديثي
مع أنور بمعنى العفو عن المعتقلين الذين في عاليه، وجعل ذلك العفو إحدى نتائج
سياحته، بحيث تكون له هذه المنَّة على أبناء العرب. على أنه كان يرى أنه لا بد
من الحكم، فليكن بالنفي لا بالعدم؛ لأن النفي يلحقه العفو، وأما العدم فهو غير
قابل التلافِي، فلم يزد أنور في جوابه على قوله: سأوصي، وأبذل جهدي، ولكن
كان كلامه ضعيفًا، وكانت عليه علامة الحيرة. فعلمت أنه عاجز عن مقاومة جمال،
أو أن هذا نال من أكثرية الرفاق قرارًا أصبح مبرمًا لا يقدر أنور على نقضه. ثم
أسرع أنور بالخروج ليرى جمالاً أن الجلسة بيننا لم تطُل، وكان جمال واقفًا أمام
الباب ينتظر عمدًا لكيلا تطول الجلسة، فقال له أنور: يحكي لي شكيب بك في أمر
الذخيرة (وهي القمح في عرف الترك) ، فلم يجاوبه جمال؛ لعلمه أنني ما تكلمت
إلا في مسألة معتقلي عاليه. ورأيت أنا بعيني ساعتئذٍ من ضعف أنور بإزاء جمال
ما لا أنساه، وما أكد لي ما كان يقال من أنه كان يبرق إليه كثيرًا من الأحيان قائلاً:
أنا حر في مِنطقتي، مسؤولٌ عنها، وليس لك أن تعترضني بشيءٍ. على أنني
لم أكتفِ بهذه الكليمات مع أنور، بل ذهبت إلى رئيس رفقائه القائمقام كاظم بك،
وأطلت معه القول في العفو عن المعتقلين؛ ليبلغه إياه ثاني يوم حرفيًّا في أثناء
الطريق. وقد عرف كثير من أعيان سورية يومئذٍ بما وقع، وقالوا لي قد عملت
الذي عليك.
ثم عندما صمم جمال على شنق الجماعة استدعى إليه شكري بك رئيس
الديوان العرفي في عاليه إلى الشام، وأعطاه - على ما علمت من شكري بك نفسه-
أسماء ٤٠ شخصًا يجب أن يُحكم عليهم بالموت، فراوده شكري بك كثيرًا،
ودافع كثيرًا، فتهدده بالقتل (بحسب قوله) ، ولما قال له: إن وجداني لا يرتاح
إلى الحكم بالموت على ثلاثة، وبالكثير على خمسة - استحضر جمال باشا أعضاء
الديوان، وكلمهم وهم ضباط شبان لا يخرجون عن أمره، فلم يبق مع شكري بك
إلا القائمقام ملحم بك حماده اللبناني البعقليني، وهو الذي كاشفني بذلك، إذ قلت له
مشجعًا: لا تعبأ بتهديده؛ لا يقدر على قتلك، ولا يريده، وإنما يريد إقناعك بالحكم،
فقال: إن الأمر خرج من يدي، وأكثرية المجلس صارت في يده، وليس معي
إلا ابن وطنكم ملحم بك. ولما فشلت هذه الرسائل بقي أمام ضميري وسيلة مراجعة
ألمانيا، فذهبت إلى (لوتفيد) قنصل ألمانيا، واستحلفته يمينًا بالشرف أن لا
يخونني؛ لأن مثل هذا الأمر فيه خطر على الحياة، فأقسم فأخبرته بما وقع مع
شكري بك من أوله إلى آخره، وأنه قد ظهر تصميم جمال على القتل، وأن هذه
المسألة - وإن كانت عثمانية داخلية لا حق لكم في التدخل بها - فإنها من جهة
أخرى تضر ألمانيا ضررًا بليغًا؛ إذ مما ينبغي أن تفهموه أن قتل هؤلاء الجماعة
سيُحدث بين العرب والترك فتنة لا نهاية لها، فتكونون زدتم الدول الائتلافية قوة
أمة جديدة هي الأمة العربية، فأبرق القنصل بالأرقام إلى السفارة بكل ما قلت له،
بعد ذلك بنحو جمعة وقع الشنق، وكان في ليلة السبت، وفي نهار الأحد، وزارني
القنصل في منزلي، وقال لي: قد تحقق لي الآن أنك كنت على بينة مما تقول،
ولم يرد جواب تلغرافي إلى اليوم. ثم لقيته بعد أيام، فقال لي: إن سفارتنا لم تقدر
أن تصنع شيئًا، ولكن الأتراك سيندمون على هذا العمل. وأخذ لوتفيد يُظهر أسفه
مما حصل أمام الكثيرين من أهل الشام؛ ليبرئوا ألمانيا من هذه الحادثة، ولعل
الحكومة الألمانية بعد رجوع العلاقات الدولية إلى ما كانت عليه - تنشر مثل هذه
المراسلات، فيظهر ما لعل المسيو كولمان - السفير الألماني الذي كان سنة ١٩١٧
في الآستانة - قد أخبر به حكومته، عما كنت قررته له من حقيقة هذه المسألة؛ فقد
قال لي: إن المسموع أن هؤلاء الناس الذين شُنقوا في سورية كانوا ممالئين لفرنسة
على احتلال سورية، فقلت له: لا صحة لذلك، ربما يوجد في سورية مَن يتمنى
باطنًا احتلال فرنسة، ولكن لا الزهراوي، ولا شفيق المؤيد، ولا العسلي، ولا
الشمعة إلخ - يريد احتلال فرنسة لسورية، بل هم وطنيون مثلنا، ويكرهون
احتلال الأجانب لبلادنا كما نكرهه نحن وزيادة، مع إن هؤلاء قاموا بحركة استقلال
إداري داخلي، وبطلب حقوق للعرب معلومة مع البقاء ضمن دائرة الدولة العثمانية،
وليس في ذلك خيانة تستحق العقوبة بالقتل، فضلاً عن الخطأ السياسي العظيم
الذي ارتُكب في هذه الواقعة، والذي أوجد هذا النفور بين العرب والترك، فسكت
السفير لكلامي هذا الذي عززته بقولي: إنني لم أكن على مشرب واحد في السياسة
أنا وأكثر مَن قُتلوا، ولكن حاشا أن أقول إنهم خونة، أو إنهم يبتغون احتلال
الأجانب لبلادهم. والمسيو فون كولمان لا يزال حيًّا، وهو شهير في ألمانيا، يمكن
أن يسأله مَن شاء عن ذلك، وعن سعي آخر لي لديه ولدى خلفه في السفارة (وهو) :
٩- السعي لجعل الترك والعرب كالنمسا والمجر:
لما نشبت الثورة الروسية، وخلعوا القيصر، وشاع أنه ربما ينعقد الصلح
على قاعدة تمتُّع الأمم بحريتها، ويعم ذلك الجميع - ذهبت إلى المسيو كولمان هذا،
وأفضت إليه بما يتمناه العرب من الحصول على الحرية التي سيحصل عليها
غيرهم، فأجابني: كل ما تقوله مفيد، وجدير بالاهتمام، إلا أننا لا نقدر أن نتدخل
في مسائل تركية الداخلية، وبعكس ذلك (الكونت برنستورف) الذي جاء خلفًا
لكولمان، عندما صار هذا ناظرًا للخارجية في برلين فقد حادثته مرارًا بمسألة
العرب، ووجوب تغيير نظام السلطنة بعد الحرب العامة؛ بحيث تكون البلاد
العربية مع البلاد التركية كما هي البافيار وبروسيا، أو المجر وأُستريا. وكان
يصرح لي بكونه هو على هذا الرأي، وأنه فاوض طلعت فيه، ووجده قابلاً لهذه
الفكرة، وكان يعدني بالصراحة بأن ألمانيا ستساعد العرب بعد انتهاء الحرب على
تحقيق أمنيتهم هذه، ومرة اجتمعت مع الكونت برنستورف في برلين قبل انتهاء
الحرب ببضعة أشهر، وكنا نازلين أنا وإياه في (أوتل آدلون) الشهير، وكذلك
طلعت باشا، وكنا نجتمع كثيرًا لتسوية خلاف كان وقع بين الدولة، وبين ألمانيا
يتعلق بالقافقاس ومدينة باكو. وبينما كنا نتحادث مرة أسرَّ إليَّ الكونت برنستورف
خبرًا، قال لي إنه خبر يسرك، وهو أنه وقعت مفاوضة بين الأمير فيصل، وبين
الدولة على الصلح بواسطة القواد الذين بسورية، فطلب الأمير فيصل أن يكون
مركز العرب في الدولة كمركز البافيار في ألمانيا، قال لي الكونت: وقد استشارني
طلعت في هذه المسألة فقلت له: أسرعوا إلى قبول هذا الوجه. وبهذا أراني قد
قمت بما طالما وعدتك به، والكونت برنستورف في ألمانيا أشهر من نارٍ على عَلَمٍ،
وهو الآن نائب في الرايستاغ، فما على المريد إلا أن يسأله كيف كان كلامنا معه
في المسألة العربية؟ !
ثم إنني كتبت في هذا تقريرًا طويلاً تقدم إلى نظارة الخارجية الألمانية
بواسطة أحد أصدقائنا الألمان المشتغلين بالأمور الشرقية في أثناء زيارتي لألمانيا
سنة ١٩١٧، وملخصه تشكيل إمارات خمس عربية مستقلة استقلالاً داخليًّا تامًّا
مرتبطة مع الدول العثمانية في الجيش، وفي الأمور الخارجية، وفي كل منها
مجلس أمة، ومجلس شيوخ. وفي الآستانة مجلس عام للسلطنة. والرجل الذي قدم
هذا التقرير هو أيضًا في قيد الحياة، وهو من أصدقاء الأستاذ صاحب المنار.
... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أر سلان
((يتبع بمقال تالٍ))