للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسني عبد الهادي


من الخرافات إلى الحقيقة
(٥)
تابع لمقالة الطور الأول للإسلام [١]
(١٦) شعور الإخاء كان بالغًا أعلى الدرجات بين المسلمين، ألمُ الواحد
كان يؤلم المجموع؛ لأنهم اتخذوا لحالتهم الاجتماعية منهاجًا رسمه لهم النبي -
صلى الله عليه وسلم - إذ قال: (إن حقًّا على المؤمنين أن يتوجَّع بعضهم لبعضٍ،
كما يؤلم الجسد الرأس) [٢] ، كان الناس يمشون على هذا المنهاج الاجتماعي بكل
إخلاص، أما نحن (واأسفاه!) فهل يتذكَّر أحدنا إن جاء المسلمين ضربة إلا
وكانت عن يد مسلم؟ هذا تاريخنا الماضي لنقرأه باكين [٣] .
(١٧) إلقاء بذور الشقاق والتفريق بين المسلمين كان ممقوتًا أشد المقْت،
حتى إن الهادي الأكرم أخرج المفرقين من بين أفراد العائلة الإسلامية؛ إذ قال (مَن
فرَّق فليس منا) [٤] ، وأما في زماننا - فواحسرتاه! - قد أصبح التفريق بين
المسلمين يعد من حسن الحزم ودهاء السياسة فينا!
(وقلبوا الحقيقة فخصوا المفرق باسم (المنقذ) كأن الخروج من التابعية
الإسلامية، والدخول في حماية غير المسلمين (إنقاذ! ! !) - لا حول ولا قوة إلا
بالله - (المترجم) .
(١٨) كانت النميمة بين الناس من أشنع المنكرات؛ لأن سيد الخلق قال:
(إياكم والعِضَةَ؛ النميمة القَالَة بين الناس) [٥] .
(١٩) الظن السيئ في الناس الذين - لم تثبت تهمتهم - كان من أسوأ
الأخلاق، والتجسس على الناس كان معدودًا من المفاسد المنافية للتأليف مع الإسلام؛
لحديث: (إياكم والظنَّ؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا،
ولا تنافسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا) [٦] ، وأما نحن
فأقل إشارة تبدو من أخينا المسلم تكون سببًا لإغراقنا إياه في أمواج الظنون المختلفة،
فهل صار ديننا البُعد عن هدي نبينا، ونبذ آداب ديننا؟
كلا، إن حُسن الظن بالناس قد عُدَّ من حسن العبادة في ديننا؛ إذ قال نبينا
عليه صلوات الله وسلامه: (حسن الظن من حسن العبادة) [٧] وكان الناس يعدون
الانقياد لهذا الهدْي النبوي من أقدس الواجبات، فليتدبره العقلاء، وليحكموا على
أنفسهم أو لها.
(٢٠) كانوا يكرهون التفرُّق في المجلس الواحد، ويستحبون الاجتماع
والمشاركة فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب مرأى أمته وهم
مجتمعون، وقد دخل المسجد مرة فرأى المسلمين جالسين خمسة خمسة، أو ستة
ستة، فلم يرُقه هذا المنظر، فقال: (ما لي أراكم عزين؟ !) [٨] لأن هذا
المنظر يوهم الأعداء وقوع التفرقة.
ظل المسلمون مهتدين بهذا الهدْي محافظين على وصية الاجتماع والاعتصام
إلى زمان ذي النورين، وهناك بدأت التفرقة، ومنذ ذلك التاريخ تمطر التفرقة على
رأس المسلمين وابل النكبات والمصائب، أين العقلاء؟ !
(٢١) أهم ما كان يرمي إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤلف
المسلمون جسمًا معنويًّا واحدًا، يتحابون، ويتراحمون، فيكونون كأعضاء الجسد
الواحد؛ لذلك قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا
اشتكى منه عضو تداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمى) .
وأما نحن فلم نفقد التحابّ والتراحم فقط، بل صرنا نجهل أحوال إخواننا
المسلمين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكيف نتراحم قبل أن نتعارف
مَن منا يعرف أحوال مسلمي جاوه وما جاورها من دينية وإدارية واقتصادية؟ مَن
منا يطلب من الجرائد أن تبحث له عنها، أو عن غيرها من بلاد المسلمين، كما
تبحث عن أمم أوربة وأميركا؟ أين الكتب التي تبحث عن جغرافية تلك البلاد
وتاريخها؟ وكيف طوَّق عنقها بقيود الحماية الغربية؟ ، كيف ولماذا أصيبت بهذه
المصيبة؟ مَن منا - إلا قليل - تشعر نفسه بالحاجة إلى ما ذُكر؟ وبعد هذا
الإهمال أنحن مسلمون؟ ! [٩]
رُبّ قائلٍ يقول: إن الجرائد غير الإسلامية تهمل البحث عن المسلمين
وأحوالهم، وأحداث بلادهم لعدم العلاقة بينها وبينهم، وتملأ أدمغتنا بما يتعلق بأوربا
وأميركا، فامتلأ الخلاء. ولكن ما قولنا في الجرائد الإسلامية: هل فات أصحابها
النابغين أن ما حث عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التراحم والتعاطف يتوقف
على التعارف قبل كل شيءٍ؟ كيف أعطف على قوم لا أعرفهم؟ لذلك أرى التبعة
تقع على عاتق مؤلّفي الجغرافية والتاريخ، وكُتّاب الصحف قبل كل الناس.
(٢٢) الاتحاد من أقصى مقاصد الدين؛ لأن التعالي السياسي لا يكون
بدونه أبدًا؛ لذلك [١٠] أمر الله تعالى به بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) .
(٢٣) الاجتماع كان محبوبًا جدًّا عنده - صلى الله عليه وسلم -، جاء في
الحديث: (اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة،
فعليكم بالجماعة) [١١] لذلك لم يكن أحد من السلف يفكر في شخصه وحده، بل كان
الناس يفتشون على سعادتهم بين سعادة المجموع.
(٢٤) كان المِرَاء والجدال لتأييد أهواء الأنفس من أقبح الخصال المذمومة؛
لأنه يثير الأحقاد، ويعمي البصائر والأبصار عن رؤية الحقائق، ومما ورد من
الأحاديث الصحيحة في ذمه والتنفير عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (أبغض
الرجال إلى الله الألدّ الخصم) [١٢] .
(٢٥) معاملة الجار بالحسنى، وعمل المعروف كان من أهم الآداب التي
يحافظ عليها المسلمون لوصايا القرآن والسنة به، ومنها حديث: (أحسنْ إلى
جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا) [١٣] .
(٢٦) كان أفراد الأمة صريحين في أقوالهم، أحرارًا في أطوارهم،
وأظهر سجايا الإسلام في طوره الأول هذه السجية، كان كل فرد مسلم يقول الحق
بصراحة، ولو كان مخاطبه نفس الخليفة، وكانوا يتنزهون عن الكذب؛ لأنه أقوى
دعائم النفاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب،
وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) [١٤] .
(٢٧) إغماض العين على الباطل محاباةً، والتملُّق للظلمة مُداراةً والغش
والخداع للناس - كل ذلك كان يُعَدّ من صفات المجرمين والمنافقين، المنافية لآداب
الإسلام وصفات المؤمنين، وقد أخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) كل مَن يغش
مسلمًا أو يخدعه أو يحتال عليه من الجمعية الإسلامية؛ إذ قال: (ليس منا مَن
غش مسلمًا أو ضره أو ماكره) [١٥] .
(٢٨) أخذ الموظفين الهدية وقبول الحكام الرشوة كان من أكبر الجرائم
المذمومة، قال صلى الله عليه وسلم: (أَخْذُ الأمير الهدية سُحت، وقبول القاضي
الرشوة كفر) [١٦] .
وما قول أمراء هذا الزمان الذين يعدون قبول الهدايا أمرًا غير منهيٍّ عنه؟
رَبِّ ارْحَمْ أمة يدير أمورها أناس لا يفقهون أحكام الشرع!
(٢٩) الاستقامة على الحق كانت من أُسِّ الواجبات، وركن المعاملات
حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في آية: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (هود:
١١٢) إنها شيبته تعظيمًا لشأن الاستقامة، وعلى مَن يريد أن يقف على روح
الإسلام، ويتأمل في صعوبة الاستقامة، ويدرك درجة عظمة المستقيمين، فما عليه
إلا أن يتأمل معاملة الفاروق للمرأة التي رآها جائعة، وكيف حمل لها كيس الطحين
على ظهره، وكيف طبخ لها بيديه الشريفتين، مَن يتأمل فيما أودعته هذه الواقعة
من المعاني يدرك عظمة الاستقامة، وكيفية تلقِّيها عند المسلمين، وعندئذ تتضح له
أسباب تعالِيهِم بكل سهولة [١٧] .
(٣٠) العدل كان غاية من كل مسلم؛ لأن الله قال - في كتابه العزيز -:
{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: ٨) [١٨] .
(٣١) روح الإسلام حسن الخلق؛ لذلك أمرنا صلى الله عليه وسلم بقوله:
(استقم، وليحسن خلقك للناس) [١٩] وقوله: (الإسلام حسن الخلق) [٢٠] وقال
تعالى - مادحًا نبيه -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: ٤) وقال صلى الله
عليه وسلم: (أفضل المؤمنين أحسنهم خلقًا) [٢١] .
(٣٢) التعدي والتجاوز على الناس كان منهيًّا (ومَنئيًّا) عنه؛ لأن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل المؤمنين إسلامًا مَن سلم المسلمون من يده
ولسانه، وأفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا) [٢٢] ، وهذا تأمينًا لحرية الأفراد من
أي تعدٍّ خارجي.
(٣٣) حُسن الخلق كان يوصل صاحبه إلى أعلى درجات التقوى التي لا
تُنال إلا بقيام الليل وصيام النهار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن
المؤمن لَيدركُ بحسن الخلق درجة القائم الصائم) [٢٣] .
(٣٤) عُلو الهمة والسماحة من مكارم الأخلاق العالية عند المسلمين؛ فقد جاء
في الحديث: (اسمحوا يسمح لكم) [٢٤] لكي تقابل المكارم بمثلها.
(٣٥) كان المسلمون يسلم بعضهم على بعض عند التلاقي بكل لطف
وبشاشة وإخلاص؛ لأجل استمالة القلوب ودوام التحابّ، ومما ورد من الحديث في
ذلك: (أفشوا السلام بينكم تحابوا) [٢٥] .
(٣٦) الرفق واللين كان الأساس لجميع المعاملات؛ لأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) [٢٦] .
(٣٧) إن البشاشة في الوجوه عند اللقاء كانت من الآداب العامة المطلوبة
للتحاب، وكان التعبيس والتقطيب من الخصال الممقوتة، قال - صلى الله عليه
وسلم -: (إن الله تعالى يبغض المعبس في وجوه إخوانه) [٢٧] .
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))