للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الرحلة السورية الثانية
(١٠)
المؤتمر السوري العام
انتخب أعضاء هذا المؤتمر في أوائل سنة ١٩١٩ من جميع الولايات
والمتصرِّفيات السورية في المناطق الثلاث التي قسمها الحلفاء إليها، وكان انتخابهم
فيما عدا متصرفية جبل لبنان التي كانت مستقلة في إدارتها الداخلية على طريقة
انتخاب مجلس المبعوثين العثماني، بل انتخبهم المنتخبون الأولون، الذي انتخبوا
المبعوثين في الدورة الأخيرة، وأما جبل لبنان - الذي لم يكن يُنتخب منه أعضاء
لمجلس المبعوثين - فقد انتُخب من بعض بلاده - لا كلها - أعضاء للمؤتمر،
انتخبهم الوجهاء وشيوخ الصلح الذين ينتخبون أعضاء مجلس إدارة لبنان.
وكان الغرض من تأليف هذا المؤتمر - المنتخب بطريقة نيابية عن الشعب
السوري كله - أن يبين رأي الشعب السوري في مصير البلاد، وشكل حكومتها،
وما يفرضه عليها دول الأحلاف من المساعدة، وقد اجتمع المؤتمر لأول مرة في
دمشق عند مجيء اللجنة الأمريكانية من أوربة في تلك السنة لاستفتاء الشعب
السوري في ذلك، وخبر هذه اللجنة في تأليفها وامتناع دولتي فرنسا، وإنكلترة من
الاشتراك فيها، بعد أن كان قد تقرر جعْلها مشتركة، وطوافها مناطق البلاد،
واطِّلاعها على رأي جميع الطبقات والجماعات فيها بالمشافهة، وقرار المؤتمر العام
الذي قدمه لها في دمشق، وإجماع الرأي العام في هذه المناطق كلها على طلب
الاستقلال التام للبلاد كلها، واتحادها ورفض كل مساعدة تنافي هذا الاستقلال - كل
ذلك معروف مشهور، قد نُشر في جميع الجرائد السورية في ذلك الوقت، ونقلته
عنها الجرائد العربية بمصر وأمريكة وغيرها، ونوَّه به كثير من الجرائد
الإفرنجية في البلاد المختلفة، وسبق له ذِكْر في المنار، وليس هو ما يعنينا هنا،
وإنما الذي نريد أن نقوله هو أن الجماعات والأفراد أولي الشأن - الذين قابلوا
اللجنة الأمريكية في جميع المناطق - قد أيدوا المؤتمر السوري العام؛ فكان ذلك من
الشهادات المتواترة على ثقة الشعب كله بالمؤتمر، وكوْنه ينطق باسمه، ويعبر عن
رأيه.
لأجل هذا قرر حزب الاستقلال العربي عند البحث في طريقة إعلان استقلال
البلاد أن يكون المؤتمر السوري العام هو الذي يقوم به في العاصمة (دمشق)
مستظهرًا بعلمائها، ورؤسائها الروحيين وكبار رجالها من جميع الطبقات والأحزاب،
وأنه لا حاجة إلى انتخاب جديد - كما اقترح بعضهم - وكذلك كان، وقد نشرنا
خبره مفصلاً في وقته.
ولما اجتمع المؤتمر، وأعلن الاستقلال أيده الشعب في جميع المناطق
السورية، وصارت له - بمظاهرة الشعب له - صفة الجمعية الوطنية التأسيسية،
وقد كان من رأي الأمير فيصل أن ينفض بعد إعلان الاستقلال، وكاشف الذين
كانوا يتولون مراجعته ومذاكرته في الأمر من كبار أعضاء الحزب بذلك، فلم
يوافقه أحدٌ، وكاد يصر لولا أن قيل له: إن هذا الأمر لا يمكن البت فيه إلا بعد
اجتماع المؤتمر، والاتفاق مع الأكثر من أعضائه، وهم من حزبنا على ما يحسن
في ذلك، ثم كثر البحث في ذلك بعد اجتماعه، وقبل الاتفاق على وضع صيغة
إعلان الاستقلال، حتى تم الاتفاق على الصيغة التي وُضعت في قرار المؤتمر
التاريخي الذي أُعلن به الاستقلال؛ وقد نشرناه في المجلد الحادي والعشرين من
المنار (ص ٤٤١) ، وهذا نصها - بعد ذكر اختيار فيصل ملكًا -:
(وأعلنَّا انتهاء الحكومات الاحتلالية العسكرية الحاضرة في المناطق الثلاث،
على أن يقوم مقامها حكومة ملكية نيابية مسئولة تجاه هذا المجلس - أي المؤتمر -
في كل ما يتعلق بأساس استقلال البلاد التام، إلى أن تتمكن الحكومة من جمع
مجلسها النيابي، على أن تُدار هذه البلاد على طريقة اللامركزية) .
فإن جعْل الحكومة مسئولة تجاه المجلس كان يراد وضعه مطلقًا، فلم يقبل
الأمير فيصل بذلك، وبعد المراجعة والإصغاء رضي بأن يكون ذلك مقيدًا بما يتعلق
بأساس استقلال البلاد التام، ورضي أكثر الأعضاء بذلك.
وبعد أن تألفت الحكومة وانتظمت جلسات المؤتمر - اقترح بعض أعضائه
وضع قرار بطلب تقديم الوزارة بيان خطتها للمؤتمر طلبًا لاعتماده إياها - من
حيث هي حكومة نيابية بمقتضى قراره، فقبل الاقتراح، وتقرر بأغلبية كادت
تكون اتفاقًا.
ولما بُلّغ رئيس الوزراء قرار المؤتمر عرضه على الملك، فأنكره، وأبى أن
تجيب الوزارة الطلب، حتى أقنعته بذلك بعد مناظرة حادة، حضرها إحسان بك
الجابري رئيس أمنائه - وكان فيها ميَّالاً لرأيي - وسمع بعضها الأمير زيد.
ذلك أنني زرته صباحًا كالعادة، فذكر لي قرار المؤتمر، وقال: إنه ليس له
هذا الحق؛ لأنه ليس مجلسًا نيابيًّا، وأنني أمرت الوزارة بعدم إجابة طلبه، فقلت
له: يا مولاي، إن هذا الاقتراح عُرض فجأة في المؤتمر، ولم يبحث حزبنا فيه،
ولا علم به قبل عرضه، وإنني لم أكن من المقرين له، ولا المعارضين فيه؛
لأنني لا أزال مترددًا في الترجيح بين كفاءة الوزارة وكفاءة المؤتمر، وناظر إليهما
بعين النقد والتجربة، ولكن يجب أن ينفَّذ قرار المؤتمر بعد أن قرره وبلّغه، ولا
يجوز ردّه ألبتة.
قال: إنه لا حق في هذا الطلب؛ لأنه ليس مجلسًا نيابيًّا، قلت: بل له هذا
الحق؛ لأنه أعظم سلطة من المجلس النيابي، إنه جمعية وطنية تأسيسية، قال:
إنني أنا الذي أوجدته؛ فلا أعطيه هذا الحق الذي يعرقل عمل الحكومة! قلت:
بل هو الذي أوجدك؛ فقد كنتَ قائدًا من قواد الحلفاء تحت قيادة الجنرال اللنبي؛
فجعلك ملكًا لسورية، نعم، إن لك فضلاً بالسماح بجمعه؛ إذ كنت تحكم هذه البلاد
حكومة عسكرية باسم الحلفاء، أما وقد اجتمع باسم الأمة - وهي صاحبة السلطان
الأعلى بمقتضى أصول الشرع الإسلامي الذي تَدين الله به، وبمقتضى جميع
أصول القوانين العصرية الراقية، وقد اشترط في تأسيسه لهذه الحكومة التي
اختارك ملكًا لها أن تكون مسئولة تجاهه في كل ما يتعلق بأساس الاستقلال،
وبرنامج الوزارة السياسي يتعلق بأساس الاستقلال مباشرة، وبرنامجها الإداري
يتعلق بحفظ الاستقلال بالتبع أيضًا، فأرجو أن لا تحدث لنا أزمة في أول طريقنا،
وما تخشاه - من عرقلة الحكومة بتدخل المؤتمر وسيطرته عليها - فأمره سهل؛
فإن أكثرية المجلس من حزبنا وأعضاء الوزارة من حزبنا أيضًا، ونحن نضمن
التوفيق بينهما، وعدم فتح هذا الباب الآن، وبعد التأمل في هذا الكلام الذي يعتقد
إخلاص قائله وصدقه وعلمه بأن المؤتمر لا يسكت عن تنفيذ قراره رضي، ثم
قدمت الوزارة بيانها على الوجه الذي يتفق مع رأي الحزب، ونالت الاعتماد
المطلوب، ثم كان من أمرها بعد ذلك ما ذكرناه من قبل.
والغرض من ذكر هذه الحادثة بيان صفة المؤتمر لا التعريض بميل الملك
فيصل إلى الاستبداد، بل أقول: إنني كنت أخاف ما يخاف هو من تحكُّم المؤتمر في
الحكومة وعرقلته لأعمالها، وهي في طور التكوُّن؛ فإن استبداد الجماعة قد يكون
أشد ضررًا من استبداد الأفراد، والشواهد على هذا معروفة في التاريخ القديم
والحديث، وحسبنا من الحديث استبداد الاتحاديين بالحكومة العثمانية، الذي أدى
إلى هدم سلطنتها (إمبراطوريتها) العظيمة، وحب الاستبداد فطري في نفوس
البشر، خيارهم وشرارهم، وربما كان بعض الأخيار أمضى فيه، وأثبت قدمًا من
غيرهم؛ لعذرهم أنفسهم فيه بما يجدون فيها من حسن النية، والشرير قد يلوم نفسه
عليه إذا كان فيه بقية من الخير، ولا يصرف الناس عن الاستبداد إلا التقيد بشرع
أو قانون وراءه قوة تحافظ على تنفيذه، وتراقب المنفذين له، وهذا معروف لا
يحتاج إلى شرح، ولما كانت مراقبة الملوك وإيقافهم عند حدود الشرائع والقوانين
مع الاعتراف لهم بالسلطة العليا من أشق الأمور، بل تكاد تكون متعذرة - سلبت
الأمم الراقية السلطتين منهم، وجعلتهما للمجالس النيابية وجماعة الوزراء ... قلت
مرة لمستر متشل إنس وكيل المالية بمصر في عهد كرومر: إنكم قد ظلمتم الخديوِ،
وقيدتم سلطته، حتى لم تتركوا له من النفوذ الفعلي في الحكومة شيئًا، فقال: لكننا
تركنا له جميع مظاهر الملك وعظمته، وهل تريد أن نعطيه ما ليس لمَلِكنا مثله؛
فيستبد في الأعمال؟ ! فوالله لو أن ملكنا استطاع أن يستبد في أمر من الأمور في
يومه لما أخَّره إلى الغد!
ومعقول أن يكون الملك فيصل أجدر من غيره بحب الاستبداد، وقد صرح
بأنه ندم أن لم يكن استبد في سورية، ولكن من غرائزه وأخلاقه ما يصده عنه إذا
كان طريقه غير معبَّد له، وآية لي على ذلك أنه سمع مني ما ذكرت من معارضته،
فرجع إلى قولي، ولم يَنْقُص ذلك شيئًا من مودته، واحترامه لي، ولو كان
الاستبداد راسخًا فيه - كرسوخه في كثير ممن نعرف من الأمراء، وكان قوي
الشكيمة فيه - لما استطعت معاشرته، والعمل معه بعد ذلك، ولكان حقد عليَّ بهذه
المعارضة، وكاد لي كيدًا إذا لم يستطع إيذائي جهرًا، على أنه رأى مني - بعد
ذلك - معارضة أشد وأخشن، ولم يكن ذلك بصارف له عن مكاشفتي - عند توديعه
ليلة خروجه من دمشق - بأعمق أسراره، التي أكد لي أنه لم يذكرها لأخيه كما
ذكرت ذلك من قبل، ولعله لولا يقينه الصحيح بإخلاصي للأمة وله، وأنني ليس
لي أدنى هوىً نفسيٍّ في ذلك - لما بقيت لي عنده هذه المودة، وقلما تجد هذا عند
غيره من الملوك والأمراء، بل عند الأفراد والنظراء، بل عند مَن دونهم! ،
ونعود بعد هذا الاستطراد إلى الكلام عن المؤتمر.
المؤتمر والحكومة في سورية:
قلت إنني كنت أخاف ما يخاف الملك فيصل من تحكم المؤتمر في الحكومة
وعرقلته لأعمالها، وإنني كنت أراقب كلاًّ منهما مراقبة المختبر الشاكّ في كفاءة
الفريقين، وفي الترجيح بينهما، وقد تكون وجهة النظر عندي في ذلك مخالِفة
لوجهة النظر عند الملك فيصل، وقد بينت بالإجمال ما ظهر لي من كفاءة الحكومة
والانتقاد عليها بالاعتدال البريء من التحامل والمحاباة.
وأما المؤتمر فقد ظهر أنه ليس أدنى من المستوى الذي فيه الشعب، بل هو
مثال مطابق له؛ فقد كان الرأي العام فيه في مسألة الاستقلال التام الناجز، ورفض
كل سيطرة أجنبية - هو رأي الشعب بعينه، بل لم يكن فيه أدنى مظهر للفئة القليلة
في الأمة التي تميل إلى قبول الوصاية الأجنبية المؤقتة، وهل لدى الدول الطامحة
إلى ذلك سيطرة مؤقتة إلا عند العجز عن الدائمة؟ وقد يلطفونها بتسميتها مساعدة،
نعم قد اتُّهِم أفراد من الأعضاء بأنهم من الحزب الوطني الذي ألفه بعض الأغنياء،
ولكن بعض وزراء الحكومة - على قلتهم - كانوا يصرحون لبعض الناس بأن
رأيهم قبول الوصاية، ومنهم ساطع بك الحصري وزير المعارف الذي كان أحد
رسل الملك فيصل إلى الجنرال غورو، وعلاء الدين الدروبي قتيل خربة الغزالة،
وتقدم ذكر ذلك، بل كانت وطأة المؤتمر شديدة في مقاومة الانتداب في كل من
سورية الجنوبية والشمالية، ولم يكن هذا محل خلاف بين حزبيه، ولا بين أحد من
أفرادهما، وكان فيه العدد الكافي من دارسي علم الحقوق وأصول القوانين ومن
ذوي الإلمام بالشريعة الإسلامية، ومن الأذكياء المتعلمين في مدارس الدولة العثمانية
أو بعض المدارس الأجنبية، فكان بذلك كفؤًا لوضع القانون الأساسي للبلاد، وأهلاً
لوضع غيرها من القوانين، أو تنقيح القوانين العثمانية.
وكان فيه طائفة من المحافظين على القديم من أمور الأمة وتقاليدها، وطائفة
من المولعين بالجديد الأوربي، وطائفة من المعتدلين بين جمود أولئك وخفة هؤلاء،
ومن المولعين بالجديد مَن يودُّون السير من وراء حدود الدين، وأن يستظهروا في
ذلك بالقانون، بل قاوم كثيرون منهم تقييد الحرية الشخصية بشرط المحافظة على
الآداب العامة، وكان رأي بعضهم أنه شرط لا حاجة إليه؛ لئلا يتوسل به إلى منع
السُّكر في المقاهي والملاهي، واختلاط النساء بالرجال فيها، ورأي آخرين أنه
شرط حسن، ولكن لا ينبغي ذكره في القانون الأساسي، فكان رأي الفريقين أفلج،
فرجح على رأي المخالفين لهم؛ لأن أكثر هؤلاء كان ضعيف الفهم قليل الحزم.
أشرت آنفًا إلى أنه كان في المؤتمر حزبان، وهما حزب التقدم الذي يمثل
حزب الاستقلال العربي وجمعيته، وحزب الاعتدال، ثم انفرد أفراد سموا أنفسهم
حزب الاستقلال - أي الاستقلال في الرأي - ولكن الذين لا يتقيدون ببرنامج حزب
يؤيدون رأي الأكثر من أفراده إذا قرروه لا يمكن أن يؤلفوا حزبًا من أنفسهم، ولو
أمكن أن يكوّن هؤلاء حزبًا لكنت منهم قبل أن أكون رئيس المؤتمر؛ فإنني من أشد
الناس استمساكا باستقلالي فيما أراه هو الصواب، ولكن لم يكن لي مندوحة عن
الاشتراك في تأليف حزب التقدم، الذي يمثل الجماعة التي أنا مرتبط بمذهبها
السياسي، وهو استقلال البلاد العربية، وقد انتُخِبت رئيسًا لهذا الحزب عند تأسيسه،
وكنت أستعين به على تنفيذ رأيي في المسائل الخلافية في اجتماعاته الخاصة،
فإن لم يتيسر لي إقناع الأكثرين في بعض المسائل، ولم يتيسر لهم إقناعي - فإنني
أنفذ قرارهم عملاً بالنظام، ولكنني لا أنصره بالاحتجاج له، والدفاع عنه على مِنبر
المؤتمر، ولا في مناقشة الأفراد، بل كنت أصرح لهم بما أعتقد أنه الصواب،
وأقول هذا رأيي، وذاك قرار الحزب، وقد استطعت - بما لي من المكانة
الشخصية عند الإخوان - أن أقنعهم بإرجاء البتّ في بعض المسائل الخلافية إلى
أجل ساعدتنا فيه الأيام على الاتفاق فيها.
ولقد دُعيت إلى المساعدة على تأليف الحزب الآخر عند الشروع فيه، على
أن أكون رئيسًا له، فلم أقبل، وقد كان الداعي الأول إلى تأليفه كتب أسماء أكثر
الذين لا ينتمون إلى حزب الاستقلال العربي؛ ليدعوهم إلى تأليف حزب مخالف له
في المؤتمر؛ لئلا ينفرد بالنفوذ فيه، كما انفرد بالنفوذ في الحكومة، وفي بلاط
الملك، على أن يتقاسموا ليكوننَّ إلبًا واحدًا، وكلمةً واحدةً على كل ما يقررونه فيما
بينهم، لا يشذ أحد عن رفع صوته به، ولم أكن أعرف لهم رأيًا جامعًا غير ما
ذكرت، وهو ما يتعذر عليَّ، على أنه قد دخل في حزبهم بعض أعضاء جماعتنا
برِضًى من حزبها بقصد الإصلاح، وتفاديًا من توسيع مسافة الخلاف، وقد كان
أفراد هذا الحزب - وهم الأقلون عددًا - أكثر اتفاقًا وتناصُرًا من الآخرين، وهم
الأكثرون عددًا وعلمًا، إلا في المسائل المهمة، ومنهم أكثر أهل العلم والرأي
والخطباء.
سيرتي في المؤتمر:
ولما صرت رئيسًا للمؤتمر وجب عليَّ أن أساوي بين الحزبين في كل شيءٍ
يتعلق به، وفي احترام أفرادهما، حتى في خارجه، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه،
وإيتاء كل ذي فضل فضلَه، بل تركت رئاسة حزب التقدم مع المحافظة على نصر
الجماعة التي ينتمي إليها، وقد كان الذين استاءوا من تشديدي عليهم في حفظ نظام
الجلسات، أو في المنع في بعض الأحيان من الكلام والخطابة - أكثرهم من أفراد
جماعتنا، وأقلهم من الحزب الآخر، بل ربما كان أكثرهم من أصدقائي، وما كلهم
من أفراد جماعتنا، ولا كل أفراد جماعتنا منهم، ومن العادات الراسخة في نفسي
أن أشتد مع الأصدقاء أيهم أشد حبًّا وإخلاصًا في الصداقة، ما لا أشتد مع غيرهم
في الإقناع بالحق، والمطالبة بالوقوف عنده؛ لأنهم أقرب إلى حسن الظن، وأبعد
عن الظنة (التهمة) التي قد تبعث على مكابرة الحق، وكم أغضب عليَّ هذا الخلق
من صديق ساءني إغضابه، وسرَّني استعتابه، وكم وجه إليَّ من عتب محب لم
يتعذر عليَّ إعتابه، وربما فاتني من ذلك ما أجهله، أو أعذر نفسي بحسن النية فيه،
وإن لم تعلم، وقد اتهمني بعض مَن صاحبت وواددت من أعضاء المؤتمر وغيرهم
بالمحاباة في تنفيذ وظيفة الرئاسة فيهم، وكانت هذه التهمة باطلة، فوايم الحق،
إنني كنت دائمًا محافظًا على تحري الحق والعدل، ولكنني لا أبِّرئُ نفسي من التساهل
أحيانًا مداراةً لبعض شديدي الانفعال والغضب، أو محبي المشاغبة كراهةَ أن
تكسر، فتسوء سمعة المؤتمر، ومنهم مَنْ أغراه ذلك باللجاج بالتمادي؛ حتى
اضطررت إلى ما كنت أكره من الإنذار وراء الإنذار، الذي لا يبيح القانون
فيه للرئيس إخراج المنذَر من الجلسة بقوة الشرطة.
(للكلام بقية)