للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقريظ المطبوعات الجديدة

كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - قد اختص نفسه بتقريظ
المطبوعات الجديدة في السنين الأخيرة، فكان يأخذ أكثر ما يُهدَى منها إلى المنار
ويضعه في مكتبه ويتخير للتقريظ ما شاء منها متى شاء ويحيل علينا أقله أحيانًا. ولم
يتيسر لنا بعد وفاته أن نحصي ما ترك تقريظه وإنما جمعنا بعضه فننوه به من غير
مراعاة للتأريخ، ولا لمكانة هذه الكتب والصحف في التقديم والتأخير.
(مسند الإمام زيد المسمى بالمجموع الفقهي)
قد طبع هذا الكتاب المسمى بهذا الاسم في العام الماضي بمصر سنة
١٣٤٠ هـ.
الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب هو أحد
أئمة أهل البيت الأعلام، عليهم التحية والسلام، وهو الذي ينتمي إليه الزيدية،
روى الحديث عن أبيه وأخيه محمد الباقر وأبان بن عثمان بن عفان وعروة بن
الزبير وعبد الله بن أبي رافع، وروى عنه ابناه حسين وعيسى وابن أخيه جدنا
جعفر الصادق والزهري والأعمش وشعبة وكثيرون منهم أبو خالد عمرو بن خالد
الواسطي الذي روى هذا الكتاب الموسوم بالمجموع الفقهي الذي يسمونه مسند الإمام
زيد أيضًا، وهذه التسمية ليست على اصطلاح المحدثين، فإنما الكتاب مجموع
أخبار وآثار مرتبة على أبواب الفقه ككتب السنن، والأخبار المرفوعة فيه على
كثرتها قد رواها بصيغة: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم
السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا. ولديهم مجموع آخر
يسمى المجموع الحديثي من رواية أبي خالد أيضًا.
فأما الإمام زيد فلا خلاف بين علماء الحديث وغيرهم في توثيقه وعلمه
وفضله وصلاحه، وهو الذي رفضه غلاة الشيعة لتوليه أبا بكر وعمر رضي الله
عنهما؛ إذ قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك. فقال: لا أتبرأ منهما،
فقالوا: إذن نرفضك، قال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فلزمهم هذا اللقب. وأما أبو
خالد الواسطي فقد جرحه في الرواية الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو داود
والحاكم، ويجيب بعض علماء الزيدية عن ذلك بأنه من قبيل طعن أهل كل مذهب في
كل مخالف لمذهبهم. ولا يصدق هذا على أمثال هؤلاء الأئمة فإنهم لم يكونوا
يحاربون أحدًا ولا يتعصبون لمذاهب معينة ولا يتحاملون على أحد في الجرح
والتعديل، وقد رووا عن كثير من مخالفيهم في بعض المسائل لما ثبت عندهم
عدالتهم، على أن المذهب الذي قيل أنهم يجرحونه لأجله هو مذهب الإمام زيد، وهم
متفقون على عدالته وفضله. وللحاكم منهم نزعة تشيع معروفة. وكان أقرب من هذا
العذر أن يقولوا: إنه انفرد برواية أحاديث لم يروها أحد منهم فظنوا فيه أنه هو
الذي وضعها، أو وجدها مكتوبة ولم يسمعها، وقد احتاط البخاري في ذلك فوصفه
بأنه يروي المناكير، وهم لم يطعنوا فيه بشيء آخر غير هذه الأحاديث التي لم
تعرف عن أحد غيره من رجال طرقهم، وقد أشار بعضهم إلى أن جرحه من قبيل
أقوال بعض المعاصرين بعضهم في بعض، وما قلنا أقرب إلى ذهن المستقل؛ لأنه
لم يكن ممن يظهر فيهم أنه من أقران من تكلموا فيه.
هذا وإن أكثر أحاديث الكتاب مخرَّجَة في غيره من كتب الحديث المشهورة،
ومذهب الزيدية أو العترة ليس مبنيًّا عليه وحده، بل هو مبني على الاجتهاد
الصحيح، وقد أنبتت أرض اليمن في القرون الأخيرة التي مات فيها العلم الاستقلالي
في أكثر بلاد الإسلام أئمة لا يستطيع أحد رأى كتبهم أن يماري في اجتهادهم أو أن
يفضل عليهم قرينًا من علماء سائر المذاهب في أمصار الإسلام سواء المذاهب
المنسوبة إلى السنة والمنسوبة إلى الشيعة الإمامية، ومن يماري في اجتهاد ابن
المرتضى وابن الوزير والمقبلي والشوكاني؟ دع الذين جمعوا بين إمامة العلم وإمامة
الحكم كالهادي والناصر ويحيى والمتوكل، وهم يشترطون في الإمام الأعظم (خليفة
المسلمين) ما يشترط أهل السنة من الاجتهاد في الدين ولذلك بقي الاجتهاد فيهم،
وسيبقى إن شاء الله تعالى وإن ضعف العلم في هذا الزمان.
وقد طبق الحافظ ابن حجر على أئمتهم حديث (سيبقى هذا الأمر في قريش ما
بقي من الناس اثنان) وهو يدل على اعترافه بصحة إمامتهم، وتبعه في ذلك غيره
كالقسطلاني فذكره في شرحه للبخاري من غير عزو، ولو أنهم كانوا يُعنون بالدعوة
إلى الإسلام وإلى إقامته في البلاد والقبائل التي درست رسومه فيها من جزيرة
العرب وغيرها كما فعل الشيخ محمد عبد الوهاب وخلائفه في نجد وما حولها -
لأحيوا الإسلام وعمت إمامتهم جزيرة العرب كلها، مهما يكن من مقاومة الدولة لهم
فيها.
***
(القصائد والصحائف)
كتابان في مجلد واحد لداعية العصبية العربية أبي الفضل الوليد بن طعمة
الشهير، وقف هذا العربي الأبي الكاتب الشاعر حياته على إحياء العصبية العربية
وتجديد مجد العرب وملكهم، فأنشأ أولاً جريدة سماها (الحمراء) تذكيرًا بمجد العرب
في الأندلس ثم كان يكتب في جريدة النهضة العربية (وكلتاهما صدرتا في
الأرجنتين) ولم تكن الصحيفتان قبل احتجابهما تتسعان لمخدرات أفكاره، فكان
ينشر شعره ونثره في دواوين خاصة، وقد طبع ديوانه الأول الطبعة الثالثة في
(سان باولو - البرازيل) سنة ١٩١٥ وكان في سن الحادية والعشرين ثم طبع في
سنة ١٩١٦ مجموعة مقالات أدبية سماها (نفحة الورد) ختمها بمقالة في الدعوة
العربية التي تتجلى في مقالات كثيرة منها، وكان يدعو إلى اتحاد النصارى مع
المسلمين في القومية العربية على القاعدة التي يدعو إليها السياسيون المتدينون،
وهي أن الدين لا يمنع من اتفاق المختلفين فيه على مصالحهم الدنيوية المشتركة،
بل قال: إن كانت الوحدة العربية تتوقف على توحيد الدين فهو يدعو أهل ملته
النصارى إلى الإسلام لأجل تحقيق تلك الوحدة.
وأما هذه القصائد والصحائف التي كانت آخر ما نشره من نظمه ونثره فهي
إسلامية عربية يدعو فيها إلى تجديد مجد الإسلام بالعرب ومجد العرب بالإسلام، فقد
كتب على طرتها أنه (طبعها بنفقته وعنايته لخدمة الدين والأمة والوطن) وأنه
ألفها في سنتي ١٣٣٧ و ١٣٣٨ هـ وطبعها في سنة ١٣٣٩ هـ وقد صرح فيها
بإسلامه وافتتحها بالبسملة، ولكنه بنى دعوته على شفا جرف هارٍ، بنى عليه
قصورًا من الخيال، دونها الحمراء والزهراء، في البهجة والجمال، وحصونًا من
الأماني دونها الأبلق الغرد، بل جزيرة (هيلو جلند) ذلك بأنه اغتر بثورة الحجاز
والمملكة العربية فيه فطفق يدعو سائر العرب والمسلمين إلى مبايعة ملكه، وهو لا
يدري أنه قد قيد نفسه بوصاية دولة إذا مرت ببلد أو أكلت أو شربت فيه أو دفن أحد
من بنيها في أرضه تزعم أنه صار ملكًا لها وزال كل حق لأهله منه إلا ما تمنحه
هي لمن تستخدمهم في استعباده. وهو لا يدري كنه استعداد الحجاز وأهله للحكم
والملك، ولا ولا ... إنما هو أديب مخلص، وشاعر مؤثر، وغيور على أمته،
ولكنه أضاع جهاده بوضعه في غير موضعه نتمنى أن لا تثنيه خيبة الأمل من هذا
الطريق على سلوك غيره في جهاده ونصائحه.