للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرحلة الأوربية
(٢)
السفر من تريسته:
سافرنا من تريسته يوم الخميس في الربع الأخير من الساعة السابعة صباحًا
(٦ س و٤٥د) في قطار أوربة الأكبر، وكان موعده قبل ساعة، ولكنه تأخر
لتأخر مجيئه من الآستانة.
سار بنا القطار في خيف شجير، من ذلك الجبل النضير، فكانت شجراؤه
عن يميننا في الجبل، وعن يسارنا فوق البحر، وما زال يتسلق بنا متلويًّا كالأرقم
في الأجم، حتى استوى على تلك السهول الفيحاء، والسهوب الشجراء، ذات
المروج الخضراء، والرياض الغَنَّاء، الكثيرة النوار، والمفتَّحة الأزهار، حتى
كأن الزمان قد استدار، فتحوَّل الشطر الثاني من آبَ إلى مثله من نيسان، وأوائل
آيار، وهي السهول المعروفة بسهول لومباردية، وبعد أربع ساعات وصل إلى
مدينة البندقية (فينيسية) ، وهو يدخل إليها على طريق يبس في رقراق من الماء،
يسير فيه خمس دقائق، يقطع فيها زهاء أربعة أميال (أو ٥ كيلو) ، ثم عاد بنا
القهقرَى في ذلك الماء بعد وقوف دقائق في المحطة، ثم وصلنا إلى مدينة (ميلان)
وقت العصر (الساعة ٣ و٤٥ دقيقة) ، ومكث في محطتها نصف ساعة، تزود
فيها ما يحتاج إليه من الفحم والماء، وبين البندقية، وميلان بلاد وقرى كثيرة
عامرة، لا يقف عليها القطار العام السريع، وإنما المواصلات بينها بالقُطُر الوطنية.
وأما هاتان المدينتان فهما من أعظم المدن ذات الصناعات الجميلة، والآثار
التاريخية التي يقصدها السياح من الأقطار، ولو شئنا لنقلنا من كتب التاريخ شيئًا
من وصفها، كما يفعل كثير من الناس فيما يكتبون في رحلاتهم، ولسنا من
مستحسِنِي هذه الطريقة بإطلاق، وإنما يحسن فيها تقييد بعض الشوارد المبعثرة،
والنوادّ التي لا تنال باليسير من المراجعة، والنوادر التي تزدان بها المحاضرة،
وما يستنبطه السائح من العبرة والفائدة، حتى فيما صوَّرته الفكاهة والتسلية.
ومما لاحظته في نبات هذه الأرض أن أكثر شجرها صغير، ومتوسط العمر
لعل أكبره لا يتجاوز عشر سنين؛ وذلك أنهم يتناولونه بالقطع للاستفادة من خشبه،
ولكن بالقرب من ميلان أدواحًا عظيمة باسقة، كأنهم يستبقونها للزينة، ورأيتهم
يختلون خلاها (أي يقطعون حشيشها) بآلات تستأصله من وجه الأرض ويجففونه،
ويجعلونه أكداسًا كأكداس حصيد القمح والشعير، ولا يلبث أن ينمي مكانه، ويطول؛
لأن المكان مجاج الثرى ريَّان بالماء.
ولم أَرَ في تلك الحقول الخضراء زرعًا غير الذرة، وهي غضَّة حسنة النماء
فيما قبل ميلان من الأرض، وأكثرها ضئيل فيما بعدها، وبالقرب من المدن
والقرى حقول، وبساتين مزروعة بقولاً كالفاصوليا، والكرنب، والطماطم، وأما
شجرها فمنه التفاح والكمثرى، وقد أينع ثمره، وطابت فاكهته.
وأجمل مناظر هذه البلاد - على الإطلاق - البحيرات فقد مررنا ببعضها عن
بُعد، وببعضها من كثب، ولم أنسَ لا أنسى أصيل ذلك اليوم؛ إذ بلغنا بحيرة
ماجور أو (ميجارو) ، فراعني ذلك المنظر البهيج، الذي لم أَرَ له فيما سبق من
عمري من شبيه ولا نظير، وإنما رأيت نظيره بعد ذلك في سويسرة، فأقول: إن
مثل هذه البحيرة وبحيرة لوسرن من البحيرات التي بين الجبال هو أجمل ما خلقه
الله في هذه الأرض.
البحيرة واسعة، بين جبال شاهقة، مزدانة بالجنات الألفاف، والأجم الغبياء،
من أدنَى الغور المساوي للماء، إلى الشماريخ التي تناطح السماء، وترى فيما
يدنو منك من هذه الجنات، المعروشات منها وغير المعروشات، أصناف الأعناب
وأنواع الثمرات، وهي ذات تعاريج كثيرة، وفيها جزائر صغيرة، بُنيت فيها
قصور نضيرة، يصلون إليها بزوارق جميلة، ومياهها زرقاء صافية، وهي تتسع
في مكان، وتضيق في آخر، وأخياف الجبال المحيطة بها تمتد على بعض
الضفاف، وتتقلَّص عن بعض، ولبعضها ألسنة مستطيلة فيها، ورؤوس مقنعة في
بعض نواحيها، والقطار يسايرها في جوانبها، ويلتفُّ على معاطفها، فيدنو ويبعد،
ويغير وينجد، ويصوب ويصعد، ونحن فيه متلعو الرؤوس شاخصو الأبصار،
نقلب الطرف ذات اليمين وذات اليسار، فمنظر البحيرة العجيب عن أيماننا،
ومنظر الجبال الغريب عن شمائلنا، وفي كل منهما آيات للناظرين، ومعانٍ
للمتفكرين، تثير في الخيال هواجس الشعر، وتنفث في الوهم رقي السحر، وتُلقي
في العقول معاني الفنون، وتوحي إلى القلوب حقائق الإيمان بمَن يقول للشيء كن
فيكون.
تذكرت برؤية تلك الجنات الغَنَّاء، والغابات الغبياء، والرياض الفيحاء -
وَصْفي لروضة من روضات الوطن في مقصورتي، وهو:
وروضةٍ تجلى بثوب سندس ... رصَّعها النَّوْرُ بأصناف الحُلَى [١]
ما صوَّح البارحُ غضَّ نجمها ... وناضرُ الأفنانِ منها ما ذَوَى [٢]
والباسقاتُ رفعت أكفَّها ... تَسْتَنْزل الغيث وتطلب النَّدَى [٣]
تمتلجُ (الكربون) من ضرع الهوا ... تؤثرنا بالأكسجين المنتقَى [٤]
مدَّت على الصعيد ظلاًّ وارفًا ... فلا ذَأَى العودُ ولا الظلُّ أَزَى [٥]
والشمسُ تبدو من خلال دوحها ... آونةً تخفَى وتارة تُرَى [٦]
كغادةٍ وضَّاحةٍ قد أتْلعَتْ ... من خَلَلِ السُّجوف ترنو والكُوى [٧]
تلقي على الروض نَثِير عسجد ... فتسحب الروض عروسًا تُجتلَى [٨]
وأين هذا الوصف القاصر، من هذا المنظر الناضر، والجمال الساحر،
وأَنَّى لي بتخيل مثله في طرابلس والقلمون، وإن كانت كثيرة الجنات جارية
العيون.
كل هذا الجمال والجلال، الذي تجلى علينا بمناظر البحيرة، وما يحيط بها
من الجبال، وما يزين ضفافها، وجزائرها من القصور والفنادق، والجنات
والحدائق، والفُلْك والزوارق، وما تولده من المعاني الشعرية، والخواطر
الاجتماعية والروحية، لم تكن لتنسيني أن ولدي مريض ما أدري ما فعل الله به،
ولا لتصرفني عن الخوف عليه، والدعاء له، ولا سيما في أعقاب الصلوات، وما
وفقت له من تلاوة القرآن والوضوء والصلاة في هذه القطر من أسهل الأمور،
ومعرفة سَمْت القبلة فيها ميسور.
وانتهينا عند الساعة السابعة مساءً إلى محطة وقف فيها القطار نصف ساعة
لانكسار مركبة الطعام هنالك، وقد ظننا أنها أصلحت في تلك المدة، ولكن خاب
الظن، وبقينا بغير عشاء، على أننا مكثنا زمنًا طويلاً في المحطة التي بعدها،
وهي آخر محطة طليانية، وفيها مطعم عام، إلا أننا شغلنا عن الطعام فيها بعرض
جوازات السفر وتفتيش الصناديق، وبما اتخذ من المعاملات الجمركية بشأن لفائف
التبغ التي يحملها الرفاق.
ثم سار القطار بنا، ولم يلبث أن دخل في النفق الكبير الفاصل بين إيطالية
وسويسرة، ومكث في بطن الأرض ٢٥ دقيقة، ثم تجاوزه، ووقف بنا بعد نصف
ساعة في أول محطة سويسرية، فمكثنا فيها مدة؛ لأجل معاملات الأجوزة، وقد
أخذوها منها واعدين بإعادتها لنا في جنيف، ثم سرنا فوصلنا إلى مدينة لوزان في
منتصف الليل، فلم ندرك القطار الذي يسافر ليلاً إلى جنيف لتأخرنا عن الموعد،
فبيتنا بقية ليلتنا في فندق فيكتوريا بقرب المحطة، وقد طلبنا فيه طعامًا، فقيل لنا
إن المطعم قد أقفل ولا طعام إلا الخبز، والجبن، والزبد، والمربى، والفاكهة،
فجاءونا من ذلك بأفضل أنواعه مع الماء المثلوج والثلج لتبريد الفاكهة، وهي موز
وتفاح وكمثرى، فكان هذا العشاء أشهى وألذّ من كل طعام أكلناه في أوربة؛ إذ كان
عقب جوع صحيح وتعب طويل.
أكلنا طعامًا لطيفًا لذيذًا، ونمنا نومًا هادئًا مريحًا، على سُرُر مرفوعة وفُرُش
وثيرة نظيفة، ولكل حجرة من حجرات النوم حمام خاص، تمتعنا بها في ليلنا وفي
صبيحته.
كان الجو في ذلك اليوم الذي قطعنا به أرض إيطالية يوم صيف معتدل، وإن
كانت أرضها أرض ربيع مُدْبرٍ ومقبلٍ، ولولا غمام رقيق كان يكفكف بعض أشعة
الشمس - لعُدَّ هنالك من أيام الحر، وقد تغير الجو علينا في سويسرة بعد نصف
الليل، فهبَّ الهواء البليل، ولما أصبحنا رأينا السحاب يتكاثف في الأفق، ثم طفق
يجود برذاذ لطيف، ثم تكاثف السحاب قبل الظهر، واشتد المطر بعد العصر،
فكان كما وصفه ابن دريد بقوله:
جَوْن أعارته الجنوبُ جانبًا ... منها وواصتْ صَوبه يَدُ الصَّبا [٩]
نَاءَ يمانيًّا فلما انتشرت ... أحضانُه وامتدَّ كِسراه غَطا [١٠]
وجلَّل الأفْق فكل جانب ... منها كأنْ من قُطره المُزْنُ حبا [١١]
وطبّق الأرضَ فكل بقعة ... منها تقولُ الغيث في هاتا ثوى [١٢]
إذا خَبَتْ بروقه عنَّت له ... ريحُ الصَّبا تَشُبُّ منه ما خبا [١٣]
وإن وَنَت رعودُه حدا بها ... حادي الجنوب فحدتْ كما حدا [١٤]
كأن في أحضانه وبَرْكه ... بَرْكًا تداعى بين سَجْرٍ ووَحَى [١٥]
لم تَرَ كالمُزْن سَوامًا بُهَّلاً ... تحسَبها مَرعيَّة وهي سُدى [١٦]
يقول للأجْرَاز لما استوسقت ... بسَوْقه ثِقِي بِرِيٍّ وحيا [١٧]
فأوسع الأحداب سَيْبًا مُحسِبًا ... وطبَّقَ البُطنان بالماء الرِّوَى [١٨]
كأنما البَيْدَاء غِبَّ صَوْبه ... بحرٌ طما تياره ثم سجا [١٩]
هذا، وإننا كنا نريد أن نسافر إلى جنيف قبل الظهر، ولكن جاء منها
لاستقبالنا مَن كان فيها من إخواننا السوريين - نجيب بك شقير، وصلاح الدين
أفندي قاسم، وتوفيق أفندي اليازجي - الذي كان سبق من قبل حزبنا للاستعداد
للمؤتمر، فتأخرنا إلى المساء، ولم نتمكَّن من التجوال في لوزان لشدة المطر، ثم
سافرنا عند انتهاء الساعة الخامسة مساءً، والمطر يهطل، والريح تمنعنا من فتح
نوافذ القطار، ومناظر سويسرة تأخذ بأبصارنا ذات اليمن وذات اليسار، فوصلنا
إلى جنيف في خمسين دقيقة.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))