للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بن إسماعيل الصنعاني


رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد
تأليف الإمام المحدث الشهير محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني

بسم الله الرحمن الرحيم وهو المستعان
الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كل
الإفراد، من اتخاذ الأنداد، فلا يتخذون له ندًّا، ولا يدعون معه أحدًا، ولا يتَّكلون
إلا عليه، ولا يفزعون في كل حالٍ إلا إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى،
ولا يتوصَّلون إليه بالشفاعة {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: ٢٥٥) ،
وأشهد أن لا إله إلا الله ربًّا معبودًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول:
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعراف: ١٨٨) ، وكفى
بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله والتابعين له، في السلامة من العيوب،
وتطهير القلوب عن اعتقاد كل شيءٍ يشوب.
وبعد: فهذا (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) وجب عليَّ تأليفه، وتعين
عليَّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته من اتخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى
وجميع البلاد من اليمن والشام ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو
الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدَّعي العلم بالمغيبات والكاشفات، وهو من
أهل الفجور [١] لا يحضر للمسلمين مسجدًا، ولا يُرَى لله راكعًا ولا ساجدًا، ولا
يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب؛ فوجب عليَّ أن أنكر ما
أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره، فاعلم أن ههنا
أصولاً هي من قواعد الدين، ومن أهم ما تجب معرفته على الموحدين:
(الأصل الأول) أنه قد عُلِمَ من الدين أن كل ما في القرآن فهو حقٌّ لا باطل،
وصدقٌ لا كذب، وهدىً لا ضلالة، وعلمٌ لا جهالة، ويقينٌ لا شك فيه، فهذا
الأصل أصل لا يتم إسلام أحد، ولا إيمانه إلا بالإقرار بهذا الأصل [٢] ، وهذا
مجمع عليه لا خلاف فيه.
(الأصل الثاني) أن رسل الله وأنبياءه من أولهم إلى آخرهم بُعثوا لدعاء
العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة، وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله:
{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: ٥٩) ، {أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ
اللَّهَ} (هود: ٢٦) ، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح: ٣) ، وهذا الذي
تضمنه قول لا إله إلا الله، فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة، واعتقاد
معناها، لا مجرد قولها باللسان، ومعناها هو إفراد الله بالإلهية والعبادة والنفي لما
يُعبد من دونه والبراءة منه، وهذا الأصل لا مِرْية في ما تضمنه، ولا شك فيه،
وأنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه.
(الأصل الثالث) أن التوحيد قسمان: القسم الأول توحيد الربوبية والخالقية
والرازِقية ونحوها، ومعناها أن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو الرب لهم
والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكًا، بل هم
مقرون به، كما سيأتي في الأصل الرابع، والقسم الثاني توحيد العبادة، ومعناها
إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه
الشركاء، ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى، فالرسل عليهم السلام بُعثوا
لتقرير الأول، ودعاء المشركين إلى الثاني مثل قولهم - في خطاب المشركين -:
{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} (إبراهيم: ١٠) ، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (فاطر: ٣) ،
ونهيهم عن شرك العبادة؛ ولذا قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ} (النحل: ٣٦) أي قائلين لأُممهم: أن اعبدوا الله، فأفاد بقوله: {فِي
كُلِّ أُمَّةٍ} (النحل: ٣٦) - أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد
العبادة لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم، وأنه رب السموات والأرض، فإنهم
مُقِرُّون بهذا؛ ولهذا لم ترد الآيات في الغالب إلا بصيغة استفهام التقرير، نحو:
{هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (فاطر: ٣) ، {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (النحل:
١٧) ، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: ١٠) ، {أَغَيْرَ اللَّهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام: ١٤) ، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ
مِن دُونِهِ} (لقمان: ١١) ، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} (فاطر: ٤٠)
استفهام تقرير لهم؛ لأنهم به مقِرون، وبهذا نعرف أن المشركين لم يتخذوا الأصنام
والأوثان، ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه، ولم يتخذوا الملائكة شركاءَ لله
تعالى؛ لأنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض، بل اتخذوهم؛ لأنهم يقربونهم
إلى الله زُلفى كما قالوه، فهم مقرون بالله في نفس كلمات كفرهم، وأنهم شفعاء عند
الله، قال الله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: ١٨) ، فجعل الله تعالى اتخاذهم للشفعاء
شركًا، ونزه نفسه عنه؛ لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم،
لم يأذن الله لهم في شفاعةٍ، ولا هم أهلٌ لها، ولا يغنون عنهم من الله شيئًا؟!
(الأصل الرابع) أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله
خالقهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: ٨٧) ، وأنه الذي خلق
السموات والأرض {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ
الْعَلِيمُ} (الزخرف: ٩) ، وأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت
من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع
الأبصار والأفئدة {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ
فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: ٣١) - {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ *
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ
يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون:
٨٤-٨٩) وهذا فرعون مع غلوّه في كفره ودعواه أقبح دعوة ونطقه بالكلمة الشنعاء يقول الله - في حقه حاكيًا عن موسى عليه السلام -: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ
رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} (الإسراء: ١٠٢) وقال إبليس: {إِنِّي
أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} (الحشر: ١٦) ، وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (الحجر: ٣٩) وقال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي ... } (الحجر: ٣٦) وكل مشرك مقر بأن
الله خالقه، خالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم؛ ولهذا
احتج عليهم الرسل بقولهم: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (النحل: ١٧) ، وبقولهم
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (الحج: ٧٣) ،
والمشركون مقرون بذلك لا ينكرون.
(الأصل الخامس) أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلُّل، ولم تُستعمل
إلا في الخضوع لله؛ لأنه مَوْلَي أعظم النعم، وكان [٣] حقيقًا بأقصى غاية الخضوع
كما في الكشاف، ثم إن رأس العبادة وأساسها التوحيد لله الذي تفيده كلمته التي إليها
دعت جميع الرسل، وهو قول (لا إله إلا الله) ، والمراد اعتقاد معناها لا مجرد
قولها باللسان، ومعناها إفراد الله بالعبادة والإلهية، والنفي، والبراءة من كل معبودٍ
دونه، وقد علم الكفار هذا المعنى؛ لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا {أَجَعَلَ الآلِهَةَ
إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: ٥) .
***
فصل
إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعًا
(اعتقادية) وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق
والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه
وأنه لا معبود بحقٍّ غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الإلهية (ومنها اللفظية)
وهي النطق بكلمة التوحيد، فمَن اعتقد ما ذُكر، ولم ينطق بها لم يحقن دمه، ولا
ماله، وكان كإبليس فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقرُّ به كما أسلفناه عنه، إلا أنه لم
يمتثل أمر الله فكفر، ومَن نطق ولم يعتقد حقن ماله، ودمه، وحسابه إلى الله،
وحكمه حكم المنافقين (وبدنية) كالقيام، والركوع، والسجود في الصلاة (ومنها)
الصوم وأفعال الحج والطواف (ومالية) كإخراج جزءٍ من المال امتثالاً لما أمر الله
تعالى به، وأنواع الواجبات والمندوبات والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة،
لكن هذه أماتها.
وإذا تقررت هذه الأمور فاعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء - عليهم السلام -
من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه
خلقهم ونحوه [٤] ؛ إذ هم مقرون بذلك كما قررناه وكررناه؛ ولذا قالوا {أَجِئْتَنَا
لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} (الأعراف: ٧٠) ، أي لنفرده بالعبادة، ويختص بها من دون
الأوثان، فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى،
ولا أنه لا يُعبد، بل أقروا بأنه يُعبد، وأنكروا، قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً
وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: ٢٢) ، أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وكانوا يقولون في
تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وكان يسمعهم
النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قولهم: لا شريك لك، ويقول: قد أفردوه جل
جلاله لو تركوا قولهم: (إلا شريكًا هو لك) . فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به
تعالى، قال تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: ٢٢) ،
{وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ} (البقرة: ٢٣) ، {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ
تُنظِرُونِ} (الأعراف: ١٩٥) ، فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا
الأصنام للخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم من الله
زلفى، وتشفع لهم لديه، فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه، وأن هذا
الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون
إلا لله وحده، وهذا هو توحيد العبادة، وقد كانوا مقرّين كما عرفت في الأصل
الرابع بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده، والرازق وحده، ومن هذا
تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم - وهو نوح عليه السلام - إلى
آخرهم - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - هو توحيد العبادة؛ ولذا تقول لهم
الرسل: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} (هود: ٢) ، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: ٥٩) ، وقد كان المشركون منهم مَن يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد
ومن يعبد أحجارًا [٥] ويهتف بها عند الشدائد فبعث الله محمدًا - صلى الله عليه
وسلم - يدعوهم إلى الله وحده بأن يفردوه بالعبادة، كما أفردوه بالربوبية،أي
بربوبية السموات والأرض، وأن يفردوه بكلمة (لا إله إلا الله) معتقدين لمعناها،
عاملين بمقتضاها، وألا يدعوا مع الله أحدًا، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} (الرعد: ١٤) وقال تعالى: {وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: ٢٣) أي من شرط الصدق بالله ألا
يتوكلوا إلا عليه، وأن يفردوه بالتوكل كما يجب أن يفردوه بالدعاء والاستغفار،
وأمر الله عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ ... } (الفاتحة: ٥) ولا يصدق قائل هذا
إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذبًا منهيًّا عن أن يقول هذه الكلمة؛ إذ
معناها نخصك بالعبادة، ونفردك بها، وهو معنى قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت: ٥٦) ، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة: ٤١) ، كما عُرف من علم البيان
أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي لا تعبدوا إلا الله، ولا تعبدوا غيره، ولا
تتقوا غيره [٦] كما في الكشاف، فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون
الدعاء كله له، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله
وحده، واللجأ إلى الله والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع،
والقيام تذلُّلاً لله تعالى، والركوع، والسجود، والطواف،والتجرد عن الثياب،
والحلق، والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل، ومَن فعل ذلك لمخلوق حيٍّ أو
ميتٍ أو جمادٍ أو غيره، فهذا شرك في العبادة، وصار مَن تُفعل له هذه الأمور إلهًا
لعابديه، سواء كان ملكًا أو نبيًّا أو وليًّا أو شجرًا أو قبرًا أو جنّيًّا أو حيًّا أو ميتًا،
وصار بهذه العبادة أو بأي نوع منها عابدًا لذلك المخلوق، وإن أقر بالله وعبده؛ فإن
إقرار المشركين بالله، وتقربهم إليه لم يُخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك
دمائهم، وسبي ذراريهم ونهب أموالهم، قال [٧] الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن
الشرك، لا يقبل الله عملاً شُورِكَ فيه غيره، ولا يؤمن به مَن عبد معه غيره) .
***
فصل
إذا تقرر عندك أن المشركين لم ينفعهم الإقرار بالله مع إشراكهم في
العبادة، ولا يُغني عنهم من الله شيئًا، وأن عبادتهم هي اعتقادهم فيهم أنهم يضرون،
وينفعون، وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى؛
فنحروا لهم النحائر، وطافوا بهم، ونذروا النذور عليهم، وقاموا متذللين
متواضعين في خدمتهم، وسجدوا لهم، ومع هذا كله فهم مقرون لله بالربوبية، وأنه
الخالق، ولكنهم كما أشركوا في عبادته جعلهم مشركين، ولم يعتد بإقرارهم هذا؛
لأنه نافاه فعلهم، فلم ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية، فمن شأن مَن أقر لله تعالى
بتوحيد الربوبية أن يفرده بتوحيد العبادة، فإذا لم يفعل ذلك فالإقرار الأول باطل،
وقد عرفوا وهم في طبقات النار، وقالوا: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ
نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشعراء: ٩٧-٩٨) ، مع أنهم لم يسوّوهم به مِن كل وجهٍ،
ولا جعلوهم خالقين، ولا رازقين، لكنهم علموا، وهم في قعر جهنم أن خلطهم
الإقرار بذرة من ذرات الإشراك في توحيد العبادة -صيَّرهم كمَن سوى بين الأصنام،
وبين رب الأنام، قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) أي ما يقر أكثرهم في إقراره بالله، وبأنه خلقه وخلق السموات
والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الأوثان [٨] ، بل سمى الله الرياء في الطاعات شركًا،
مع أن فاعل الطاعة ما قصد بها إلا الله تعالى، وإنما أراد طلب المنزلة بالطاعة
في قلوب الناس، فالمرائي عبد الله لا غيره، لكنه خلط عبادته بطلب المنزلة في
قلوب الناس، فلم تُقبل له عبادة،وسماها شركًا، كما أخرجه مسلم من حديث أبي
هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك مَن عمل عملاً، وأشرك فيه معي
غيري تركته وشركه) ، بل سمى الله التسمية بعبد الحارث شركًا، كما قال تعالى:
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف: ١٩٠) فإنه أخرج
الإمام أحمد، والترمذي من حديث سمرة أنه قال صلى الله عليه وسلم: (لما
حملت حواء - وكان لا يعيش لها ولد - طاف بها إبليس، وقال: لا يعيش لك ولد
حتى تسميه عبد الحارث فسمته، فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره،
فأنزل الله الآيات،وسمى هذه التسمية شركًا، وكان إبليس تَسَمَّى بالحارث)
والقصة في الدر المنثور وغيره [٩] .
***
فصل
قد عرفت من هذا كله أن مَن اعتقد في شجرٍ أو حجرٍ أو قبرٍ أو
مَلَكٍ أو جنيٍّ أو حيٍّ أو ميتٍ أنه ينفع أو يضر أو أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده
في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به والتوسل إلى الرب تعالى - إلا ما ورد
في حديث فيه مقال في حق نبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك [١٠]-
فإنه قد أشرك مع الله غيره، واعتقد ما لا يحل اعتقاده، كما اعتقد المشركون في
الأوثان، فضلاً عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي، أو يطلب من ذلك ما لا يُطْلَب
إلا من الله تعالى من الحاجات من عافية مريضه، أو قدوم غائبه أو نيله لأي مطلب
من المطالب، فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كان عليه عباد الأصنام، والنذور
بالمال على الميت ونحوه والنحر على القبر والتوسل به وطلب الحاجات منه هو
بعينه الذي كان تفعله الجاهلية، وإنما يفعلونه لما يسمونه وثنًا وصنمًا، وفعله
القبوريون لما يسمونه وليًّا وقبرًا ومشهدًا، والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني
ضرورة لغوية وعقلية وشرعية؛ فإن مَن شرب الخمر وسماها ماءً ما شرب إلا
خمرًا، وعقابه عقاب شارب الخمر، ولعله يزيد عقابه للتدليس والكذب في التسمية،
وقد ثبت في الأحاديث أنه يأتي قوم يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها، وصدق
صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد أتى طوائف من الفسقة يشربون الخمر، ويسمونها
نبيذًا، وأول مَن سمى ما فيه غضب الله وعصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين-
إبليس لعنه الله؛ فإنه قال لأبي البشر آدم عليه السلام: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى
شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى} (طه: ١٢٠) ، فسمى الشجرة التي نهى الله تعالى آدم
عن قربانها شجرة الخلد جذبًا لطبعه إليها، وهزًّا لنشاطه إلى قربانها، وتدلّيا عليه
بالاسم الذي اخترعه لها، كما يسمي إخوانه المقلدون الحشيشة بلقمة الراحة، وكما
يسمي الظلمة ما يقبضونه من أموال عباد الله ظلمًا وعدوانًا أدبًا، فيقولون: أدب
القتل، أدب السرقة، أدب التهمة، بتحريف اسم الظلم إلى اسم الأدب، كما
يحرفونه في بعض المقبوضات إلى اسم النفاعة، وفي بعضها إلى اسم السباقة،
وفي بعضها أدب المكاييل والموازين وكل ذلك اسمه عند الله ظلم وعدوان، كما
يعرفه مَن شم رائحة الكتاب والسنة، وكل ذلك مأخوذ عن إبليس حيث سمى
الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد.
وكذلك تسمية القبر مشهدًا، ومَن يعتقدون فيه وليًّا - لا يُخرجه [١١] عن اسم
الصنم والوثن؛ إذ هم معاملون لها [١٢] معاملةَ المشركين للأصنام، ويطوفون بهم
طواف الحجاج ببيت الله الحرام، ويستلمونهم استلامهم لأركان البيت، ويخاطبون
الميت بالكلمات الكفرية من قولهم: على الله وعليك ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد
ونحوها، وكل قوم لهم رجل ينادونه؛ فأهل العراق، والهند يدعون عبد القادر
الجيلي، وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، يقولون: يا زيلعي
يا ابن العجيل، وأهل مكة، وأهل الطائف: يا ابن العباس، وأهل مصر يا رفاعي-
يا بدوي - والسادة البكرية: وأهل الجبال يا أبا طير: وأهل اليمن يا ابن علوان.
وفي كل قرية أموات يهتفون بهم، وينادونهم، ويرجونهم لجلب الخير،ودفع
الضر، وهو [١٣] بعينه فعل المشركين في الأصنام، كما قلنا في الأبيات النجدية:
أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث ووَدّ ليس ذلك من ودي
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفردِ
وكم نحروا في سوحها من نحيرة ... أُهِلَّتْ لغير الله جهلاً على عمدِ
وكم طائف حول القبور مقبلاً ... ويلتمس الأركان منهن بالأيدي
فإن قال: إنما نحرت لله، وذكرت اسم الله عليه، فقل: إن كان النحر لله،
فلأي شيءٍ قرَّبت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك
تعظيمه؟ إن [١٤] قال: نعم، فقل له: هذا النحر لغير الله، بل أشركت مع الله
تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد، وتنجيس
الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينًا أنك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلا الأول،
ولا خرجت من بيتك إلا لقصده، ثم كذلك دعاؤهم له، فهذا الذي عليه هؤلاء شرك
بلا ريبٍ.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))