للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بن إسماعيل الصنعاني


تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [١]

وقد يعتقدون في بعض فَسقة الأحياء، وينادونهم في الشدة والرخاء،
وهو عاكفٌ على القبائح [٢] ، لا يحضر حيث أمر الله عباده المؤمنين بالحضور
هناك، ولا يحضر جمعة ولا جماعة، ولا يعود مريضًا، ولا يشيع جنازة، ولا
يكتسب حلالاً، ويضم إلى ذلك دعوى التوكل، وعلم الغيب، ويجلب إليه إبليس
جماعة قد عشَّش في قلوبهم، وباض فيها، وفرَّخ، يصدقون بهتانه، ويعظمون
شأنه، ويجعلون هذا ندًّا لرب العالمين ومثلاً، فيا للعقول أين ذهبت، ويا للشرائع
كيف جهلت، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: ١٩٤) .
فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلفاء
مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ ! ، قلت: نعم، قد حصل منهم [٣] ما حصل
من أولئك، وساوَوْهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد، والانقياد، والاستعباد، فلا
فرق بينهم.
فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى، ولا نجعل
له ندًّا، والالتجاء إلى الأولياء ليس شركًا، قلت: نعم {يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ
فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: ١٦٧) ، لكن هذا جهلٌ منهم بمعنى الشرك؛ فإن
تعظيمهم الأولياء، ونحرهم النحائر لهم شرك، والله تعالى يقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ
وَانْحَرْ} (الكوثر: ٢) ، أي لا لغيره كما يفيده تقديم الظرف، ويقول تعالى:
{فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: ١٨) وقد عرفت - بما قدمنا قريبًا - أنه
سمى الرياء شركًا، فكيف بما ذكرناه؟ ! فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما
فعله المشركون، وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئًا؛
لأن فعلهم أكذب قولهم.
فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه، قلت: قد خرَّج الفقهاء في
كتب الفقه في باب الردة: أن مَن تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها،
وهذا دال [٤] على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا
حيئنذٍ كفارًا كفرًا أصليًّا، فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة: {أَن لاَّ
تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} (هود: ٢٦) ، وإخلاصها: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: ٥) الآية، ومَن نادى الله ليلاً ونهارًا وسرًّا وجهارًا
وخوفًا وطمعًا، ثم نادَى معه غيره - فقد أشرك في العبادة؛ فإن الدعاء من العبادة،
وقد سماه الله تعالى عبادةً في قوله تعالى: { ... إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي} (غافر: ٦٠) بعد قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ... } (غافر: ٦٠) .
فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم، والسلوك فيهم ما سلك رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في المشركين، قلت: إلى هذا ذهب طائفة من أئمة
العلم، فقالوا: يجب أولاً دعاؤهم إلى التوحيد، وإبانة أن ما يعتقدونه ينفع ويضر
لا يُغني عنهم من الله شيئًا، وأنهم أمثالهم، وأن هذا الاعتقاد منهم فيهم شركٌ، لا
يتم الإيمان بما جاءت به الرسل إلا بتركه، والتوبة منه، وإفراد التوحيد اعتقادًا
وعملاً لله وحده. وهذا واجب على العلماء، (أي) بيان أن ذلك الاعتقاد الذي
تفرعت عنه النذور، والنحائر، والطواف بالقبور شرك محرم، وأنه عين ما كان
يفعله المشركون لأصنامهم، فإذا أبانت العلماء (ذلك) للأئمة والملوك وجب على
الأئمة والملوك بعْث دعاة إلى إخلاص التوحيد، فمَن رجع وأقر حُقن عليه دمه
وماله وذراريه، ومَن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله - صلى الله عليه وسلم -
من المشركين.
(فإن قلت) : الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث؛ فإنه قد صح أن العباد يوم
القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى،
وينتهون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد اعتذار كل واحد من الأنبياء،
فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكرٍ، قلت: هذا تلبيس؛ فإن
الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء - فيما يقدرون عليه - لا ينكرها أحد؛ وقد قال الله
تعالى - في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي -: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ
عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: ١٥) ، وإنما الكلام في استغاثة القبوريين
وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أمورًا لا يقدر عليها إلا الله تعالى من عافية
المريض وغيرها، بل أعجب من هذا أن القبوريين وغيرهم من الأحياء ومن أتباع
مَن يعتقدون فيه - يجعلون له حصة من الولد إن عاش، ويشترون منه الحمل في
بطن أمه ليعيش، ويأتون بمنكراتٍ ما بلغ إليها المشركون، ولقد أخبرني بعض مَن
يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية
نسائه، وقال (هذه لسيِّده فلان) - يريد صاحب القبر - نصف مهر ابنتي؛ لأني
زوَّجتها، وكنت ملَّكت نصفها فلانًا - يريد صاحب القبر -[٥] ، وهذا شيء ما بلغ
إليه عُبَّاد الأصنام، وهو داخل تحت قول الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ
نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ} (النحل: ٥٦) بلا شك ولا ريب، نعم استغاثة العباد يوم
القيامة، وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالى يفصل بين العباد بالحساب حتى
يريحهم من هول الموقف، وهذا لا شك في جوازه (أعني) طلب الدعاء لله تعالى
من بعض عباده لبعض، بل قال صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه - لما
خرج معتمرًا: (لا تنسنا - يا أخي - من دعائك) وأمرنا سبحانه أن ندعو
للمؤمنين، ونستغفر لهم، يعني قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: ١٠) وقد قالت أم سليم - رضي الله عنها -:
(يا رسول الله، خادمك أنس ادعُ الله له) ، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم -
يطلبون الدعاء منه صلى الله عليه وسلم، وهو حي، وهذا أمر متفق على جوازه،
والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا
ولا ضرًّا، ولا موتًا، ولا حياة ولا نشورًا - أن يشفوا مرضاهم، ويردوا غائبهم،
وينفّسوا على حُبْلاهم، وأن يسقوا زرعهم، ويدرّوا ضروع مواشيهم، ويحفظوها
من العين، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى! - هؤلاء
الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنفُسَهُمْ
يَنصُرُونَ} (الأعراف: ١٩٧) ، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: ١٩٤) ، فكيف يُطلب من الجماد أو من حي، الجماد خير منه؛ لأنه
لا تكليف عليه، وهذا يبين ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم في قوله
تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ
وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (الأنعام: ١٣٦) الآية، وقال {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً
مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} (النحل: ٥٦) فهؤلاء القبوريون،
والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم - سلكوا مسالك المشركين حذو القُذَّة بالقذة،
فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يُعتقد إلا في الله، وجعلوا لهم جزءًا من المال،
وقصدوا قبورهم من ديارهم للزيارة، وطافوا حول قبورهم، وقاموا خاضعين عند
قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، ونحروا تقربًا إليهم، وهذه هي أنواع العبادات
التي عرفناك، ولا أدري هل فيهم مَن يسجد لهم؟ ! ، لا أستبعد أن فيهم مَن يفعل
ذلك، بل أخبرني مَن أثق به أنه رأى مَن يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي
يقصده؛ تعظيمًا له وعبادة ويقسمون بأسمائهم! ، بل إذا حلف مَن عليه حق باسم
الله تعالى لم يُقبل منه! ، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه، وهكذا
كانت عباد الأصنام! ؛ {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: ٤٥) وفي
الحديث الصحيح: (مَن حلف فليحلف بالله أو ليصمت) وسمع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - رجلاً يحلف باللات فأمره أن يقول: لا إله إلا الله، وهذا
يدل على أنه ارتد بالحلف بالصنم، فأمره أن يجدد إسلامه؛ فإنه قد كفر بذلك، كما
قررنا في (سبل السلام شرح بلوغ المرام) ، وفي (منحة الغفار) :
فإن قلت: لا سواء، لأن هؤلاء قد قالوا: لا إله إلا الله، وقد قال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا
قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ، وقال لأسامة بن زيد: (قتلتَه بعد
ما قال لا إله إلا الله؟ !) ، وهؤلاء يصلُّون، ويصومون، ويزكّون، ويحجون
بخلاف المشركين، (قلت:) قد قال صلى الله عليه وسلم (إلا بحقها) ، وحقها
إفراد الألوهية، والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يفردوا هذه العبادة، فلم تنفعهم
كلمة الشهادة؛ فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، ولم ينفع اليهود قولها لإنكارهم
بعض الأنبياء، وكذلك مَن جعل غير مَن أرسله الله نبيًّا لم تنفعه كلمة الشهادة؛ ألا
ترى أن بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون،
ولكنهم قالوا: إن مسيلمة نبي، فقاتلهم الصحابة، وسَبوهم، فكيف بمَن يجعل
للولي خاصة الإلهية، ويناديه للمهمات، وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -
رضي الله عنه - حرَّق أصحاب عبد الله بن سبأ، وكانوا يقولون: لا إله إلا الله
محمد رسول الله، ولكن غلَوْا في علي - رضي الله عنه - واعتقدوا فيه ما يعتقد
القبوريون، وأشباههم، بل عاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدًا من العصاة؛ فإنه حفر
لهم الحفائر، وأجَّج لهم نارًا، وألقاهم فيها، وقال:
إني إذا رأيتُ أمرًا منكرًا ... أججت ناري ودعوت قنبرَا
وقال الشاعر في عصره:
لترمِ بي المنيةُ حيث شاءت ... إذا لم ترمِ بي في الحفرتين
إذا ما أججوا فيهن نارًا ... رأيت الموت نقدًا غير دين
والقصة في فتح الباري وغيره من كتب الحديث والسير، وقد وقع إجماع
الأمة على أن مَن أنكر البعث كفر، وقُتل، ولو قال لا إله إلا الله، فكيف (مَن)
يجعل لله ندًّا، فإن قلت: قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمَن
قال لا إله إلا الله، كما هو معروف في كتب الحديث والسيرة، قلت: لا شك أن
مَن قال: لا إله إلا الله من الكفار حقن دمه وماله، حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله؛
ولذا أنزل الله في قصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء: ٩٤) الآية، فأمرهم الله تعالى بالتثبُّت في شأن مَن قال: كلمة التوحيد،
فإن التزم لمعناها كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وإن تبين خلافه لم يحقن
دمه وماله بمجرد التلفظ، وهكذا كل مَن أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن
يتبين منه ما يخالف ذلك، فإذا تبين لم تنفع هذه الكلمة بمجردها؛ ولذلك لم تنفع
اليهود، ولا نفعت الخوارج، مع ما انضمَّ إليها من العبادة التي يحتقر الصحابة
عبادتهم إلى جنبها، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: (لئن أدركتهم
لأقتلنَّهم قتل عاد) وذلك لما خالفوا بعض الشريعة، وكانوا شر القتلى تحت أديم
السماء كما ثبتت به الأحاديث، فثبت أن مجرد كلمة التوحيد غير مانع من ثبوت
شرك مَن قالها لارتكابه ما يخالفها من عبادة غير الله.
(فإن قلت) القبوريون وغيرهم من الذين يعتقدون في فسقة الناس وجهالهم
من الأحياء يقولون: نحن لا نعبد هؤلاء، ولا نعبد إلا الله وحده، ولا نصلي لهم،
ولا نصوم، ولا نحج، (قلت) هذا جهل بمعنى العبادة، فإنها ليست منحصرة فيما
ذكرت، بل رأسها، وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك، بل يسمونه
معتقدًا، ويصنعون له ما سمعته مما تفرَّع عن الاعتقاد من دعائهم، وندائهم
والتوسل بهم والاستغاثة، والاستعانة، والحلف والنذر وغير ذلك، وقد ذكر العلماء
أن مَن تزيَّى بزيّ الكفار صار كافرًا، ومَن تكلم بكلمة الكفر صار كافرًا، فكيف
بمَن بلغ هذه الرتبة اعتقادًا، وقولاً، وفعلاً؟ ! (فإن قلت) هذه النذور والنحائر
ما حكمها؟ (قلت) قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها، يسعون في
جمعها ولو بارتكاب كل معصية، ويقطعون الفيافي من أدنى الأرض والأقاصي،
فلا يبذل أحد من ماله شيئًا إلا معتقِدًا لجلب نفع أكثر منه أو دفع ضرر، فالناذر
للقبر ما أخرج من ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما
أراده ما أخرج درهمًا؛ فإن الأموال عزيزة عند أهلها، قال تعالى: {وَلاَ يَسْأَلْكُمْ
أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} (محمد: ٣٦-٣٧) ،
فالواجب تعريف مَن أخرج النذر بأنه إضاعة لماله، وأنه لا ينفعه ما يُخرجه، ولا
يدفع عنه ضررًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما
يستخرج به من البخيل) ويجب رده إليه، وأما القابض للنذر فإنه حرام عليه
قبضه؛ لأنه أكل لمال الناذر بالباطل لا في مقابلة شيء، وقد قال تعالى: {وَلاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: ١٨٨) ؛ ولأنه تقرير للناذر على شِرْكه
وقبح اعتقاده ورضاه بذلك، ولا يخفى حكم الراضي بالشرك {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن
يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: ٤٨) الآية، فهو مثل حلوان الكاهن ومهر البغي؛ ولأنه
تدليس على الناذر، وإيهام له أن الولي ينفعه ويضره، فأي تقرير لمنكر أعظم من
قبض النذر على الميت؟ وأي تدليس أعظم، وأي رضاء بالمعصية العظمى أبلغ
من هذا؟ وأي تصيير لمنكر معروفًا أعجب من هذا، وما كانت النذور للأصنام
والأوثان إلا على هذا الأسلوب، يعتقد الناذر جلب النفع في الصنم ودفع الضرر،
فينذر له جَزورًا من ماله، ويقاسمه في غلات أطيانه، ويأتي به إلى سَدَنَة الأصنام،
فيقبضونه منه، ويوهمونه حقيقة عقيدته، وكذلك يأتي ببَحِيرته، فينحرها بباب
الصنم، وهذه الأفعال هي التي بعث الله الرسل لإزالتها، وامِّحائها، وإتلافها
والنهي عنها.
فإن قلت: إن الناذر قد يدرك النفع، ودفع الضرر بسبب إخراجه للنذر،
وبذله، قلت: كذلك الأصنام قد يدرك منها ما هو أبلغ من هذا، وهو الخطاب من
جوفها، والإخبار ببعض ما يكتمه الإنسان، فإن كان هذا دليلاً على حقِّية القبور
وصحة الاعتقاد فيها - فليكُن دليلاً على حقيقة الأصنام، وهذا هدم للإسلام،
وتشييد لأركان الأصنام. والتحقيق أن لإبليس - وجنوده من الجن والإنس - أعظم
العناية في إضلال العباد، وقد مكن الله إبليس من الدخول في الأبدان، والوسوسة
في الصدور، والتقام القلب بخُرطومه، فكذلك يدخل أجواف الأصنام، ويلقي الكلام
أسماع الأقوام ومثله يصنعه في عقائد القبوريين، فإن الله تعالى قد أذن له أن يجلب
بخيله ورَجِله على بني آدم، وأن يشاركهم في الأموال والأولاد. وثبت في
الأحاديث أن الشيطان يسترق السمع بالأمر الذي يُحدثه الله، فيلقيه إلى الكهان،
وهم الذين يخبرون بالمغيبات، ويزيدون فيما يلقيه الشيطان من عند أنفسهم مائة
كذبة، ويقصد شياطين الجن شياطين الإنس من سدنة القبور وغيرهم، فيقولون: إن
الولي فعل وفعل يرغِّبونهم فيه، ويحذرونهم منه، وترى العامة ملوك الأقطار وولاة
الأمصار معزِّزين لذلك، ويولون العمال لقبض النذور، وقد يتولاها مَن يحسنون
فيه الظن من عالم أو قاضٍ أو مفتٍ أو شيخ صوفي، فيتم التدليس لإبليس وتقرعينه
بهذا التلبيس، (فإن قلت) هذا أمر عَمَّ البلاد، واجتمعت عليه سكان الأغوار
والأنجاد وطبق الأرض شرقًا وغربًا، ويمنًا وشامًا، وجنوبًا وعدنًا [٦] ، بحيث لا
بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور، ومشاهد، وأحياء يعتقدون فيها، ويعظمونها،
وينذرون لها، ويهتفون بأسمائها، ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور،
ويسرجونها، ويلقون عليها الأوراد والرياحين، ويُلْبِسُونَها الثياب، ويصنعون كل
أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها، والتعظيم، والخضوع،
والخشوع، والتذلُّل، والافتقار إليها، بل هذه مساجد المسلمين، غالبها لا يخلو عن
قبر، أو قريب منه، أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة يصنعون فيه ما
ذُكر أو بعض ما ذكر، ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من
الشفاعة، ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا،
(قلت) إن أردت الإنصاف، وتركت متابعة الأسلاف، وعرفت أن الحق ما قام
عليه الدليل لا ما اتفق عليه العوالم جيلاً بعد جيلٍ، وقبيلاً بعد قبيل، فاعلم أن هذه
الأمور التي ندندن حول إنكارها، ونسعى في هدم منارها، صادرة عن العامة الذين
إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دني ومثيل، ينشأ
الواحد فيهم، فيجد أهل قريته، وأصحاب بلدته يلقنونه في الطفولية أن يهتف باسم
مَن يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه، ويعظمونه، ويرحلون به على محل قبره،
ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفًا على قبره، فينشأ وقد قَرَّ في قلبه عظمة ما
يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده مَن يعتقدونه، فنشأ على هذا الصغير،
وشاخ عليه الكبير، ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير، بل ترى مَن يتسم بالعلم،
ويدَّعي الفضل، وينتصب للقضاء، والفُتيا والتدريس، أو الولاية، أو المعرفة،
أو الإمارة والحكومة معظمًا لما يعظمونه مكرمًا لما يكرمونه، قابضًا للنذور، آكلاً
ما ينحر على القبور، فيظن أن هذا دين الإسلام، وأنه رأس الدين والسنام، ولا
يخفى على أحد يتأهَّل للنظر، ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن
سكوت العالِم أو العالَم على وقوع منكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر.
ولنضربْ لك مثلاً من ذلك، وهي هذه المكوس المسماة بالمجابي المعلوم من
ضرورة الدين تحريمها قد ملأت الديار والبقاع، وصارت أمرًا مأنوسًا لا يلج
إنكارها إلى سمع من الأسماع، وقد امتدت أيدي المَكَّاسين في أشرف البقاع في مكة
أم القرى يقبضون من القاصدين لأداء فريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كل
فعل حرام، وسُكانها من فضلاء الأنام، والعلماء والحكام، ساكتون عن الإنكار،
مُعْرضون عن إيراده والإصدار، أفيكون السكوت دليلاً على أخْذها وإحرازها؟ ،
هذا لا يقوله مَن له أدنى إدراك.
بل أضرب لك مثلاً آخر هذا حَرَم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا بالاتفاق،
وإجماع العلماء أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال هذه المقامات
الأربعة التي فرقت لعبادات العباد، واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله عز وجل
من الفساد، وفرقت عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين، بدعة
قرَّت بها عين إبليس اللعين، وصيَّرت المسلمين ضحكة للشياطين، وقد سكت
الناس عليها، ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها، وشاهدها كل ذي عينين،
وسمع بها كل ذي أذنين، أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله مَن
له إلمام بشيءٍ من المعارف كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين.
(فإن قلت) يلزم من هذا أن الأمة قد اجتمعت على ضلالة، حيث سكتت
عن إنكارها لأعظم جهالة، (قلت) الإجماع حقيقته اتفاق مجتهدي أمة محمد -
صلى الله عليه وسلم - على أمر بعد عصره، وفقهاء المذاهب الأربعة يحيلون
الاجتهاد من بعد الأربعة، وإن كان هذا قولاً باطلاً، وكلامًا لا يقوله إلا مَن كان
للحقائق جاهلاً، فعلى زعمهم لا إجماع أبدًا من بعد الأئمة الربعة، فلا يرد السؤال،
فإن هذا الابتداع والفتنة بالقبور لم يكن على عهد أئمة المذاهب الأربعة، وعلى ما
نحققه، فالإجماع وقوعه مُحال؛ فإن الأمة المحمدية قد ملأت الآفاق، وصارت في
كل أرض وتحت كل نجم، فعلماؤها المحققون لا ينحصرون، ولا يتم لأحد معرفة
أحوالهم، فمَن ادعى الإجماع بعد انتشار الدين، وكثرة علماء المسلمين؛ فإنها
دعوى كاذبة كما قاله أئمة التحقيق.
ثم لو فرض أنهم علموا بالمنكر، وما أنكروه - بل سكتوا عن إنكاره - لما
دل سكوتهم على جوازه، فإنه قد علم من قواعد الشريعة أن وظائف الإنكار ثلاث:
(أولها) الإنكار باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته، (ثانيها) الإنكار
باللسان مع عدم استطاعة التغيير، (ثالثها) الإنكار بالقلب عند عدم استطاعة
التغيير باليد واللسان، فإن انتفى أحدهما لم ينتفِ الآخر، ومثاله مرور فرد من
أفراد علماء الدين بأحد المكاسين، وهو يأخذ أموال المظلومين، فهذا الفرد من
علماء الدين لا يستطيع التغيير على هذا الذي يأخذ أموال المساكين باليد ولا باللسان؛
لأنه إنما يكون سخرة لأهل العصيان، فانتفى شرط الإنكار بالوظيفتين، ولم يبقَ
إلا الإنكار بالقلب الذي هو أضعف الإيمان، فيجب على مَن رأى ذلك العالم ساكتًا
على الإنكار، مع مشاهدة ما يأخذه ذلك الجبار أن يعتقد أنه تعذر عليه الإنكار باليد
واللسان، وأنه قد أنكر بقلبه، فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين واجب،
والتأويل لهم ما أمكن ضربة لازب، فالداخلون إلى الحرم الشريف والمشاهدون
لتلك الأبنية الشيطانية - التي فرقت كلمة الدين، وشتتت صلوات المسلمين -
معذورون عن الإنكار إلا بالقلب كالمارين على المكاسين وعلى القبوريين.
ومن هنا يعلم اختلال ما استمر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض ما
يستدلون عليه: إنه وقع، ولم يُنكَر، فكان إجماعًا. ووجه اختلاله أن قولهم: ولم
ينكر رجم بالغيب؛ فإنه قد يكون أنكرته قلوبٌ كثيرةٌ تعذر عليها الإنكار باليد
واللسان، وأنت تشاهد في زمانك أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك، ولا بيدك،
وأنت منكر له بقلبك، ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده: سكت فلان عن الإنكار
بقوله إما لائمًا أو متأسّيًا بسكوته، فالسكوت لا يستدل به عارف، وكذا يعلم اختلال
قولهم في الاستدلال: فعل فلان كذا، وسكت الباقون فكان إجماعًا، مختل من
جهتين: (الأولى) دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان؛ لما عرفت من عدم
دلالة السكوت على التقرير، (الثانية) قولهم: فكان إجماعًا؛ فإن الإجماع اتفاق
أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - والساكت لا يُنسب إليه وفاق، ولا
خلاف حتى يُعرب عنه لسانه، قال بعض الملوك - وقد أثنى الحاضرون على
شخصٍ من عماله، وفيهم رجل ساكت -: ما لك لا تقول كما يقولون؟ ! ، فقال:
إن تكلمت خالفتهم، فما كل سكوت رضى، فإن هذه منكرات أَسَّسها مَن بيده السيف
والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلمه،
فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد؟ ! فإن هذه القباب والمشاهد التي
صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد وأكبر وسيلة على هدم الإسلام وخراب
بنيانه غالب [٧] ، بل كل مَن يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما
على قريب لهم، أو على مَن يحسنون الظن فيه من فاضل، أو عالم، أو صوفي،
أو فقير، أو شيخ، أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون
توسُّل به، ولا هتف باسمه، بل يدعون له، ويستغفرون حتى ينقرض مَن يعرفه
أو أكثرهم، فيأتي مَن بعدهم فيجد قبرًا قد شُيد عليه البناء، وسُرجت عليه الشموع،
وفُرش بالفراش الفاخر، وأُرخيت عليه الستور، وأُلقيت عليه الأوراد والزهور،
فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل
وأنزل بفلان الضرر، وبفلان النفع؛ حتى يغرسوا في جِبلَّته كل باطل؛ ولهذا
الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللعن على مَن سرج على القبور، وكتب عليها،
وبنى عليها، وأحاديث ذلك واسعة معروفة؛ فإن ذلك في نفسه منهي عنه، ثم هو
ذريعة إلى مفسدة عظيمة.
(فإن قلت) هذا قبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد عمرت عليه
قبة عظيمة أُنفقت فيها الأموال، (قلت) هذا جهل عظيم بحقيقة الحال؛ فإن هذه القبة
ليس بناؤها منه - صلى الله عليه وسلم - ولا من أصحابه، ولا من تابعيهم، وتبع
التابعين، ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره - صلى
الله عليه وسلم - من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين، وهو قلاوون الصالحي
المعروف بالملك المنصور في سنة ثمانٍ وسبعين وستمائة، ذكره في (تحقيق النصرة
بتلخيص معالم دار الهجرة) ، فهذه أمور دولية لا دليلية يتبع فيها الآخر
الأول.
وهذا آخر ما أردناه مما أوردناه لما عمت البلوى، واتبعت الأهواء،
وأعرض العلماء عن النكير الذي يجب عليهم، ومالوا إلى ما مالت العامة إليه،
وصار المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، ولم نجد من الأعيان ناهيًا عن ذلك ولا
زاجِرًا.
(فإن قلت) قد يتفق للأحياء وللأموات اتصال جماعة بهم يفعلون خوارق
من الأفعال، يتسمَّوْن بالمجاذيب، فما حكم ما يأتون من تلك الأمور؛ فإنها مما
جبلت القلوب [٨] إلى الاعتقاد بها، (قلت) أما المتسمّون بالمجاذيب - الذين
يلوكون لفظ الجلالة بأفواههم، ويقولونها بألسنتهم، ويُخرجونها عن لفظها العربي-
فهم من أجناد إبليس اللعين، ومن أعظم حُمُر [٩] الكون الذين ألبستهم [١٠] حلل
التلبيس والتزيين، لما إن إطلاق الجلالة مفردًا عن إخبار عنهم بقولهم: الله الله
ليس بكلامٍ، ولا توحيدٍ، وإنما هو تلاعب بهذا اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه
العربي، ثم إخلاؤها عن معنى من المعاني، ولو أن رجلاً عظيمًا صالحًا يسمى
بزيدٍ، وصار جماعة يقولون: زيد زيد لعُدَّ ذلك استهزاءً، وإهانة وسخرية، ولا
سيما إذا زادوا إلى ذلك تحريف اللفظ، ثم انظر هل أتى في لفظة من الكتاب
والسنة ذكر الجلالة بانفرادها وتكريرها؛ إذ الذي فيهما هو طلب الذكر، والتوحيد،
والتسبيح، والتهليل وهذه أذكار رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأدعيته
وأدعية آله وأصحابه خالية عن هذا الشهيق والنهيق والنعيق الذي اعتاده مَن هو عن
الله، وعن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم وسَمته ودِله في مكانٍ سحيقٍ، ثم قد
يضيفون إلى الجلالة الشريفة أسماء جماعة من الموتى مثل: ابن علوان، وأحمد بن
الحسين، وعبد القادر، والعيدروس، بل قد انتهى الحال إلى أنهم يفرون إلى
أهل القبور من الظلم والجراءة كعلي رومان، وعلي الأحمر وأشباههما وقد صان
الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكساء، وأعيان
الصحابة عن إدخالهم في أفواه هؤلاء الجهلة الضُّلال، فيجمعون أنواعًا من الجهل
والشرك والكفر، (فإن قلت) إنه قد يتفق من هؤلاء الذين يلوكون الجلالة،
ويضيفون إليها أهل الخلاعة والبطالة -خوارق عادات وأمور تُظنّ كرامات: كطعن
أنفسهم وحمْلهم لمثل الحنش والحية والعقرب، وأكلهم النار ومسّهم إياهم بالأيدي
وتقلّبهم فيها بالأجسام، (قلت) هذه أحوال شيطانية وإنك لملبوس [١١]
عليك إن ظننتها كرامات للأموات أو حسنات للأحياء لما هتف هذا الضال بأسمائهم
جعلهم أندادًا وشركاء له في الخلق والأمر، فهؤلاء الموتى أنت تفرض أنهم أولياء
الله تعالى، فهل يرضى ولي الله أن يجعله المجذوب أو السالك شريكًا له
تعالى وندًّا؟ ! إن زعمت ذلك فقد جئت شيئًا إدًّا، وصيَّرت هؤلاء الأموات
مشركين، وأخرجتهم - وحاشاهم عن ذلك - عن دائرة الإسلام والدين؛ حيث جعلتهم
بجعْلهم أنداد الله راضين فرحين، وزعمت أن هذه كرامات لهؤلاء المجاذيب الضلال
المشركين، التابعين لكل باطل، المنغمسين بين بحار الرذائل، الذين لا يسجدون لله
سجدة، ولا يذكرون الله وحده، فإن زعمت هذا فقد أثبتَّ الكرامات للمشركين
الكافرين المجانين، وهدمت بذلك ضوابط الإسلام، وقواعد الدين المبين والشرع
المتين.
وإذا عرفت بطلان هذين الأمرين علمت أن هذه أحوال وأفعال طاغوتية،
وأعمال إبليسية، يفعلها الشياطين لإخوانهم من هؤلاء الضالين معاونة من الفريقين،
وقد ثبت في الأحاديث أن الشياطين والجان يتشكلون بأشكال الحية والثعبان،
وهذا أمر مقطوع بوقوعه؛ فهم الثعابين التي يشاهدها في أيدي المجاذيب الإنسانُ،
وقد يكون ذلك من باب السحر، وهو أنواع، وتعلُّمه ليس بالعسير، بل بابه
الأعظم الكفر بالله، وإهانة ما عظَّمه الله من جعْل مصحف في كَنيفٍ ونحوه، فلا
يغتر مَن يشاهد ما يعظم في عينيه من أحوال المجاذيب من الأمور التي يراها
خوارق؛ فإن للسحر تأثيرًا عظيمًا في الأفعال، وهكذا الذين يقلبون الأعيان
بالأسحار وغيرها، وقد ملأ سَحَرة فرعون الوادي بالثعابين والحيات [١٢] ؛ حتى
أوجس في نفسه خيفةً موسى عليه السلام، وقد [١٣] وصفه الله بأنه سحر عظيم،
والسحر يفعل أعظم من هذا؛ فإنه قد ذكر ابن بطوطة وغيره أنه شاهد في بلاد
الهند قومًا توقد لهم النار العظيمة، فيلبَسون [١٤] الثياب الرقيقة [١٥] ، ويخوضون في
تلك النار، ويخرجون وثيابهم كأنها لم يمسها شيء! ، بل ذكر أنه رأى إنسانًا عند
بعض ملوك الهند - أتى بولديه معه، ثم قطعهما عضوًا عضوًا، ثم رمى بكل
عضو إلى جهة فرقًا، حتى لم يَرَ أحد شيئًا من تلك الأعضاء، ثم صاح، وبكى،
فلم يشعر الحاضرون إلا وقد نزل كل عضو على انفراده، وانضم إلى الآخر،
حتى قام كل واحد منهما على عادته حيًّا سويًّا، ذكر هذا في رحلته، وهي رحلةٌ
بسيطةٌ، وقد اختصرت - طالعتها بمكة عام ست وثلاثين ومائة وألف، أملاها
علينا العلامة مفتي الحنفية في المدينة السيد محمد بن أسعد رحمه الله.
وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بسنده أن ساحرًا كان عند الوليد بن عقبة
فجعل يدخل في جوف بقرة، ويخرج فرآه جندب - رضي الله عنه -،
فذهب إلى بيته، فاشتمل على سيفه، فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب:
{أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (الأنبياء: ٣) ثم ضرب وسط البقرة،
فقطعها، وقطع الساحر معها، فانذعر الناس، فحبسه الوليد، وكتب بذلك إلى
عثمان - رضي الله عنه - وكان على السجن رجل نصراني، فلما رأى جنديًّا يقوم
الليل، ويصبح صائمًا، قال النصراني: والله، إن قومًا هذا شرهم لَقوم صدق،
فوكل بالسجن رجلاً، ودخل الكوفة، فسأل عن أفضل أهلها، فقالوا الأشعث بن
قيس، فاستضافه فرأى أبا محمدٍ يعني الأشعث، ينام الليل، ويصبح فيدعو بغذائه،
فخرج من عنده وسأل، أي أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا جرير بن عبد الله، فوجده ينام
الليل، ثم يصبح، فيدعو بغذائه، فاستقبل القبلة فقال: ربي رب جندب،
وديني دين جندب وأسلم، وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى بمغايرة في
القصة، فذكر بسنده إلى الأسود أن الوليد بن عقبة كان بالعراق يلعب بين يديه
ساحر، فكان يضرب رأس الرجل، ثم يصيح به، فيقوم صارخًا، فيرد إليه رأسه،
فقال الناس: سبحان الله يحيي (الموت) ، ورآه رجل من صالحي المهاجرين،
فلما كان من الغد اشتمل على سيفه، فذهب [١٦] يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل
سيفه، فضرب عنقه، وقال: إن كان صادقًا فليحي نفسه، فأمر به الوليد دينارًا [١٧]
صاحب السجن، فسجنه انتهى، بل أعجب من هذا ما أخرجه الحافظ البيهقي
بإسناده في قصة طويلة، وفيها أن امرأة تعلمت السحر من المَلَكين ببابل هاروت،
وماروت وأنها أخذت قمحًا، فقالت له - بعد أن ألقته في الأرض -: اطلع فطلع،
فقالت: أحقل فأحقل، ثم تركته، ثم قالت: أيبس فيبس، ثم قالت له: اطحن
فأطحن، ثم قالت له: اختبز فاختبز، وكانت لا تريد شيئًا إلا كان.
والأحوال الشيطانية لا تنحصر، وكفى بما يأتي به الدجال والميعاد، اتباع
الكتاب والسنة ومخالفتهما انتهى ما أوردناه، والحمد لله رب العالمين أولاً وآخرًا،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تذييل للمنار وتقريظه للرسالة:
إن هذه الأعمال الغريبة التي تسمى بالسحر حيل صناعية تُتَلَقَّى بالتعليم
والتمرين، وليست من خوارق العادات حقيقة، بل صورة، فهي كما قال تعالى في
سحرة فرعون: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} (الأعراف: ١١٦) بأن أروها أشياء
على غير حقيقتها، لتخييل الحبال والعِصِيّ متحركةً بإرادتها {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن
سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: ٦٦) ، والخوارق لا تكون صناعة تعليمية. وإنما
يكثر هذا السحر في البلاد التي يغلب على أهلها الجهل بعلوم الكون، وسنن الله في
الخلق، كبلاد الزنوج في إفريقية والشعوب المشابهة لها في الغباوة والجهل، وتقل
في غيرها أو تنعدم، وما يبقى منها يكون حرفة لبعض المشعوذين، يعرضون ما
يتقنونه من أعمالها على الناس، فيرضخون لهم بقليلٍ من النقد، فمنهم مَن يلحس
حديدة محماة بالنار حتى تبرد، وذلك أنه يتمرن على إدنائها من لسانه، وإصابتها
بلعابه، من غير أن تمس اللسان، ولكنهم يفعلون ذلك بسرعة تخيل للرائي أن
اللسان يمسها، ومنه اقتحام النار كما بيناه في بعض فتاوى المجلد الثاني والعشرين،
وأكثر هذه الشعوذة صناعية يدوية.
ومن فنون السحر ما يستعان عليه بعلوم خواص الأشياء، ولو ذهب الآن
بعض علماء الكيمياء - وغيرها كخواص الكهرباء - إلى بعض تلك البلاد التي
تجهل هذه العلوم جهلاً مطلقًا لفتنوهم واستعبدوهم، ولا سيما إذا كان معهم من
الآلات والأدوات ما يمكِّنهم من أعمالها المعروفة، المشهور منها كالتلغراف
والتليفون اللاسلكي، وغير المشهور. وقد صار جميع العارفين بأمور الكون
يعلمون أن جميع هذه الأعمال الغربية صناعة لها أسباب، يعرفون بعضها،
ويقيسون ما لم يعرفوا على ما عرفوا.
هذا، وإن الإسلام - ولله الحمد - مبني على الحقائق، ورفض الخرافات
والخزعبلات التي عبر عنها بالجبت وبالسحر، وإبطال كل ما يُطغي الناس بإفساد
أخلاقهم وآدابهم وحمْلهم على الأعمال المنكرة، وهو ما عبر عنه بالطاغوت،
فالمؤمن التقي هو السليم العقل والأخلاق، القائم بالأعمال الصالحة التي يُصلح بها
حاله وحال الناس الذين يعيشون معه على منهاج الكتاب والسنة، وما كان عليه
سلف الأمة الصالح، وكل ما زاد على ذلك باسم الدين فهو بدعة ضلالة، إما فسق،
وإما كفر.
وأما أمور الدنيا المحضة فقد قال لنا الرسول - عليه الصلاة والسلام -:
(أنتم أعلم بأمر دنياكم) ، فلا ينكر العارف بالإسلام على أحد من أفراد المسلمين،
ولا من جماعاتهم - ما استحدثوا فيها من طعام وشراب ولباس وآنية وماعون وأثاث
ومراكب برية، وبحرية، وهوائية، وآلات صناعة، وأعمال زراعة، وطرق
تجارة وأسلحة حرب، وغير ذلك، مع المحافظة على حدود الشريعة في الحلال
والحرام، وحفظ الدين، والنفس، والعقل، والعِرْض والمال.
وقد ابتُلي الإسلام بجهالٍ لبِسوه مقلوبًا كالفرو، فأكثروا من الابتداع في الدين،
وشوهوه بالخرافات، وزادوا فيه ما لم يرد في سنة، ولا كتاب، ولا عرفه
الرسول، ولا أصحابه ولا غيرهم من أئمة السلف، حتى صار البله والسخف
والخروج عن المعقول، والوساخة، والخرافات، والبدع - من علامات الصالحين
التي لا تُنكر! ، وما أباحه الله وفوّض الأمر فيه رسولُه للناس فقد أنكروه، وضللوا
أهله باسم الدين!
ولله دَرُّ مؤلف هذه الرسالة الإمام المحقق؛ فقد أتى فيها بما لم يأتِ به مَن
ألفوا المختصرات والمطولات في موضوعها، وهو كشف شبهة الذين يزعمون أن
علماء المسلمين قد أجازوا ضلالات القبوريين منذ قرون، فصار ذلك إجماعًا عليها،
فبين أنه لا يمكن الحكم بأنهم سكتوا جميعًا، فكم منهم مَن أنكر ذلك قولاً وكتابةً،
ولئن سكتوا فلا حجة في سكوتهم، ولا سيما مع العلم بأن هنالك منكرات أخرى لا
يقول هؤلاء القبوريون ولا غيرهم بجوازها، وهي مسكوت عنها، إما للعجز عن
إنكارها، وإما للجهل والتهاون في أمر الدين؛ لأن المعروف صار منكرًا، والمنكر
صار معروفًا، كما ورد في أعلام النبوة. وهذه الحجة أظهر في زماننا وبلادنا منها
في غيرهما من زمان ومكان؛ فإن العلماء الذين لا ينكرون ما وردت الأحاديث
الصحيحة بحظره من تشييد القبور وكسوتها وإيقاد السرج والشموع عليها وعبادتها
بدعاء أصحابها والطواف بها والنذر لهم - لا ينكرون أيضا ما فشا في البلاد من
البدع والفواحش، والمنكرات التي لا خلاف في شيء منها، بل لا ينكرون ما
يرون، ويسمعون من الكفر البواح، والإلحاد الصُّراح، بل يعظمون مَن يعتقدون
كفرهم وإلحادهم، ويعلِّمون أولادهم القوانين التي يعتقدون أنها مشتملة على ما هو
محرم بالإجماع، وأن استحلاله ردة، وخروج من الملة؛ لأجل أن يحكموا بها،
وهو حكم بغير ما أنزل الله، وهم يتلون في ذلك آيات الله، فهل يُحتَج بسكوت
أمثال هؤلاء قلوا أو كثروا؟ ! ولا حجة في سكوت المجتهدين، وهم ليسوا منهم،
ولا في أقوالهم على القول المشهور في الأصول إلا إذا أمكن حصرهم، وإجماعهم
على حكم من الأحكام، لا يشذ منهم عن القول به أحد، على ما في حجيته إذا أمكن
وقوعه، والعلم به من النظر!
اللهم، إِنَّا نبرأ إليك من كل قولٍ، وعملٍ، وإقرارٍ في أمر ما من أمور الدين،
لم يكن مما أنزلتَه على رسولك محمدٍ خاتم النبيين والمرسلين، ومن كل فهمٍ
وعملٍ فيه مخالف لسلف الأمة الصالحين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب
العالمين.