للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محيي الدين آزاد


الخلافة الإسلامية
ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

(٥)
فصل
الجماعة والتزام الجماعة
وفي هذا الحديث - الذي نحن بصدده - أمر مهم يستحق أن نتأمل فيه،
وهو أن الشريعة نصَّت على أن الحياة الإسلامية إنما هي في التزام الجماعة وطاعة
الخليفة، والحياة الجاهلية في الانحراف عنها، ولقد أوضح القرآن أن الجاهلية هي
التفرق والتشتت، وانتشار الكلمة، وعدم الاجتماع على مركزٍ واحدٍ، وأن الحياة
الإسلامية هي الحياة الاجتماعية، والاتحاد، والائتلاف بين الأمة، واجتماع الآحاد
المنتشرة؛ قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} (آل
عمران: ١٠٣) إلخ.
فالجاهلية الفرقة، والإسلام الجماعة؛ ولذا أكد النبي - عليه الصلاة والسلام-
مرة بعد مرة أن مَن يحيد عن الجماعة، وينزع يده عن طاعة الخليفة، يكاد
يخرج من الإسلام، وتكون ميتته على الجاهلية لا على الإسلام، وإن صلى وصام،
وزعم أنه مسلم.
وها هي ذي بعض الأحاديث الصحيحة المشهورة في هذا الباب:
قال صلى الله عليه وسلم: (مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن أطاع أميري
فقد أطاعني، ومَن عصى أميري فقد عصاني) رواه البخاري، ومسلم عن أبي
هريرة، وفي رواية أخرى لمسلمٍ: (مَن أطاع الأمير) أي أطاع إمام المسلمين،
وقال: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة)
(البخاري ومسلم عن أنس) .
يظهر أن هذه الجملة كثيرًا ما كان يكررها صلى الله عليه وسلم، ولا سيما
في خطبه؛ ولذا تجدها مرويةً بألفاظٍ مختلفةٍ، ونُسبت إلى مواقع مختلفة، وقد قال
يوم الحج الأكبر - في حجة الوداع التي كانت مشهدًا عظيمًا للمسلمين، والتي لم
يعش صلى الله عليه وسلم بعدها إلا بضعة أشهر -: (ولو استعمل عليكم عبد
يقودكم بكتاب الله، اسمعوا وأطيعوا) (مسلم) .
وقال: (مَن خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات مات مِيتة جاهلية)
وفي لفظ: (فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات
ميتة جاهلية) (متفق عليه) ، ومعلوم أن الجاهلية كانت قبل الإسلام، فمعنى
الحديث: أنه مات على ضلالة عرب الجاهلية - والعياذ بالله! - وفي رواية عبد
الله بن عمر (رضي الله عنه) : (مَن خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا
حجة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية) .
وقال: (مَن فارق الجماعة شبرًا فكأنما خلع رِبْقة الإسلام من عنقه)
(الترمذي) ، وفي رواية: (دخل النار) (أخرجها الحاكم على شرط الصحيحين) .
وقال: (كانت بنو إسرائيل تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هلك نبي خلفه نبي،
وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاءُ، فيكثُرون، قالوا: فما تأمرنا؟ ، قال: فُوا
ببيعة الأول فالأول، وأَعطوهم حقَّهم، فإن الله يسألهم عما استرعاهم) (متفق عليه) .
وغير هذا كثير من الأحاديث التي لا تُحصى، وشواهد الإجماع ونصوص
كتب العقائد والفقه لسنا في حاجة إليها بعد الحديث.
***
فصل
في شروط الإمام والخلافة
إذا استقصيت نصوص الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة - تعلم أن الشريعة
الإسلامية اعتبرت الإمامة والخلافة على شكلين متضادين، واحد منهما أصلي
ومطلوب، والثاني اضطراري.
وبيان هذا أن الشكل الأصلي المطلوب هو انتخاب الأمة خليفتَها بحيث
تجتمع آحادها، وأهل الحل والعقد والرأي والبصيرة منها، فيتباحثون ويتشاورون
طبقاً للآية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) ، ثم ينتخبون الخليفة
مراعين فيه شروط الخلافة الشرعية، ومقاصدها الأساسية، غير ناظرين إلى
الوجاهة الذاتية والجنسية النسبية [١] ؛ إذ الشريعة تعتبر في الانتخاب شورى الأمة،
لا جنسية الخليفة وعشيرته ونسبه، وقد تأسست الخلافة الراشدة على هذا الأساس
الجمهوري، فالخليفة الأول انتخبته الأمة مباشرة، والخليفة الثاني انتخبه الخليفة
الأول [٢] ، ورضي به أهل الحل والعقد من الأمة، والخليفة الثالث انتخبته جماعة
الشورى، والرابع بايعته الجماعة بأسرها، فانتخاب هؤلاء الخلفاء الأربعة كان
انتخابًا شرعيًّا وجمهوريًّا، ولم تُراعَ فيه الجنسية، والقبيلة، والعهد البتَّة، ولو
رُوعي فيه شيء من هذا القبيل لَبقيت الخلافة في بيت الخليفة الأول، ولم تخرج
منه إلى آخر الدهر، ولكن لم يكن شيء من ذلك، بل لم يدَع الخليفة الثاني مجالاً
للأمة في أن تنتخب ابنه خليفة؛ لأنه منع، وأوصى بذلك وصيةً حين احتضاره -
رضي الله عنه وعنهم أجمعين -.
فإذا كان الأمر على هذا النهج الجمهوري، واستطاعت الأمة انتخاب خليفتها-
فقد شرطت الشريعة فيه شروطًا تُراعَى عند الانتخاب:
وأما الشكل الثاني: وهو إذا تغلب متغلب بقوته وعصبيته على الخلافة، ولم
يترك مجالاً للانتخاب؛ فحينئذٍ ماذا يجب على الأمة إذا كان المتغلب غير أهل لها
وظالمًا، وفاقدًا لشروطها؟ ، فهل يجب عليها أن تخرج عليه وتقاتله؟ ، أم يجب
عليها أن تطيعه، وتنقاد له، وتؤدي إليه الزكاة، وتقيم وراءه الجمعة والجماعة،
وتعمل تحت سيطرته سائر الأعمال التي لا تتم إلا بوجود الخليفة والإمام؟
لما كانت هذه المسألة أهم المسائل الحيوية، وأساس حياة الأمة الاجتماعية -
لم تكن الشريعة لتغفل عنها، وتترك الأمة بلا هداية، ولا بصيرة فيها؛ ولذا تجدها
قد اهتمت بها أشد الاهتمام، وبينتها بيانًا وافيًا بعبارات واضحة ونصوص صريحة؛
ومن أجل ذا لم يتردد الصحابة - رضوان الله عليهم - في تعيين خطتهم لما قامت
الخلافة الأموية الاستبدادية بعد انقراض الخلافة الراشدة، فعاملوها معاملة واحدة،
كأنهم كانوا عينوها من قبل، وصارت تلك المعاملة سُنَّة لمَن بعدهم، وأجمعت
الأمة على استحسانها، واتخذتها خطة اجتماعية لها، نعم، قد اختلف بعض الفرق
الإسلامية في الشكل الأول للخلافة، ولكن لم يختلف أحد منهم في الشكل الثاني لا
قولاً ولا عملاً [٣] .
وقد شرطت الشريعة في الشكل الأول الجمهوري شروطًا بالغة في الكمال
منتهاه، وأوجبت على الأمة أن تنظر في الخليفة كل الأمور التي تلزم لهذا المنصب
الرفيع، ولهذه المسئولية العظيمة، وقد اشتهرت شروط الخلافة هذه اشتهارًا عظيمًا،
حتى إنك تجدها في عامة كتب العقائد والفقه التي يتداولها طلبة العلم في المدارس
الدينية، فترى فيها: (ويُشترط أن يكون) الخليفة (من أهل الولاية المطلقة
الكاملة، بأن يكون مسلمًا، حرًّا، ذكرًا، عاقلاً، بالغًا، سائسًا بقوة رأيه، ورويَّته،
ومعونة بأسه وشوكته، قادرًا بعلمه وعدالته وكفايته وشجاعته على تنفيذ الأحكام،
وحفظ حدود الإسلام، وإنصاف المظلوم من الظالم، عند حدوث المظالم ... ) إلخ،
راجع شرح المواقف، والنسفي، والتمهيد، وشرح الفقه الأكبر للقارئ، وشرح
المقاصد، ومن كتب المحدثين شرح عقيدة ابن عقيل، وفتح الباري، وشرح
منظومة الآداب، وخلاصة ابن مفلح، ونيل الأوطار ووبل المرام للشوكاني،
والإقناع وشرحه وغيرها من الكتب.
وأما شرط القرشية ففيه اختلاف [٤] ، وقد كان يقول به أكثر العلماء والفقهاء
إلى زمن الدولة العباسية، وبعدها بيسير (سنة ٦٤٠ هـ سنة ١٢٤٣م) لقوله
صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الأمر في قريش) ولذا ذهبت الإمامية إلى أن
الخليفة يجب أن يكون من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ونقول على
هذه القاعدة إن الخلافة لعلي - عليه السلام -، ثم لأئمة العِتْرَة - رضوان الله
عليهم أجمعين - وذهبت الزيدية إلى أن الخلافة في بني فاطمة كلهم، ولا خصوصية
فيها لأئمة أهل البيت، فالإمامية تَشْترط في الخليفة - مع سائر الشروط المذكورة
آنفًا - أن يكون من أهل البيت النبوي، والزيدية توسع فيها وتقول كل بني
فاطمة أهل للخلافة، وهم يستحقونها دون غيرهم.
ولا تنسينَّ أن هذا الاختلاف في الشكل الأول، أما في الشكل الثاني - أي
إذا لم تقدر الأمة على انتخاب الخليفة لتغلُّب المتغلِّبين - فلا خلاف فيه بين
المسلمين لكثرة الأحاديث الصحيحة، وإجماع الصحابة، وأئمة أهل البيت في هذا
الباب؛ ولذا ترى الأمة قد اتفقت كلمتها على أنه إذا استولى مسلم بقوته وشوكته
وعصبيته على الخلافة - وتمكن فيها، وقامت حكومته، وقوي أمره - وجب على
الأمة أن تطيعه، وتسمع له، وتخضع لخلافته مثل ما لو كان أصابها بحق، ولا
يجوز لأحد الخروج عليه، والقيام على وجهه، ومَن يفعل ذلك يقاتله المسلمون،
ويعينون الخليفة عليه، مهما كان الخارج ذا فضل وصلاح وأهلية؛ لأنه مفارق
للجماعة، وخارج على السلطان [٥] .
هذا هو حكم الشريعة في هذه الصورة، وحكمته واضحة جليَّة، وهي أن
قيام الشريعة وبقاء الأمة يتوقف على الحكومة القوية؛ إذ هي أساس للحياة
الاجتماعية، وقد جعلت لها الشريعة نظامًا في غاية من الكمال والجودة، فخولت
للأمة حق انتخاب الأمير، وجعلت الشورى أساسًا للانتخاب، وشرطت شروطًا في
الأمير، ولم تعتمد في الإمارة على امتيازات الجنس والعصبية والملوكية، بل
جعلتها حرة وجمهورية محضة لا يشوبها الاستبداد والضغط أبدًا، ثم حذرت الناس
من أن يتصدوا لها، ويرشحوا أنفسهم لأجلها، وينافسوا فيها، ويتطلعوا إليها،
فيقاتلوا، ويحاربوا عليها، ويسفكوا الدماء في سبيلها، وقد كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يبايع الناس على هذا، فيقول: (لا ينازع الأمر أهله) [٦] هذه
كلمة صغيرة في ظاهرها، كبيرة في ذاتها، وكافية لإبطال الحروب والمنازعات
بأسرها، وقد بوَّب البخاري في صحيحه عليها بابًا فقال: (باب ما يُكره من
الحرص على الإمارة) ، وروى فيه حديث أبي موسى الأشعري قال: قال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّا لا نولي هذا الأمر مَن سأله، ولا مَن حرص عليه) ،
وكان الغرض من هذا التحذير والمنع؛ لأن الناس إذا لم يحرصوا عليها سهل
للأمة انتخاب الأصلح والأهل لها.
هذا هو النظام الحقيقي الذي جعلته الشريعة للخلافة الإسلامية، ولو بقي
معمولاً به لصلحت الدنيا كلها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه لا
يدوم أكثر من ثلاثين سنة، فبيَّن للأمة ما يجب عليها عندما ينهدم ذلك، ويحل
محله الاستبداد والقهر.
لنفحص المسألة فحصًا جيدًا؛ لنرى أية خطة أحسن عند تغلب المتغلبين على
الخلافة؛ فإن هنا خطتين:
(إحداهما) أن يقبل الاستبداد، ويخضع له صيانةً للجماعة، وحفظًا لنفوس
الأمة، وذَوْدًا عن البلاد الإسلامية من الأعداء، وصونًا لأوامر الشريعة من
التعطيل وغيرها كثير من المصالح العامة، ولا تنسَ أن هذه الحكومة، وإن كانت
مستبدة قاهرة إلا أنها إسلامية تغار على الدين، وترفع شأن الأمة في نظر الأعداء،
نعم تنتقل الحكومة الإسلامية في هذه الصورة إلى مستبد تغلَّب عليها، ولم يبالِ
بالنظام الشرعي لها، ولا ريب في أنه تنشأ عن هذا مفاسد كثيرة [٧] .
وأما الخطة الثانية: فهي أن يقاتل المتغلب، ويخرج عليه، وترد الخلافة
على مَن هو أصلح لها منه، ولكن إذا فعل ذلك جرت الدماء أنهارًا في حروب
تشيب من هولها الولدان، واختلَّت المصالح العامة، وتزلزلت الهيئة الاجتماعية،
وبطل الأمن، وعمت الفوضى، وتعطَّلت أوامر الشريعة، وهُدمت الجوامع،
ونهبت البيوت، وخربت البلاد، وانصبت على رأس الأمة المصائب، وأصابها
كل ما يصيب الأمم في مثل هذه الحروب التي تثيرها الأهواء والشهوات، ومع هذا
لا يُعرف متى يستتب الأمن وتعود الراحة؟ إذ كل صاحب عصبية وذي مطامع
كبيرة ينهض قائلاً: أنا أحق بالخلافة من صاحبها، فعلى الناس أن يبايعوني،
ويقاتلوا في صفي، وينصروني على عدُوي) ! [٨] ، فماذا تكون حال الأمة إذ ذاك؟،
ألا تكون كالريشة في مهب العواصف، تقلبها الرياح كيف ما شاءت؟ أَوَلا
تصبح كسفينة في بحر محيط لا ربان عليها، تتقاذفها الأمواج يمنة ويسرة، فتعلو
تارة، وتسفل أخرى، ويُخشى عليها الغرق كل آن؟ ولا ينكر أن مع هذه
المخاوف والأهوال يُحتمل أن ترد الخلافة إلى الأصلح لها، فأي صورة أحق أن
ترجحها الشريعة الغرَّاء؟ أتلك التي مصالح الأمة فيها مصونة مضمونة،
والمفاسد محتملة؟ أم هذه التي الخراب والدمار فيها محقَّق، ورَدّ الحق إلى أهله
محتمل؟
كل مَن له أدنى حظ من العقل الصحيح لا يتردد في الجواب بأن الصورة
الأولى أحق أن تُقبل، وتعوَّل عليها في مثل هذه الحالات، وقد فعلت الشريعة ذلك
جَرْيًا على قاعدة (المنافع تُجلَب، والمضار تُدفَع) ، وإذا اختلطت المصالح
والمفاسد تختار الشريعة طريقًا أقل مضرة، وأكثر مصلحة، وترجح أهون الشرّين؛
إذ لو لم تفعل ذلك، وفَرَضَتْ على الأمة عدم الخضوع لأحدٍ سِوَى جامع شروط
الخلافة والمنتخب على الطريقة الجمهورية الصحيحة لقام - كما قلنا - كل مَن اتخذ
إلهه هواه لنيل الخلافة، وقال: هذا الخليفة ليس بأهلٍ، وأنا أحق منه، وأجمع
للشروط، ثم ماذا كان بعد ذلك؟ : القتل والسلب، وإهراق الدماء، وزهق النفوس،
وانهدام الهيئة الاجتماعية، وتزعزع أركان الأمة، فمَن كان يحافظ على البلاد،
ويحكم بين العباد، ويعاقب المجرمين، ويحد السُّرَّاق، وقُطَّاع الطريق، ويأخذ
الزكاة، ويقيم الجمعة والعيدين، ويدافع عن الثغور، ويرابط على الحدود؟ .
وايم الله، لو كان كذلك لتداعت الأمم الأكالة على المسلمين، ولاحتلت
بلادهم، وخضدت شوكتهم، واستعبدتهم، وأذلتهم، وفعلت بهم ما فعلت! ، فقبول
خلافة المتغلب أحسن وأهون، أم هذا الخراب والدمار الذي ليس فوقه خراب ولا
دمار؟ ؛ ولذا أمرت الشريعة بطاعة الخليفة المسلم مهما كان ظالمًا ومستبدًا، وكيفما
كانت سيرته وسريرته ما لم يأمر بمعصية الله، وما أقام الصلاة - والله تعالى أعلم
بما يأمر، وهو بصير بمصالح العباد! [*] .
***
فصل
نصوص السنة وإجماع الأمة
مَن يلقِ نظرة سطحية على الأحاديث النبوية يَرَ أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - كان يخبر بما سيكون في المستقبل من انقلاب الحال، وتغير الناس،
ويبين لكل حالة وكل دور علائم وآيات، ويرسم للأمة خطة تناسب كل وقت
وزمان، وإن هذا لَمن أكبر الأدلة على صدقه، وصدق نبوته؛ إذ كل ما أخبر جاء
كفلق الصبح، وإن كان الناس لا يصدقون بذلك، فبأي دليلٍ يثبتون ما جرى في
الزمان الغابر، فكل أحد يستطيع أن ينكر حينئذٍ وجود الإسكندر المقدوني، والدولة
الرومانية، بل نابليون، وحرب واترلو.
والحاصل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم بما يقع بعده؛
ولذا جعل لكل حالةٍ ووقت أمرًا وحكمًا، وأمر الأمة بامتثال أمره، فيجب على
الباحث أن لا يخلط بين الأوامر والأحوال خلْطًا، بل يضع كلاًّ منها في موضعه،
والذين لم يفعلوا ذلك أخطئوا، وغلطوا في فهم الأحاديث، ولم يستطيعوا التوفيق
والتطبيق بينها.
يرى الناظر أولاً الأحاديث التي ذُكرت فيها الخلافة الراشدة، ولكوْنها كانت
معلومة لديه بأنها ستقوم على منهاج النبوة تمامًا - أوصى الأمة بطاعتها، واتخاذ
أعمالها قدوة وسُنَّة كسنته نفسه - صلى الله عليه وسلم - ففيها روى العرباض بن
سارية حديثه المشهور، قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم،
فوعظنا موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقيل يا رسول
الله، وعظتنا موعظة مودِّع، فاعهد إلينا بعهد، فقال: عليكم بتقوى الله، والسمع
والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا، وسترون بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنتي
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ) (ابن ماجه والترمذي) ،
وحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ... ) إلخ، وحديث: (أما طبقتي
وطبقة أصحابي فأهل علم وإيمان ... ) إلخ (رواه البغوي عن أنس) ، وحديث
عبد الله بن مسعود: (ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا وكان له حواريون
وأصحاب يأخذون بسُنته، ويقتدون بأمره) إلخ (مسلم) ، وغيرها كثير.
ففي هذا الدور أمرت الأمة بأمرين: الطاعة والاقتداء بالخلفاء، ثم تأتي بعده
أحاديث الدور الثاني، فيبقى حكم الطاعة على حاله، فتطيع الأمة خلفاء هذا الدور
أيضًا مثل طاعتها لخلفاء الدور الأول، ولكن يتغير الحكم الثاني، أي حكم الاقتداء،
فلا يُقتدَى بهم، ولا تتخذ أعمالهم سُنة متبعة؛ لأنه كان معلومًا من قبل أنهم لا
ينالون الخلافة على النظام الشرعي، ولا يكون سيرهم طبقًا للكتاب والسنة، فيكون
فيهم الصالح، والطالح، والقبيح، والحسن؛ فلذا أُمرت بطاعتهم، ونُهيت عن
اتباعهم، والاقتداء بهم، بل إذا قاموا لنشر بدعتهم، وترويج فسادهم - وجب على
كل أحد السعي لسد فسادهم، ومنع منكرهم بيده ولسانه، وإن لم يستطع فبقلبه
يبغض أعمالهم، (وذلك أضعف الإيمان، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) ،
فعن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويُسرنا،
وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله؛ إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم فيه من الله
برهان) (متفق عليه) ، أي يطاع الإمام في كل حال إلا أن يظهر منه كفر صريح.
وقال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم، ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون
عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم، ويبغضونكم، وتلعنونهم، ويلعنونكم، قال:
قلنا أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلا مَن ولي عليه والٍ
فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعنَّ يدًا من
طاعة) ، (رواه أحمد ومسلم) .
وعن حذيفة قال: قال صلى الله عليه وسلم: (يكون بعدي أئمة، لا يهتدون
بهدْيِي، ولا يستنُّون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال، قلوبهم قلوب الشياطين في
جثمان إنس، قال: قلت: كيف يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع
وتطيع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمعْ وأطعْ) (أحمد ومسلم) .
وقال صلى الله عليه وسلم ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها، قالوا: فما
تأمرنا؟ ، قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم (متفق عليه عن
ابن مسعود، وأخرجه أيضًا الحارث بن وهب وأورده الحافظ في التلخيص) .
وعن جابر بن عتيك مرفوعًا عند أبي داود بلفظ: (سيأتيكم ركب مبغضون،
فإذا أتَوْكم فرحِّبوا بهم، وخلّوا بينهم وبين ما يبتغون، فإن عدلوا فلأنفسهم، وإن
ظلموا فعليهم) .
وعن وائل بن حجر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجل
يسأله، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعونا حقنا، ويسألونا حقهم؟ ، قال:
اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُملتم) (مسلم والترمذي
وصححه) .
قال صلى الله عليه وسلم: (على المرء المسلم، السمع والطاعة فيما أحب
وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (أخرجه
الشيخان وغيرهما عن ابن عمر) ؛ إذ لا يُعصَى اللهُ خالقُ السموات والأرض في
شيء مهما صغر وقل لمخلوق مهما كبر وعظم وارتفع شأنه، وإن هذا ما قاله
الإسلام، وجميع الأديان، وكل العقلاء والحكماء.
ولذا أمرت الشريعة بأداء الصدقات والزكاة إلى العاملين عليها، مهما كانوا
ظلمة وفسقة وخونة، ولا يجوز منْعها عنهم لأجل ذلك، نعم يجوز السعي عند
الإمام في عزلهم، ولكن ما داموا على عملهم لا يجوز منع الزكاة عنهم؛ لئلا يختل
نظام الأمة - كما في رواية بشير بن خصاصة أنه قال: (قلنا: إن قومًا من
أصحاب الصدقة يعتدون علينا، أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا؟ فقال: لا)
(قال أبو داود رفعه عبد الرزَّاق عن معمر) ، وفي رواية سعد بن أبي وقاص،
قال: (ادفعوا إليهم ما صلُّوا) ، وروى ابن أبي شيبة أنه (قال رجل لابن عمر:
إلى مَن نؤدي الزكاة؟ قال إلى الأمراء، فقال الرجل: إذًا يتخذون بها ثيابًا وطِيبًا،
قال: وإن فعلوا ذلك أَدِّ إليهم الزكاة!) ؛ ولذا ترجم أصحاب الحديث (باب براءة
رب المال بالدفع إلى السلطان مع العدل والجور) (كما في المنتقى) ، وبه قال
جمهور الفقهاء وأئمة أهل البيت، كما نُقل عن الإمام الباقر - عليه السلام - في
الأصول وإلى هذا ذهب المحققون من الإمامية والزيدية [٩] .
((يتبع بمقال تالٍ))