للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرحلة السورية الثانية
(٩)
جريت فيما كتبت من هذه الرحلة على طريقة بيان أحوال سورية الاجتماعية،
والأدبية، والسياسية في هذا الطور الجديد الذي دخلت فيه بعد الحرب لا على
طريقة بيان تنقُّلي في البلاد بتواريخه، وذكر المشاهدات، وما يتبعها من الآراء
تبعًا له كما اعتاد المؤرخون. وقد كان كل ما كتبته من فصول الرحلة بيانًا لما فيه
الفائدة مما رأيت، وخبرت، وجرى لي في الساحل مدة إقامتي فيه مترددًا بين
بيروت، وطرابلس، وأخَّرت الكلام على دمشق، وما يتبعها عمدًا، وكنت عازمًا
على إطالة الكلام في شأنها. وقد بدا لي الآن أن أختصر لما كان من التراخي في
كتابة الرحلة ونشرها، ولأنني ذكرت بعض ما حدث في الشام بعد ذلك في بعض
المقالات التي قضت الحال ببيان بعض حقائق المسألة العربية فيها، وكان موضعها
اللائق بها الرحلة لولا الضرورة فأقول:
الحال العامة بدمشق في سنتي ١٣٣٧ و ١٣٣٨:
قد علم من النبذة الثانية من هذه الرحلة التي نشرت في المجلد الحادي
والعشرين (ص ٤٢٨) أن وصولي إلى دمشق كان (في ١٩ ذي الحجة سنة
١٣٣٧ - ١٤ سبتمبر سنة ١٩١٩) وأنه اتفق أن أعلن عقبه كل من إنكلترة
وفرنسة أنهما اتفقتا نهائيًّا على تنفيذ معاهدة (سايكس، وبيكو) المعروفة باتفاق
سنة ١٩١٦، وأن إنكلترة ستُخرج جنودها من المنطقتين الشرقية، والغربية من
سورية، وتترك الأولى للجيش العربي الحجازي، والثانية للجيش الفرنسي، وأن
أهل سورية عامةً كانوا يظنون قبل هذا الإعلان أن الدولتين الحليفتين عدلتا عن
تنفيذ هذا الاتفاق لما رأوه من تنازع سياستيهما أثناء مجيء اللجنة الأميركية لاستفتاء
أهل البلاد. وكنت بينت في تلك النبذة أن الناس أحفوني بالسؤال عن سبب هذا
الانقلاب وذكرت فيها ملخص جوابي لأهل الرأي منهم، ولكن المراقبة على
المطبوعات بمصر - في ذلك العهد - منعت نشر ذلك كله، وإنما نشر منه بعض
المقدمات فكان الكلام أبتر غير مفيدٍ، ولم أعلم بذلك إلا عند مراجعته الآن،
وسألخص ما حُذف منه في موضعه.
لقد كان الغرور بخديعة الإنكليز للسوريين، وغيرهم من العرب في أثناء
الحرب بأن استقلالهم سيكون مكفولاً بانتصار الحلفاء في الحرب بما بينهم، وبين
ملك الحجاز من العهود والحلف، فلما جلا الترك عن سورية، وكان أول مَن دخلها
الأمير فيصل بجنده المؤلف من السوريين، والعراقيين، والحجازيين - اعتقدوا أن
الاستقلال قد تم، والسلطنة العربية قد تم أمرها، ونصب عرشها، ولم يكن نزع
العلم العربي من بيروت، وغيرها من السواحل - ولا خطب سايكس وبيكو
الخادعة، ولا استيلاء السلطة العسكرية الفرنسية في الساحل على الإدارة - بذاهبٍ
بذلك الوهم الخادع، وقد ألممنا بشيءٍ من هذا المعنى في الفصلين السادس والسابع
من الرحلة، ومنه يُعلم أن الريب دبَّ دبيبه إلى أهل الساحل، ثم انتشر فيهم أولاً
بتأثير السلطة الفرنسية المحتلة.
نعم، إن الأذكياء في دمشق قد اضطربوا لإعلان الدولتين الاتفاق على تنفيذ
اتفاق (سايكس وبيكو) ، وكانوا قد عرفوا حقيقته؛ ولذلك كثر سؤالهم إياي عن
رأيي فيه وهل يعقل أن تنقلب سياسة إنكلترة بهذه السرعة، فتسمح بسورية
لفرنسة؟! وقد ذكر في النبذة الثانية من جوابي لهم أن السياسة البريطانية لم تتغير
في المسألة وليس لعاقلٍ أن يظن أنها تفضل العرب على فرنسة، وإنما عرض
لفرنسة أمل بأخذ سورية كلها بحجة إجماع السوريين على وحدة البلاد، وعدم
تقسيمها. وأما بقية الجواب - الذي منعت المراقبة نشره يومئذٍ - فهو أن إنكلترة
لما شعرت بهذا الطمع من فرنسة استعانت بالأمير فيصل وحزبه على نبذ السواد
الأعظم من أهل المناطق السورية الثلاث للانتداب الفرنسي، والمساعدة الفرنسية
وقد تم هذا وظهر باستفتاء اللجنة الأميركية لأهل البلاد. وغرض إنكلترة من
ذلك أن تُعلم فرنسة أنها إذا شذت عن الاتفاق معها وحاولت أخذ فلسطين بحجة
اتفاق الأهالي على طلب وحدة البلاد - فإنها هي قادرة على حرمانها من كل
شيءٍ برأي أهل البلاد الذي جعل له الاعتبار الأول في عهد عصبة الأمم! ، فلما
رأت فرنسة ذلك قنعت بنصيبها في اتفاق سايكس وبيكو، حتى بعد تعديله بما
هو في مصلحة الإنكليز.
مع هذا كان أهل المنطقة الشرقية عامةً، وأهل دمشق خاصة يظنون أن
استقلال منطقتهم مضمون، فإن فاتهم إلحاق المنطقتين الأخريين بهم فلن يفوتهم
التمتع بالسلطان القومي في منطقتهم. وازداد شعورهم قوة بهذا بعد جلاء الجيش
البريطاني وما تلاه من ترك المراقبة على الحكومة، وإن كانت لا تزال عسكريةً
تابعةً للقائد العام للجيوش البريطانية.
كانت مظاهر هذا الشعور بالاستقلال تبعث في أنفس الشعب السرور وتقوي
الآمال؛ فقد صارت دواوين الحكومة ومصالحها عربية والتعليم في المدارس
الرسمية كغيرها بالعربية، وتلاميذ المدارس كانوا يتعلمون أناشيد الاستقلال،
فيترنمون بها صباح مساء، وكانت البرقيات المبشرات، والمسكنات ترِد على
الحكومة من الأمير فيصل أو من مندوبه النائب عنه لدى الحلفاء وفي مؤتمراتهم
(أحمد رستم بك حيدر) وكانت الاجتماعات، والمظاهرات حرة تنفخ في هذه
الأماني روحًا حيًّا، كل ذلك كان يبعث السرور في كل نفس لم تستشف شيئًا مما
وراءه، حتى إن سليم بك شاهين أحد أصحاب (المقطم) قال لي في بيروت:
إنني أقمت في دمشق يومًا واحدًا، فبُعث فيَّ روح حياة عربية، ووطنية جديدة،
ولا أرى هنا إلا أمارات الذل والموت التي تبعث الحزن والأسَى!
لقد كنت أعلم ما لا يعلم أهل وطني من نية الحلفاء فيهم، وتواطُئِهم على
بلادهم، ومن بناء عهودهم على الدخل، ووعودهم على الغش، وأنهم إذا وفوا
لملك الحجاز بما وعدوه به ولو على الوجه الذي طلبه منهم فيما يسميه (مقررات
النهضة) - لم تكن البلاد العربية، ولا الحجاز منها إلا مستعبَدة تحت نير السلطة
الأجنبية؛ فلهذا لم أكن أشعر بشيءٍ مما يشعر به الجمهور من السرور، المنبعث
عن الغرور، وإنما كنت أعتقد أن الأمة لا يزال يمكنها أن تعمل لاستقلالها عملاً
تضطر الطامعين إلى احترامه، إذا وجد فيها عدد من الرجال الأَكْفَاء، وهذا ما
كنت أبديه، وأعيده للسائلين، ولا سيما مَن هم مظنة العمل من الإخوان، حتى بعد
أن تم ما سعيت إليه معهم من إعلان الاستقلال، فإنني لم أكن أعده إلا تقويةً لحرية
العمل بإخراج الحكومة من مضيق العسكرية التابعة للقيادة البريطانية إلى فضاء
الحرية الوطنية، لتكوين قوة من الجند المنظم، ومن العشائر، والقبائل التي يمكن
تنظيمها لتوطيد الأمن والنظام، وإقامة الحجة المحترمة لدى الحلفاء على القدرة
على الاستقلال، وهذا ما كنت أبغيه، وأسعى إليه، ولم يوجد في رجال الحكومة
مَن هو أهل للنهوض به؛ ولذلك كان لساني صامتًا في كل تلك الاحتفالات العظيمة
التي أقامتها الحكومة، وكذا الشعب، فلم أخطب في شيءٍ منها على ما كان من
الإلحاح عليَّ في كل احتفال بطلب ذلك، وإنني أذكر مسألة صرحت فيها برأيي
بعدم الثقة بحالة البلاد قبل إعلان الاستقلال، وهي:
دعوتي إلى تَوَلِّي المصالح الشرعية بدمشق:
لم أكد أستريح في دمشق من لقاء وفود الزائرين حتى كاشفني الحاكم العسكري
العام (علي رضا باشا الركابي) بما يرغبون أن ينيطوه بي من مساعدة الحكومة
العربية، وهو تولي إصلاح (دوائر الأمور الشرعية، ففي يوم الأحد ٢٦ ذي
الحجة (٢١ سبتمبر) ، وعدني بأن يزورني زيارة خاصة للمذاكرة والاستشارة في
شؤون الحكومة، وما يطلب من مساعدتي لها وفي اليوم التالي أعاد الكلام معي فيما
يبغيه من تقليدي إدارة الأمور الشرعية وهي الأوقاف والمحاكم الشرعية، والتعليم
الديني، والمفتين، وقال: إنه طلبني من الإنكليز خمس مرات وكان يظن أن
الامتناع مني، فأخبرته بأن الإنكليزية لم تخاطبني بذلك ألبتة، وأنه لم يصل إليَّ
منه إلا الكتاب الذي أرسله في ضمن مكتوبات الحكومة لمندوبها التجاري بمصر
الدكتور بشير القصار، وذكَّرته بما كتبته إليه في الجواب عنه، وهو أنني مستعد
لمساعدة الحكومة العربية بكل ما أستطيعه بشرط أن لا أتقيد بعمل رسمي، وذكرت
مشربي، وتربيتي الصوفية التي بسببها وطنت نفسي على أن لا أقبل وظيفة، ولا
عملاً للحكومة، ولا رتبة، ولا وسامًا طول عمري ... ثم قلت له - بعد محاورةٍ
طويلةٍ -: ضع لي مذكرة بالعمل؛ لأرى رأيي فيه.
وفي يوم الخميس (٣٠ ذي الحجة) أخبرني أن المشروع الذي تضعه
الحكومة لإدارة الأمور الشرعية يتم يوم السبت الآتي، ويقدمه لي، وأنه كان كلم
فيه الأميرَ فيصلاً قبل سفره إلى أوربة، فوافق هو ونائبه الأمير زيد على نوطه بي؛
فاعتذرت بمشربي الخاص، وبالموانع العامة الأخرى وهي سوء حالة البلاد
الداخلية والخارجية، وعدم استقرار الحال السياسية؛ إذ البلاد لا تزال - بحسب
القانون الدولي - تابعة للدولة العثمانية، والمستقبل مجهول، ثم بضعف الحكومة
والإمارة وبأن الإصلاح الصحيح يلقَى معارضة قوية من أهل الأهواء الذين
يرتزقون بهذه المصالح الشرعية، فإذا لم يكن للمصلح ركنٌ شديدٌ من قوة الحكومة
لا يستطيع عملاً، فاعترف بذلك وقال: إنه هو الحجة التي يستند إليها في وجوب
وجود مثلي، وإنني سأكون حرًّا في عملي، وإن الإصلاح الذي تبغيه البلاد مني لا
يتم إلا بالقيام به بنفسي؛ لأن الإرشاد بالقول والكتابة لا ينفع إلا إذا وُجد رجال
أَكْفَاء يقدرون على العمل به، وهم غير موجودين، (قال) : يجب أن تستفيد بلادك
من علمك الواسع، واختبارك الدقيق مدة إقامتك بمصر بتطور البلاد المصرية،
وارتقاء الإدارة والنظام فيها. وإن ما نعلمه فيك من الغيرة وحب الإصلاح يحملنا
على الاعتقاد بأن لا يخيب أمل وطنك فيك.
وفي يوم السبت (٢ المحرم سنة ١٣٣٨) زارني الأمير زيد في الفندق بعد
العصر، ودار الكلام بيننا في حالتنا العامة، فذكرت له ملخص ما أعلم من اتفاق
والده مع الإنكليز، وأنه ينافي مصلحة العرب. ثم انتقلنا إلى الكلام في سورية،
فكلمني الأمير في شدة حاجة الحكومة إلى مساعدتي لها، فاعتذرت له بمثل ما
اعتذرت لعلي رضا باشا، فأجاب بمثل جوابه، ومما قاله إن الأخلاق في الشام
ضعيفة جدًّا؛ فإن أكبر الرجال يرهبه أقل تخويفٍ، ويستميله أقل نفعٍ، فإذا لم
ينهض مثلك ... بالإصلاح فمَن؟ ! ...
فقلت له: إن حجتكم عليَّ، وإن كانت عندي ضعيفة من حيث مبالغتكم في
حسن الظن بي - هي أقوى من حجتي عليكم بالتنصل من العمل، وإنني على
علمي بضعفي لا أرتاب في قوة إخلاصي، وحرصي على الإصلاح لذاته، ولكن
الإصلاح العام يعوزه الأعوان الأكفاء علمًا، ونزاهةً، وإخلاصًا، وهم قليلون
متفرقون، وسأفاوض مَن أثق به منهم قولاً وكتابة، ثم أبني على ذلك ما يتجدد من
الرأي، ولا أعد الآن بشيءٍ.
وسألني هل أحضر الأسرة، وأنقل عملي من مصر إلى الشام؟ فقلت: إن
قبلت المُكْث الآن في الشام للمساعدة، فلا يمكنني أن أنقل أسرتي لما يقتضيه نقلها
من النفقة الكثيرة، والخسارة التي لا يسمح بها لمكث مؤقت، ومركزنا في مصر
ثابت لا يمكن التفريط فيه، فلا بد من إبقائه على حاله حتى يستقر الأمر في الشام
على أساسٍ ثابتٍ. فأقرني على ذلك وجاءته - وهو عندي - برقية من أخيه الأمير
فيصل يؤكد فيها وجوب السكينة في البلاد؛ إذ علموا أن الأهالي في اضطراب من
جرَّاء الاتفاق بين الإنكليز والفرنسيس.
وفي هذا اليوم أعطاني علي رضا باشا المذكرة التي وضعها لإدارة الأمور
الشرعية، وهي خاصة بالإدارة والعاملين فيها - إدارة المدير العام - ومحكمة
التمييز الشرعية ولجنة التوجيه والانتخاب والامتحان والتدقيق والمعاهد والمدارس
الدينية وإدارة الأوقاف العامة وقلم الرسائل ويلي ذلك الأمور المالية لهذه الإدارات.
ومن هذه القضية يُعلم رأيي في حالة البلاد وحكومتها في سورية، على حين
كان الوجهاء والمتعلمون يعتقدون أن لها دولة ثابتة يتهافتون على مناصبها ووظائفها،
وقد كان التزاحم على إدارة الأمور الشرعية بعد مجيء الأمير فيصل، وبعد إعلان
الاستقلال أعظم، والتزاحم أشد، وكان كثيرٌ من العلماء يختلفون إليَّ للبحث فيها،
وقد كتبوا لي زهاء أربعين اسمًا، قالوا: إنهم على رأيٍ واحدٍ في أن يكونوا أنصارًا
لي، ولا يذعنون في رئاسة الأمور العلمية لغيري فكان ذلك مما زادني فيها زهدًا،
وعنها بُعدًا، وذكرت لهم رأيي ومشربي، كما ذكرته للملك فيصل بمناسبة ذكر هذه
المسألة، وانتهى الأمر فيها - بعد الاستقلال وتأليف الوزارة - إلى إحداث وظيفة
مدير للعلمية، ليس له شأن في الأوقاف، ولا المحاكم الشرعية!
(للرحلة بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))