للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

حرية الدين وقتل المرتد
وانتفاع الوالدين بعمل أولادهم
(س٨، ٩) من الشيخ محمد نصر الوكيل طالب العلم بالقسم الثانوي
النظامي للأزهر من (أسطنها) .
سيدي الرشيد، ذو الرأي السديد، خليفة الأستاذ الإمام، وحامي ذمار الإسلام
سلام عليكم من فتى معجب بالمنار، ومتأثر بدعوة صاحبه الذي وقف محياه ومماته
لله رب العالمين، ونصب للناس في ديجور الشرك صوى ومنارًا به يهتدون
ويهدون، وأطلع لهم في ليالي السرار نجم الحقيقة في سماء الدين.
وبعد: فلديَّ سؤالان أتقدم بهما إلى موائد علمكم الشريف؛ رجاء أن تحسنوا
إلى محبكم بتضحية بضع دقائق من وقتكم المبارك تكتبون فيها جوابًا على صفحات
المنار الأغر أو في كتاب خاص، يكون ذخرًا لديه من حكيم الإسلام، وخادمه،
ومقر عين النبي ووارثه.
(١) أن شريعتنا السمحة قد امتازت بالتسامح مع المخالفين في الاعتقاد
والتساهل مع ذوي المذاهب والأديان، وفي ذلك قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) إلخ، وهذه الآية هي مفخرتنا على الغربيين في أن
ديننا أتى بمبدأ حرية الاعتقاد، ووسع صدره - في الأيام التي كان فيها قابضًا على
ناصية الأرض ومتقلدًا صولجان العزة والملك - كلَّ مخالف من غير أن يتعرض
لعقيدته، بل كان يستعين بالنصارى النسطوريين على نشر العلم، وإقامة المدارس
في ربوع المملكة، ولكني أعرض على نور معلوماتكم الدينية، ومشكاة معارفكم
القدسية الربانية - مسألة المرتد؛ فإنها تعارضت عندي مع هذا الأصل الكريم،
وهذا هو السؤال: هل في القرآن الشريف أو في السنة الصحيحة أمرٌ بقتل المرتد؟
وإذا كان فكيف التوفيق بينه وبين النهي عن الإكراه في الدين؟ ، وإذا لم يكن فما
مراد الشارع من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن بدَّل دينه فاقتلوه) ، وقوله:
(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) إلخ، وقوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ} (التوبة: ٥) إلى أن قال: {فَإِن تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: ٥) .
وإذا لم يكن المراد من ذلك إكراه المرتد، وكل مخالف على الدين، فعلى أي
أصلٍ استند الفقهاء في وجوب قتل المرتد؟ وإذا قلتم إنه من باب سد الذريعة،
واستئصال جذور الفتنة أفلا يصدق ذلك على الفلاسفة والعلماء الأحرار الأفكار
الذين قد يكتشفون نظريات علمية تخالف ظاهر الدين؟ وإذا كان لا يصدق، أفلا
يعد - على كل حالٍ - عملاً منافيًا لحرية الاعتقاد، وماسًّا بمبدأ التسامح،
والتساهل الذي امتاز به الإسلام؟
(٢) جاء في الجزء الأخير - من المنار الأغر صفحة ٢٤ - قولكم: ومما
ينتفع به الإنسان من عمل غيره - بعد موته - صوم ولده أو حجه عنه مستدلين
بقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن مات وعليه صيام فليصم عنه وليه) ، أفلا يعد
ذلك نسخًا لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٩) بحديث
الآحاد؛ لأنكم قلتم إن الحديث لا يصح إلا من طريق عائشة - رضي الله عنها -
وإذا لم يكن نسخًا، وقلتم إنه تخصيص أفلا يعد التخصيص نسخًا لبعض المفهوم
الكلي الشامل في الآية؟ ، وإذا كان لا يعد نسخًا، فلِمَ خصصتم في هذه الآية، ولم
تخصصوا في آية الطعام: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} (الأنعام:
١٤٥) إلخ، وإذا قلتم إنه ينتفع بذلك من حيث يعد من قبيل عمله؛ لأنه كان
سببًا فيه، فلِمَ لا تعد الصلاة كذلك، وينتفع بها من هذه الحيثية؟ وإذا قلتم ذلك
مخالف للنص القطعي فكذلك انتفاعه بصوم الولد وحجه مخالف للنص القطعي،
وهو قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: ٣٩) ، ويعجبني في ذلك
مبدإ السيدة عائشة، حيث كانت ترد كل ما تراه مخالفًا للقرآن، وتحمل رواية
الصادق على خطأ السمع أو سوء الفهم، ولكن كيف كان هذا مبدأَها، وقد روت
هي ما خالف القرآن، وهو حديث: (مَن مات وعليه صيام فليصُمْ عنه وليه) ،
على أن ذلك لا يمنعنا من أن نقول فيها ما قالتْه هي في ابن عمر: (لقد حدثتموني
عن غير كاذبٍ ولا متهمٍ، ولكن خانه سمعه) ، أجيبوا، لا زلتم هاديين مهديين
والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نصر الوكيل
الجواب عن مسألة حرية الدين وقتل المرتد:
ذكرت هذه المسالة في مواضع من المنار كالتفسير والفتاوى، فنقول فيها هنا
قولاً نلخص به ما تقدم نشره. فنقول:
أولاً إنه ليس في القرآن أمرٌ بقتل المرتد، بل فيه ما يدل على عدم قتل
المرتدين المسالمين الذين لا يحاربون المسلمين، ولا يخرجون عن طاعة الحكومة،
فقد جاء في تفسيرنا لقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (النساء: ٩٠) من سورة النساء ما نصه:
(وفي الآية من الأحكام - على قول مَن قالوا إنهم كانوا مسلمين أو مُظهرين
للإسلام، ثم ارتدوا - أن المرتدين لا يُقتلون إذا كانوا مسالمين لا يقاتلون، ولا
يوجد في القرآن نصٌّ بقتل المرتد، فيجعل ناسخًا لقوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ ... } (النساء: ٩٠) إلخ.
نعم ثبت في الحديث الصحيح الأمر بقتل مَن بدل دينه، وعليه الجمهور،
وفي نسخ القرآن بالسنة الخلاف المشهور، ويؤيد الحديث عمل الصحابة، وقد يقال
إن قتالهم للمرتدين في أول خلافة أبي بكر كان بالاجتهاد، فإنهم قاتلوا مَن تركوا
الدين بالمرة كطَيِّئ وأسد، وقاتلوا مَن منع الزكاة من تميم وهوازن؛ لأن الذين
ارتدوا صاروا إلى عادة الجاهلية حربًا لكل أحدٍ لم يعاهدوه على ترك الحرب،
والذين منعوا الزكاة كانوا مفرقين لجماعة الإسلام ناثرين لنظامهم، والرجل الواحد
إذا ترك الزكاة لا يُقتل عند الجمهور) اهـ. والتحقيق أن القرآن لا يُنسخ بالسنة
كما قال الشافعي ومَن تبعه، وخالفهم الكثيرون في السنة المتواترة.
ويؤيد الحكم في هؤلاء الحكم فيمن ذُكروا في الآية التالية لهذه الآية، وهي:
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا
فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} (النساء: ٩١) .
روى ابن جرير عن مجاهد أن هؤلاء الناس كانوا يأتون النبي - صلى الله
عليه وسلم - فيُسلمون رياءً، فيرجعون إلى قريشٍ، فيرتكسون في الأوثان،
يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا، ويصلحوا.
ورُوي عن ابن عباس أنه قال: (كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنةٍ أركسوا
فيها؛ وذلك أن الرجل منهم كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيقرب إلى العود،
والحجر، وإلى العقرب، والخنفساء، فيقول له المشركون قل: هذا ربي للخنفساء
والعقرب) وقد جعل حكمهم حكم مَن سبقهم، وهو أنهم إذا لزموا الحياد - وهو ما
عبر عنه باعتزال المسلمين، وإلقاء السلم، وكف الأيدي عن القتال - فلا سبيل
إلى قتلهم، وإلا قُتلوا حيث ثُقفوا؛ لأنهم محاربون، لا لأنهم مرتدون فقط، وقال:
{وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} (النساء: ٩١) أي دون غيرهم من
المسالمين والمحايدين.
ونقلنا في تفسيرها عن الرازي أنه عزا القول بعدم قتال هؤلاء إلى الأكثرين،
ونظَّر له بآيات سورة الممتحنة وآية البقرة في أنه لا يُقاتَل إلا المقاتلون، وقلنا -
والظاهر أنه يعني بمقابل الأكثرين مَن يقول إن في الآيات نسخًا - ولا يظهر فيها
النسخ إلا بتكلُّفٍ، فما وجه الحرص على هذا التكلف؟ .
وقد استفتينا في هذه المسألة قبل كتابة هذا التفسير بسنين، فتجد في فتاوى
المجلد العاشر من المنار (ص ٢٨٧، ج٤، م١٠) من أحد علماء تونس منها
السؤال عن حديث: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... ) إلخ،
ألا يعارض كوْن الإسلام قام بالدعوة لا بالسيف كما يعتقد الجهلاء؟ ، والسؤال
عن حديث: (مَن بدل دينه فاقتلوه) ألا ينافي كوْن الإسلام لا يضطهد أحدًا
لعقيدته؟ ! .
وقد أجبنا عن الأول بأن الحديث ليس لبيان أصل مشروعية القتال؛ فإن هذا
مبيَّنٌ في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ... } (الحج: ٣٩)
الآيات وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا ... } (البقرة:
١٩٠) الآيات، بل هو لبيان غايته؛ إذ الغرض منه بيان أن قول: (لا إله إلا الله)
كافٍ في حقن الدم، حتى في أثناء القتال، وإن لم يكن القائل من المشركين
معتقدًا في الباطن؛ لأن الأمر في ذلك مبنيّ على الظاهر إلخ.
وأجبنا عن الثاني بأن المرتد من مشركي العرب كان يعود إلى محاربة
المسلمين، وأن بعض اليهود كان يصدّ الناس عن الإسلام بإظهار الدخول فيه، ثم
بإظهار الارتداد عنه ليُقبَلَ قوله بالطعن فيه، وذكرنا ما حكاه الله عنهم في هذا،
وقلنا: فالظاهر أن الأمر في الحديث بقتل المرتد كان لمنع المشركين وكيد الماكرين
من اليهود، فهو لأسبابٍ قضت بها سياسة ذلك العصر التي تسمى في عرف أهل
عصرنا سياسة عُرفية عسكرية لا لاضطهاد بعض الناس في دينهم، ألم تَرَ أن
بعض المسلمين أرادوا أن يكرهوا أولادهم المتهوِّدين على الإسلام، فمنعهم النبي -
صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير،
والإسلام في أوج قوته، وفي ذلك نزلت آية: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة:
٢٥٦) ، وأزيد هنا ما كنت ذكرته في تفسير هذه الآية، وهو أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أمر بتخيير أولئك المتهودين، فمَن اختار الإسلام بقي مع أهله
المسلمين، وكان منهم ومَن اختار اليهودية جلا مع أهل دينه من اليهود وهو منهم،
وراجع تفسير الآية وكلام الأستاذ الإمام فيها (ص ٣٦، ج ٣ تفسير) .
وقد أعدت ذكر هذه المسألة في تفسير {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا
بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل
عمران: ٧٢) .
فمما ذكر يعلم السائل جواب سؤاله، ومأخذ الفقهاء في قتل المرتد - وهو
الحديث الذي أخذوه على إطلاقه - والجمع بين الحديثين اللذين ذكرهما وبين قاعدة
التسامح والحرية في الإسلام.
وأما قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ... } (التوبة: ٥)
إلخ، فهو يعلم أنه نزل في نبذ عهود الذين نكثوا العهد من المشركين، وأنهم
أعطوا في الآية الأولى مِن هذه السورة (التوبة) مهلة الأربعة الأشهر الحرم وهي:
شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثم قال: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ... } (التوبة: ٥) إلخ، ومن الضروري أن يُستثنى من
ذلك مَن يتوب منهم عن الشرك، ويدخل في الإسلام، ألا تراه استثنى مَن حافظوا
على عهدهم من المشركين، فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا
اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: ٧) ، ثم ألا ترى كيف علل قتال الناكثين
بقوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ... } (التوبة: ٨)
إلخ، وفيها التصريح بأنهم هم المعتدون، وأنهم لا أَيْمانَ لهم، أي لا عهود لهم
تُحفظ، بل يجعلونها خداعًا في وقت الضعف، ثم قال - في هذا التعليل -: {أَلاَ
تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة:
١٣) .
والفقهاء الذين يقولون بقتل المرتد اختلفوا في بعض مسائله، كالمرتد ذي
المَنَعَة في قومه وغيره، وقال أبو حنيفة: (لا تُقتل المرأة) ، وقد قال الشيخ
صالح اليافعي في رده على الدكتور محمد توفيق صدقي (رحمه الله تعالى) ما
نصه:
(قال الفاضل - حفظه الله -: أوجبوا القتل مطلقًا على مَن ارتد عن
الإسلام للحديث، والقرآن يقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) ،
{فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: ٢٩) ، وأقول:) قوله أوجبوا
القتل مطلقًا ... (ليس بصحيح على إطلاقه، بل لو منع الإمام عن قتل المرتد
لمصلحةٍ - كمهادنةٍ ومعاهدةٍ ومأمنةٍ بشروط ألجئ إليها - لا يجوز قتله، فقتل
المرتد قد يختلف حكمه باختلاف الحالات ... ) إلخ (وهو في ص ٤٤٩م، ١٢
من المنار) .
وقد نقلنا في المجلد التاسع عن جريدة (اللواء) مقالةً مترجمةً عن جريدة
(ريج) الروسية عنوانها (تسامُح الدين الإسلامي) موضوعها أسئلة أُلقيت على
شيخ الإسلام في الآستانة منها هذه المسألة، وأجاب عنها - مما قاله بعد تشبيهه
المرتد عندنا بالفارّ من العسكرية في الاستياء منه -: (وليس أمرنا هذا مخالفًا
للحرية الدينية المبنية على أساس أن كل الناس مختارون في أمر الدين، ولا نطلب
بأي حالٍ من الحكومة أن تعاقب الخارجين عن الدين إلا بالحكم المعنوي، ولا يمكن
إجبار الناس لقبول الإسلام أو المسيحية، وإذا كان لشخصٍ اختيار في الارتداد فلا
يمنعنا مانعٌ من إظهار كراهتنا له ونفورنا منه) اهـ المراد منه.
وقد ألمَّ السائل في سؤاله باكتشاف أحرار العلماء لنظرياتٍ علميةٍ تخالف
ظاهر الدين هل يكونون بها مرتدين أم لا؟ ، ونقول: إن مخالفة بعض ظواهر
النصوص الدينية، وهي ما كان مدلوله غير قطعي فيها تفصيل، فمَن كان يعتقد أن
كلام الله كله حق، وكلام رسوله فيما يبلغه عنه حقٌّ، وقام عنده دليلٌ على أن
بعض ظواهرهما غير صحيح، فصرف الكلام عنه إلى معنًى آخر رجح عنده
بالدليل أنه هو الصحيح المراد، فلا يعد مرتدًا، بل لا إثم عليه، ولا حرج، وإنما
الردة تكذيب كلام الله، وتكذيب رسوله فيما جاء به من أمر الدين بنظرياتٍ فلسفيةٍ
أو بغير ذلك، ونحن نعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه ليس في أصول الإسلام القطعية فيه
شيءٌ يمكن نقضه، وقد بينا حقيقة الإسلام، وحقيقة الكفر والردة في المجلد الثاني
والعشرين الذي قبل هذا، وفي غيره، وهو أقرب ما يُراجَع في المسألة. ومن أهم
الأحكام المتعلقة بالمسألة أن المجاهر - بما يُعَدُّ في الإسلام كفرًا صريحًا - لا
تجري عليه أحكام الإسلام في موتٍ، ولا حياةٍ، ولا زواجٍ، ولا إرثٍ.
جواب السؤال المتعلق بعدم انتفاع المرء بعمل غيره:
لعل الاستدراك على هذه المسألة الذي نشرناه في الجزء الذي قبل هذا قد
أغنى السائل عن جواب سؤاله هذا، وعلم منه كوْن عمل الولد ملحقًا بعمل الوالد،
فإن لم يكن أغناه فليكتبْ إلينا ثانية بما بقي عنده من إشكال، وليراجع - في تفسير
آية محرمات الطعام - مسألة امتناع نسخ الآيات المؤكدة.
***
شرب الدخان (التبغ)
والتذكير في المنائر
(س١٠) من صاحب الإمضاء في جزيرة البحرين
إلى حضرة الأستاذ العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار
بعد رفع جزيل السلام اللائق لمقامكم العالي، ورحمة الله وبركاته على الدوام..
لا يخفى عند جميع الناس اشتغالك بالعلوم، والمعارف الدينية النافعة،
وإرشاداتك المفيدة المنشورة بمجلتك لأبناء جلدتك في جميع البلدان؛ لذا كلفني
بعض أصحابي - الذين هم من أهل السنة والجماعة - أن أوجه إليك هذا السؤال
وهو: ضمَّني وجماعة من الأصحاب مجلسٌ جرى فيه البحث في التذكير على
المنائر قبل العشاء، وقبل صلاة الفجر، وفي شرب الدخان (التتن) واستمر
الجدال ساعاتٍ، ولم يقدر أحد الفريقين أن يقنع الآخر برأيه ... ولا عجب لسؤالنا؛
لأن علماءنا وتعصبهم لا يقفون عند حدٍّ، واحد يجوّز، والثاني يحرم، ولا ندري
أي الصواب لنأخذ به، واسترضى الجميع أن نرسل إليك هذا السؤال؛ لترشدنا من
فنون علومك، وآرائك الحرة الناضجة، وتبين لنا الخطأ من الصواب؛ لنعتمد
عليه، والله يحفظك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي إبراهيم كانو

الجواب عن مسألة شرب الدخان:
اعلم أولاً أن التحريم والتحليل تشريعٌ، وهو حق الله تعالى وحده، فمَن
استباح لنفسه أن يحرم على عباد الله تعالى شيئًا بغير حجة شرعية عن الله ورسوله-
فقد افترى على الله، وادعى الربوبية معه، ومن أطاعه وتبعه في ذلك يكون قد
اتخذه ربًّا؛ كما ورد في الحديث تفسيرًا لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ
أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) وقد بينا هذه المسائل مِرَارًا، وآخر
تفصيل لنا فيها تفسير آية محرمات الطعام.
وثانيًا: أن الأصل في الانتفاع بما خلقه الله لنا في هذه الأرض الحل كما
تدل عليه الآيات القرآنية؛ فلا يحرم شيءٌ منها إلا بنصٍّ عن الله ورسوله صحيح
الدلالة باللفظ أو الفحوى، ولا نص في هذا الدخان المسئول عنه بعينه، بل هو
داخلٌ في الإباحة العامة لكل ما خلقه الله لنا من هذه الأرض، إلا إذا ثبت ضرره
في الجسم أو العقل كالحشيشة والأفيون، والحقن بالمورفين؛ فحينئذ يظهر القول
بتحريمه كما أفتينا من قبل، وفاقًا لبعض الفقهاء، وفي الحديث الصحيح: (لا
ضرر ولا ضرار) فإذا ثبت بشهادة الأطباء أنه يضر كل مَن شربه ضررًا ذا شأنٍ
فالقول بتحريمه على الإطلاق وجيهٌ، وإذا كان يضر بعض الناس المصدورين دون
بعضٍ فهو محرمٌ على مَن يضره، سواء عُلم ذلك بقول الطبيب أو بالتجرِبة والاختبار،
وإلا فلا، ويستدل بعض الناس على تحريمه بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبَائِثَ} (الأعراف: ١٥٧) بناءً على تفسير الخبيث بالطبَعي، وهو ما تعافه
الطباع السليمة، وقيل العرب. والصواب أنه الخبث المعنوي الشرعي
كالربا، والخيانة، والغلول كما فصلناه في تفسير آية محرمات الطعام أيضًا، وإلا فإن
الثوم والبصل من الخبائث قطعًا، وهما غير محرمين، ونحمد الله أن حمانا من هذا
الدخان، وننصح لكل مَن لم يُبتلَ به أن يجتنب تقليد الناس بشربه، ولكل
مَن ابتُلي به أن يتركه إذا قدر إن كان يرى بالتجربة أنه لا يضره، ولعله ولا يخلو
من مظنة الضرر التي تقتضي كراهة التنزيه بما فيه من السم المسمى بالنيكوتين،
وهذا الضرر ظاهر - لا محالة - في أصحاب الأمراض الصدرية، وربما كان
سببًا لها في المستعدين والله أعلم.
التذكير على المنائر:
إن كل ما زاده الناس قبل الأذان المأثور وبعده من الأذكار والصلاة على النبي -
صلى الله عليه وسلم - بدعة اشتبهت على العامة بالمشروع، بل صارت عندهم
من شعائر الدين، فيجب تركها؛ لأن الزيادة في الدين كالنقص منه؛ كلاهما شرع
لم يأذن به الله، وإن كانت الزيادة في نفسها حسنة، ولو أُبيح في الإسلام أن يُزاد
في كل ما شرعه الله تعالى من العبادات زيادات حسنة - من ركوع وسجود وأذكار-
لتغيرت الشرائع والشعائر في هذه الملة كالملل السابقة، وقد بينا هذا من قبل
مرارًا.