للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


طائفة الشيعة في سورية
وحاجتها إلى الإصلاح

كان لطائفة الشيعة المشهورة باسم (المتأولة) شأن عظيم في جبل عامل،
وجبل لبنان من سورية، ونواحي بعلبك في سعة الأملاك والوجاهة والثروة وفي
العلم والأدب، ولما كان ما كان من نهضة النصارى الأخيرة في لبنان - انكمش
الشيعة وتضاءلوا وفاقهم النصارى في كل شيء، حتى غلبوهم على أملاكهم
الواسعة، فلم يبقَ لهم فيه شيء يُذكر، وقد كان من أسباب ذلك السخاء العربي
البالغ منتهى حد الإسراف وحب الفخفخة والعظمة، ولو بالباطل، والثناء والتعظيم،
وإن كان كذبًا، حتى إن كثيرًا من أملاك شيوخهم وكبرائهم قد آلت إلى مَن كان
عندهم من الفلاحين والخدم من النصارى، الذين كانوا يستغلون هذا الضعف منهم
بغاية الحذق كحفظ امتيازهم لهم بلبس الحذاء الأحمر المسمى بالجزمة، ومن أغرب
ما حُكي عنهم في ذلك أن أحد الفلاحين أهدى إلى شيخ بلدة منهم جزمة حمراء،
فأنعم عليه الشيخ بحقل أو كرم عظيم - يسمى عودة - كان هو في أشد الحاجة إليه.
لم تشارك الشيعة النصارى في شيء من تلقِّي العلوم والفنون الحديثة في
القرن الماضي، وكذلك كان أهل السنة الذين هم أكثر سكان مدن سورية الكبرى،
وأوْلى بالإسراع إلى كل ما يتجدد من أسباب الحضارة، ولكن هؤلاء عُنوا في هذا
القرن بعض العناية في العلوم والفنون العصرية، وفي التجارة وترقية الزراعة
أيضًا، وظل جيرانهم من الشيعة على خمولهم راضين من العلم والأدب بما يتلقاه
بعض رجال الدين منهم في مدرسة النجف الكبرى، أو على المتخرِّجين فيها من
فنون العربية والعلوم الشرعية.
وقد قرأنا في الشهر الماضي مقالتين في جريدة (الاتفاق) الأسبوعية - التي
تصدر في مدينة صيدا - عنوانهما: (تأخُّر الطائفة الشيعية وكيفية تقدُّمها) ، كانت
هي الداعية، بل الداعَّة لنا إلى كتابة هذا؛ إذ راعنا منها وصف كاتب المقالة
(المخلص) الغيور لقرى الشيعة في جبل عامل وبعلبك بأنها مهدَّمة المساجد، خالية
من المدارس، وقوله: إن الأميين منهم يتجاوز عددهم ٩٥ في المئة، وإن هذا
الجهل أكبر أسباب حرمان الطائفة من تمثيلها في الحكومة الحاضرة كما يجب، وإن
بعضهم سعى في العام الماضي إلى تعيين عضو شيعي في محكمة التمييز (النقض
والإبرام) ، التي أُنشئتْ في بيروت (غير أنهم خجلوا لما علموا أن الطائفة ليس
لديها سوى ثلاثة شبان من خريجي مدارس الحقوق) ! ، والحكومة غير راضية
عنهم (كذا قال أفليس في قوله مبالغة) .
ثم قال الكاتب: يتفرَّع عن الجهل فروع عديدة، أهمها التعصب الديني
الأعمى الذي جعلنا أن نتسكَّع في مهاوي الشقاء، ونرتطم في حمأة التخلف لاهين
في تكفير زيد، وتشريك عمرو، وسِوَانا دائب في ترقية نفسه وإعلاء شأنه إلخ،
ثم ذكر فرعًا آخر من فروع الجهل، وهو الخمول أو الجمود في العقول، والفتور
في الهِمَم.
ثم ذكر من أسباب هذا التأخر تفرق كلمة الرؤساء وتحاسد الزعماء، ومقاومة
كل منهم للآخر بدلاً من التعاون على رفع شأن الطائفة، وقفَّى عليه بتدخُّل علمائهم
في كل الأمور السياسية، وعدَّه من أهم عِلَل تأخر الطائفة معللاً له، أو مستدلاً
عليه بأن: (الدين واللغة شيء، والسياسة شيء آخر لم يتفقا، ولن يتفقا) ، وبأن
الرؤساء الروحيين الغربيين لا يتدخلون في السياسة ألبتة، واقترح على علماء
الطائفة ومجتهديها التفرغ لتوثيق الرابطة الدينية، وتوطيدها على أسس القومية
الحق، وتهذيب أخلاق الأمة.
هذا ملخص المقالة الأولى، وأما ملخص الثانية فاقتراح تأليف جمعية من
خيرة العلماء والزعماء لترقية شأن الطائفة بالعلوم والفنون العصرية، ومساعدة
جريدة راقية تمثل الطائفة، وضرب اليهود والأرمن مثلاً للطائفة الصغيرة التي
ليس لها حكومة، ويجب عليها أن تنهض بنفسها وهمَّتها وإقدامها.
قال: (والطائفة الشيعية هي كالأرمن واليهود من كل وجه إلا وجه واحد،
وهو التقدم والتفوق) ، ولكنه ذكر في سبب الفروق بينهما أن اليهود والأرمن غير
متعصبين كالشيعة، وهذا غلطٌ، فهُم أشدّ خلق الله تعصُّبًا لأنفسهم على غيرهم،
ولكن بعلم وعقل ودهاء وحذق.
ثم ذكر من نشاط الأرمن في خدمة الجيش الإنكليزي ومساعدتهم له في حربه
لدولتهم العثمانية - التي كانت تفضلهم على قوم نبيّها العرب وعلى سائر العثمانيين
في الوظائف وسائر المعاملات - أن نساءهم ورجالهم كانوا يتجسسون لهم،
ويدخلون المعسكرات التركية والبلاد، ويجمعون الأموال حتى من المسلمين
للعصابات المسلحة؛ لتستعين بها على قتال الترك، وقال: (إنهم بهذه الطريقة
كانوا يصحبون معهم ضباطًا من الجيش الإنكليزي الذي كان يحارب في جهات
الموصل، فيقف هؤلاء على جمع حركات الألمان والأتراك العسكرية، وهذا ما
جرى مع (الكبتن ولور) الضابط الإنكليزي الذي دخل هو ورفيق له مرة مع تاجر
أرمني متنكِّرين إلى مدينة (باكو) ، وكان بصحبتهم أحد تجار المدينة المثرين
المسمى ناصر علي خان - أي الذي هو خان - ادّعى أنهن زوجاته الثلاث،
فقضوا في باكو بضعة أيام حيث جمعوا مبلغًا من المال، ودوَّنوا في حقائبهم جميع
ما عرفوه من الحقائق عن الجيش الألماني التركي، وذكر أن ذلك الضابط الإنكليزي
كافأ الأرمن بكتابة مقالة عنهم قال فيه: (حرام أن يحكم الترك ويسيطروا على
الشعب الأرمني النشيط الذي هو كفء لتنظيم أمور دولة عظيمة، لذلك نرى أرمينية
اليوم إرلندة ثانية في تركية.
ونعلق على هذه الكلمة أن الإنكليز - الذين يسخِّرون الشعوب لخدمتهم من
حيث لا تشعر - قد جعلوا الأرمن الأذكياء جدًّا في دائرة ضيقة جدًّا من أشقى أهل
الأرض، فجنوا عليهم أقبح جناية، كما جنوا أخيرًا على اليونان الذين يُشْبِهون
الأرمن في نشاطهم وغرورهم بأنفسهم، وعلى العرب الأغرار من قبلهم، ولا يزال
الإنكليز كالسيل يقذف جُلمودًا بجلمود، ومن العجائب استمرار انخداع الشعوب -
بله الأفراد - بتغريرهم، ولعل الأحداث الحاضرة تنتهي بمعرفة جميع الشعوب
حقيقة أمرهم، وأن مثلهم: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي
بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الحشر: ١٦) ، وأما الأفراد فلا
يزالون يجدون فيهم أغبياء وخونة إلى أن يجيء اليوم الذي يعاقب فيه كل شعب مَن
يخونه ويغشه بحمْله على قبول النفوذ الأجنبي في بلاده، وعسى أن يكون ذلك اليوم
الموعود قريبًا.
ثم نعود إلى الكلام في إصلاح طائفة الشيعة الذي يهمنا جدًّا، فنقول: (إننا
كنا عزمنا أن نزور النجف في رحلتنا الهندية العراقية، فحال دون عزمنا ما عزانا
من الحُمَّى في البصرة، ثم في بغداد، والاضطرار عقب النقه إلى السفر، كنا
عزمنا على هذه الزيارة لأجل البحث مع مُحبِّي الإصلاح من العلماء، ولا سيما
السادة الشرفاء منهم في هذا الإصلاح، وقد جاء وفدٌ إلى بغداد لزيارتنا، ودعوتنا
إلى النجف الأشرف، وقد قال لنا رئيسه - وهو سيد عالم شهير -: إننا نَعُدُّكَ
إمامًا مصلحًا لجميع المسلمين، فلماذا تخص أهل السنة بإرشادك ونقدك لما حدث
من البدع والخرافات، وعندنا أضعاف أضعافها، أنت ساكت عنها؟ !) .
فأجبته: حقًّا، إنني على ضعفي وعجزي حريص على الإصلاح الإسلامي
على إطلاقه وعمومه، لا أخص به أهل مذهب دون غيره، وإنني لست سُنِّيًّا
بمعنى التعصب أو التقليد لمذهب من المذاهب التي تنتمي إلى السنة كالأشعرية أو
الحنفية والشافعية، بل أنا سُني بمعنى أنني مستمسك بما صح من سنة النبي صلى
الله عليه وسلم، لا أُوثِرُ عليه تقليد أحد، وأما سبب سكوتي عن إنكار بعض البدع
والخرافات الفاشية في الشيعة - فلأن قراء المنار من الشيعة قليلون ولا يحتاجون
إلى النص في المنار على إنكار بعض البدع الخاصة بهم كنقل جثث الموتى من
البلاد البعيدة - ومنها منتنة - إلى قرب مدافن آل البيت عليهم السلام في العراق
لدفنها في مساجدهم، أو بالقرب منها (مثلاً) ، ولو فعلت هذا لجاء بضد ما نريد
من الإصلاح بإنكاره؛ إذ يكون سببًا لحمْل بعض متعصبي العلماء الجامدين على
الطعن في المنار وصاحبه، بأنه متعصب لأهل السنة على الشيعة، بل عدو لهم،
كما فعل بعضهم في سورية؛ إذ ألَّف رسالة عنوانها (الشيعة والمنار) لما رأى
بعض قرَّاء المنار - من طلبة العلم والأدباء - قد استحسنوا طريقة المنار
الاستقلالية في فهم الدين وحرية العلم والرأي، وإنما أدع هذا لكم، ثم تكلمنا فيما
ينبغي من طرق الإصلاح العام والخاص، ورأيي فيهما.
ومما قلته: إن الشيعة أشد تعصُّبًا من سائر المسلمين في دينهم ومذهبهم، وأشد
احترامًا للعلماء والسادة وطاعة لهم، وهذا مما يُعين على الإصلاح، وإن كان سببًا
لكثير من الفساد، فيجب على العلماء - ولا سيما السادة منهم - أن ينهضوا بأمر
الإصلاح قبل أن يغير الزمان الشعب عليهم، فهذه الحال لا يمكن دوامها، وقد
رأيتم أن البابية والبهائية دعوا الشيعة إلى دين وثني جديد، قد ظهر فساد مثله من
ضلال الباطنية وفرقها المعلومة؛ فاستجاب لهما ألوف منهم، فإذا أنتم دعوتموه إلى
الإصلاح الحق الذي يجمع كلمة المسلمين ويزيل الأحقاد التي كان سببها السياسة
وعداوة الباطنية للإسلام نفسه ورجعتم بالإسلام إلى أصوله من الكتاب وصحيح
الأثر وسيرة السلف الصالح من أئمة آل البيت وغيرهم مع بيان كفالة الحنيفية
السمحة لما يُرقي المسلمين في هذا العصر من علوم وفنون وأعمال - فإنكم
تنجحون نجاحًا عظيمًا.
قال: إن هذا حسن، ولكن المستعدِّين له من كُبراء العلماء المجتهدين قليلون؛
لأن معظم أوقات حياتهم مصروفة فيما يَحُولُ بينهم وبين العلم بالحاجة إليه،
وذكر لي كلمة عن كبير منهم رأيته في الهند، وأثنيت له على علمه وفضله
قال: إن من المسائل التي اهتمّ بتحقيقها وإطالة البحث فيها - مسألة بول البراق
الذي عرج عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء هل هو طاهر أم
نجس؟ ! ، (قال) : ولكن كثيرًا من النابتة الجديدة في النجف الأشرف مستعدون
لهذا الإصلاح، وهم يتمنّون لو يرونكم لو اجتمعوا بكم لاستفادوا كثيرًا، فقلت:
إنكم أنتم تبلغونهم رأيي، وإنما الإنسان بعلمه ورأيه، لا بصورته وبدنه.
بعد هذه الكلمة التي أقصد بها إثبات اهتمامي بإصلاح حال الطائفة الشيعة
خاصة، أقول: إنني أجيز اقتراح الكاتب (مخلص) تأليف جمعية من العلماء
والزعماء لرفع شأن الطائفة بالعلم والعمل والثروة، وأنكر عليه قوله: إن الشيعة
كاليهود والأرمن، فينبغي لهم أن يتأسوا بهم في نهضتهم: اليهود شعب له مقوِّمات
الشعوب المستقلة بجنسيتها في نسبه ودينه ولغته، والأرمن مثله في كل شيء إلا
الدين، ولكن لهم رياسة دينية خاصة، والشيعة ليست كذلك؛ فلا هي مستقلة بدين
ولا لغة ولا نسب، بل دينها الإسلام، وهي مؤلَّفة من شعوب كثيرة ذات لغات
وأنساب مختلفة، وإنما شيعة سورية عرب في اللغة والنسب، فلم يبقَ بينها وبين
الأرمن شَبَهٌ إلا في اختلاف المذهب، وهو لا يقتضي في الإسلام التفرقة،
فالصواب أن يكونوا في الإصلاح القومي مع أبناء جنسهم من العرب في كل ما
يرقي الأمة العربية، وفي الإصلاح الديني مع سائر إخوانهم المسلمين فيما يطهِّرهم
من البدع والخرافات ويُزكيهم بهدي الإسلام، والتعاون مع سائر المسلمين على كل
ما يرفع شأنه، ويعز أهله ويمنع أن يكون الخلاف في بعض المسائل المذهبية سببًا
للتفرُّق والشقاق الذي حظره كتاب الله وتبرأ الرسول من أهله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: ١٥٩) .
الشيعة ليسوا أقلية في سورية؛ فإنهم مسلمون ولا ينبغي لهم أن يفترقوا عن
سائر المسلمين في شيء إلا إذا كانت المصلحة في تمثيلهم في الحكومة أريح لهم
ولسائر المسلمين، ما دامت هذه الفتنة التي صفع بها أرباب المطامع في لبنان
الصغير أولاً، فلبنان الكبير ثانيًا - قائمة على عروشها، وهي جعْل وظائف
وأعمال الحكومة قسمةً دينيةً مذهبيةً، وقد كنا ننتقد في أنفسنا على رصيفنا وصديقنا
الفاضل صاحب مجلة (العرفان) الغرّاء نزعتها المشابهة لنزعة مجلة (المشرق)
الجزويتية في التنوية بشعراء الشيعة ومصنفي الشيعة، وما أشبه ذلك مما يقوي
الشعور بنزعة المذهب، ولا ننكر أنه على رأينا في حب الاتفاق، وأنه لا يقصد ما
يترتب على عمله من تقوية الشعور بالافتراق، والشيعة كانت - قبل بدعة المذاهب
الدينية في الإسلام - حزبًا سياسيًّا، ثم أُصيبوا ببدعة المذاهب كغيرهم، ولا يصلح
شأن المسلمين صلاحًا تامًّا ماداموا شيعًا وأحزابًا تتعصب كل شيعة وكل حزب
لمذهب ديني معين.
وإنما الإصلاح الديني الذي يحيا به الإسلام وأهله هو ما فصَّلناه من قبل في
المنار على قاعدة جمْع الكلمة على ما أجمع عليه المسلمون قبل تدوين المذاهب من
كتاب الله والسنن، ولا سيما العملية المتواترة وأركان الإسلام وتحريم الفواحش ما
ظهر وما بطن إلخ، وجعل مسائل المذاهب الخلافية حرةً كمسائل العلوم والفنون
الأخرى، يعمل فيها العالم بما يراه أرجح عنده، ويستفتي فيها العامي مَن يثق بعلمه
ودينه من العلماء فيما يجهله؛ فبهذا يزول المانع من تعاون جميع المسلمين على ما
يرقيهم في أمور دنياهم مع حفظ دينهم، ويكون لهم شأن عظيم بين الأمم.
ليس في هدْي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أصل من الأصول
التي شرعها الله لحياة أهل دينه وعزّهم وملكهم، مثل أصل الوحدة والاعتصام الذي
يكون به المسلمون كالجسد الواحد، ولا محظور فيهما على المسلمين أشدّ ولا أغلظ
من التفرق والانفصام، ولولا فتنة الخلافة لما بلغ ضرر تفرُّق المذاهب في الإسلام
هذا الحد، فوالله إنني أكتب هذا وأنا في ألمٍ لا يعرفه إلا مَن ذاقه، أتنفَّس الصعداء
أن أرى فئة من المسلمين ترى نفسها بين فئة منهم أكبر منها كاليهود بين نصارى
روسية، أو الأرمن بين مسلمي الترك، ويدعوها طُلاب إصلاحها إلى أن تحذو
حذو هذين الشعبين.
لئن كنتم - أيها الإخوة - فئة قليلة في إخوانكم مسلمي سورية، فليست شيعة
العراق بقليل فيه، بل هم الأكثرون، وهم مقصرون فيما يطلب الناصح (المخلص)
تشميركم فيه من وسائل الترقِّي الدنيوي، ثم إن دولة الشيعة الإيرانية هي مقصرة
عن شَأْوِ جارتها التركية المنسوبة إلى السُنَّة، وإن نهضة جارتها الأخرى، وهي
الدولة الأفغانية - على حداثتها - خير من نهضتها في السياسة والعمران، وإن لما
أشار الناصح (المخلص) من إلقاء حمل كبير من أوزار التبعة على علماء الطائفة
ومجتهديها وجهًا وجيهًا، ليس هو اشتغالهم بالسياسة كما قال تصريحًا، بل هو
جهلهم بها كما لمّح إليه في قوله: (إن الدين واللغة شيء، والسياسة شيء آخر) ،
ولكن السياسة في الإسلام من الدين، ومن الخطأ المبين تقليد بعض المتفرنجين منَّا
لبعض متفرنجة النصارى وأساتذتهم في الفصل بين الدين والدولة، على أن أكثر
المتدينين من النصارى - ولا سيما الكاثوليك - ينكرون عليهم ذلك، وفي هذا المقام
تفصيل لا محل له هنا، وإنما الغرض أن نبين غلط المتفرنجين منَّا في مسألة
السياسة، وأن نذكِّر كاتب المقال بأن السبب الذي جعله يشعر بأن الشيعة في سورية
كاليهود والأرمن - هو السياسة، وأن علاجه لا يأتي إلا من قِبَل العلماء الذين
يفهمون السياسة، وقد اتفقتُ مع صديقي العلامة السيد عبد الحسين العاملي على أن
الذي فرقَّنا هو السياسة، وأن الذي يجمعنا هو السياسة، فنعوذ بالله من شر السياسة،
ونسأله خيرها.
تذكرت أنني قلت - في أيام طلبي للعلم - كلمة في هذا المعنى كان لها تأثير
لولاه نسيتها، ولما كنت أصدق أنها مما كان يخطر ببالي في ذلك العهد.
كان عندنا في طرابلس الشام - أيام طلبي للعلم فيها - متصرِّف له إلمام واسع
بالعلوم الدينية والفنون العربية [١] شافعي المذهب كأهل بلدنا القلمون، وكان كثيرًا
ما يزورنا في أيام الجُمَع مع بعض العلماء والوجهاء، ويحب أن يصلي الجمعة
عندنا - وقلّما يوجد مكان تُقام فيه الجمعة مستوفاة الشروط على مذهب الشافعي كما
تقام عندنا - وكان كثير البحث في المسائل الشرعية والاجتماعية، وقد جرى
الحديث مرة عندنا على المائدة في ضعف المسلمين وحكوماتهم، فقلت: (إن رأس
أسباب ذلك جهل رجال الدين بالسياسة، وجهل رجال السياسة بالدين) ، فامتعض
الباشا وقال: أَوَ رجال السياسة والدولة جاهلون بالدين؟ ! ، قلت: إن وجود مثل
سعادتكم فيهم نادر، ولا شك أن الأكثرين كذلك، وأردت أن أفصِّل فغيَّر والدي
رحمه الله تعالى موضوع الكلام، واستكبر الحاضرون هذا القول للباشا مني على
بدايتي في العلم وحداثة سِنِّي، وكان منهم الشيخ علي رشيد الميقاتي من وجهاء
شيوخ طرابلس، وابن أخيه صالح أفندي من موظفي الحكومة، فطفق هذا يذيع
هذه الكلمة وينوه بها، وهي قد أغرت الباشا بكثرة البحث معي، وكان يعجبه
جوابي؛ لأنني لا أجيب إلا بما تحضرني فيه حُجَّةٌ.
وأذكر - على سبيل الاستطراد - مسألة في موضوعنا هذا، وهي قوله لي:
(إن الدولة مخطئة في استثنائكم - يا معشرَ طلابِ العلومِ الشرعيةِ وعلمائها - من
الخدمة العسكرية؛ فأنتم أَوْلَى من غيركم بها، وهذا الاستثناء لا أصل له في الشرع؛
فقد كان علماء الصحابة كلهم يجاهدون مع الرسول صلى الله عليه وسلم،
فحضرني الجواب بالبداهة، ولم يكن هذا البحث خَطر ببالي من قبل، فقلت: بل
لهذا أصل في مُحكم القرآن! ، فجحظت عيناه وقال: في محكم القرآن؟ ! ، قلت:
نعم، قال تعالى - في سورة التوبة، وهي من آخر ما نزل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: ١٢٢) ، فتخاوصت عيناه عند الجواب وسجيتا بعده،
وأثنى بما أثنى، ولما التقينا في الآستانة - في سنة ١٣٢٩ - كان يذكِّرني بهذه
المجالس، وينوِّه بها.
ونعود إلى موضوعنا، فنقول:
إن طائفة الشيعة ما زالت أكثر طوائف أهل السُنة احترامًا وطاعةً لعلمائها،
ولا سيما السادة العلويين منهم، ولا تزال أنباء العراق تأتينا بما يدل على أن لأولئك
العلماء الأعلام اليد الطولى في الحركة الوطنية الاستقلالية، ومقاومة الدسائس
الأجنبية التي تسعى لجعْل استعباد الأجنبي لأهل العراق وغيرهم من مسلمي الشرق
قانونيًّا مؤيَّدًا بمعاهدة خادعة. وما المعاهدات إلا حُجة القوي على الضعيف،
كما قال أعظم ساسة أوربة، ولكنهم لقلَّة تمرُّسهم بالسياسة يُخْشَى عليهم أن يُخدعوا
اليوم كما خُدعوا في مؤتمر كربلاء من قبل؛ فقد بلَغَنا الآن أن الدسائس تعمل
للتفرقة بين علماء العرب منهم وعلماء إيران، فالواجب عليهم أن يُتقنوا السياسة،
وكل ما يتوقَّف عليه الاستقلال في هذا العصر، كما يتقنها البابا ورجاله ورهبانه.
فإذا ظلُّوا على جمودهم وإعراضهم عن البحث فيما يحتاج إليه المسلمون في
هذا العصر من العلوم والفنون والصناعات والنظام المالي، وسياسة الأمة التي
تجمع بين هداية الدين وقوة الأمة بالمال والقوة، والسعي في إنهاضها، وجمع
كلمتها، فإن اليوم الذي تنبذهم فيه الأمة سيكون قريبًا، وحينئذ يكون التحامل عليهم
شديدًا على سُنة رد الفعل الطبيعية، فعلماء الشيعة لا يزالون أصحاب الزعامة في
طائفتهم، على حين نُزعت الزعامة من علماء أهل السُنَّة، وصار نفوذ المتفرنجين-
حتى الملاحدة منهم في العامة المتدينة - أقوى من نفوذهم، كما هو مشاهَد في
بلاد الترك وبلاد مصر، وقد سبق متفرنجو الاتحاديين في الترك إلى سلب سلطة
شيخ الإسلام على المحاكم الشرعية، فجعلوها تابعة للمحاكم الأهلية القانونية [٢] ،
فليفكر في ذلك علماء الشيعة.
وإننا نحيلهم في هذا المقام على مقالات (مدنية القوانين) التي ننشرها في
المنار، ونرجو من صديقنا العلامة السيد عبد الحسين، ومن سَمِيِّهِ العلامة الشيخ
عبد الحسين - وهما أشهر علماء جبل عامل - أن يُبيِّنا لنا رأيهما فيها، وفي هذه
المقالة كتابةً، وإذا سمحا لنا بنشر آرائهما في المنار فإننا نرجو أن نستفيد بها ونفيد،
على أننا ننشر ما يتفضَّل به غيرهما من علماء الشيعة وغيرهم من تأييد أو نقد
في هذا المقام يفيدنا فيما نسعى إليه من الإصلاح: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى
وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: ٢) .