للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مصابنا بشقيقنا
السيد صالح مخلص رضا

الأمر لله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. إنا لله وإنا إليه راجعون. ربنا أفرغْ
علينا صبرًا. وتوفنا مسلمين.
في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان رُزئنا بوفاة شقيقنا، وتِرْبنا، ورفيق
حياتنا، وأخلص الرجال لنا السيد صالح آل رضا تغمده الله برحمته ورضوانه،
بعد أن أُصيب بألمٍ في الحنجرة، كان عَرَضه الأول بحّة في الصوت، صبر عليها
بضعة أشهر، لم يعرض نفسه فيها على طبيبٍ. وكان يظن - كما نظن - أنه
عرض لا يلبث أن يزول، ثم ألفيناه يزداد بالتدريج البطيء، وكنت أنصح له
باستشارة الأطباء فيه، والعناية بما يصفون من معالجته، وكان يتهاون بذلك كدأبه،
وهو من أشد الناس صبرًا وجَلَدًا واحتمالاً للآلام، ثم اشتد عليه الألم وضيق
النفس، فعرض نفسه على عدة أطباء من المصريين، واليهود، والإفرنج،
فاختلف رأيهم أولاً، ثم ظهر أن المرض ورم سرطاني، واختلف القائلون بهذا في
استئصاله، هل هو خطر على الحياة أم لا، فكان ذلك سببًا لتردده في العملية
الجراحية، إلى أن ضعف بدنه بقلة الغذاء؛ إذ كان يشق عليه ازدراد الطعام، حتى
إنه لَيألمُ من شرب الماء، واللبن، وحينئذٍ رضي بأن تعمل له العملية الجراحية،
واخترنا لها الطبيب الإخصائي الشهير الدكتور حسن بك شاهين، ولكنه أبى أن
يعملها لجزمه بأن البنية لم تعد تحتمل ذلك، واكتفى بأن فتح له ثغرة في نحره لأجل
التنفس، وقال إنه قد يعيش في هذه الحالة عدة أشهر ممتعًا ببعض الراحة، ولكن
أجله المحتوم لم يكن قد بقي منه إلا أيام معدودة لا تبلغ الأسبوع، فتوفاه الله تعالى،
وهو في أحسن حالٍ كان عليها من الإيمان به، والتوجه إليه، وإخلاص العبادة له،
حتى إنه كان يصلي الصلوات في سريره قاعدًا، فكان هذا مع العلم بأنه لم يعد له
راحة في الحياة مع هذا الداء العُضال أكبر المعزيات لنا في مصابنا به.

***
(تعلمه وتربيته)
كان رحمه الله نادر الذكاء، سريع الفهم، سريع الحفظ، بطيء النسيان،
تَلَقَّى مبادئ التعليم الأول في بلدنا القلمون على أحد شيوخها، فلم يكد يحذق حروف
الهجاء وتركيب الكلم؛ حتى صار يقرأ كل ما أقرؤه بسرعة عجيبة، فمهما يَطُلْ
الدرس الذي يلقنه إياه الأستاذ - يعيده بعد إقرائه إياه مرة واحدة، فلو شاء أن يُقرئه
كل يوم جزءًا كاملاً من القرآن لفعل، فكان يفوقنا كلنا في ذلك، ثم طلب العلم في
طرابلس، فكان محل إعجاب شيوخه بذكائه وفهمه، فتلقَّى من الفنون العربية
والعلوم الشرعية ما كان يُظهر قليله من فضله ما لا يظهر أضعافه في تحصيل غيره،
وقرأ كثيرًا من كتب التربية والتعليم؛ فكان ذا رأي وذوق في هذا الفن، وطالع
كثيرًا من كتب الأدب والتاريخ وكتب الديانة المسيحية، فحفظ من ذلك كله ما كان
به خير نديم وسمير، وكان معاشِروه في سورية، ثم في مصر يَعْجَبُونَ من سعة
حفظه وحسن اختياره فيه وسرعة استحضاره له، وحسن إلقائه إياه، ويستغرب
النصارى منهم كثرة ما يحفظه من كتبهم، ويعرفه من تقاليدهم الدينية على اختلاف
مذاهبهم، وكان يجيد الكتابة نثرًا ونظْمًا، ولكنه كان كَسولاً قلَّما يُمسك القلم بيده،
وله مقالات قليلة، وتقاريظ لبعض المطبوعات في المنار، استتبع بعضها ترجمة
صديقه الشيخ طاهر الجزائري - رحمهما الله تعالى - ترجمة انتقادية دقيقة غير
مألوفة في هذا العصر، فانتقدها بعض أدباء دمشق على اعترافه بأنها حق، شرع
في وضع تفسير لمفردات القرآن الكريم، ولكنه لم يكتب منه إلا وريقات قليلة،
وفي ضبط ديوان من الشعر، وشرح لغريبه لأجل طبعه، ولم يتم منه شيئًا يُذكر،
وقد كان عُين مديرًا لبعض المدارس الابتدائية التي أُنشئت بأمر السلطان عبد الحميد
ونفقته لمسلمي لبنان - وهي مدرسة الكورة - فسلك في تربية تلاميذها، وتعليمهم
مسلكًا حسنًا نافعًا، وقد أُوذي من اضطهاد حكومة طرابلس لأهل بيتنا في العهد
الحميدي أشد مما أوذي غيره، فكان ذلك مبغِّضًا له في تلك البلاد، ومرغِّبًا له في
الهجرة إلى مصر، فلما سنحت الفرصة لحق بي فيها.

***
(آراؤه وأخلاقه)
وكان مستقل الفكر في الدين والأدب، وكل ما للرأي فيه مجال، قليل المبالاة
بكل شئون الحياة، يأكل ما وجد متى جاع، لا ينتظر ما هو أطيب منه، وينام
حيث نعس من ليلٍ أو نهارٍ، سواء كان في الحقول والبساتين أو الأندية والسمار،
ويتأنق في اللباس تارة، ويتبذَّل أخرى غير حريص على أن يلقى الناس متزيِّنًا،
ولا خَجِل من أن يروه متبذلاً، ولا مبالٍ أن يرتاض في عذق الأرض، أو قطع
الشجر متأنقًا، سخي النفس ربما يجود بكل ما في يده على مَن يراه محتاجًا إليه،
ويؤْثِره على نفسه، وإن لم تكن حاجته فوق حاجته، شديد الرحمة لمَن يراه محلاًّ
لها، وشديد القسوة إذا غضب، وقد يعود فيسترضي مَن يعاقبه إذا اعتقد أنه ظُلم،
راقب مرة لصًّا كان يسرق الليمون من بستانٍ لنا، حتى إذا ظفر به وهو يسرق
ضربه ضربًا مُبرِّحًا، وأخذ منه مقدار ثمن ما سرق من قبل كما قدره، ولكنه خاف
أن يكون مخطئًا في التقدير، أو يكون قد سبقه لص آخر، فباع من اللص ما وجده
بيده بالثمن الذي تقاضاه منه، وحمله على إحلاله، والسماح عنه، وله نوادر من
مثل هذه الفتوى أو الحيلة الشرعية فيما يرضي به اعتقاده وهواه معًا، كنت أُخطِّئه
في بعضه.
وكان فخورًا بنَسَبه وبمناقب آل البيت الطاهرين من أجداده، ويتشيع لهم،
ويبغض بني أمية الذين ظلموهم، وآذوهم، وهضموا حقوقهم، وهو على هذا يجل
الشيخين، ويبرئهما من كل ما رماهما به الرافضة، وما رموا به جمهور الصحابة
- رضوان الله عليهم - ويعلم أن هذا قد كان بتأثير دعوى المجوس أعداء الإسلام
والعرب، وقد كان في هذا الفخر والتشيع كالمرحوم الوالد، بل يفوقه فيهما، وليس
في أسرتنا مَن يضارعهما في ذلك.
ولاهتمامه بأمر النسب والتاريخ عُنِيَ بالبحث عن الدخلاء في بلدنا القلمون،
وهم من غير السلالة الطاهرة، فعرفهم بيتًا بيتًا وفردًا وفردًا، فكان يميز بين أهلها
الأصليين - وكلهم من السادة الشرفاء - وبين الدخلاء فيهم، وليس هذه العناية
لأجل ضبط أفراد أسرتنا؛ فإنهم معروفون، لا يجهل أحد من الأهالي أحدًا منهم
لقِلَّتهم وامتيازهم على سائر البيوت بالعلم والإرشاد، وإن ترك أكثرهم ذلك في هذه
السنين الأخيرة. وكان يعرف من تاريخ لبنان الحديث ما لا يعرف إلا القليل من
أهله، تلقَّى ذلك من أفواه الشيوخ الذين كان يلقاهم في دارنا، أو في قرى الكورة
وغيرها.
وأما ما كان بيني وبينه من الصلة والمحبة والعشرة - فهو ما يقل نظيره بين
أخوين، ولقد كان أقدر على بيانه مني لو كتبه، كنا نعيش معًا، وكنت أكثر منه
اشتغالاً بالعلم والعبادة؛ وكان لذلك يجلّني كإجلاله لوالده، وأساتذته، بل أشد؛ لأنه
إجلال اعتقاد روحي ومحبة أخوية، وعشرة لازقة، كنا في سن المراهقة نقضي
بعض أيام رمضان في كرم لنا على مسافة ميلين عن القرية، فكنت أصرف كل
النهار في قراءة القرآن والصلاة، وكان لا يصلي معي إلا الرواتب، بل يلح عليَّ
بأن ألعب معه، فلا أفعل، فإذا أطلت الصلاة قام أمامي فيها يبني لي محرابًا،
وكنت في بعض الأيام أقرأ القرآن كله، فإن قرأت نصفه عاتبت نفسي على
التقصير، كان يذكِّرني بهذا، ويذكره لغيري، يقول: كنت أعتقد أن أخي نبي من
الأنبياء! فلما كبرت وعلمت أن النبوة قد خُتمت بنبينا - صلى الله عليه وسلم-
صرت أعتقد أنه ولي من أعظم الأولياء، ولما فُقته في التحصيل حضر عليَّ
بعض الكتب في الفنون، وكان يحضر دروسي الدينية في المسجد متعلمًا، ويعُدُّني
أخًا وأستاذًا، وما زال يُكرِهني - في الأعياد، وعند التلاقي بعد سفر - على
السماح له بتقبيل يدي على علمه بكراهتي لذلك، فإن تعوُّدنا على تقبيل أيدينا من
الصغر لم تجعله محببًا عندي في الصغر ولا في الكبر.
وكنت أقول إنني لا أعرف أحدًا يحبني كحب أخي السيد صالح إلا أن تكون
الوالدة، وأما أنا فطالما أنني لم أشعر قط بأنني كنت أملك في الدنيا شيئًا من دونه،
ولعلمه بذلك - كان يتصرف بكل ما هو لي تصرف المالك، حتى إنه يهب ويهدي
ويتصدق، ولا يرى أنه في حاجة إلى إعلام ولا استشارة، ولم أحفظ شيئًا مما
علمته من ذلك، إلا أن صديقًا لي كان قد أهدى إليَّ شيئًا مما يُحفظ للذكرى، فتفقدته
مرة فلم أجده، فسألت عنه، فعلمت أنه أهداه إلى صاحب له!
نعم إننا كنا شقيقين صديقين، بلغت عواطف الأخوة والصداقة، والإخلاص
بيننا الغاية التي لا نعرفها عن غيرنا، وكان أشد مني عاطفة؛ لأنه عصبي المِزَاج
وأنا معتدل، لا إخلاصًا ولا قيامًا بالحقوق، ولولا المزاج لكان الأصل في عاطفة
الأخوة وأنسها المساواة إذا كانت التربية واحدة، وقد قلت في بيان حكمة محرمات
النكاح من التفسير: (إن أُنْس أحد الأخوين بالآخر أُنْس مساواة، لا يضاهيه
أُنس آخر؛ إذ لا يوجد بين البشر صلة أخرى فيها هذا النوع من المساواة الكاملة،
وعواطف الود والثقة المتبادلة ... ) إلخ.
وقد تزوج - رحمه الله، وغفر له - في أول سن الشباب، ولم يكن مغتبطًا
بالزواج، وقد تُوفِّيت زوجته، وهي من شرائف القلمون بعد أن ولدت له غلامًا
وجاريةً، وكان شديد الحب لهما، والحدب عليهما، حتى كاد يخرج بذلك عن سنن
أشد الوالدات عطفًا وعاطفةً، وقد زوَّج ابنته بمصر من رجلٍ فاضلٍ كريمٍ، ولها
أولاد، جعلهم قرة عين لها ولوالدهم، وولده السيد محيي الدين تربَّى في دار الدعوة
والإرشاد، وهو كاتب أديب مقيم معنا، ويراسل بعض الجرائد في أقطار أخرى -
وفقه الله تعالى - ورحم والده فقيدنا الكريم رحمة واسعة، وجعلنا جميعًا - مع
السيدة الوالدة - من الصابرين المأجورين.