للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين


القياس في اللغة العربية
محمد الخضر

(٣)
القياس في العوامل
مِن البيِّن أن الرافع والناصب للكلمة في الواقع إنما هو اللافظ بها، وما تسميه
بالعامل - كالفعل والحرف - إنما هي أداة يلاحظها المتكلم، ويأخذها بمنزلة
الوسيلة لتلك الآثار الخاصة مِن رفع ونصبٍ وخفضٍ وجزمٍ.
وحيث لم يكن تأثير هذه العوامل النحوية مِن قبيل تأثير الأسباب العقلية أو
الحسية، وإنما هو بقصد المتكلم إلى جعلها واسطةً جاز تأخيرها عن المعمول،
واستقام لكلٍّ مِن اللفظين أن يكون عاملاً في صاحبه كاسم الشرط، والفعل المجزوم
به نحو: (أيًّا مَّا تدعو) ولا يتوجه الاعتراض عليها بأن الأثر لا يوجد قبل علته
الفاعلة، وساغ لهذا المعنى الذي انكشف في بيان العامل أن يتوارد عاملان على
معمولٍ واحدٍ، ولكنهم ضعَّفوا قول المُبَرِّد: (إن الابتداء عاملٌ في المبتدإ، وهما
عاملان في الخبر) مِن جهة السماع، فقالوا: إن توجه عاملين إلى معمولٍ واحدٍ لا
يعهد له نظيرٌ في العربية، ولمثل هذا لم يأخذوا بما ذهب إليه القراء مِن أن زيدًا
في قولك: قام وقعد زيدٌ - مرفوع بالفعلين، واختاروا أن يكون فاعلاً بالثاني،
وجعلوا الفاعل في الأول ضميرًا مقررًا.
وأكثر اختلافهم في تحقيق العامل لا يظهر له أثرٌ في نظم الجملة، وقد ينبني
عليه الحكم بصحة بعض التراكيب كاختلاف الكوفيين والبصريين في الرافع لاسم
كان الناسخة، فمقتضى قول الكوفيين: (إن الاسم لم يزل مرفوعًا بالابتداء، وإن
كان إنما عملت في الخبر) أن لا يجوز نحو: كان زيدٌ كاتبًا وعمرُ شاعرًا، لما في
هذا المثال من العطف على معمولين عاملين مختلفين، وهما الابتداء وكان، ولكنه
بمقتضى مذهب البصريين يكون المثال عربيّ فصيحًا؛ المعطوف عليهما - وهما
(زيدٌ كاتبًا) - كلاهما معمول للفعل الناسخ وهو كان. وعطف اسمين على معمولَيْ
عاملٍ واحدٍ - وإن اختلف إعرابهما - لا مرية في صحته.
ولما كان تقرير العامل مما ينشأ عنه آثارٌ في هيئة التراكيب - ساغ لنا أن
نأتي في هذه المقالات على أهم الأصول التي يراعونها في تحقيق العوامل، فنقول:
ينقسم العامل إلى: قويّ، ووسط، وضعيف، فالقوي: ما يتصدى للعمل
مِن جهة صيغته، ويكون له تعلق بالمعمول مِن حيث المعنى، مثل: الأفعال،
والمصادر، وما يشتق منها، ولقوتها في العمل صح لهم أن يسندوا إليها عملين
مختلفين مثل: كان وأخواتها، أو ثلاثة آثار كالأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل.
والوسط: مثل الحروف، وما يعمل مِن جهة موقعه من الأسماء كالمضاف
يعمل في المضاف إليه، والمبتدأ يعمل في الخبر، والمميز المفرد يعمل في التمييز
والضعيف: مثل الابتداء، والتجرد، والإضافة في رأي بعض النحاة، ثم ما
يسميه الكوفيون بالصَّرف، ومِن هذا القبيل ما شابه الفعل في طلب العمل بمعناه
كاسم الإشارة، وحرف التنبيه في رأي مَن يجعلهما عاملين في الحال، وحرف
النداء، و (ما) النافية عند مَن يعلق بهما الظرف، أو الجار والمجرور.
ونبني على هذا التقسيم أنه متى أمكن أن يكون العامل مِن الصنف الأول فلا
نعدل عنه إلى القول بعمل الصنف الثاني، وإذا ساغ أن يكون من الصنف الثاني
فهو أحق مِن الصنف الثالث وأولى، وبمراعاة هذا الترتيب يترجح قول البصريين:
إن العامل في المفعول معه هو الفعل، لا واو المعية، وأضعف من القول إن
العامل هو الواو نفسها مذهب الكوفيين؛ حيث أسندوا العمل إلى ما هو مِن الصنف
الثالث، فقالوا هو منصوب على الخلاف، ومن هذا النمط قول سيبويه: (العامل
في التابع هو العامل في المتبوع) ، فإنه أقوى مِن قول الأخفش: (إن العامل في
التابع معنويٌّ، وهو كونه تابعًا) .
واختار سيبويه في باب النداء أن يكون العامل مِن الصنف الأول، ولو مقدَّرًا
ورجحه على الصنف الثاني، وإن كان ملفوظًا به؛ حيث قال: إن العامل في
المنادَى فعلٌ مُضمرٌ تقديره: (ادعوا) . والتحقيق فيما نرى أن الموازنة بين
الصنف الأول مقدرًا، والصنف الثاني مذكورًا ترجع إلى قوة النظر في المعنى،
وسرعة انتقال الخاطر إلى المقدر، فإذا كان المدَّعَى تقريره لا ينتقل إليه الذهن
بسرعةٍ أو لا يلتئم بنظم الكلام لو صرح به، فالراجح نسبة العمل إلى الملفوظ به،
ولو كان مِن الصنف الثاني، وهذا ما دعا المُبرِّد إلى أن قال: (العامل في المنادى
حرف النداء نفسه) .
والملفوظ مِن أي صنفٍ يقدَّم على المضمر الذي هو في رتبته بلا مِرْيةٍ،
وهذا الوجه مما يتقوى به قول سيبويه العامل في عطف النسق هو العامل في
المتبوع خلافًا لقول ابن جني في (سر الصناعة) : العامل مضمر ويقدر مِن جنس
العامل في المعطوف عليه، ويترجح به قول الجمهور إن المفعول لأجله منصوبٌ
بالفعل المذكور قبله خلافًا للزَّجَّاج؛ حيث أرجعه إلى المفعول المطلق، وقدر له
فعلاً مِن نوعه.
ومما يجري على هذا النسق أن الجمهور يرون عامل الجزم في الفعل الواقع
في جواب الطلب شرطًا مقدرًا، وذهب فريقٌ إلى أن العامل هو الطلب نفسه،
وأنت إذا أقمت موازنة بين المذهبين فربما دفعتك قوة المعنى إلى ترجيح قول
الجمهور؛ فإن إكرامك للمخاطَب في مثل قولك: (زرني أُكرمْك) معلق على
حصول الزيارة، وهذا المعنى لا يستقل بإفادته الأمر أو الاستفهام وحده، فلا بد من
ملاحظة شرط يستقيم به نظم الكلام، ويطابق به المعنى الذي قصدت التعبير عنه،
وللفريق الذي عزا عمل الجزم إلى الصيغة الملفوظ بها، وشذَّ مذهبه بقول سيبويه
في هذا المبحث مِن الكتاب: (انجزم بالأمر) ، (انجزم بالاستفهام) ، (انجزم
بالتمني) - أن يجيب أن ترتب الإكرام على الزيارة في ذلك المثال ودلالة الجملة
على توقفه عليها - يؤخذ بقرينة الجزم، فيكون الجزم بمنزلةِ الفاء في مثل قولك:
(كن شريف الهمة فيكبر عملك) ، فكبر العمل موقوف على شرف الهمة، وليس
ههنا شرطٌ مقدرٌ، وإنما هي الفاء تُنْبِيء عن هذا الارتباط الذي سميت مِن أجله فاء
السببية.
والأصل في الحروف المشتركة بين الأسماء والأفعال أن تكون معزولةً عن
العمل، وخرج عن هذا الأصل: ما، ولا، وأن النافيات؛ فإنها مِن قبيل ما
يَشْترك فيه النوعان، وقد أعطاها بعض العرب عمل (ليس) الناسخة، فإذا وقع
نزاع في نسبة العمل إلى حرفٍ مشتركٍ فالأصل في جانب مَن ينفي عنه العمل،
ويظهر بهذا ضعف القول بأن العامل في عطف النسق هو حرف العطف؛ فإن
العاطف لا يختص بأحد القبيلين، وعلى هذا الأصل ينبني خلافهم في (أن
وأخواتها) إذا اتصلت بها (ما) الزائدة، فقد سمع العمل في (ليتما) فقط، فاتفقوا
على جوازه في هذا الحرف، واختلفوا في بقية الحروف، فمنعه سيبويه، وأجازه
الزجاج، وابن سراج، والكسائي، ومذهب سيبويه قائمٌ على أن (ليتما) لم تزل
على اختصاصها بالأسماء، فساغ إعمالها، ولا يسوغ قياس الأحرف الباقية عليها؛
لأن (ما) أزالت اختصاصها بالأسماء، وهيأتها للدخول على الأفعال.
ومن أصولهم أن الحرف لا يعمل عملين مختلفين، وإنما يعمل عملاً واحدًا
كالحروف الخافضة للأسماء، والناصبة للأفعال، أو عملين متماثلين كأكثر الجوازم،
والحروف العاملة في المتبوع وتابعه، وخرج عن هذا الأصل عند البصريين
(إن وأخواتها) ، وحافظ عليه الكوفيون، فطرَّدوه في كل موضع، وقالوا إن
الناسخ عمل في الاسم وحده، وأما الخبر فإنه مرفوعٌ بما ارتفع به قبل أن يرد عليه
الناسخ، وهو المبتدأ، ومثل هذا قول سيبويه إن (لا) النافية للجنس إنما عملت
في الاسم، وأما الخبر فإنه مرفوعٌ بكونه خبرًا للمبتدأ.
والأصل فيما يُسند إليه العمل أن لا يتخلف عنه أثره أينما وُجد، فإذا احتمل
وجه الإعراب أن يُنسب إلى ما يدور معه العمل حيثما تحقق، أو يضاف إلى ما لا
يطّرد في جميع مواقعه - ترجح جانب المحمل الأول، ومِن أمثلة هذا أن الكوفيين
ومن تبعهم مِن البغداديين - يقولون إن الفعل الواقع بعد واو المعية المسبوقة بطلبٍ
أو نفيٍّ منصوبٍ بالخلاف المسمى عندهم بالصَّرف، وبيانه أن معنى (وتأتي) في
مثل قول الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
لما كان مخالفًا لمعنى ما قبله في الإيجاب والسلب خُولف بينهما في الإعراب،
وهذا المذهب مردودٌ بأن الخلاف قد ثبت في مواضع لم يظهر له فيها عمل
كالأفعال الواردة بعد (لا) و (لكن) العاطفتين.
وإذا دلت الصيغة على معنى وتقرر لها عملٌ خاصٌّ، ثم جاءت صيغة أخرى
توافقها في الدلالة على ذلك المعنى - فليس لنا أن نلحقها بالأولى في إعطائها ذلك
العمل؛ إذ لا يلزم من الاتحاد في المعنى التماثل في العمل، فإنك ترى كثيرًا مِن
الكلم تتحد معنى، وهي تختلف في التعدي واللزوم نحو: صلى عليه ورحمه،
ومما يوضح هذا الغرض أن صيغة مفعول تعمل في الاسم الظاهر نحو: مقتولٌ
غلامه، ومذبوحٌ جزوره، ويوافق هذه الصيغة في الدلالة على معناها صيغة
(فعيل) نحو: قتيل، وجريح، وقد أبى الجمهور أن يلحقوه بشبيهه، ويرفعوا به
الظاهر وقالوا: لا يصح أن يقال: مررت برجلٍ كحيل عينه أو قتيل أبوه، وأجاز
ذلك ابن عصفور، قال أبو حيان: وهو محتاجٌ إلى نقلٍ صحيحٍ عن العرب.
ونحن نقول: إن كان مستند ابن عصفور في هذه المسألة قياس (فعيل) على
(مفعول) فقد عرفت فساده؛ إذ لا يلزم مِن الاتحاد في المعنى التوافق في العمل،
فيكون الأصل بيد المانع حتى يأتي المجيز بشاهده، وقد يقرر القياس في مذهب ابن
عصفور على وجهٍ آخر، وهو أن يقال قد اتفقوا على أن صيغة (فعيل) ترفع
الضمير، فألحق ابن عصفور به الأسماء الظاهرة، وقياس الاسم الظاهر على
الضمير في مثل هذا الحكم أيسر من قياس فعيل على مفعول.
وينتظم في هذا السلك صيغة (فَعِل) نحو: حَذِر، فسيبويه يذهب إلى أنه
يعمل عمل الصيغة المحول عنها، وهي اسم الفاعل، وخالفه الجمهور في ذلك،
وهم الواثقون بالأصل الذي كنا بصدد إيضاحه، وسيبويه هو المطالَب بإقامة شاهدٍ
على مذهبه، وحيث تلا عليهم قول الشاعرِ:
حذِرًا أمورًا ما تُخاف وآمن ... ما ليس ينجيه من الأقدار
ردوه بأن البيت مصنوعٌ، وحكوا على اللاحقي أنه قال: إن سيبويه سألني
عن شاهدٍ في تعدِّي (فَعِل) ، فعملت له هذا البيت.
***
القياس في شرط العمل
قد يكون العمل مقارنًا لوصفٍ، ولفظٍ خاصٍّ؛ فيسمون ذلك الوصف أو
مقارنة اللفظ شرطًا له، وهذا له حالان:
(أحدهما) ما إذا فقد ذلك الشرط بظل العمل، وبقي العامل مهملاً، كما
شرطوا في نصب (إذن) للمضارع أن تكون في صدر الجملة، فإذا فقدت الصدارة
بطل النصب مع بقاء (إذن) في نظم الكلام مهملة، ومثل هذا النوع مِن الشروط
لا تنبغي المخالفة فيه إلا مِمَّن لم تبلغه الشواهد التي خليت من الشرط؛ فانعزل
العامل عن العمل.
(ثانيهما) ما إذا فقد الشرط لم يصح أن يُؤتَى بالعامل في نظم الكلام ألبتة،
وهذا كما شرطوا لعمل (إن وأخواتها) الترتيب بين اسمها وخبرها؛ فإن المتكلم
إذا لم يُوفِ لها هذا الشرط لا يسوغ أن يدخلها في التركيب، ولو مع إهمالها، وهذا
النوع من الشروط هو الذي يختلفون فيه كثيرًا؛ فإن للمخالف في الشرطية أن
يدَّعي أن مقارنة ذلك الوصف إنما كانت على سبيل الاتفاق لا على وجه اللزوم،
وبناء العمل عليه؛ إذ لا يوجب ههنا صورة تبين كيف عزل العامل عن العمل مِن
أجل تخلف ذلك الوصف مِثلَما عرفت في القسم الأول.
ولمدَّعي الشرطية أن يقول: إني لم أَرَ هذه الأداةَ عاملةً إلا مع هذا الوصف
الخاص، فأعده شرطًا للعمل، ومَن ينفي الشرطية فعليه إقامة الدليل، ولا مقال
لمنكِر الشرطية في هذا المقام إلا أن يسوق شاهدًا على عملها، مع عدم ذلك
الوصف، أو يمنع أن يكون لارتباط العمل بذلك الوصف وجه مناسب.
فإن سلك الطريقة الأولى - وهي إقامة الشاهد على العمل مع تخلف الوصف-
فقد رمى بسهمٍ صائبٍ، وأصبح مذهبه في حرزٍ حارزٍ من الصحة، وهذا كأن
يقول الكوفي: إن خبر (كان) لا يأتي فعلاً ماضيًا إلا أن يقترن بقد، فيعارضه
البصري في هذا الشرط، ويتلو عليه مثل قوله تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن
قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (يوسف: ٢٦) ، وقول زفر بن الحارث:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمةً ...
وقد يستمر مدعي الشرطية ماسكًا برأيه، ولو بعد أن تُلقى عليه الشواهد البينة
في إلغاء الشرط، وقيام الحكم بدونه ذاهبًا إلى حمل الشواهد على غير ظاهرها،
كما زعم الكوفيون في هذه المسألة أن (قد) في تلك الشواهد مضمرةٌ، ومتى سقط
مقال المناظر إلى هذا الدرك مِن التعسف كان الإعراض عنه أبلغ جوابًا وأحسن
جدلاً.
وإذا عجز المخالف في الشرطية عن الطريقة الأولى - حيث أعوزته الشواهد،
وجنح إلى الطريقة الثانية؛ وهي المطالبة بالوجه المناسب - لجعل ذلك الوصف
شرطًا، فإن أبدى القائل بالشرطية وجهًا صحيحًا لارتباط الحكم بالوصف المقارن
انقطع المخالف، واستقر الشرط في محله، وهذا كما يقول البصري: إن الفعل
الناسخ المقرون بما النافية لا يجوز تقديم خبره على ما. وهذا القول في معنى أن
شرط عمل الناسخ المنفي بما أن يكون خبره مؤخرًا عنها، وقد نازع الكوفيون في
هذا الشرط مع اعترافهم بأن الخبر لم يرد في السماع إلا مؤخرًا، فما وسع
البصري سوى أن قال في علة ربط العمل بهذا الشرط، واختصاصه به: إن (ما)
النافية مِن الأدوات المستحقة للصدارة، فلا يتمكن ما بعدها مِن العمل فيما قبلها،
ولو عجز القائل بالشرطية في أمثال هذه القضية عن بيان وجه الاشتراط لأمكن
للمخالف أن يولي وجهه شطر القياس، فإذا وجده قريب المأخذة حسن
الموقع جاز له أن يهدم به ذلك الشرط، ويستمر الحكم على إطلاقه، ومثال هذا أن
يذكر الجمهور في شرط إعطاء (ما) النافية عمل (ليس) تقدم اسمها على خبرها،
فينازعهم ابن عصفور في ذلك، ويستثني الظرف والجار والمجرور الواقعين
خبرًا، ويجيز تقديمها على الاسم. وإذا عدم الجمهور أمثلةً مِن كلام العرب تشهد
ببطلان عمل (ما) إذا قدم خبرها على الظرف أو الجار والمجرور، ثم لم يُبْدِ
وجهًا يقتضي التزام الترتيب اتسع في وجه ابن عصفور مدخل القياس، فألحق (ما)
النافية بباب (إن وأخواتها) حيث يجوز تقديم خبرها على اسمها متى كان
ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا.
ومن الأمثلة الجارية على هذا الوجه قولهم إن الفعل لا ينصب الضمير العائد
إلى نفس الفاعل إلا إذا كان مِن النواسخ، فيجوز: أظنني كاتبًا، وتحسبك شاعرًا،
ولا يجوز (أعاتبتني) ، أو تحسن إليك، فإن قام مخالفٌ في اشتراط كون الفعل مِن
النواسخ، ولم يسُق شاهدًا على ما يدَّعي، بل ذهب إلى قياس نحو عاتَبَ، وأَحْسَنَ
على ما سمع في باب النواسخ - تعيَّن على سيبويه ومَنِ اقتدى على أثره في هذه
المسألة أن يتعرضوا للطعن في هذا القياس ببيان الفارق بين البابين، وكذلك فعلوا
فقالوا: إن حسبت وأخواتها دخلت على مبتدإ وخبر لتجعل الحديث شكًّا أو علمًا
فصارت بمنزلة (إن وأخواتها) في إفادة معانٍ زائدةٍ على أصل المعنى الخبري،
وكما جاز: إنني شاعرٌ، ولعلِّي كاتبٌ، جاز: حسبتني شاعرًا، وعلمتني كاتبًا،
وأما الأفعال غير الناسخة فلم تحرز هذا المعنى؛ إذ هي المقصودة بالحديث،
ومنزلتها مِن الأسماء المنصوبة بها منزلة المبتدإ مِن الخبر، وإذا تحقق الفارق بين
المسألتين امتنع إلحاق إحداهما بالأخرى.
***
القياس في الأعلام
المعروف في الأعلام أن أمرها موكولٌ إلى واضعها، فيركبها في أي وزنٍ
شاء، بدون أن يراعي فيها قانونًا، أو يجري فيها على سنة قياس، قال الشيخ ابن
عرفة - في تفسير قوله تعالى: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى} (النجم: ١٤) -: انتقد
القرافي على الفخر بن الخطيب تسمية كتابه باسم (المحصول) ، قائلاً: إن فعل
(حصل) لا يتعدى إلا بحرف الجر، ومثل هذا لا يُبنَى منه اسم المفعول إلا
مصحوبًا بالمجرور، فكان حق التسمية: (المحصول فيه) ، والجواب أن ذلك
واجبٌ في نظم الكلام، وأما في التسمية فيجوز؛ لأنه يصح تسمية الإنسان ببعض
الاسم، فأحرى أن يسمى باسم (المفعول) غير مصحوبٍ بحرف الجر كما سميت
الشجرة بسدرة المنتهى إليها، وبمثل هذا يجاب مِن المعترض تسمية القاضي
عياض كتابه بالشفا، وقال: إن ما ورد ممدودًا كالشفاء لا يجوز قصره إلا في
ضرورة الشعر، والتحقيق أن إنكار تسمية بعض المؤلَّفات برد المحتار أو المقتطف،
إنما يتوجه على واضع الاسم، متى اعتقد صحة أخذ (افتعل) مِن مادة (حار)
أو (قطف) ، ولو علم أنه لا يقال محتار ومقتطف، ثم عمد إلى وضع أحدهما
اسمًا لتأليف بعينه لم يكن مخالفًا لقانون اللغة، وعلى أي حالٍ فالناطق بهما - بعد
أن صارا علمين - لا يتوجه إليه اعتراض، ولا يوصف بالخطأ الذي يوصف به
القائل: اقتطفت الثمرة، واحترت في أمر كذا.
ولا أدري إلى هذا اليوم ماذا أراد صاحب القاموس بالقياس في قوله: (فقعس
علم مرتجل قياسي) ؛ إذ لا نعلم فارقًا يميز فقعسًا عن بقية الأعلام المرتجلة سوى
أن مادته لم تُستعمل إلا في صيغة هذا العلم بخلاف غيره مِن المرتجلات كسعاد وأُدَد؛
فإنها مرتجلة نظرًا إلى صيغتها، وأما مادة حروفها فإنها مستعملةٌ في معانٍ أخرى
بصورٍ مختلفةٍ.
(يتبع)
محمد الخضر