للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحمد بن تيمية


أهل الصُّفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء
وأصنافهم والدعاوي فيهم
لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس سره
تابع لما قبله

وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات متعددة، وكان القتال منها في
تسع مغازٍ مثل بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين، وانكسر المسلمون يوم أحد
وانهزموا. ثم عادوا يوم حنين، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق
حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء، وفي جميع المواطن (كان) يكون المؤمنون من
أهل الصفة وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقاتلوا مع الكفار قط.
وإنما يَظن هذا ويقوله من الضُلاّل والمنافقين قسمان (قسم منافقون) وإن
أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادة وعبادة يظنون أن إلى الله طريقًا غير
الإيمان بالرسول ومتابعته، وأن من أولياء الله من يستغني عن متابعة الرسول
كاستغناء الخضر عن اتباع موسى، وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو مَلِكَهُ
على النبي صلى الله عليه وسلم إما تفضيلاً مطلقًا أو في بعض صفات الكمال.
وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم، فإن الله بعث محمدًا صلى الله
عليه وسلم إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم زهادهم وملوكهم، وموسى عليه السلام إنما
بعث إلى قومه لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه، بل
قال له: إني على علم من علم الله عَلَّمَنِيهِ الله لا تعلمه، وأنت على علم من الله تعالى
عَلَّمَكَهُ الله لا أعلمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يُبْعَثُ إلى
قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة) وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأعراف: ١٥٨)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ} (سبأ: ٢٨) .
(القسم الثاني) من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا،
ويظن أن دين الله الموافقة للقدر سواء كان ذلك في عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء
والشفعاء من دونه، وسواء كان في الإيمان بكتبه ورسله والإعراض عنهم والكفر
بهم، وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض،
وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويجعلون الإيمان والتقوى
والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان، وأهل الجنة كأهل النار وأولياء
الله كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه التوحيد
والحقيقية، بنوا على أنه توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون وأنه الحقيقة
الكونية، وهؤلاء يعبدون الله على حرف فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم
فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، وغايتهم يتوسعون في ذلك حتى
يجعلوا قتال الكفار قتال الله، وحتى يجعلوا أعيان الكفار الفجار والأوثان من نفس
الله وذاته، ويقولون: ما في الوجود غيره ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق
والمصنوع هو الصانع، وقد يقولون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا
مِن شَيْءٍ} (الأنعام: ١٤٨) ويقولون: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (يس:
٤٧) إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود
والنصارى بل ومن مقالات المشركين والمجوس وسائر الكفار من جنس مقالة
فرعون والدجال ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق الباري رب العالمين، أو
يقولون: إنه هو، أو إنه حل فيه.
وهؤلاء كفار بأصل الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول
الله؛ فإن التوحيد الواجب: أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا فلا نجعل له ندًّا في
ألوهيته ولا شريكًا ولا شفيعًا، فأما توحيد الربوبية وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء،
فهذا قد قاله المشركون الذين قال الله فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم
مُّشْرِكُونَ} (يوسف: ١٠٦) قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض؟
فيقولون: (الله) وهم يعبدون غيره، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: ٢٥) {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن
كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ
يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: ٨٤-٨٩) .
فالكفار المشركون مُقِرُّونَ بأن الله خالق السموات والأرض وليس في جميع
الكفار من جعل لله شريكًا مساويًا له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط لا
من المجوس الثنوية ولا من أهل التثليث ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون
الكواكب والملائكة، ولا من عُبَّاد الأنبياء والصالحين ولا من عُبَّاد التماثيل والقبور
وغيرهم، فإن جميع هؤلاء، وإن كانوا كفارًا مشركين متنوعين في الشرك فهم
يقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته وجميع أفعاله، ولكنهم مع هذا
مشركون به في ألوهيته بأن يعبدوا معه آلهة أخرى يتخذونها شركاء أو شفعاء. أو
في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب
وخالق ذلك الخالق.
وقد أرسل الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله
وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: ٢٥) وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن
قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: ٤٥) وقال
تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ
هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: ٣٦) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: ٥١-٥٢) .
وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح: ٣) فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له
وإلى طاعتهم.
والإيمان بالرسل هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن هذا [١]
رسول الله إلى جميع العالمين؛ وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وأن الحلال ما
أحله والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعه - فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم
ممن يُجَوِّزُ الخروجَ عن دينه وشريعته وطاعته إما عمومًا وإما خصوصًا ويُجَوِّزُ
إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته.
ويحتجون بما يفترونه أن أهل الصفة قاتلوه وأنهم قالوا: نحن مع الله، من
كان مع الله كنا معه، يريدون بذلك الحقيقة الكونية دون الأمر والحقيقة الدينية.
ويحتج بمثل هذا مَن ينصر الكفار والفجار ويخفرهم بهمته وقلبه وتوجهه من ذوي
الفقر. ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله وأن الخروج عن الشريعة المحمدية
سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل، وإن كان لأصحابه زهد وعبادة، فهُم في العبادة
مثل أوليائهم في الأجناد، فإن المرء على دين خليله والمرء مع من أحب. هكذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جعل الله المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكافرين بعضهم أولياء بعض،
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة
الذين قال فيهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع
قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من
الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة؛ لئن
أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خرجوا
عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف
بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم؟
ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب الله
به رسوله ليلة المعراج، وأن الله أمره أن لا يُعْلِمَ به أحدًا فلما أصبح وجدهم
يتحدثون به فأنكر ذلك فقال الله له: أنا أمرتك أن لا تُعْلِمَ به أحدًا، لكن أنا الله
أعلمتهم. إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر، وهي كذب واضح فإن
أهل الصفة لم يكونوا إلا بالمدينة ولم يكن بمكة أهل الصفة، والمعراج إنما كان من
مكة كما قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى
المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: ١) ومما يشبه هذا من بعض
الوجوه رواية بعضهم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه
وسلم يتحدث هو وأبو بكر وكنت كالزنجي بينهما، وهذا من الإفك المُخْتَلَق. ثم
إنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه، وهو
أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام بل كان كالزنجي، ويدعون أنهم هم
سمعوه وعرفوه، ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها
علم الأسرار والحقائق، إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع. ونحو ذلك مثلاً ما يدعي
النُّصَيْرِيَّة والإسماعيلية والقرامطية والباطنية والثنوية والحاكمية وغيرهم - من
الضلالات المخالفة لدين الإسلام ما ينسبونه إلى علي بن أبى طالب أو جعفر الصادق
أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة ابن عقب، وغير
ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل فإنه لما كان لآل
رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء
والصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة - صار كثير ممن يخالف
دينه وشريعته وسنته يُمَوه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته وأهل موالاته
ومتابعته، وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء أو من هؤلاء حتى
يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته،
وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن
أهل الموالاة له والمتابعة، وهذا كثير في أهل الضلال.
(فصل) وأما تفضيل أهل الصفة على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال بل
خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب موقوفًا ومرفوعًا، وكما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفق عليه سلف
الأمة وأئمة العلم والسنة وبعدهما عثمان وعلي، وكذلك سائر أهل الشورى مثل
طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراح
أمين هذه الأمة ومع سعيد بن زيد هم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقد قال الله تعالى
في كتابه: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ
الَّذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى} (الحديد: ١٠) فَفَضَّل
السابقين قبل فتح الحديبية إلى الجهاد بأنفسهم وأموالهم على التابعين بعدهم، وقال
الله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح:
١٨) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم
بِإِحْسَانٍ} (التوبة: ١٠٠) .
وقد ثبت في فضل البدريين ما تميزوا به على غيرهم، وهؤلاء الذين فضلهم
الله ورسوله، فمنهم من هو من أهل الصفة. والعشرة لم يكن فيهم مَن هو من أهل
الصفة إلا سعد بن أبي وقاص، فقد قيل: إنه أقام بالصفة مرة. وأما أكابر المهاجرين
والأنصار مثل الخلفاء الأربعة ومثل سعد بن معاذ وأُسَيْد بن الحُضَيْر وعبَّاد بن بِشْر
وأبي أيوب الأنصاري ومعاذ بن جبل وأُبَيّ بن كعب ونحوهم - لم يكونوا من أهل
الصفة بل عامة أهل الصفة إنما كانوا من فقراء المهاجرين. والأنصار كانوا في
ديارهم، ولم يكن أحد ينذر لأهل الصفة ولا لغيرهم.
(فصل) وأما سماع المكاء والتصدية - وهو الاجتماع لسماع القصائد الربانية
سواء كان بِكَفٍّ أو بقضيب أو بدُفٍّ أو كان مع ذلك شبَّابَة فهذا لم يفعله أحد من
الصحابة ولا من أهل الصفة ولا من غيرهم ولا من التابعين، بل القرون الثلاثة
المفضلة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون القرن الذي بعثت
فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) لم يكن فيهم أحد يجتمع على هذا السماع
لا في الحجاز ولا في الشام ولا في اليمن ولا في العراق ولا مصر ولا خراسان ولا
المغرب. إنما كان السماع الذين يجتمعون عليه سماع القرآن وهو الذي كان الصحابة
من أهل الصفة وغيرهم يجتمعون عليه، فكان أصحاب محمد إذا اجتمعوا أَمَرَوا واحدًا
منهم يقرأ والباقي يستمعون، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على
أهل الصفة وفيهم قارئ يقرأ فجلس معهم، وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي
موسى: يا أبا موسى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا. فيقرأ وهم يستمعون، وكل مَن نقل أنهم كان لهم
حادٍ ينشد القصائد الربانية بصلاح القلوب، أو أنهم لما أُنشد بعض القصائد تواجدوا
على ذلك أو أنهم مزقوا ثيابهم أو أن قائدًا أنشدهم:
قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راق
إلا الطبيب الذي شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي
أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن الفقراء يدخلون الجنة قبل
الأغنياء بنصف يوم) أنشدوا شعرًا وتواجدوا عليه - فكل هذا وأمثاله إفك مفترًى
وكذب مُخْتَلَق باتفاق أهل الآفاق من أهل العلم وأهل الإيمان لا يُنَازِع في ذلك إلا
جاهلٌ ضال، وإن كان ذُكر في بعض الكتب شيء من ذلك فكله كذب باتفاق أهل
العلم والإيمان.
(فصل) وأما قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: ٢٨) فهي عامة فيمن تناوله هذا الوصف مثل الذين
يصلون الفجر والعصر في جماعة، فإنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه،
سواء كانوا من أهل الصفة أو غيرهم. أمر الله نبيه بالصبر مع عباد الله الصالحين
الذين يريدون وجهه، وأن لا تعدو عيناه عنهم: {تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: ٢٨) وهذه الآية في الكهف، وهي سورة مكية، وكذلك الآية التي هي في
سورة الأنعام: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا
عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ
الظَّالِمِينَ} (الأنعام: ٥٢) .
وقد روي أن هاتين الآيتين نزلتا في المؤمنين المستضعَفِينَ لما طلب
المستكبرون أن يُبْعِدَهم النبي صلى الله عليه وسلم فنهاه الله تعالى عن طرد من يريد
وجهه وإن كان مُسْتَضْعَفًا ثم أمره بالصبر معهم، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة
وقبل وجود الصفة، لكن هي متناولة لكل مَن كان بهذا الوصف من أهل الصفة
وغيرهم.
والمقصود بذلك أن يكون مع المؤمنين المتقين الذين هم أولياء الله، وإن كانوا
فقراء ضعفاء، فلا يتقدم أحد عند الله تعالى بسلطانه وماله ولا بذُلِّه وفقره وإنما
يتقدم عنده بالإيمان والعمل الصالح، فنهى الله سبحانه وتعالى أن يطاع [٢] أهل
الرئاسة والمال الذين يريدون إبعاد من كان ضعيفًا أو فقيرًا وأمره أن لا يطرد مَن
كان منهم يريد وجهه، وأن يصبر نفسه معهم في الجماعة التي أمر فيها بالاجتماع
بهم كصلاة الفجر والعصر، ولا يطيع أمر الغافلين عن ذكر الله المتبعين لأهوائهم.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))