للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: محمد رشيد رضا


تعزيتان

جاءتنا كتب وبرقيات كثيرة في التعزية عن شقيقنا السيد صالح من هذا القطر،
ومن أقطار أخرى؛ فرأينا أن ننشر كتابين منها لكاتبين في الذروة من خواص
أدبائنا، والصفوة من أصدقائنا؛ لما فيهما من رثاء فقيدنا، وبيان بعض مكانته
عندهم وعندنا، الأول من ملك دولة البيان، الأمير شكيب أرسلان، والثاني من
أبي حنيفة العصر، ورب النظم والنثر، الأستاذ الشيخ إسماعيل الحافظ الطرابُلسي
وهو أعز أخلاء الفقيد.
***
(الكتاب الأول)
روما ١١ يونيو ١٩٢٢
سيدي الأخ الأستاذ
أنت تعلم أن أقل حادث يسوؤك، ويكدر صفو خاطرك - يسوؤني جدًّا،
ويحملني إدًّا، فكيف إذا كان رُزءًا عظيمًا كالذي رُزئتَه، وخَطْبًا فادحًا كالذي
تحملت وِقْره، وكانت الفجيعة بالأخ الخطير، والصِّنْو الجليل، والركن الذي كان
يعتمد عليه البيت الرِّضَوِي الأصيل، لا جرم أنني أشاطرك بأوفر سهمٍ من وقْع ذلك
السهم الأليم، وأكرع معك مرارة تلك الكأس، وما يكرع معك الحميمَ إلا الحميمُ،
لقد كنت منذ مدة أعجب لانقطاع كتبك عني، ولا أقدر لذلك سببًا سوى عدواء
الأشغال، فإذا به عدوان الدهر، ومصائب الأيام، وإذا بي أقرأ خبرًا عرفت منه
سبب انقطاع أخبارك، واحتباس آثارك، ألا وهو انتقال المرحوم السيد صالح إلى
جوار ربه، فنزل عليَّ ذلك النعي الفجائي نزول الصواعق، وإن كنت أعلم أن
الدنيا كلها إن هي إلا مجال لغراب البَيْن الناعق، وتخيلت لهذا حزنك، وارتماضك
لهذا المصاب، بما أنت عليه من رقة الشعور وفرط الحنان، وشفوف شغاف
الجنان، وبمكان الأخ الراحل بذاته من الفضل والنبل، وإنه الذي يؤسف على مثله
لذاته وصفاته، قبل علاقاته ومضافاته، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه
راجعون.
ليس لنا إلا التأمل في زوال الدنيا، وإنها دار قلعة، وإن هذا اليوم لا بد منه
إن لم يكن اليوم فغدًا، فالخلائق كلها موتى منذ الآن، مَن ليس بميت فعلاً فهو ميت
حكمًا، وقافلة واحدة، منها واصل، ومنها مَنْ هو على أهبة الوصول، وكلاهما
بالغ أمده جزمًا، إذًا ليس للمتخلف منا أن تذهب نفسه حسرات على أمر كلنا بالغه،
وفراق كلنا وارده، بل قد يكون السابق منا أسعد حالاً بمغادرة حياة هي أشبه
بالممات، وبغمض عين هو عين اليقظة، وإن كان يظن أنه سبات، فضلاً عما
هناك من فضيلة الصبر التي مثل الأستاذ السيد مَن تحلى بحليتها، واشتمل بحلتها،
لا بل مَن حث تلاميذه الكثيرين ومريديه العديدين على التمسك بسُنَّتها.
نسأل الله أن يحسن مثوى العزيز الراحل، ويكرم نُزُله، ويبلغه من سعادة
المنقلب أمله، وأن يجعل في السيد الرشيد العزاء، ويطيل عمره لهذه الأمة،
ويجزل ثوابه، ومني واجب التعزية لحضرة السيدة الوالدة، أجزل الله أجرها،
وجبر قلبها، وإلى حضرة السيد عاصم، والسيد محيي الدين، وأطال المولى
بقاءكم جميعًا.
***
(الكتاب الثاني)
سيدي الأخ الرشيد.. أعظم له ولي الأجر، وألهمني وإياه الصبر، على
فواجع الدهر.
بلغني الخبر الذي صدَّع القلبَ وقعُهُ، وأصم الآذان سمعه، وضاعف الأحزان،
التي ما زالت تلدها أحداث هذا الزمان، ولو وصل إلى يقينه دفعة لأصماني الكمد،
ولما بقي لي هذا الذماء القلل من الجلد، ولكنني سمعته لأول الأمر ممن لا يَتَثَبَّتُ
في حديثه، فرجحت أنه غلط عن المرض الحنجري، الذي كان ألمَّ بالفقيد العزيز،
عوَّضه الله الجنة، أو طاب لنفس أن ترجح ذلك ضنًّا منها بتلك الحياة الثمينة،
وبقيت في حالة الشك مدة، لقيت فيها السيد إبراهيم أدهم غير مرة، وسألته عن
ورود كتاب من قِبَلكم، ولم أستطع أن أخرج في السؤال عن هذا الحد؛ خشية أن
أسمع من الجواب ما ينقلني من أعراف الشك إلى جحيم ذلك اليقين، وهو - حرسه
الله - لم يشأ أن يزيدني مما عنده إشفاقًا عليَّ، وتفاديًا من مبادهتي بوقوع ذلك
الخطب الجليل، ولكن لم يلبث ذلك الشك - والَهَفَ نفسي! - أن صار يقينًا محرقًا،
أو سهمًا مصميًا.
الشك أبرد للحشى من مثله ... يا ليت شكي فيه دام وطالا
وهنالك عالجت من الأحزان الفادحة ما لو كان بالروض الأريض لأذواه، أو
بالصخر الأصم لأبلاه، وعلمت كيف يسطو الكمد على الأكباد، فيذيبها، وكيف
يحيط الجزع بالأنفس، فيحُول بينها وبين الصبر؛ حتى لا نهتدي إليه سبيلاً، ولا
نجد عليه دليلاً، ولعمري إن الرزء بالفقيد العزيز فقيد الفضيلة والأدب،
فقيد الشرف والحسب، فقيد الصدق والوفاء، فقيد الشمم والإباء - ليس مما
يُستطاع الصبر عليه، أو يتسرب السلوان إليه، وليس مما تخفف الأيام آلامه
عندي، أو تكاد تُعَفِّي آثاره من نفسي، بل هو ألم الدهر، وحزن الأبد، وكيف أجد
سلوا عمن لا أجد الفضائل اجتمعت في شخصٍ اجتماعها فيه؟ ! بل كيف أجد
سلوا عمن لو نُعيت له لقضى عمره حسرات، وأفاض من شئونه عَبَرات وأي
عبرات؟ ! فوالهف نفسٍ ولهف الوفاء والمروءة عليه، ويا طول حزني وحزن
الكرم، ومحاسن الشيم، ويا ما أحوجني عند هذه الملمَّة الفادحة أن تعيرني - أيها
السيد الكريم - جانبًا من ثباتك، وذروًا من صبرك وأَنَاتك، وأن ترفدني بحكمتك
العالية.
أحسن الله إليك العزاء، وأحسن ذلك لسيدتي والدتكم المحترمة، ولنجل الفقيد
النجيب السيد محيي الدين حرسه الله تعالى، وأورثه فضائل والده، وأحسن ذلك
لشقيقه السيد حسن ولشقيقته الفاضلة السيدة حفصة، ولكافة الأسرة الكريمة،
وألهمنا جميعًا الصبر على فراقه، وأسكنه فراديس الجنان، بين رَوْح وريحان،
وجنات ذات أفنان، وأطال الله تعالى بقاءكم، والسلام عليكم، وعلى مَن إليكم،
ورحمة الله وبركاته.