للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


استعمال الذهب والفضة

(س) من صاحب الإمضاء ببيروت:
حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ المحترم السيد محمد رشيد
أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد فإني أرفع لفضيلتكم السؤال
الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني
عظيم الشكر: جاء في الشرب في آنية الذهب بالجزء الثامن من صحيح الإمام
البخاري رضي الله تعالى عنه من حديث ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بن اليمان
بالمدائن فأتاه دهقان بقدح من فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم
ينته، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية
الذهب والفضة. وفي باب آنية الفضة التالي للباب المذكور من حديث ابن أبي
ليلى بطريق غير الطريق الأول قال: خرجنا مع حذيفة، وذكر النبي صلى الله
عليه وسلم قال (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة) وفي حديث أم سلمة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم من الباب المذكور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي حديث البراء
ابن عازب التالي لهذا الحديث قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، إلى
أن قال: ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب في الفضة، أو قال: آنية
الفضة. وهو والمنصوص في مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه تحريم
الفضة مطلقًا على الرجال إلا ما استثني من نحو الخاتم، وعلى النساء مطلقًا إلا
للتحلي. وفي الجزء الأول من كتاب الترغيب والترهيب للإمام الحافظ زكي الدين
ابن عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (صحيفة ١٤٤ طبعة أولى سنة١٣٢٤هـ
بالمطبعة الشرفية) ما نصه: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يُحَلِّق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة
من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقًا من نار فليطوقه طوقًا من ذهب، ومن
أحب أن يُسَوِّر حبيبه بسوار من نار فليسوره بسوار من ذهب، ولكن عليكم بالفضة
فالعبوا بها) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقد نقل صاحب الكتاب المذكور
عن (المحلى) الجواب عن الأحاديث التي ورد فيها الوعيد على تحلي النساء
بالذهب قبل هذا الحديث، ولم يُجِبْ عن هذا الحديث المفيد بظاهره إباحة الفضة
مطلقًا للرجال ولو في غير الخاتم، وللنساء ولو في غير الحلي فتفضلوا - حفظكم
الله - ببيان الجمع بين الأحاديث المذكورة، وحديث أبي داود المذكور على فرض
مساواته لأحاديث البخاري وببيان دليل تحريم غير الشرب من أنواع الاستعمال وبيان
وجه تحريم غير الآنية كساعة الجيب وساعة اليد وأسورتها والأزرار والأنواط ويد
العصا والختم، ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ولفضيلتكم الأجر.
... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي - الشافعي مذهبًا - ببيروت
(ج) مذهب الظاهرية نفاة القياس كالإمامين داود وابن حزم وكثير من
فقهاء الحديث الذين يثبتون القياس أن التحريم الديني لا يثبت بالقياس، ولهم في
ذلك أدلة بسطناها في التفسير وفي مواضع أخرى من المنار، منها حديث (وسكت
عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) فهؤلاء كلهم يبيحون استعمال
الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، وما ورد من حلية الرجال دون غيرها
بقاعدة البراءة الأصلية وأصل إباحة الزينة الثابت بنص قوله تعالى: {قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: ٣٢) الآية،
واستعمال الفضة خاصة بما ذكر من حديث أبي موسى الأشعري وبحديث (ولكن
عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) رواه أحمد وكذا أبو داود من حديث أبي هريرة كما
تقدم في السؤال، وليس عند الشافعية وغيرهم دليل على تحريم كل استعمال للذهب
والفضة في غير حلية النساء وخاتم الفضة للرجل والضبة بشروطها إلا القياس،
والقياس حجة مختلف فيها بين علماء السلف والخلف، وقد بسطنا أدلة المثبتين
والنافين وحقَّقنا المسألة في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ
أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: ١٠١) الآية، فليراجعها السائل إذا أحب أن
يكون على بصيرة في دينه في أمثال هذه المسألة [١] .
وليراجع أيضًا تفسير {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: ٣) وكلاهما في
سورة المائدة [٢] ولعل قلبه يطمئن حينئذ بأن عقائد الدين وعباداته والمحرمات
الدينية إنما تثبت بالنص أو فحواه بشرطه دون القياس، وناهيك بقياس معارَض
بالأصول القطعية ونصوص الكتاب والسنة كتحريم الزينة والطيبات بغير نص
يصلح مخصصًا لعموم الزينة في آية الأعراف. وإنما القياس والاجتهاد في الأمور
القضائية ونحوها من المعاملات التي لا تحصر جزئياتها وتختلف باختلاف
العرف والزمان والمكان ولا سيما السياسي منها.
ومن التعليلات التي يذكرها بعضهم للتحريم: كسر قلوب الفقراء، ومقتضاها
أن الغني يجب أن يكون طعامه ولباسه ومسكنه كالفقير، وهذا أمر مردود بنصوص
الكتاب والسنة ومخالف لكلامهم في النفقات، ويفضي العمل به إلى فساد العمران
فراجع تفسير {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: ٣٢) في المجلد ٢٣ المنار.
((يتبع بمقال تالٍ))