للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محيي الدين آزاد


الخلافة الإسلامية
ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية
مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية
وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد
الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية

فصل
إذا بويع الخليفتان فاقتلوا آخرهما
أي إذا قامت خلافة خليفة، وتمكنت حكومته في الأرض - فلا يجوز لأحد
الخروج عليه، ومَن يخرج يجب قتله؛ لأنه غادر، وفتنة، ومَهلكة للهيئة
الاجتماعية، يريد أن يفرق بين المسلمين، ويهدم النظام القائم {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ
الْقَتْلِ} (البقرة: ١٩١) [١] .
وعن عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: (مَن أتاكم وأمركم جميعٌ على رجل واحد - يريد أن يشق عصاكم، أو
يفرق جماعتكم - فاقتلوه) (أحمد ومسلم) .
ولذا اتفقت كلمة المسلمين [٢] أن الخليفة - سواء كان أهلاً أو غير أهل - إذا
قامت خلافته - لا يخرج عليه، ومَن يخرج يُقتل بعد إتمام الحجة عليه، والدعوة
إلى الصلح {فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي} (الحجرات: ٩) .
وفي نيل الأوطار: قد حكى في البحر عن العترة جميعًا أن جهادهم أفضل من
جهاد الكفار في ديارهم؛ إذ فِعْلهم في دار الإسلام كفعل الفاحشة في المسجد (ج٧،
ص٨٠) .
وحكمة هذا الحكم ظاهرة؛ لأنه لو لم يسد باب الخروج بتاتًا لا تسلم الحكومة
الإسلامية من الخارجين والثائرين مهما كانت صالحة وحسنة، ومهما كان صاحبها
أهلاً وجامعًا للشروط؛ إذ كل ذي عصبية يدَّعي لنفسه الحق والفضيلة أكثر منه،
والناس لا يستطيعون التفاضل بينهما، فيتفرقون حزبين، حزب مع هذا، وحزب
مع ذاك، ثم يخوضون غمار حروب لا تنتهي أبدًا، فوجب أن يُمنع الخروج منعًا
تامًّا، ويُعاقب الخارج عقابًا شديدًا؛ ليكون عبرةً لغيره، فقتْل نفس واحدة خيرٌ من
قتل الألوف، وقد أُشير على هذه الحكمة في الحديث: (يريد أن يشق عصاكم) .
وقد وردت في هذا الباب أحاديث كثيرة مَن يرد الاطلاع عليها فليراجع كتب
الصحاح.
***
فصل
إجماع الأمة وجمهور الفقهاء
قد قامت حكومة أمراء بني أمية على القهر والاستبداد في زمنٍ كان أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - وأئمة أهل بيته موجودين فيه بكثرة زائدة، ثم تلتها
الخلافة العباسية، وظلت خمسة قرون، وفي عصرها دُوِّنت العلوم الشرعية،
وأُلفت الكتب الدينية، ووجدت أئمة المذاهب، بَيْد أنه لم يختلف طوَل هذا الزمن
أحد من الصحابة والعترة، والأئمة والفقهاء في هذه المسألة، بل كلهم أجمعوا على
قول واحد، وعمل واحد، ولعله لا يوجد بعد العقائد الأساسية وأركان الإسلام
الأربعة إجماع على شيءٍ غير هذا.
فعمل الصحابة معلوم ومشهور، كان مروان بن الحكم واليًا على المدينة،
وأبو هريرة صحابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذّنًا في المسجد النبوي،
وكان مروان يستعجل في الصلاة إلى درجة لا يقول (التأمين) استثقالاً، ولا يقف
بعد الفاتحة وقفة ليقوله المأمومون، بل يُسرع ويبدأ - بعد أم الكتاب - بسورة
أخرى، مع أن فضل التأمين ثابت في السنة، كما في حديث: (فمَن وافق تأمينُهُ
تأمينَ الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) (بخاري) ، ولكن مع هذا لم يتخلف أبو
هريرة عن الصلاة وراءه، ولم يخرج من طاعته، إلا أنه كان يأخذ عليه العهد
فيقول: (لا تفتني بآمين) [٣] .
وكذلك كان الناس في عهد بني أمية يكرهون سماع خُطبهم الخرافية، فكانوا
يتفرقون بعد صلاة العيد، ولا ينتظرون الخطبة، فأراد مروان أن يخطب قبل
الصلاة؛ ليضطر الناس إلى سماعها - فقام رجل في وجهه، وأنكر عليه عمله،
فروى إذ ذاك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه حديث: (مَن رأى منكم منكرًا
فليغيره ... ) إلخ [٤] .
وهكذا كان أمراء بني أمية يخالفون صريح السنة كل يوم، وينكر عليهم
الصحابة بكل جرأة وشجاعة، ولا يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ولكن مع كل هذا لا ينزعون اليد عن طاعتهم، ولا يخرجون عليهم، ولا ينكرون
خلافتهم لأجل أن خالفوا النظام الشرعي، وتسلطوا على الخلافة بغير حق، وحادوا
على الصراط السويّ.
وكان سيد التابعين سعيد بن المسيب يقول في بني مروان: (يُجيعون الناس،
ويُشبعون الكلاب) (تذكرة الحفاظ للذهبي ج١، ص٤٧) ، ويُعاقَبُ بأنواع من
العذاب، ولكن يطيعهم، ولا ينكر خلافتهم (؟) .
وقد قامت فتنة القول بخلق القرآن في عهد المأمون، والمعتصم، وابتُلِيَ بها
علماء السنة ابتلاءً شديدًا، فجُلد الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - ثمانين
جلدة، وحُبس في السجن سنين عديدة، ولكن لا داهن المأمون والمعتصم في
بدعتهما، ولا خرج عن طاعتهما، بل كتب في وصيته: (والدعاء لأئمة المسلمين
بالصلاح، ولا تخرج عليهم بالسيف، ولا تقاتلهم في الفتنة) ، كذا نقل عنه ابن
الجوزي في سيرته.
وقد نقل ابن حجر العسقلاني قولاً لابن التين يخالف ما قلناه من الإجماع،
فقال: (وقد أجمعوا أنه - أي الخليفة - إذا دعا إلى كفر، أو بدعة أنه يقام عليه) ،
ثم رد عليه قائلاً: ما ادعاه من الإجماع على القيام - فيما إذا دعا إلى البدعة -
مردود، إلا إذا حمل على بدعة تؤدي إلى صريح الكفر، وإلا فقد دعا المأمون،
والمعتصم، والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها
بالقتل، والضرب، والحبس، وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج
عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة، حتى ولي المتوكل الخلافة،
فأبطل المحنة. (فتح، ج ١٣: ١٠٣) .
والحقيقة التي لا مراء فيها أن كل ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر
به من طاعة الخلفاء، وما ينبغي أن يُعامَلوا به - فسَّره السلف الصالح بعملهم الحق،
وقد علمت في الفصول الماضية الأحاديث التي تبين أدوار الخلافة الإسلامية،
وما لكل دور من الأحكام، فدور الخلافة الراشدة كان دور رحمة واسعة للأمة، وأما
دور الملك العَضوض فكانت خصائصه المتضادة، وأحواله المتناقضة - ابتلاءً
عظيمًا لها، فكان ذا وجهين مختلفين، اجتمع فيه البياض والسواد، والنور والظلمة،
والحق والباطل، ويستلزم الحب والبغض، والترك والطلب، والقطع والوصل،
والطاعة والخلاف، وطُولِبت الأمة بالقيام بكل منهما في وقته ومحله، فتطيع
هؤلاء الملوك، وتسمع لهم؛ لأنهم أولياء الأمور والقائمون بالحكومة الإسلامية،
فلا تخرج عليهم، ولا تقوم في وجههم، ونُهيت من جهة أخرى أن تتبعهم، وتقتدي
بهم؛ لأن أعمالهم لا تكون مرضية، فتطيعهم، ولكن لا تستنُّ بسُنَّتهم، وإن دعوا
إلى المنكر ردت دعوتهم، وخالفتهم في ذلك باليد، واللسان، والقلب، ولا تزيغ
عن الحق ابتغاءً لمرضاتهم.
فما أصعب هذا المقام! ، ولعمري، إن الإنسان ليزلُّ قدمه دون أن يبلغ هذا،
فكيف السبيل إلى القيام فيه؟ ! ؛ لأن الإنسان طوع عواطفه، فلا يستطيع أن يجمع
بين عاطفتين متناقضتين، فإنه إما أن يحب ويطيع، وإما أن يبغض ويعصي،
فمَن يحسبه أهلاً لحبه وطاعته يحلو منه كل شيءٍ في عينه، فيطيعه بكل قلبه، ولا
يعصي له أمرًا، ومَن يبغضه يبغضه بكل قلبه فلا يطيعه ألبتة، نعم، لا سبيل إلى
النجاح إلا أن يدركه الله بتوفيقه، فيجعل كل عاطفة في محلها، ولا يدع بعضها
يغلب بعضها الآخر، فيهلك، ويضل ضلالاً بعيدًا؛ لأنه لو تجاوز الحد في الطاعة
دخل في الاقتداء، والتأسِّي الذي يجرُّ إلى الغلو في الباطل، والانحراف عن الحق،
ثم إنه لو تصلَّب في المخالفة، وغلا في الأمر بالمعروف خُشي عليه الخروج من
الطاعة، ومن ثَمَّ الولوج في الحروب، وقتل النفوس، والفوضى، وهذه هي علة
تلك الفتن التي لا تزال تنزل بهذه الأمة من ثلاثة عشر قرنًا؛ لأن الناس لا
يستطيعون التوازن بين العواطف، فكم من أُناس غلوا في التمسك بالحق، والأمر
بالمعروف - فخرجوا على السلاطين والخلفاء، وأضعفوا بعملهم هذا الخلافة والأمة
معًا، وكم مثلهم مَن غلوا في الطاعة - فجعلوا الحق باطلاً، والباطل حقًّا، مداراةً
للأمراء والملوك؛ فأفسدوا بذلك نظام الأمة!
ولقد ابيضَّت عين الدهر، ولم ترَ أمة سارت على مثل هذا الطريق
الاجتماعي المحفوف بالمصائب والمصاعب سالمة آمنة إلا الأمة الإسلامية؛ فإنها -
ولا شك - سارت عليه بكل فوز ونجاح وسلامة، مراعيةً كل جوانبه، متجنِّبةً
جميع مزالقه، فعملت في آنٍ واحدٍ عملين متناقضين، فأطاعت الخليفة وخالفته،
أطاعت فيما تجب فيه طاعته، وخالفت فيما تجب فيه مخالفته، وقد شرحت بعملها
مسألة (الاقتداء والطاعة) ، والفرق بينهما بكل وضاحة، تحير منها علماء
الأخلاق؛ إذ لم يكونوا وُفِّقوا إلى حلها من قبل.
وأي طاعة للحكومة القومية تكون أكمل من طاعة الصحابة والتابعين للأمراء
الجائرين المستبدين من بني أمية، ثم من بعدهم من طاعة علماء السلف لدعاة
البدعة من الخلفاء العباسيين؟ ! ، فقد عُذِّبوا بأنواع من الظلم والعسف، وحُبسوا
في السجون، وقُتلوا، وأُوذُوا بكل ما كان يمكن أن يؤذوا به، ولكنهم تحملوا كل
ذلك، ولم يخرجوا عن الطاعة قيد شبر، بل إذا حرضهم أحد على العصيان
قالوا: (يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة، ونحن بايعناهم) .
هكذا كانت حالهم في الطاعة، أما التمسُّك بالحق، والأمر بالمعروف،
والعمل بالسنة - فكانوا فيه كالجبال راسخين، فلم يهابوا سيف عبد الملك ولا قهر
الحجاج، ولا تنمُّر المأمون والمعتصم، فإذا نطقوا نطقوا بالحق، وإذا عملوا عملوا
بالحق، ولم يكن في قلبهم سعة لشيء إلا لكتاب الله، وسنة رسول الله، فهم عملوا
بكل دقة على أمر: (تسمع وتطيع، وإن ضُرب ظهرك، وأُخذ مالك فاسمع وأَطِعْ)
(مسلم) ، وعلى أمر: ( ... فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ، وأمر:
(مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه،
وذلك أضعف الإيمان) (مسلم) .
وحسبنا محنة الإمام أحمد بن حنبل عبرة، فقد كان يجلد ظهره تسعة رجال،
والمعتصم واقف على رأسه، ينظر إلى دمه الطاهر الذي يفور من جسمه فورًا،
ويأمره بأن يقول كلمة في القرآن، ما قالها الله ولا رسوله، ولا أمر بها، فكان
يتحمَّل كل هذا العقاب الشديد، ولكن لا يفوه بشيءٍ إلا قوله: (أعطوني شيئًا من
كتاب الله وسُنة رسوله حتى أقول) [٥] .
((يتبع بمقال تالٍ))