للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الحلف بالطلاق - وأنواط النقود

(س١٩و٢٠) [*] من الأستاذ السيد طلحة المدرس في الكلية المشرقية في
لاهور بنجاب (الهند) :
إلى حضرة الفاضل الجليل منشئ المنار الأغر متع الله المسلمين بطول حياته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد فإن صيت علمكم رحمكم الله وخدماتكم
الدينية حملنا على أن نكلفكم بالإفتاء في حادثة ونرجو من فضلكم أن تمنوا علينا
بجواب هذا المكتوب:
صورة المسألة:
استحلف زيد عمرًا بأنك لا تقاطعني ولا تهاجرني طول حياتك ولا تؤثر أحدًا
عليَّ وقل: لو فعلت ذلك فكلما تزوجت امرأة فهي طالق - فحلف عمرو ثم حنث.
لعل جنابكم تستدلون بحديث الترمذي رحمه الله: (لا طلاق فيما لا يملك) إلخ.
فالحديث حسن ليس بصحيح، ومع هذا فإن ابن الهمام نقل في فتح القدير أن
الشعبي وسالمًا والزهري قالوا: إن معنى الحديث في التنجيز لا في التعليق. وبعض
الروايات التي تدل على التعليق فكلها مجروحة كروايات الدارقطني في الباب، ونقل
الترمذي قول البخاري: إن الحديث المذكور أصح شيء في هذا الباب.
فإن المبتلى بهذه المسألة في غاية الضيق والشدة، فالمرجو من جنابكم أن تمنوا
علينا بجواب شافٍ كافٍ بالأحاديث الصحاح. فإن كتب الحديث في الهند قليلة ليس
يوجد إلا الكتب المتداولة. وفي مصر لم تزل كتب الحديث كثيرة منذ زمن قديم.
والمسألة الثانية مسألة النوط Note هل تكلم فيه أستاذكم الإمام؟ أو أحد من
العلماء الأفاضل؟ أو سنح لكم شيء فيه؟ والسلام.

الجواب عن مسألة الحلف بالطلاق:
إن أمهات كتب الحديث موجودة في الهند، ومنها ما طبع فيها ولم يطبع في
مصر، وقلما يوجد في غير الأمهات وشروحها ما يثبت به حكم بالنص، وقد ورد
في هذه المسألة عدة أحاديث وآثار في الكتب المشهورة لمجموعها من القوة ما ليس
لآحادها مع ضعف القياس المعارض بها، فأما حديث الترمذي الذي ذكره السائل فقد
رواه أحمد وسائر أصحاب السنن والبزار والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا
يملك ولا طلاق له فيما لا يملك) وقال البيهقي كالبخاري: هو أصح شيء في هذا
الباب وأشهر. ولا يخفى على السائل أن سبب إسقاطهم لحديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده عن مرتبة الصحة أن جُلَّ حديثه عنه كتاب لا سماع، قال ابن
معين: ومن هنا جاء ضعفه. وتضعيفهم لما روي كتابة من المسائل الفنية التي لا
تؤخذ على إطلاقها. فمن وثق بالمكتوب ولم يكن عنده فيه شبهة فله أن يفضله على
المسموع؛ لأنه يأمن فيه من الخطأ. والتحقيق فيه ما قاله الحافظ ابن حجر وقد ضعَّفه
ناس مطلقًا ووثَّقه الجمهور، وضعَّف بعضهم روايته عن أبيه عن جده، ومن ضعَّفَه
مطلقًا فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه فربما دلَّس ما في
الصحيفة بلفظ (عن) فإذا قال: (حدثني أبي) فلا ريب في صحتها كما يقتضيه
كلام أبي زرعة إلخ، وقد قال الترمذي في مضمون هذا الحديث: إنه قول أكثر أهل
العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وقال الخطابي: وأسعد الناس
بهذا الحديث من قال بظاهره وأجراه على عمومه اهـ. أي في التنجيز والتعليق.
وروى ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مرفوعًا: (لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل
ملك) وقد حسَّنه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير، ورواية الزهري إياه عن
عروة عن المسور وعنه عن عائشة ليس من العلل التي تقتضي رده. وروى الحاكم
في المستدرك عن جابر مرفوعًا: (لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق إلا بعد ملك)
صحَّحه وقال: وأنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، وقد صح على شرطهما من
حديث ابن عمر وعائشة وعبد الله بن عباس وجابر. اهـ.
وقد نقل القاضي الشوكاني ما قيل في علل هذه الروايات ثم قال: (ولا
يخفى عليك أن مثل هذه الروايات التي سقناها في الباب من طريق أولئك الجماعة
من الصحابة مما لا يشك مُنْصِف أنها صالحة بمجموعها للاحتجاج، وقد وقع الإجماع
على أنه لا يقع الطلاق الناجز على الأجنبية، وأما التعليق نحو أن يقول: إن
تزوجت فلانة فهي طالق: فذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أنه لا
يقع، وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والمؤيد بالله في أحد قوليه أنه يصح التعليق
مطلقًا، وذهب مالك في المشهور عنه وربيعة والثوري والليث والأوزاعي وابن أبي
ليلى إلى التفصيل وهو أنه إن جاء بحاصر نحو أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني
فلان أو بلد كذا فهي طالق - صح الطلاق ووقع، وإن عمم لم يقع شيء. وهذا
التفصيل لا وجه له إلا مجرد الاستحسان كما أنه لا وجه للقول بإطلاق الصحة.
والحق أنه لا يصح الطلاق قبل النكاح مطلقًا للأحاديث المذكورة في الباب. وكذا
العتق قبل الملك، والنذر بغير الملك اهـ.
فتبين بهذا أن جمهور علماء الصحابة وغيرهم من السلف على القول بأن
الطلاق لا يقع تنجيزًا ولا تعليقًا إلا على زوجة يملك المطلق عصمتها ويختار أن
يحل هذه العصمة لترجيحه الفراق عليها، ولو لم يكن للجمهور ما ذكروه من
الأحاديث التي يحتجون بمجموعها ويحتج بعض الأئمة بما دونها مما لا يعارضه
أقوى منه - لكفى أن يأخذ بها السائل المتحير وأمثاله ولا سيما إذا علم أن سبب فشو
القول بإيقاع الطلاق المعلق في مثل النازلة المسئول عنها هو ما جرى عليه الخلفاء
في أيمان البيعة لهم فقد كانوا لا يولون القضاء والإفتاء لمن لا يجيز تلك الأيمان
وإذا كان أقل علماء السلف من قال بوقوع الطلاق المعلق قبل الزواج في غير
اليمين، وأنه ضعيف لا وجه له من النقل ولا من القياس كما قال الشوكاني -
فالخلاف في وقوع ذلك في اليمين أقوى والقول بالوقوع فيه أضعف.
ذلك بأن الذي يحلف بالطلاق على فعل شيء أو تركه تنجيزًا أو تعليقًا لا
يقصد بحلفه إلا الامتناع مما حلف عليه كما إذا حلف بالله تعالى أو علَّق بالكفر أو
البراءة من دين الإسلام وهو لا يقصد أنه إن فعل ذلك يرتد عن الإسلام فيكون مُعطلاً
أو وثنيًّا أو يهوديًّا مثلاً، وإنما يقصد تأكيد الامتناع عن ذلك الشيء الذي حلف عليه.
فإن فعل ما علقه بالكفر - وهو يكره الكفر ولا يريده - لا يكفر، ومثله الحلف
بالطلاق من غير فارق.
وقد فرض الله للمؤمنين تحلة أيمانهم بالكفارة فقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: ٢) وقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن
يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (المائدة: ٨٩) الآية.
وقد أطلق اليمين فدخل فيه كل ما يحلف به الإنسان مما يصح به الحلف، وأما ما لا
يصح به الحلف شرعًا كالحلف بالمخلوقات فلا ينعقد ولا يجب به شيء. وقد روى
أحمد ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (من حلف على يمين فرأى
غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) .
وللعلماء المجتهدين في أيمان الطلاق والعتق والنذر والكفر ثلاثة أقوال:
(أحدها) أنه إذا حدث لزمه ما حلف به. وهذا الذي غلب واشتهر عند
المقلدين بسبب حكم الحكام به إرضاء للخلفاء في أيمان البيعة.
(ثانيها) لا يلزمه شيء؛ لأنه لم يقصد الإيقاع، وإنما قصد الامتناع،
واليمين صورية لا حقيقية.
(ثالثها) أنه يجب عليه كفارة يمين؛ لأنه يدخل في عموم الأيمان الواردة في
إطلاق القرآن، وهذا أرجح الأقوال دليلاً، وأقومها قيلاً، وأهداها سبيلاً، لدلالة ما
تقدم من الأحاديث عليها، وأخذ جمهور السلف بها، وقد أيده شيخ الإسلام ابن
تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم بتفصيل بينا فيه دلائله واختلاف الأقوال فيه عن
السلف وفي المذاهب الأربعة وبيان أنه مقتضى القياس الصحيح، ولابن
تيمية فيه مصنفات مخصوصة وفتاوى متعددة وقواعد ممهدة وفي أول المجلد
الثالث من مجموع الفتاوى المطبوعة بمصر وفي آخره بعض ذلك فليراجعه السائل
فلعله يجد فيه ما يطمئن له قلبه، ولعلنا نفصل المسألة في مقال مستقل بعدُ.
الجواب عن مسألة الأنواط:
سبق لنا عدة فتاوى في مسألة الأنواط كوجوب الزكاة وجريان الربا فيها.