للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محيي الدين آزاد


الخلافة الإسلامية
ألَّّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

(٣)
فصل
طاعة الخليفة والتزام الجماعة
بعد هذه التوطئة الضرورية للبحث نقول: إن الشريعة الغراء فرضت على
المسلمين طاعة الخليفة ما لم يأمر بمعصية، كما فرضت طاعة الله وطاعة رسوله،
ولا عجب؛ فإن نظام الشريعة الاجتماعي يقتضي ذلك، وهو مطابقٌ لناموس
الفطرة تمام المطابقة، بل هو حلقةٌ من سلسلة هذا الناموس الإلهي الذي يخضع له
كل ما في السموات والأرض؛ وذلك لأنَّا نرى كل شيءٍ من هذا الكون البديع على
نظامٍ طبَعيٍّ مخصوصٍ، وهو الذي يسمونه (بناموس المركزية) أو (بناموس
الدوائر) ؛ ففي كل جهة من هذا الكون مركز تحيط به الأجسام والذوات على شكل
الدائرة، وعلى هذا المركز تتوقف حياتها، وبقاؤها، ونماؤها، فلو تحولت عنه
هذه الدائرة أو انحرف عن طاعتها - تنحلّ حالاً، ويعتريها الخراب والدمار في
طرفة عين، وعن هذه الحقيقة عبر بعض الصوفية بقوله: (إن الحقيقة كالكرة) ،
وعنها قال صاحب الفتوحات: (بأنها دائرة قاب قوسين) .
(ناموس المركزية) هذا نافذ في الكائنات كلها، فما هذا النظام الشمسي
الذي فوقنا، وهذه السيارات العظيمة، والنجوم المتلألئة، والكرات النيِّرة المتبعثرة
على بساط السماء، وهذه الحياة العجيبة والحركة المدهشة للعقول؟ ، إن هي إلا
مظهر من مظاهر هذا الناموس، فالنجوم لها دوائر، وكل دائرةٍ منها قائمة على
نقطة في الشمس، حولها حركتها ودورانها، وعليها حياتها، وبقاؤها، وبها قيامها
ودوامها، وستبقى هكذا ما دامت مرتبطةً بمركزه، ومنقادةً له {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ} (الأنعام: ٩٦) وكذلك أرضنا حلْقةٌ من تلك الدائرة خاضعة لمركزها
كل آنٍ، فكل من الأرض والسموات يدور في محوره، ويسبح في فَلَكه، ويطيع
مركزه، ولا يخرج عن دائرته أبدًا حسب قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضِ} (آل عمران: ٨٣) ، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي
السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ ... } (الحج: ١٨) إلخ،
وقال: {لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ} (يس: ٤٠) .
ليست الكائنات العظيمة وحدها هي الخاضعة لناموس المركزية، بل الكائنات
الحقيرة المنحطَّة مثلها، فخُذ لك العالم النباتي مثلاً، ففي كل شجرة ترى الأوراق،
والفروع، والأزهار، والأثمار كلها مرتكزة على مركزها الذي هو أصل الشجرة،
ومهما انفصلت ورقة أو غصن من الأصل - حل به الموت والفناء.
هذا في عالم الآفاق، ثم انظر في عالم الأنفس، أفلا ترى أعضاءك الخارجية
الداخلية، ومشاعرك الظاهرة والباطنة كلها تتحرك، وتعمل عملها، حتى كأنك
مدينة مزدحمة بالأحياء، لكل واحدٍ منها حياةٌ قائمةٌ بذاته، ووظيفةٌ خاصةٌ به،
ولكنها كلها خاضعةٌ لمركزها الذي هو القلب، به صلاحها وفسادها، وعليه مدار
حياتها وبقائها، إذا صلح صلحت كلها، وإذا فسد فسدت كلها.
وكما جعل الله سبحانه للكائنات ناموسًا ونظامًا، كذلك جعل لسيادة النوع
الإنساني وهدايته ناموسًا ونظامًا، وهو الإسلام {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: ٣٠) ، ولا بد أن يكون هذا الناموس المعنوي موافقًا لذلك الناموس
الصوري غير متعارض معه؛ لأنهما صنع يدٍ واحدةٍ، وتقدير العزيز العليم الذي لا
ترى في خلقه من تفاوت، فارجع البصر هل ترى فيه من فطور؟ ، ولعمري إنهما
لكذلك، فكما ترى نظام الكون قائمًا على ناموس المركزية كذلك نظام الإسلام قائم
على ناموس المركزية سواء بسواء، وقد نبه القرآن الحكيم على هذه الحقيقة مرارًا،
وهي أن النوع الإنساني - جماعاته وآحاده، وحياتهم الأدبية والمادية - قائمة
بناموس المركزية كسائر أنواع الأجسام، فكما أن الشمس مركز لنجوم سيارة في
محيطها جعل الله الأنبياء مركزًا لسعادة البشر، وجعل حياتهم المعنوية، وخلاص
أرواحهم، موقوفة على ارتباطهم بهذا المركز، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن
رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: ٦٤) ، وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًَ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً} (النساء: ٦٥) وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: ٢١) ، ثم جعل الله تعالى تحت هذا المركز الأعظم دوائر مختلفة،
ومراكز متعددة، فجعل عقيدة التوحيد مركزًا لسائر العقائد، فهي تحوم حولها، قال
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء:
٤٨) ، وجعل الصلاة مركزًا للعبادات عليها مدارها، وبضياعها ضياعها،
وبطلانها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( ... فمَن أقامها أقام الدين،
ومَن تركها فقد هدم الدين) ، وفي حديث الترمذي: (كان أصحاب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) ، وقد
جعل الكعبة مركزًا أرضيًّا لسائر الأمم، والشعوب، والبلاد، فقال تعالى: {جَعَلَ
اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (المائدة: ٩٧) ؛ ولذا أوجب أن تتوجه إلى
هذا المركز دوائر الناس ووجوههم، فقال: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة: ١٤٤) .
ثم لما كان للأجسام، والأشخاص، والمعتقدات، والأعمال مراكز - وجب
أن يكون للحياة الاجتماعية مركز، فجعل الله لها مركزًا، وجعل الأمة حوله
كالدائرة، وأوجب عليها مرافقته وموافقته وطاعته. فإذا نادى لبَّت، وإذا تحرك
تحركت، وإذا وقف وقفت، وإذا نهض نهضت بخيلها ورَجِلها، وسائر قواها،
وجعل عصيانه من الجاهلية التي لا مخرج منها إلا بطاعته، والرجوع إليه، وقد
سمى المسلمون هذا المركز الاجتماعي (بالخليفة والإمام) ، وفرض على المسلمين
قاطبة أن يعينوه، وينصروه، ويطيعوه كما يطيعون الله ورسوله، فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً} (النساء: ٥٩) .
***
فصل
أولو الأمر
أمر الله سبحانه في هذه الآية بثلاث طاعاتٍ: طاعة الله، وطاعة الرسول
وطاعة أُولِي الأمر، وقد علمنا أن طاعة الله تكون بطاعة كتابه، وطاعة الرسول
بطاعة سننه القولية والفعلية، ومَن أولو الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم؟ ، لقد
تضافرت الأدلة القطعية، والبراهين النيرة على أن المراد بأولي الأمر (الخليفة
والإمام) الذي ينفذ أحكام كتاب الله وسنة رسول الله، ويقوم بمصالح الأمة، ويحكم،
ويستنبط الأحكام من الشريعة عند النوازل برأيه واجتهاده، وإنما ذهبنا إلى هذا
القول لوجوهٍ:
(١) قاعدة: (القرآن يفسر بعضه بعضًا) فإذا رجعنا إليه نجد في نفس
هذه السورة قول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:
٨٣) ، ذكر الله سبحانه في هذه الآية تلك الآونة التي كانت تروج فيها أخبار الأمن
والخوف، والفتح والهزيمة، فيسمعها الناس، فيضطربون من أجلها اضطرابًا
شديدًا. وقد أشاع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض المنافقين مثل هذه
الأخبار، فهلع منها بعض ضَعَفَة الإيمان من المسلمين، فأمرهم الله أن إذا سمعتم
هذه الإشاعات فلا تأخذوها على عِلاَّتها، ولا تصدقوها، بل ردوها إلى الرسول،
وإلى (أولي الأمر) ؛ ليحققوها، ويمحصوها، ويستنبطوا منها ما يجب استنباطه.
فالحالة التي ذُكرت في هذه الآية: حالة الحرب والصلح، والأمن والخوف،
ولا يخفى على أحدٍ أن النظر في هذه الحالة، والاهتمام لها، واتخاذ التدابير
اللازمة لها من وظائف الأمراء والحكام، لا من وظائف العلماء والفقهاء؛ لأن
المسألة مسألة نظام البلاد، وقيام الأمن، ونشوب الحرب، لا مسألة الحلال
والحرام التي ينظر فيها العلماء، فإذن لا مناصَ من أن نسلِّم بأن المراد (بأولي
الأمر) هم الذين بيدهم الحرب والصلح، وتنظيم البلاد، وسياسة العباد، والذين
من شأنهم أن يحققوا مثل هذه الأخبار المؤثرة على السياسة العامة، وما هم إلا
الأمراء والحكام [١] .
(٢) إذا تتبعنا الكتاب، والسنة، واللغة نجد أن كلمة (الأمر) إذا
استعملت هذا الاستعمال، يكون معناها الحكومة والسلطان [٢] ، وقد كثر استعمالها
في هذا المعنى في الأحاديث النبوية كثرة زائدة لا يبقى معها محل للريب والشك،
وفي اللغة أيضًا معنى (الأمر) : (الحكم) ؛ ولذا قال الإمام البخاري: (أولو
الأمر هم ذوو الأمر) ، ومعلوم أن صاحب الحكم لا يكون إلا صاحب الحكومة.
(٣) لقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن هذه الآية إنما نزلت في طاعة أمير
الجماعة؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس: (أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن
قيس بن عدي؛ إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية ... ) وروى
ابن جرير الطبري في تفسيره: (بأنها نزلت في قصةٍ جرت لعمَّارٍ مع خالد،
وكان خالد أميرًا، فأجار عمَّار رجلاً بغير أمره، فتخاصما) ، فعُلم من هاتين
الروايتين أن الآية إنما أُنزلت في طاعة الأمراء لا غير [٣] .
(٤) روينا هذا التفسير عن كثيرٍ من الصحابة والتابعين، ولم يؤثر عنهم
غيره، وأما ما قيل في الآية فإنما هو من عند المفسرين المتأخرين، فقد نقل الحافظ
ابن حجر عن ابن عيينة أنه قال: (سألت زيد بن أسلم عنها، ولم يكن بالمدينة
أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) فقال: هذه في الولاة) (فتح الباري ١٣: ٩٩) فانظر كيف استدل زيد بن أسلم على أن المراد من (أولي الأمر) الحكام، والولاة بالآية التي قبلها، والتي ذكر فيها الأمراء والحكام [٤] ، وقد روى الطبري بسندٍ صحيحٍ عن
ميمون بن مهران وأبي هريرة، وغيرهما: (أولو الأمر هم الأمراء) وعدَّ ابن حزم
الصحابة والتابعين الذين نقل عنهم هذا التفسير فبلغوا ثلاثة عشر رجلاً.
نعم قد رُوِيَ عن بعض الصحابة والتابعين أن المراد من أولي الأمر العلماء
فقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: (إنهم أهل العلم والخير) ، وقال
مجاهد وعطاء وأبو العالية: (إنهم العلماء) ، ولكن لا تعارض بين التفسيرين؛ وذلك
لأن الشريعة جعلت الحكومة والولاية مركزًا لسائر شؤون الأمة الدينية، والسياسية،
والعلمية، ولم تكن المناصب والوظائف قد انقسمت إلى ذاك الحين، فأمير المؤمنين
كما كان حاكمًا وسائسًا كذلك كان عالمًا وفقيهًا أيضًا، فالصحابة والتابعون الذين
فسروا أولي الأمر (بأهل العلم والخير) - قد أحسنوا التفسير، إذ أثبتوا به أن أمراء
المسلمين يجب أن يكونوا من أهل العلم والخير، لا ما فهمه المتأخرون من هذا القول
بأنهم قصدوا به تلك الفئة التي عرفت (بالعلماء والفقهاء) بعد انقراض ذلك العهد،
وانهدام نظام الجماعة الشرعي؛ لأن هذه الفئة لم تخطر على بال أحدٍ من الصحابة
والتابعين في الصدر الأول، ومن هذا القبيل ما نقله ابن جرير أيضًا عن عكرمة أنه
قال: (أولو الأمر هم أبو بكر وعمر) أي أن المراد من أولي الأمر الخلفاء،
والأئمة مثل أبي بكر، وعمر - رضي الله عنهما [٥] .
وهذا التفسير مطابق لحالة البلاد الاجتماعية إذ ذاك، لأن بلاد الحجاز كانت
في الفوضى قبل الإسلام، ولا سيما قريش مكة، فإنهم لم يكونوا يعرفون الإمارة،
ولا ينقادون لأحدٍ من الناس، فجاءهم الإسلام (بنظام الجماعة) و (نظام الإمارة)
وأوجب على كل الناس أن يطيعوا الأمراء، ويلتزموا الجماعة، وإلى هذا
ذهب الإمام الشافعي - رضى الله عنه - كما نقل عنه العسقلاني في الفتح، حيث
يقول: (ورجح الشافعي الأول واحتج بأن قريشًا كانوا لا يعرفون الإمارة، ولا
ينقادون لأمير، فأُمِروا بالطاعة لمن ولي الأمر) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
(مَن أطاع أميري فقد أطاعني) (فتح الباري ٨: ١٩١) [٦] .
(٥) هذا هو قول أكبر فقيه قام في الأمة الإسلامية، ألا وهو الإمام محمد بن
إسماعيل البخاري - رضي الله عنه -، فقد بوب في كتاب الأحكام من صحيحه
بابًا على هذه الآية، فقال: (باب أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)
وروى تحته حديث أبي هريرة: (مَن أطاع أميري فقد أطاعني) ، فأثبت بهذا أن
أولي الأمر في مذهبه أيضًا هم الأمراء والأئمة لا الفقهاء والعلماء كما قال ابن حجر
في شرح هذا الحديث (في هذا إشارة من المصنف إلى ترجيح القول الصائر إلى
أن الآية نزلت في طاعة الأمراء، خلافًا لمَن قال نزلت في العلماء) (فتح الباري
١٣: ٩٩) .
(٦) إن أقدم التفاسير عهدًا وأغزرها مادةً تفسير ابن جرير الطبري،
ومكانة صاحبه في معرفة تفسير الصحابة، والتابعين، واستقصائه معلومة، وهو
قد رجح هذا القول بعد أن ذكر سائر الأقوال [٧] .
(٧) لا يذهبن عن بالك أن الأقاويل الكثيرة في تفسير القرآن إنما جاءت
من المتأخرين الذين سحرت ألبابهم الفلسفة اليونانية في زمنٍ كانت العجمية المعوجة
قد اندست في الفكر والنظر، واستولت على العلوم والمعارف، وتقهقرت العربية
الخالصة الصالحة، وهُجرت علوم السنة، وعشق الناس (التعمق) في كل شيءٍ،
حتى في العلوم الدينية، ذلك التعمق الذي ورد فيه: (هلك المتعمقون) .
وأما السلف الصالح فلم تكن في عصرهم منازعات، ولا مشاجرات، ولا قيل،
ولا قال، بل كانوا يفهمون كتاب الله بملكتهم اللغوية، بدون أن يتكلفوا أو يتعمقوا،
أو يجهدوا أفكارهم في نحت المعاني البعيدة، واختراع الاحتمالات الباردة، فإذا
سمعوا كلمة (أولي الأمر) - التي نحن بصددها - فهموا منها بلا أدنى تكلف
معناها المتبادر إلى الذهن، مثل ما يفهم الأعراب والرعاع.
ولكن الدهر كان خبأ أمثال فخر الدين الرازي - الذين لا ترضيهم هذه
السماحة والسذاجة - فجاؤوا من بعدهم يخترعون لكل كلمة معانيَ عديدةً،
واحتمالاتٍ كثيرةً، ويُظهرون بذلك براعتهم وجودة ذهنهم، فلا تروعنَّك أقاويل
المتأخرين واختلافهم؛ لأنهم إنما اتخذوا العلم صنعة لهم، ومماراة بينهم، بل إن
كنت تنشد الحق فعليك بالسنة النبوية الصحيحة، والآثار الثابتة عن الصحابة
والتابعين لهم بإحسان، فما وافقهما فخذه، وما خالفهما فاضرب به عُرض الحائط؛
إذ صاحب القرآن (صلى الله عليه وسلم) أعلم به، وكذلك أصحابه الذين شهد الله
العليم بعلمهم وعملهم - رضي الله عنهم ورضوا عنه [٨]-.
وما لي لا أعجب من هؤلاء الناس الذين يُعرضون عن السلف الصالح، ولا
يقيمون لهم وزنًا في تلك العلوم التي اخترعوها اختراعًا؛ لأجل أنهم لم يكونوا
يعلمون أصول الفقه، وعلم الكلام اليوناني اللذين ما أنزل الله بهما من سلطان!
فلِمَ لا يسلمون لهم في علم الكتاب الإلهي؟ ! أليس عجيبًا أن يؤمنوا بأن القرآن
نزل على محمد العربي صلى الله عليه وسلم، ثم يستشهدوا في فهم معانيه
بأرسطاطاليس اليوناني؟ نعم، إن هذا لشيء عُجاب!
وأما الذي حيَّر الرازي وغيره في فهم الآية فإنما هو ذكر الطاعة لأولي الأمر
معطوفة على طاعة الله ورسوله، فقالوا: كيف تكون طاعتهم مثل طاعة الله
ورسوله؟ ، وأين الملوك والسلاطين من هذا المقام الرفيع؟ ، فاخترعوا لذلك معنًى
يوافق فلسفتهم، وقالوا هم: (العلماء والفقهاء) [٩] ولقد تعبوا سدى؛ لأن المسألة
واضحة جلية لا تحتاج في حلها وظهورها إلى التفلسف البارد؛ وذلك لأن القرآن
والسنة شريعة وقانون، وماذا يجدي القانون إذا لم تكن وراءه قوةٌ منفذةٌ، فطاعة
هذه القوة طاعة القانون نفسه، وطاعة واضعه، ولا يخفى على أحدٍ من الناس حتى
السوقة والأعراب أن طاعة والي البلد طاعة لذلك الذي أرسله وعينه، وعصيانه
عصيان لذلك بلا ريبٍ، حتى إن الذي يعارض الشرطي في عمله الرسمي يعد
مخالفًا للقانون، وللقوة التي سنَّتْه، وإنما تخبط الناس في فهم الآية؛ لأنهم لم
يتأملوا النظام الشرعي الاجتماعي؛ إذ إنهم لو أمعنوا النظر فيه لما تحيروا هذا
التحير ولعلموا حق العلم بأن لا بد لقيام الشريعة، وبقاء الأمة من قوة مركزية، وما
هي تلك القوة إلا الخليفة والإمام، والأمراء ونوابه، ولو أنهم فعلوا ذلك لما خفي
عليهم معنى (أولي الأمر) [١٠] .
وقد علمنا أيضًا من آية: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ... } (النساء: ٥٩)
إلخ أن بين الخليفة الإسلامي والبابا المسيحي بونًا شاسعًا؛ إذ البابا ليس بيده
الخلافة الأرضية، بل هو صاحب السلطة في ملكوت السماء، وقد عَدَّ الإسلام هذه
العقيدة كفرًا وشركًا؛ فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) ، وأما الخليفة الإسلامي فهو الحاكم والسلطان في الأرض فقط،
يذود عن حوض الأمة، وينفذ أحكام الشريعة، ولا يملك أدنى سلطة في السماء،
ولا بيده القوة التشريعية، فهو لا يستطيع أن يغير من الشريعة شيئًا، ولا أن يزيد
فيها أو ينقص، بل عليه أيضًا مثل سائر آحاد الأمة أن يخضع لها خضوعًا تامًّا،
وإذا تنازع في شيءٍ مع المسلمين فلا حق له بأن يحملهم على حكمه ورأيه الخاص،
بل يجب عليه وعليهم جميعًا أن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله،
فيحكموها بينهم ويسلموا لها تسليمًا؛ قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: ٥٩) ، ففي هذه الحالة لا حكم للخليفة، وإنما الحكم
لله وللرسول، وكذلك طاعته طاعة لله ولرسوله، ولأجل هذا كرر الفعل في الآية
فقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول ... } (النساء: ٥٩) ، ولم يكرره في
(أولي الأمر) ليعلم أن طاعتهما مطلوبة أصلاً وطاعة أولي الأمر ليست كذلك، بل
إنما جُعلت ليُطاع الله ورسوله (قاله الطيبي في الشرح) .
ولذلك لما أراد أمراء بني أمية أن يحملوا المسلمين على طاعتهم في المنكر،
والبدعة، والظلم، قائلين: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: {وَأُوْلِي الأَمْرِ
مِنكُمْ} (النساء: ٥٩) - رد عليهم بعض الأئمة من التابعين أحسن ردٍّ فقال:
أليس قد نُزع عنكم بقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} (النساء: ٥٩) ؟ !
والحاصل أن الله سبحانه فرض على الأمة الإسلامية بهذه الآية طاعة الخليفة
والإمام؛ إذ به قيام الجماعة، وبقاء الهيئة الاجتماعية [١١] .
((يتبع بمقال تالٍ))